وكالات – كتابات :
أُعيد مئات العراقيين اليائسين إلى ديارهم؛ بعدما صاروا بيادق في صراع جيوسياسي تخوضه “بيلاروسيا” ضد جيرانها في “الاتحاد الأوروبي”، وحول هذا الموضوع؛ نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية تقريرًا؛ سلَّط الضوء على حجم الصعوبات التي واجهها المهاجرون العراقيون أثناء عبورهم الحدود من “بيلاروسيا” إلى “بولندا” و”ليتوانيا”.
العراقيون.. بيادق جيوسياسية !
في البداية؛ يُبرز التقرير، الذي أعدَّته، “جين عراف”، مديرة مكتب (نيويورك تايمز) في العاصمة العراقية، “بغداد”، و”سنجر خليل”، مراسل الصحيفة الأميركية، حالة الطقس التي كان يعيش فيها العراقيون على حدود “بيلاروسيا”؛ حيث كانت البرودة الشديدة تنهش أجسادهم بأنيابها، لكن باب الأمل فُتِح أمامهم على أية حال، على الرغم من أن هذا الأمل كان سرابًا.
وكان “نزار شمس الدين”؛ واحدًا من آلاف العراقيين الذين شقوا طريقهم، خلال الأشهر الأخيرة؛ إلى “بيلاروسيا”، الواقعة في “أوروبا الشرقية”، على أمل أن تكون نقطة إنطلاقة لبدء حياة جديدة في الغرب، لكن خابت آمالهم، وأصبحوا مجرد “بيادق” في نزاع جيوسياسي.
ويوضح التقرير أن “نزار”؛ عاد أدراجه إلى “العراق”، نهاية هذا الأسبوع، ووجدناه جالسًا على أرضية باردة داخل منزل خرساني صغير غير مكتمل البناء، بعد أن عاد مُرحَّلًا من “بيلاروسيا”، وكان “نزار شمس الدين”؛ عاملًا بأجر يومي، قد خاطر ومعه: 35 من أهله وأقاربه بكل شيء من أجل السفر إلى الغرب، حتى أنه أضحى غارقًا في الديون، ويقطع اليأس الشديد نياط قلبه؛ كما هو حال المئات من العراقيين الذين جرى ترحيلهم، الأسبوع الماضي.
وكان العراقيون في قلب الأزمة التي نشأت بعدما خفَّفت “بيلاروسيا” من قواعد التأشيرات الخاصة بالسفر إليها، في الصيف الماضي، وأغرت المهاجرين بالقدوم إليها، وبعد ذلك دفعت بهم إلى الحدود لمعاقبة “الاتحاد الأوروبي”؛ بسبب فرضه بعض العقوبات على الرئيس البيلاروسي؛ “ألكسندر لوكاشينكو”.
وبمجرد وصولهم إلى “بيلاروسيا”، تركت السلطات البيلاروسية العائلات المهاجرة في غابات كثيفة بلا حماية، أو طعام، أو ماء، وأقحمتهم أحيانًا في مواجهات خطيرة خلال محاولتهم الوصول إلى: “بولندا، وليتوانيا، ولاتفيا”، الدول الأعضاء في “الاتحاد الأوروبي”، يقول “شمس الدين”، البالغ من العمر (24 عامًا)، وكان معه ثلاثة أطفال صغار: إن “أحد ضباط الشرطة البيلاروسية صوَّب مسدسه تجاه رأسي، لذلك اضطررت للعودة إلى ليتوانيا وفي ليتوانيا، صوَّبت القوات الخاصة أسلحتهم نحوي، وهددوني بالقول: إذا لم تُعد أدراجك، فإننا سنقتلك”.
الرسالة وصلت !
يُلفت التقرير إلى أن “شمس الدين” استوعب الرسالة، وعاد يوم الخميس مع عائلته على متن طائرة الخطوط الجوية العراقية؛ التي قامت بمهمة إجلاء: 431 مهاجرًا من العاصمة البيلاروسية، “مينسك”، ولم يزل هناك في “بيلاروسيا”، بالقرب من الحدود؛ عدة آلاف آخرين من المهاجرين، ومعظمهم من الأكراد العراقيين، مثل “نزار شمس الدين”، بالإضافة إلى عرب عراقيين، وسوريين، ويمنيين، بل بعض الكوبيين؛ لكن في ظل تضاؤل منفعتهم لـ”بيلاروسيا”، تُرحِّل السلطات البيلاروسية المهاجرين العراقيين الذين أصبحوا مُعدمين ومفلسين حاليًا.
