إنقاذًا لشعبيته أم تقوية سياسية في معاركه ؟ .. “سعيد” وقضاة تونس: مواجهة إلى آخر مدى !

إنقاذًا لشعبيته أم تقوية سياسية في معاركه ؟ .. “سعيد” وقضاة تونس: مواجهة إلى آخر مدى !

وكالات – كتابات :

صدر في الجريدة الرسمية التونسية؛ بتاريخ الأول من حزيران/يونيو 2022، أمر رئاسي بإعفاء: 57 قاضيًا مع النفاذ العاجل، وغياب إمكانية التظلم والاعتراض. واستوجب هذا القرار تنقيحًا للمرسوم الرئاسي المتعلق بإحداث “المجلس الأعلى للقضاء”؛ الذي لم تمر سوى أشهر معدودة على تاريخ إصداره من قِبل الرئيس التونسي؛ “قيس سعيد”، نفسه.

منح هذا التنقيح الجديد، الرئيس؛ صلاحية الإعفاء بعد أن كانت صلاحية حصرية للمجلس كما نص على ذلك البند (15) من المرسوم، والذي جاء فيه: “ينظر كل مجلس مؤقت للقضاء في إعداد حركة القضاة السنوية من تسمية وتعيين وترقية ونقل وإعفاء وفي مطالب رفع الحصانة والاستقالة”.

وقبل صدور قائمة القضاة المعفيين توجه “قيس سعيد”؛ خلال إشرافه على مجلس الوزراء، بكلمة مصورة إلى الشعب، قال فيها إنه أعطى الفرصة تلو الفرصة: “حتى يُطهر القضاء نفسه ولا يمكن أن نُطهر البلاد من الفساد وممن تجاوز القانون إلا بتطهير كامل للقضاء”، وذكر أن: “هناك تأخر وتلكؤ وتأخير متعمد لفتح كل الملفات بالرغم من أنها جاهزة”، مشيرًا إلى أنه لم يتدخل في الوظيفة القضائية ولا عمل القضاة وأن الواجب المقدس حتم عليه اتخاذ هذا القرار.

وأرجع “سعيد” قراره إلى جملة من التهم المتعلقة بالقضاة المعزولين؛ من بينها تهم بالفساد المالي والإثراء غير المشروع والتواطؤ مع أحزاب سياسية وجهات إرهابية، وكذلك قضايا أخلاقية على غرار المشاركة في “جلسات خمرية” و”الزنا”. وتزامنًا مع هذا القرار انتشرت تقارير أمنية وشهادات طبية وفيديوهات للتشهير بقاضيات واتهام ثلاثة منهن: بـ”الزنا”، على صفحات (فيس بوك) مناصرة للرئيس؛ “قيس سعيد”؛ بحسب تقرير لصحيفة (الغارديان) البريطانية.

ورفضت الهياكل النقابية القضائية قرارات؛ “قيس سعيد”، بخصوص عزل القضاة، وأعلنت إغلاق المحاكم لمدة أسبوع قابل للتجديد، كما أدان عدد من الناشطين والجمعيات ما تعرضت له القاضيات من تشهير وحملات لا أخلاقية تمس من كرامتهن.

مصدر الصورة: رويترز

وجاء في بيان جمعية (تونسيات)؛ أنها تُدين: “العنف السيبراني الذي تعرضت له قاضيات؛ وما تم تداوله بكثافة من طرف العام والخاص في ضرب لحقهما في الكرامة والحرمة الجسدية والخصوصية من جهة، وتجاوز لضوابط حرية التعبير من خلال الثلب والتشهير”.

“قيس سعيد” والقضاء.. القصة الكاملة..

توضح الصحيفة البريطانية: يعود صراع “سعيد” مع القضاء إلى ما قبل انقلاب 25 تموز/يوليو 2021، عندما قرر “المجلس الأعلى للقضاء” المنحل، نقل زوجة الرئيس القاضية؛ “إشراف شبيل”، من العاصمة إلى محكمة في محافظة “صفاقس”، جنوب البلاد، ورغم أن “المجلس الأعلى للقضاء” عد أن قراره يتنزل في إطار مصلحة العمل وأنه تعامل مع زوجة الرئيس على أنها قاضية لا غير، فإن رئيس الجمهورية أشار إلى أن هذه الخطوة كانت استهدافًا له.

