“أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه”.. هكذا ينص القسم الذي يؤديه كل رئيس لمصر، يقوم على عمودين أساسيين “استقلال القرار والحفاظ على كل شبر من الأرض التي أصبح حاكماً لها”، فهل تحافظ مصر بحكومتها وبرلمانها في عهد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” على هذا القسم ؟
لا تحكيم ولا استفتاء في السيادة..
حالة من الجدل غير العادي وصلت إلى مشاحنات بدأت في الحادي عشر من حزيران/يونيو 2017، بعدما قرر البرلمان المصري مناقشة اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين السعودية ومصر – الموقعة في نيسان/ابريل 2016 – والتي تهدف بالأساس إلى تسليم جزيرتان استراتيجيتان للأمن القومي المصري وضمهما للأراضي السعودية رغم وجود حكمين نهائيين من القضاء بأحقية القاهرة في السيادة على الجزيرتين بعد اطمئنانهم للأوراق والوثائق والمستندات التي اطلعوا عليها.
“لا تحكيم ولا استفتاء في السيادة الوطنية”، هكذا يقول المعارضون لمنح مصر الجزيرتين للسعودية، مؤكدين على أنها قضية شعب ووطن بكل تاريخه ومستقبله.
الحكومة تبرر قراراها بـ”قريش”.. والفراعنة يردون: سبقناكم إليها..
بينما حاولت الحكومة المصرية تبرير مناقشتها لإقرار الاتفاقية بأن الجزيرتان سعوديتان منذ عهد قبيلة “قريش” بالحجاز (!)، لكن يبدو أن الحكومة تناست وجود لوحات منحوتة على جدران “جبال سيناء” لملوك فراعنة من الأسرة الثالثة أي قبل 3 آلاف عام قبل الميلاد – ما يعني أكثر من 5 آلاف عام – وهم يقاتلون من أجل حدود مصر البحرية وجزرها في سيناء ويطردون “بدو” آسيا في ذلك الوقت.
المعارض للاتفاقية يتلقى تمويلاً خارجياً !
استمرت الحكومة في فرض وجهة نظرها مستغلة في ذلك وقوف رئيس البرلمان المصري “علي عبد العال” في صفها، والذي رفض طلباً من عدد من النواب لإيقاف مناقشة موضوع الجزيرتين كون أن القضاء قد حكم في هذا الأمر بمصريتهما، متهماً إياهم بتلقي تمويلات من الخارج لخيانة بلدهم، لتحدث مشاحنات وتراشق بالألفاظ ثم يتم طرد الصحافيين من قاعة البرلمان، وسرعان ما يتم إعادتهم ضمن مشهد مرتبك.
إسألوا مبارك..
ﻭﺯﻳﺮ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ المصري بدوره دافع عن قرار تسليم السيادة على الجزيرتين للسعودية بقوله: “ﺗﻴﺮﺍﻥ ﻭﺻﻨﺎﻓﻴﺮ ﺳﻌﻮﺩﻳﺔ .. ﻭﺍﻋﺘﻤﺪﻧﺎ في ﺍﻻﺗﻔﺎﻗﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻗﺮﺍﺭ ﺍﻟﺮﺋﻴﺲ ﺍﻷﺳﺒﻖ ﻣﺤﻤﺪ ﺣﺴني ﻣﺒﺎﺭﻙ 27 ﻟﺴﻨﺔ 1990، ﻭﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻓﻰ 9 كانون ثان/ﻳﻨﺎﻳﺮ، ﺑﺸﺄﻥ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ ﺍﻟﺒﺤﺮﻳﺔ”، ﻣﺆﻛﺪﺍً ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭ ﻟﻢ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺃﻯ أﺳﺎﺱ ﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﺟﺰﻳﺮتي “ﺗﻴﺮﺍﻥ ﻭﺻﻨﺎﻓﻴﺮ”، وهو ماردت عليه صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يؤكد فيه الرئيس الأسبق بأنه لا يملك صلاحية التفريض في أي شبر من تراب مصر !