ويًشير التقرير إلى أن معظم العائدين تعرضوا لصدمات نفسية، ويُعاني بعضهم من صدمات طويلة الأمد، كما يُوضح “ذياب زيدان”، البالغ من العمر (30 عامًا)؛ وابن عم “شمس الدين”، وكان مربوطًا حول ساقه ضمادة كبيرة، قائلًا: إن “البيلاروسيين ضربونا بالهراوات، بينما اعتدى علينا الليتوانيون بالهراوات ومسدسات الصعق الكهربائي”، مضيفًا أنه تعرض للضرب بهراوات الشرطة، وأظهرت الصور أن جانبه أصبح بالكامل أرجوانيًّا داكنًا، وعزا ذلك إلى شدة الصدمات الكهربائية التي تعرَّض لها.
وانتشرت تقارير تؤكد تعرُّض المهاجرين للاعتداءات على الحدود، ويُؤكد “سفين دزيي”، رئيس قسم العلاقات الخارجية في حكومة “إقليم كُردستان”، شبه المستقلة، ذلك قائلًا: إن “المهاجرين تعرضوا للضرب، وهم يعيشون محنة، ومُعرضون للخطر، وقد أخبرنا هذه السلطات أنه ينبغي معاملة هؤلاء المهاجرين معاملة إنسانية على الأقل؛ حتى نجد حلًا لهذه المشكلة، كما ينبغي معاملتهم معاملة آدمية مثل عامة الناس، مع توفير أي نوع من المسكن ليحتموا به، أو بعض الطعام”.
وأفاد التقرير أن هذه المحاولة لم تكن الأولى التي يقوم بها العديد من المهاجرين للسفر إلى الغرب، وكان “شمس الدين” يُحاول الوصول إلى “ألمانيا”، حيث أمضى هناك ستة أشهر، في عام 2015، قبل أن يعود إلى “العراق” لرعاية والده المريض.
يقول “شمس الدين”: إن “ألمانيا هي البلد الوحيد الذي شهدنا فيه حقوق الإنسان”. وأضاف أنه بعد سيره على الأقدام لمدة يومين ألقت الشرطة البيلاروسية القبض عليه وعلى أقاربه، وألقوا بهم في شاحنة عسكرية، وساقوهم إلى الحدود الليتوانية، وهناك أمروهم بعبور السياج الحدودي.
وبمجرد وصولهم إلى “ليتوانيا”؛ ذكرت عائلة “شمس الدين” أن إحدى منظمات الإغاثة أعطتهم بعض الخبز والماء، وفحصهم طاقم طبي لتقييم أي إصابات أصيبوا بها، بينما كان هناك مصوِّر يُصوِّر العملية برمتها. وقد نُقل أحد أبناء “شمس الدين”، الذي يبلغ من العمر شهرين، إلى المستشفى لتلقي العلاج من بعض المخاطر التي تعرض لها.
ألا توجد بعض الإنسانية ؟!
يستدرك التقرير ناقلًا ما أفاده بعض المهاجرين الأكراد الذين قالوا: لكن بمجرد مغادرة منظمة الإغاثة والمصورين، بدأ الجنود الليتوانيون في استخدام الهراوات ومسدسات الصعق الكهربائي ضدهم، محاولين إرجاعهم إلى الحدود، ويروي “شمس الدين” أنه وبَّخ ضابطًا ليتوانيًا، قائلًا: “لقد دمرتم بلادنا، ونحن الآن قادمون إليكم، أليس لديكم بعض الإنسانية”.
وكانت هذه إشارة إلى غزو “العراق”، الذي قادته “الولايات المتحدة”؛ عام 2003، لكن الضابط الليتواني سارع إلى تصحيح الفكرة، ورد قائلًا: “تلك كانت بولندا”؛ إذ إنه في الوقت الذي كانت فيه “ليتوانيا” تقدم الدعم لـ”العراق” أثناء غزو “الولايات المتحدة” لها، كانت “بولندا” جزءًا من قوات الاحتلال.
ويُلقي التقرير الضوء على حجم الديون التي غرق فيها المهاجرون العراقيون؛ إذ أوضح “شمس الدين” أنه باع سيارته لدفع: 11 ألف دولار من أجل تكلفة تذكرة السفر، واستخراج التأشيرات لزوجته وأطفاله الثلاثة، والتي أفاد أنها صادرة عن وكالة سفر مقرها في “بيلاروسيا”، مضيفًا أنه بعد أن تقطعت بهم السُبل في الغابة، في “بيلاروسيا”، طالَبه جندي بيلاروسي يرتدي ملابس مدنية بآخر 03 آلاف دولار كانت معه لإعادتهم إلى العاصمة، “مينسك”.
وفي السياق ذاته؛ اقترض أبناء عمومة “شمس الدين”، الذين يكسب معظمهم: 10 دولارات في اليوم الواحد من العمل في مجال البناء، عشرات الآلاف من الدولارات، ولا يمكنهم الآن دفع إيجار مسكنهم، وتكدس أكثر من: 10 أطفال في غرفة المعيشة الوحيدة الموجودة في المنزل المكون من غرفتين، ولا يذهب أي من هؤلاء الأطفال إلى المدرسة؛ لأن عائلاتهم غير قادرة على تحمل رسوم النقل البالغة حوالي: 20 دولارًا شهريًّا لكل طفل.
لا يزال باب الأمل مفتوحًا..
يُشير التقرير إلى أنه، في يوم الخميس الماضي؛ جلست عائلة أخرى كانت السلطات البيلاورسية قد رحَّلتها من بلادها على الرصيف خارج المحطة الجوية في مدينة “أربيل”، عاصمة “كُردستان العراق”، في حالة من الذهول والصمت، غير قادرين حتى على دفع أجرة التاكسي للعودة إلى مخيم النازحين العراقيين الذي كانوا يعيشون فيه. وتنتمي هذه العائلة إلى الأقلية الدينية الإيزيدية، ولم يزل كثير منهم يعيشون في المخيمات بعد سبع سنوات من بدء “تنظيم الدولة الإسلامية”، (داعش)، حملة إبادة جماعية ضدهم.
تقول “ناعم خالو”، وهي سيدة تنتمي إلى الإيزيديين، وتبلغ من العمر (56 عامًا)، إنها أمضت مع ابنها وزوجته 24 ليلة في الغابة الكثيفة؛ كي يُرحَّلوا فقط إلى “بيلاروسيا” في كل مرة يعبرون فيها الحدود، مضيفةً أنها اقترضت النقود، وباعت مجوهراتها الذهبية لجمع مبلغ: 20 ألف دولار اللازم للرحلة، مؤكدةً: “والآن، ليس لدينا أي شيء”.
ويروي التقرير قصة “يادجار حسين”، التي كانت تعيش في أحد أحياء “أربيل”؛ التي تقطنها الطبقة المتوسطة، عن رحلتها الشاقة التي انتهت بترحيلها من “بولندا” قبل ثلاثة أسابيع مع أطفالها، إذ قالت: إنهم “في تشرين أول/أكتوبر، خاضوا في مياه الصرف الصحي، وساروا عبر الغابة لعدة أيام في طقس شديد البرودة بعد أن قطعت الشرطة البيلاروسية السياج الحدودي، لكن بمجرد وصولهم إلى بولندا، قادهم سائق إلى نقطة تفتيش للشرطة، حيث أُلقِي القبض عليهم، وكان معها ابنها البالغ من العمر (19 عامًا)، ومهاجر آخر، وكانوا مختبئين في صندوق السيارة”.
وتتابع “يادجار”، التي تزوجت في الرابعة عشرة من عمرها، وترمَّلت بعد أربع سنوات؛ بعدما وقف زوجها على لغم أرضي، وكانت قبل ذلك مُطلَّقة من والد أبنائها الثلاثة الصغار، قائلةً إنني: “لا أستطيع النوم حتى الآن، والشيء الوحيد الذي أعرفه هو أن حياتي دُمِّرت”. مضيفة أنها لم تتخل عن فكرة الرحيل عن “أربيل” من جديد، ربما تلجأ في المرة القادمة إلى رحلة بحرية محفوفة بالمخاطر من “تركيا” إلى “اليونان”. تقول “يادجار”: “لو كان لدي نقود كنت سأذهب عن طريق البحر غدًا من أجل أطفالي. فإما أن أموت أو أصل هناك، لكن لن يُعتقل أحد”.