وفي شهر كانون ثان/يناير 2022؛ رفض “المجلس الأعلى للقضاء” إبداء الرأي في مشروع “قانون الصلح الجزائي”، الذي يُعده “سعيد” من أهم المبادرات التشريعية لتحقيق إنجازات في المستوى التنموي، ورغم أن “مجلس القضاة” علل قراره بنصوص قانونية؛ فإن “سعيدًا” لم يتردد إثر ذلك في حل المجلس وتغييره بآخر مؤقت.

وطالب “سعيد” في أكثر من مناسبة؛ القضاة، بتطهير أنفسهم معبرًا عن عدم رضاه عن عمل القضاة ومسار بعض الملفات، إلى أن أصدر قراره الأخير بعزل: 57 قاضيًا دون أن يكون لهم الحق في الطعن أو الاعتراض على هذا الإجراء.

وذهبت أطراف نقابية إلى إعتبار قرار عزل القضاة آخر أسلحة “سعيد”: لـ”تركيع القضاء وضرب استقلاليته”، وأعلنت “جمعية القضاة التونسيين”؛ في بيان مشترك، مع “اتحاد القضاة الإداريين” و”جمعية القاضيات التونسيات”، بالإضافة لـ”جمعية القضاة الشبان”، تعليق العمل في جميع محاكم البلاد. وصُدر عن “جمعية القضاة التونسيين” بيانات تؤكد تجاوز نسبة الاستجابة للإضراب: 90% من مجموع قضاة البلاد في الأيام الأولى للإضراب.

ولم يمنع نجاح إضراب القضاة وتوحد كلمتهم ضد قرارات العزل والتشويه الحاصل لزميلاتهم، الرئيس التونسي من مزيد التصعيد تجاههم، إذ دعا “قيس سعيد”؛ وزيرة العدل، وأمرها بإقتطاع أيام الإضراب من أجور القضاة واتخاذ كل الإجراءات الضرورية لإنهاء الإضراب، وحماية حقوق المتقاضين، في إشارة إلى تعويض القضاة بمحامين من ذوي الخبرة وأساتذة جامعيين في القانون، كما ينص على ذلك البند (32) من القانون المتعلق بنظام القضاة.

دول ومنظمات أجنبية تُدين استهداف “سعيد” القضاء التونسي..

وعلى غرار التعاطي مع خطواته السابقة، لم تتردد دول ومنظمات دولية في إبراز قلقها تجاه خطوة إعفاء القضاة التي أقدم عليها “قيس سعيد” والإدانة الواسعة لها.

وصُدر عن المتحدث الرسمي باسم “وزارة الخارجية” الأميركية، “نيد برايس”، بيانًا جاء فيه أن: “مراسيم الرئيس؛ قيس سعيد، الصادرة بتاريخ 01 حزيران/يونيو 2022، والتي تنص على إقالة: 57 قاضيًا وعلى تحوير القواعد التي تحكم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء تتبع نمطًا مقلقًا من الإجراءات التي قوضت المؤسسات الديمقراطية المستقلة في تونس”.

وأضاف “نيد برايس”: “لقد أبلغنا المسؤولين التونسيين بصورة مستمرة بأهمية الضوابط والتوازنات في النظام الديمقراطي، ونواصل حث الحكومة التونسية على انتهاج عملية إصلاح شفافة تُشرك الجميع، وتستفيد من إسهامات المجتمع المدني والطيف السياسي المتنوع لتعزيز شرعية مساعي الإصلاح”.

أيضًا أصدر الأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات؛ “لوكا فيسيتيني”، بيانًا قال فيه: “نُعرب عن تضامننا الكامل مع القضاة التونسيين ونضالهم ضد التدخل الاستبدادي في صلاحياتهم وقمع استقلالية القضاء”.

أما رئيس الاتحاد الدولي القضاة؛ “خوسيه إيجريغا ماتوس”، فقال في رسالة موجهة إلى رئيس “جمعية القضاة التونسية”؛ إن: “نضالكم يُمثل تأكيدًا لسيادة القانون واستقلال القضاء”. مؤكدًا أنه يمكنه الاعتماد على المجموعة الإفريقية وعلى “الاتحاد الدولي” للمساعدة في إرساء الحق في العدالة المستقلة والنزيهة في “تونس”.

القضاء مستميت من أجل سلطة مستقلة..

ورغم حرص رئيس الجمهورية على التعامل مع القضاء بصفته وظيفة مثل بقية الوظائف في الدولة؛ فإن القضاة تمسكوا بالدفاع عن قطاعهم بوصفه سلطة مستقلة. وقد خاض القضاة العديد من التحركات معبرين عن رفضهم لمحاولات توظيفهم من قبل السلطة واستغلالهم في معاركها السياسية.