ولم يفت الوزير المصري الكشف عن توجيه مصر خطابين لإسرائيل بمضمون اتفاقية تسليم الجزيرتين للسعودية وأنها وافقت عليها.. لكنه لم يوضح ماذا ستفعل مصر إذا ما وقعت الجزيرتان وهما تحت السيادة السعودية في أيدي محتل جديد ؟
لن تملك مصر ولا السعودية منع إسرائيل.. ومن حقها التعويض..
إن القانون الدولي يبين أن الجزيرتان إذا ظلتا على حالهما “مصريتان”، فإن هذا الممر البحري يظل مياهاً داخلية مصرية، ويظل لمصر حقوق السيادة عليه، ورغم أن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل تفرض حرية المرور “البرئ” بالمضيق، فإن هذا المبدأ يجري تعطيله زمن الحرب، ليصبح لمصر الحق المطلق في فرض ما تريد من قواعد للمرور (أو منع المرور) في المضيق.. فماذا ستفعل مع انتقال السيادة ؟
فمع انتقال السيادة وتبعية الجزيرتين للسعودية، يتحول الممر تلقائياً إلى ممر دولي، لا تملك مصر ولا السعودية أي سلطة عليه، لا في زمن السلم، ولا في زمن الحرب !
كما أن مثل هكذا اتفاقية تفقد قرار الرئيس الراحل “جمال عبدالناصر” بإغلاق “خليج العقبة” (مضيق تيران)، بوصفه مياهاً مصرية أمام الملاحة الإسرائيلية في ٢٢ آيار/مايو ١٩٦٧ مشروعيته، ويترتب على ذلك منح الإسرائيليين الحق في مقاضاة مصر ومطالبتها بالتعويض الذي ربما يكبلها اقتصادياً ويخضعها سياسيا كونها تعيش أصلاً أزمات اقتصادية !
خطوات تصعيدية والرهان على الشارع..
لقد هدد المعارضون للاتفاقية بإعلان خطوات تصعيدية تبدأ بالاعتصام في مقرات أحزابهم وتنتهى بالتظاهر والاعتصام بميدان التحرير، بينما قال “هشام جنينة” رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق – الذي طالما كشف فساد كبير في مؤسسات الدولة وجهاتها السيادية -، إن أرض مصر ليست مشاعاً أو مباحة لكل من يفرط في تراب الارض.
يراهن المعارضون للاتفاقية على الشعب المصري وأنه هذه المرة سيخرج للاحتجاج من أجل ما وصفوه بالكرامة والاستقلال، موجهين رسالة للسيسي بأن مصر ليست تركة له أو لأي حاكم مصري يورثها لمن يشاء أو يتنازل ويفرط فيها لمن يدفع، كما أعلن عدد من أعضاء نقابة الصحافيين، تجاوز عددهم الـ600 صحافي، الاجتماع بمقر النقابة في الثاث عشر من حزيران/يونيو 2017 لتأكيد رفضهم لتمرير هذه الاتفاقية تزامناً مع الموعد المحدد لإقرارها !
خائن من يفرط في الأرض !
النبرة الأكثر شراسة كانت من نصيب المرشح الرئاسي السابق، المحامي الذي تبنى القضية أمام المحكمة، “خالد علي”، إذ وصف السيسي بالـ”خائن”، وكذلك رئيس الحكومة والبرلمان، وكل من يوافق على هذه الاتفاقية.
فيما دعا المرشح الخاسر في انتخابات الرئاسة المصرية أمام “السيسي” عام 2014، “حمدين صباحي”، إلى النزول إلى ميدان التحرير إذا ما صادق البرلمان على “هذا العار”، بحسب وصفه، دفاعاً عن الارض، مؤكداً على أن الشعب المصري الذي يبدو مستسلما الآن لن يفرط في الارض.
صفقوا لقرارات تصلح أحوال المصريين لا تنتهك سيادة أراضيهم..
لقد استنكر السياسيون الذين اجتمعوا بمقر “حزب الدستور” في القاهرة تصفيق وإشادة كثير من النواب بالاتفاقية ومطالبتهم بتسليم الجزيرتين، وأنه كان أولى لو ناقشت الحكومة وصفق النواب لقرار يرفع معدل دخل الفرد الشهري، أو تطوير المستشفيات الحكومية، أو تطبيق مجانية التعليم وتطويره في مصر، أو لقرارت تتيح العلاج علي نفقة الدولة لمعدومي ومحدودي الدخل، وتطوير القرى والعشوائيات وتوصيل المياه والكهرباء والغاز لكل بيت في مصر، لكنهم يناقشون ويؤيدون قرارا يجيز بيع جزء من أرض بلدهم بذل من أجله دم المئات من الشهداء.
مصر تناور باستمرار إدارتها للجزيرتين..
في المقابل حاولت الحكومة إيصال رسالة للخارج، بتسريب معلومات لشبكات “أجنبية” مثل الـ”بي. بي. سي” و”رويترز”، تقول إن مصر ستستمر في إدارة “تيران وصنافير” حفاظاً على الأمن القومي المصري السعودي، فهل يدرك النظام المصري أن الاتفاقيات بمجرد تمريرها والموافقة عليها تصبح وثيقة دولية لن تملك مصر التراجع عنها فيما بعد ؟
مبررات التوقيع على التسليم للسعودية.. أمانات يجب أن ترد لأهلها..
المؤشرات تتجه إلى التصويت لصالح الاتفاقية، وهو ما يتضح من تصريحات الكتلة الأكبر في البرلمان التابعة للحكومة وهي كتلة ” في حب مصر”، فهذا النائب اللواء “يحيى كدواني” بالكتلة عن محافظة أسيوط جنوب مصر يقول إن “الأمانات يجب أن تؤدى إلى أهلها والأرض ليست مصرية.. وأن الاعتراف بالحقوق أفضل من اللجوء للتحكيم الدولي”.
بينما النائب “محمد أبو حامد” عن دائرة الوايلي والظاهر يقول: “الوثائق تؤكد سعودية جزيرتي تيران وصنافير.. هذا ما استقر في ضميري حتى الآن”، فيما يقول أحد أهم داعمي الحكومة المصرية و”السيسي”، النائب “مصطفى بكري” إن: “تيران وصنافير سعوديتان.. وموقفي واضح ولم يتغير منذ اللحظة الأولى بناء على المستندات التي تحت يدي !”.
وبالطبع هو ذات موقف النواب الذين عينهم “السيسي” بحكم ما له من صلاحيات، إذ قالت النائبة “لميس جابر”: “الجزيرتان سعوديتان منذ طريق الحج القديم الذي مر عليه ألف عام، والقوات والقبائل السعودية كانت تحمي هذا الطريق منذ ظهور قبائل نجد والحجاز”.. وهو طرح مردود عليه بإمبراطورية الفراعنة التي طالت حدود مصر البحرية منذ آلاف السنين.
“عمرو موسى” للنواب: لا تتعجلوا وانتظروا الدستورية !
أما “عمرو موسى” أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق، ورئيس لجنة الخمسين، التي وضعت التعديلات الدستورية بعد عزل الرئيس الأسبق “محمد مرسي” في عام 2013، قال في بيان له إن “المؤسسة المصرية لحماية الدستور تتابع الخطوات التي يتخذها مجلس النواب للنظر في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية والتي قضت المحكمة الإدارية العليا في حكم بات – نهائي – لها صدر في كانون ثان/يناير ٢٠١٧ ببطلان توقيع ممثل الحكومة المصرية عليها في نيسان/ابريل ٢٠١٦، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أخصها استمرار السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير”.
وفند نصوصاً تؤكد على عدم جواز مناقشة البرلمان لأي اتفاقيات تتعلق بحقوق السيادة إلا بعد استفتاء المواطنين، مطالباً مؤسسات الدولة الانتظار لحين فصل المحكمة الدستورية في القرار.. وهي صيغة قد تسمح بتمرير الاتفاقية ولكن بشكل قضائي يحفظ ماء وجه الحكومة والسيسي.. لأن ردها معلوم مسبقاً وهو أن هذه الاتفاقية عمل من أعمال السيادة وبالتالي ستبطل أحكام القضاء الإداري ويكون على الرئيس المصري اتخاذ قراره.
الاتفاقية أعيدت بعد تفجيرات فرضت قانون الطوارئ وسحب الأراضي !
لقد أعيدت الاتفاقية للنقاش في البرلمان بعدما أعلن الرئيس المصري حالة الطوارئ في البلاد لـ3 أشهر نتيجة تفجيرين في كنائس بالأسكندرية في نيسان/ابريل 2017 راح ضحيتهما العشرات، ثم تبعه قتل 29 مسيحياً في طريقهم لدير بصحراء محافظة المنيا في آيار/مايو من ذات العام، ما أعطى له صلاحيات واسعة في “ليبيا” بعد تأكيد السلطات المصرية أن منفذي تلك العمليات يتدربون وقادمون من هناك.. فهل تنتظر مصر انفجاراً آخر ينسيها الحديث عن مسار تلك الاتفاقية، وهو ما ألمح له الإعلامي المقرب من الدولة “عمرو أديب” من توقعه لتفجير كبير قريب ؟
كما أن قرار “السيسي” بسحب جميع الأراضي التي لم يدفع أصحابها من رجال الأعمال والسياسيين مقابل تقنين أوضاعهم أموالاً طائلة، ربما أجبر أغلب النواب على تمرير هذه الاتفاقية وغيرها من القوانين، لأنهم بطريقة أو بأخرى لهم علاقة بتلك الأراضي وبالتالي لا يريدون فقد مئات بل آلاف الأفدنة التي حصلوا عليها بأقل الأسعار.
قطر وليبيا.. شيك على بياض منحه سلمان للسيسي..
ولا يمكن إغفال أن مناقشة الاتفاقية من جديد وإقرارها تزامن مع مقاطعة السعودية لقطر وفرض حصار بري وجوي عليها – في حين أنها رفضت مسبقاً توجيه أي اتهام لقطر بدعم الإرهاب -، فمن أجل الإيقاع بقطر والمطالبة برأس أميرها “تميم بن حمد” وقيادات الإخوان المصريين الهاربين في الدوحة، يبدو أن ثمة تنازالات مصرية قدمها السيسي أولها التنازل عن الجزيرتين !
لكن قطر ليست هي الثمن فقط، فقد أخذ “السيسي” الضوء الأخضر بتطهير “ليبيا” ممن تصفهم القاهرة بالإرهابيين مع تغاضي الأوربيين والمجتمع الدولي عن تلك الضربات الجوية طالما أنها ثأراً لأبناء الكنيسة من ضحايا الإرهاب، ليحين موعد التدخل البري الذي يتحدث عنه الآن الجميع في ليبيا مؤكدين على مشاهدتهم لأرتال عسكرية مصرية في طريقها لدعم قائد الجيش الليبي “خليفة حفتر” لاقتحام “درنة” والسيطرة عليها.
إقناع “ترامب” بإطلاق يد مصر في ليبيا..
التنازل عن “تيران وصنافير” يأتي بعد أن أقنع ملك السعودية “سلمان بن عبد العزيز” و”محمد بن زايد” ولي عهد أبو ظبي، الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” بضرورة التدخل وإطلاق يد الجيش المصري في ليبيا للثأر ممن قتلوا السفير الأميركي السابق لدى طرابلس، “جي كريستوفر ستيفنز”، وثلاثة أميركيين في الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في بنغازي في آيلول/سبتمبر 2012.
دولارات السعودية تدفق على مصر..
كما أنه وبمجرد الإعلان عن مناقشة تسليم “تيران وصنافير” للسعودية، أعلنت وزير الاستثمار المصرية “سحر نصر” أن الصندوق السعودي للتنمية صرف 400 مليون دولار من قرض برنامج الملك سلمان لتنمية سيناء، إضافة إلى 400 مليون دولار أخرى قدمتها السعودية من قبل، ما يعني أنه طالما كانت مصر في حاجة للمال ستقدم دائماً تنازلات وإن كانت تمس أرضها وأمنها القومي !
في النهاية، فقد قدم المعارضون للاتفاقية خرائط كثيرة ودراسات تؤكد بالجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ تبعية “تيران وصنافير” لمصر، وأنه لا يوجد في تاريخ الدول من يقول إن جزءً من أرضه ليس ملكه وإن كان محتلاً له، فلا إيران تعترف بالجزر الثلاث الإماراتية ولا إسرائيل تقول إن الجولان سورية، فكيف لمن قاد حروباً من أجل تلك الأرض أن يفرط فيها ؟