كتبت – آية حسين علي :
تمتلئ صالة استقبال الطوارئ بالمستشفى التابعة لمنظمة “أطباء بلا حدود” بالموصل، بوجوه يملؤها الغضب الشديد والسخط وعيون تفيض بالدمع.. حيث يجسد مجموعة من أهل المدينة مشهداً محزناً للرعب الذي سببته هذه الحرب.
أما الحوار فيقدمه مجموعة من المرضى وذويهم الذين تتعالى صرخاتهم وهمهماتهم وسط نداءات الاستغاثة، غير أن الحوار لم يُكتب مسبقاً، ويتكرر المشهد كل يوم وكل ساعة فقط في الموصل.
وكان يوم الجمعة الماضي من أصعب الأيام على هؤلاء الأطباء والأشد دسامة في المستشفى منذ بدء العمل بها منذ 10 أيام، ويصل إليها المصابين أغلبهم من السيدات والأطفال محمولين في عربات الإسعاف قادمة من منطقة القتال، بعضها حالات صعبة مثل الحروق التي يتعرض لها الأطفال أو حالات الصدمات العصبية التي تصيب الكبار.
العلاج على وقع دوي الإنفجارات..
يعمل أطباء منظمة “أطباء بلا حدود” في ظروف سيئة للغاية، فبينما يتزايد أعداد المصابين طوال اليوم، يجب على الطبيب أن يتعامل معهم جميعاً على وقع دوي الانفجارات التي تحدث في الخارج ووسط صرخات الأهالي.
ويعتبر مركز المنظمة بالإضافة إلى مستشفى آخر هما المراكز الطبية الوحيدة في المنطقة، والأولوية لديهم هي المساعدة في حالات الطوارئ، ويسعى الأطباء إلى كسب الوقت وتقديم الإسعافات اللازمة كي يتمكن المرضى من الوصول إلى مستشفيات أخرى لاستكمال العلاج بعد استقرار حالاتهم، وبهذه الطريقة تتوفر أسرة للمصابين الجدد.
ورغم التدفق الكبير على البوابات إلا أن جزءا صغيرا من ألاف العراقيين الذين لا يزالون محاصرين وسط المعارك تمكنوا من الوصول إلى المستشفى، وتخشى المنظمة من أن الحالات شديدة الحرج تموت بالبطئ بسبب عدم قدرتهم على الوصول والحصول على المساعدة.
برغم أنتهاء المعركة تصل المساعدات متأخرة..
لم تمر بضعة ساعات على أسرة “سمير” العراقي بعد مغادرتها ساحة القتال بالموصل القديمة، تاركين خلفهم منزل كان يأويهم لكنه كان قريباً من منطقة القتال الدائر بين عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي والقوات العراقية، لذا فرت الأسرة خوفاً من نيران المدافع والتفجيرات والعمليات الانتحارية والألغام وقاذفات الصواريخ.
وانتهت المعركة صباح الجمعة الماضي بنصر القوات العراقية لكن المساعدات جاءت متأخرة.
ويجلس الطفل “أحمد سمير”, البالغ من العمر 4 سنوات, على قدم والده خارج المستشفى التي يديرها “أطباء بلا حدود” غربي الموصل، وللوهلة الأولى يبدو أن الطفل لا يدرك حجم الرعب الذي مرت به عائلته وتسبب في وفاة اثنين من أخوته.
بينما تجلس الجدة إلى جوارهما تبكي الصغار الذين فقدوا حياتهم، ويحاول الأب الذي يدعى “سمير” التخفيف عنها، ويسقيها شربة ماء علها تبتلع ما ذاقته من ألم، وتحوي ثنايا تجاعيد وجه المرأة العجوز, إشارات إلى كل ما مر به آلاف العراقيين من مصاعب خلال الفترة الماضية.
شهادات حية على العذاب..
يقول “سمير” لصحيفة “الموندو” الإسبانية: “منذ 3 أيام بينما كانت تحمل زوجي ابني الرضيع سقطت قذيفة هاون على المنزل, وتهشم جدار الحجرة التي كانت موجودة بها مع أختي، في البداية لم أستطع دخول الحجرة بسبب الغبار الشديد المنتشر في جميع الأنحاء حتى أنني لم أقدر على التقاط أنفاسي، لكن عندما هدأ تمكنت من الدخول وبدأت في إزالة الحطام، وسمعت صوت صراخ زوجتي فحملتهم إلى الخارج لكن عندما انتهيت من حمل كل أجزاء الطوب المتناثرة اكتشف أن ابني قد توفي وعمره شهر واحد و5 أيام”.
وروت الجدة كثير من الذكريات الأليمة وسط انهمار دموعها، وقالت إن حفيدتها توفيت من شدة الجوع فدفنتها في الحديقة، كما اضطرت إلى دفن حفيدها إلى جوارها.
وتابعت: “ظللنا لمدة 3 أيام دون ماء، والكميات القليلة التي كانت معنا لم تكن صالحة للشرب، وأثناء شهر رمضان كدنا نموت من شدة الجوع، ولم نجد حتى فضلات طعام في القمامة”.
وتم تحويل أسرة “سمير” التي لم يتبقى لها سوى ابن واحد حي، إلى مستشفى أخرى لاستكمال العلاج، رغم أن بعض الإصابات لن تختفي أبداً.
ومن على أحد أسرة المستشفى تصرخ إحدى السيدات العجائز, تبلغ من العمر 74 عاماً، “جوع ومعاناة !”، وتمكنت السيدة من الفرار منذ ساعات من منطقة المواجهات.
وتتابع: “حاولنا إقناع الأطفال بأكل مركز الطماطم، وكنا نغلي الدقيق في الماء لأن الأرز الذي كان متاحا لدينا كان شديد القذارة حتى أن الحيوانات لا ترضى بأكله”.
وأردفت: “كل يوم كان يموت بعضنا بسبب التفجيرات والمعارك، لا نعلم من أين أتوا، وأنا فقدت نصف وزني، ونستطيع أن نستحم بصعوبة شديدة وجلودنا أصبحت بها كل أنواع الأمراض”.