أيضًا رفض العديد منهم دعوات السلطة لتوجيه تهم وإيقاف معارضين للانقلاب بطرق غير قانونية، وفق تصريحات بعض القضاة المعزولين. وتروي إحدى القاضيات؛ اللاتي جرى التشهير بهن، أن السبب الرئيس لحملة التشويه التي تعرضت لها أنها رفضت القيام بإجراءات غير قانونية والابتزاز من طرف شقيقة زوج الرئيس المحامية وإحدى معارفها؛ كما جاء بالتقرير البريطاني.

مصدر الصورة: شبكة رصد

لماذا قرر “سعيد” بلوغ أقصى درجات الخصومة مع القضاة ؟

في الوقت الذي يؤكد الرئيس التونسي أن مواجهته مع القضاة الفاسدين لا مع: “وظيفة” القضاء، معلنًا احترامه للشرفاء منهم والتنبيه من التطاول عليهم، فإن خصومه يرون فيما يخوضه من معركة مع القضاء، محاولة منه لبسط سلطته عليه وتوظيفه أداة لضرب خصومه والتنكيل بهم.

وفي هذا الصدد؛ يقول رئيس جمعية القضاة الشبان وأحد القضاة المعفيين؛ “مراد المسعودي”، لـ (الغارديان)؛ إن: “أسباب الإعفاء سياسية بالأساس، لأن جل الزملاء الذين جرى إعفاؤهم ثبت أنه لا يوجد تتبع جزائي في حقهم، ولا حتى ملف تأديبي في الوزارة، وفق تأكيد تفقدية وزارة العدل”، ويُضيف رئيس “جمعية القضاة الشبان”؛ بأن: “إعفاء القضاة سببه رفضهم تعليمات؛ قيس سعيد، في إيقاف معارضين بسبب قضايا رأي وتهم سياسية”، على حد تعبيره.

ويؤكد “مراد المسعودي”؛ أن رئيس الجمهورية قد استهدف “جمعية القضاة الشبان” من خلال إعفاء رئيسها ونائبه، في مقدمة لحلها لاحقًا بسبب مواقفها وبياناتها الرافضة للمساس باستقلالية القضاء من قبل السلطة التنفيذية.

ويرى “المسعودي” أن: “سعيدًا تعدى الأشكال العادية في الصراع مع القضاء إلى حد تشويه قاضية أثبتت براءتها من تهمة الزنا الموجهة إليها أمام القضاء منذ أشهر؛ وذلك بهدف تشويه القضاء وتمرير مخططه في استهداف القضاء بخلفية سياسية بحتة”، على حد قوله.

في المقابل صرح رئيس (حركة الجمهورية الجديدة) – المساندة لـ”قيس سعيد” – وعضو لجنة صياغة الدستور الجديد؛ “محمد علي عباس”، بأن: “قرار الرئيس؛ جاء استجابة لطلب شريحة واسعة من التونسيين تُطالب بمحاسبة الفاسدين في سلك القضاء”. ويُضيف “عباس”: “كان من الأجدر أن يجري الإعفاء عن طريق المجلس الأعلى للقضاء المؤقت، إلا أن تلكؤه في القيام بدوره جعل الرئيس يتدخل ويأخذ قرار الإعفاء”.

ويقول رئيس (حركة الجمهورية الجديدة)؛ بأن: “التأخر في الإعفاء من شأنه أن يمس السلم الاجتماعي والإساءة لمرفق القضاء والعدالة، نظرًا إلى خطورة التهم الموجهة للمعفيين على غرار التستر على جرائم إرهابية والفساد المالي”.

في حتام تقريرها تذهب الصحيفة البريطانية مشيرة إلى أنه: يمكن القول بأن “قيس سعيد” اختار المواجهة الشاملة مع القضاء بهدف الإسراع في البت في عديد من القضايا التي تخص خصومه بالأساس، من أجل الاستجابة إلى مطالب الشعب في محاسبة المفسدين كما يقول، أملًا في أن تكون هذه الخطوة سببًا في مزيد من اصطفاف أنصاره حوله وإعادة الغاضبين منهم بسبب ما يعدونه تأخيرًا في المحاسبة؛ خاصة بعد ما أظهرته نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، من تراجع واضح في نسبة ثقة التونسيين في الرئيس.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة