أطلقت النيران على قدميها .. “واشنطن” تفتح فيضان العقوبات على “موسكو” .. فهل اقتربت ظاهرة “الدولرة” من نهايتها ؟

أطلقت النيران على قدميها .. “واشنطن” تفتح فيضان العقوبات على “موسكو” .. فهل اقتربت ظاهرة “الدولرة” من نهايتها ؟

وكالات – كتابات :

كانت العقوبات الاقتصادية هي أبرز أدوات ردة الفعل الغربية على العمليات العسكرية الروسية في “أوكرانيا”. وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي هو المستهدف الرئيس من هذه العقوبات، إلا أن نطاق تأثيرها يتجاوز حدود “روسيا” و”أوكرانيا”، والغرب، بحسب الباحث “مصطفى كمال”؛ في ورقته البحثية التي نشرها مركز (رؤية) للدراسات الإستراتيجية.

يستهل الكاتب بحثه بالإشارة إلى أنه: يتحمل الاقتصاد الروسي تكاليف العقوبات؛ ولكن سيقابلها ولو جزئيًا ارتفاع أسعار صادرات “الغاز والنفط”، ولكن صافيها سيكون التأثير على الاقتصاد سلبيًا؛ حيث من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة: 1.5% هذا العام؛ وأكثر من: 2.5% بنهاية عام 2023. ومن المتوقع أن يرتفع معدل التضخم الروسي إلى أكثر من: 20% هذا العام، مدفوعًا بالأساس، بإنهيار سعر العُملة الروسية جراء العقوبات الخارجية.

أولًا، سجل “العقوبات الأميركية” على روسيا منذ أزمة “القِرم”..

لا تُعد العقوبات المفروضة على بدء العمليات العسكرية الروسية في “أوكرانيا”؛ في 24 شباط/فبراير 2022، هي الأولى، بل سبقها عدد كبير من العقوبات بسبب التدخل الروسي في جزيرة “القِرم” وانتهاك السيادة الأوكرانية؛ عام 2014. وتنوعت “العقوبات الأميركية” وقتها على “روسيا” حيث شملت ما يلي:

01 – تقييد استثمارات وقيود سفر..

فرضت “الولايات المتحدة الأميركية”؛ في آذار/مارس 2014، قيودًا على سفر بعض الأفراد والمسؤولين الروس؛ خاصة المقربين من السلطة. كما فرضت عقوبات على ما أسمته الأفراد والكيانات الروسية المسؤولة عن انتهاك سيادة ووحدة أراضي “أوكرانيا” أو عن سرقة أصول الشعب الأوكراني، ووضعت هذه العقوبات قيودًا على سفر بعض الأفراد والمسؤولين.

02 – منع تأشيرات وتجميد أصول مسؤولين روس..

لم تتوقف العقوبات على تقييد الاستثمارات، بل وصلت إلى إصدار قرار بعقوبات بمنع إصدار تأشيرات لسفر عدد من المسؤولين الروس، إضافة إلى تجميد أصولهم؛ في 17 آذار/مارس 2014. تضمنت قائمة المسؤولين التي شملتهم العقوبات كلاً من رئيسة المجلس الفيدرالي؛ “فالنتينا ماتفينكو”، ونائب رئيس الوزراء؛ “ديمتري روغوزين”، ومساعد الرئيس؛ “فلاديسلاف سوركوف”. ثم تم توسيع قرارات العقوبات لتشمل عدد أكبر من المسؤولين الروس.

خلال تلك الفترة، ردت “روسيا” بإصدار قرار بمنع تسعة مسؤولين أميركيين من دخول “روسيا”؛ على رأسهم رئيس مجلس النواب السابق؛ “جون بوينر”، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ؛ “هاري ريد”، والسيناتور الراحل؛ “جون ماكين”. ثم أعقب ذلك رد أميركي بحظر تراخيص تصدير منتجات أو خدمات دفاعية إلى “روسيا”، لترد “روسيا” مرة أخرى بحظر دخول مزيد من المسؤولين الأميركيين ومسؤولي دول غربية أخرى.

03 – عقوبات من “وزارة الخزانة” الأميركية..

أصدرت “وزارة الخزانة” الأميركية؛ في 20 آذار/مارس 2014، حزمة من العقوبات على “روسيا” شملت سبعة مسؤولين من شبه جزيرة “القِرم”، وشركة “النفط” الأوكرانية بالقِرم؛ (تشيرنومورنفتغاز)، إضافة إلى عدد من الشركات المرتبطة بالرئيس الروسي؛ “بوتين”، كما شملت العقوبات على ما أسمتهم “الخزانة الأميركية”؛ الانفصاليين الذين دعموا “روسيا”، مع تشديد القيود على استيراد المنتجات والبضائع الروسية.

شملت أيضًا العقوبات من “الخزانة الأميركية” عدد من البنوك الروسية؛ أهمها: (غازبرومبانك) و(بنك موسكو) و(البنك الزراعي الروسي)، إضافة الي شركات “النفط والغاز الروسي”؛ مثل: (نوفاتيك) و(روسنفت)، وشركات أسلحة روسية مثل: (كلاشينكوف)، فضلاً عن فرض قيود على تصدير التقنيات التكنولوجية لقطاعات “الغاز والنفط” الروسية.

كان الرد الروسي على عقوبات “الخزانة”؛ حظر استيراد المواد الغذائية من “الولايات المتحدة” ودول “الاتحاد الأوروبي” ودول أخرى حليفة لهم. فيما استمرت “الولايات المتحدة” في فرض عقوبات؛ إذ حظرت على الشركات الأميركية توريد أي تقنيات تكنولوجية إلى “روسيا”، كما جمدت أصول عدد من الشركات الدفاعية الروسية.

04 – عقوبات على كيانات دبلوماسية والدائرة المقربة من “بوتين”..

شملت “العقوبات الأميركية” على “روسيا”، الصادرة في 2014؛ حظر عدد من المؤسسات الدبلوماسية والمالية، شملت القائمة: 14 شركة دفاعية، إضافة إلى أفراد من الدائرة المقربة من “بوتين”، وتضييق التمويل على ستة من أكبر البنوك الروسية وأربع شركات للطاقة. كما تضمنت العقوبات تعليق التمويل الائتماني الذي يُشجع الصادرات إلى “روسيا” وتمويل مشاريع التنمية الروسية، كما شملت حظر على الخدمات التكنولوجية لدعم واكتشاف المياه. كما عملت “الولايات المتحدة” مع “الاتحاد الأوروبي” على تضييق الخناق على الحكومة الروسية، وأعلنت استعدادها لاتخاذ خطوات إضافية لفرض قيود سياسية واقتصادية، وفق ما أورده الموقع الرسمي لـ”وزارة الخارجية” الأميركية.

05 – عقوبات على القراصنة الروس..

أطلقت “الولايات المتحدة”، في كانون أول/ديسمبر 2015، عدة عقوبات شملت أفرادًا وكيانات صنفتها على أنها تُساعد في أنشطة خبيثة عبر الإنترنت تضر الأمن القومي الأميركي. وظلت القائمة تتسع خلال الفترة من: 2015 إلى نهاية 2016. كما فرضت قيودًا على بعض المسؤولين في “القِرم” الذين تعاونوا مع الروس، حيث شملت العقوبات أعضاء من مجلس (الدوما)؛ في “القِرم”، وحظر على التأشيرات وتجميد أصول سبعة أفراد وعدد من الشركات العاملة في البناء والخدمات اللوجستية.

كذلك، مدت “الولايات المتحدة” العقوبات لمدة عام إضافي؛ بداية من كانون ثان/يناير 2017؛ حيث أضافت “الولايات المتحدة” أكثر من: 270 فردًا وكيانًا آخر إلى قائمة العقوبات، وشملت القائمة شركة: (مجموعة فاغنر) العسكرية، إضافةً إلى جميع أعضاء الحكومة الروسية، والإدارة الرئاسية، ورؤساء الشركات الحكومية، ومقربين من “بوتين”، عندها ردت “روسيا” بتمديد حظر استيراد المواد الغذائية حتى نهاية عام 2018.

06 – قانون “CATSAA”..

على الرغم من الهدوء الذي ساد العلاقات “الأميركية-الروسية”؛ خلال عام 2018، إلا أن “الولايات المتحدة” استخدمت قانون (CATSAA) لأول مرة لفرض عقوبات على: 19 روسيًّا نتيجة التحقيقات التي قام بها؛ “روبرت مولر”، المسؤول عن التحقيق في تدخل “موسكو” المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، من خلال شركة (Internet Research LLC). كما طردت “الولايات المتحدة” والدول الغربية، عددًا من الدبلوماسيين الروس وصل عددهم إلى: 60 دبلوماسيًّا من أراضيها وحدها. كما جمدت أصول: 38 رجل أعمال روسي، إضافة إلى فرض حظر على بيع الأسلحة، والمساعدات المالية لـ”روسيا”. فيما ردت “روسيا” بإصدار أمر: لـ 60 دبلوماسيًّا أميركيًّا لمغادرة البلاد، كما مددت حظر استيراد المواد الغذائية؛ حتى نهاية عام 2019.

ثانيًا: تأثير العقوبات الجديدة على “روسيا”..

بخصوص تأثير العقوبات الجديدة على الداخل الروسي، والاقتصاد العالمي في المجمل، فهنالك العديد من التداعيات التي يمكن أن تُنتج عن ذلك. وحتى الآن، فقد تم تطبيق حزم متنوعة من العقوبات، المالية بالأخص، على “روسيا”، التي تتم أكثر من: 80% من معاملات الصرف الأجنبي اليومية لها، ونصف تجارتها، بـ”الدولار الأميركي”. فقد أعلنت كل من: “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وأستراليا واليابان وكندا”، عن نيتهم استهداف البنوك والأثرياء الروس، بينما أوقفت “ألمانيا” مشروع خط أنابيب الغاز؛ (نورد ستريم-2). وكذلك، فقد تم تجميد احتياطيات “البنك المركزي الروسي” في الخارج، وتقييد وصول البنوك الروسية إلى نظام المدفوعات الدولي؛ (SWIFT)، على الرغم من استمرار السماح بالمعاملات المالية المرتبطة بالطاقة ودفع فواتير صادرات “الغاز الروسي”.

تُعد هذه العقوبات أشد خطورة من تلك التي فُرضت؛ في 2014، في أعقاب ضم “روسيا”؛ لشبه جزيرة “القِرم”. في الشريحة الأولى للعقوبات، تم استهداف بعض البنوك المملوكة للدولة في “روسيا”، مما يمنعها من تداول ديونها في الأسواق الأميركية والأوروبية واليابانية. كما يُقيد “الاتحاد الأوروبي” أيضًا الوصول إلى أسواق رأس المال الأوروبية، ويمنع الوصول إلى الأموال المخزنة من قبل بنوك “الاتحاد الأوروبي”، ويحظر التجارة بين “الاتحاد الأوروبي” والمنطقتين الخاضعتين لسيطرة المتمردين؛ والتي أعلن “بوتين” انفصالهما. كما يُسلط الإغلاق الجزئي لنظام (SWIFT)، وتجميد أصول البنوك الروسية، الضوء على مطالبات البنوك الغربية على الكيانات الروسية، فوفقًا لـ”بنك التسويات الدولية”، فإن أكبر المطالبات هي لبنوك في “النمسا وفرنسا وإيطاليا”، وهو ما يُمثل ضغوطًا كبيرة على الشركات التابعة للبنوك الروسية وتعمل خارج “روسيا”، وهذه الضغوط هي ما قد تدفعها إلى الإغلاق.

قد تواجه “روسيا” أيضًا حظرًا على المعاملات المالية التي تنطوي علي دولارات أميركية، فضلاً عن تجارة التكنولوجيا الفائقة مع “الولايات المتحدة” و”أوروبا”. فـ”الولايات المتحدة”، على سبيل المثال، قد تمنع بيع رقائق أشباه الموصلات إلى “روسيا”. ولن تؤثر هذه العقوبة على قطاعات الدفاع والفضاء في “روسيا” فحسب، بل سوف يمتد التأثير إلى الاقتصاد الروسي ككل، فمن المتوقع أن تؤدي العقوبات الاقتصادية إلى تقليص الواردات الروسية بنسبة قد تصل إلى: 30%، على الرغم من أن مدى التحايل على القيود من خلال التجارة التي يتم إجراؤها من خلال بلدان ثالثة يجعل قياس هذا الأمر صعبًا.

بشكلٍ عام؛ نجد أن الحرب قد تُسهم في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في “روسيا” بنسبة: 1.5%؛ في عام 2022، و2.6% في عام 2023، وسوف يرتفع التضخم في “روسيا” بسبب ارتفاع أسعار الواردات بعد انخفاض “الروبل”؛ وبسبب توقعات تضخم أعلى، بالتزامن مع انخفاض الثقة وضعف الدخل الحقيقي وتعطيل التجارة. وعمومًا، لن يتم تخفيف التأثير على الناتج المحلي الإجمالي لـ”روسيا” بالكامل من خلال زيادة الإيرادات الروسية من صادرات الطاقة. وإذا امتدت العقوبات لتشمل صادرات الطاقة الروسية، فستكون التداعيات على الاقتصاد الروسي أشد بكثير، ولكن التكلفة على الغرب أيضًا ستتصاعد، بما يُفاقم من انخفاض معدلات النمو بشكل أكبر، ويزيد من فرص الركود المصاحب لتضخم أقوى بشكل ملحوظ.

ثالثًا: كيف تتكيف “روسيا” مع العقوبات ؟

استهدف الغرب بشكل مباشر صندوق حرب “بوتين”؛ البالغ: 600 مليار دولار، وهي احتياطيات العُملات التي جمعها “البنك المركزي الروسي”؛ في السنوات الأخيرة، والتي كان من شأنها أن تسمح لها بالخروج من عاصفة العقوبات. إلا أن “روسيا” اتخذت عدة سياسات مناهضة لتلك العقوبات منها ما يلي:

01 – استخدام “الذهب” في التعاملات التجارية..

يمكن لـ”روسيا” أن تستخدم “الذهب” لدعم عُملتها كوسيلة للتحايل على تأثير العقوبات. تتمثل إحدى طرق القيام بذلك في مبادلة “الذهب” بعُملات أجنبية أكثر سيولة لا تخضع للعقوبات الحالية. هناك طريقة أخرى لبيع السبائك من خلال أسواق تجارة “الذهب”، يمكن أيضًا استخدام “الذهب” لشراء السلع والخدمات مباشرة من البائعين الراغبين. وقد عملت “روسيا”؛ منذ عقوبات “القِرم” 2014، على بناء مخزون قوي من “الذهب” لمواجهة العقوبات، فاعتبارًا من نهاية حزيران/يونيو 2021، امتلك “البنك المركزي الروسي” ما قيمته: 127 مليار دولار من “الذهب”، وهو ما يُمثل: 21.7% من إجمالي الأصول، وفقًا لـ”البنك المركزي الروسي”. ومن الناحية العملية، يلعب “الذهب” دورًا أكبر اليوم؛ لأن الغرب جمد فعليًا معظم احتياطيات “البنك المركزي” من العُملات. في حين يتم تخزين هذا “الذهب” في خزائن داخل أراضي “الاتحاد الروسي”، وفقًا لتقرير حديث صادر عن “البنك المركزي الروسي”.

لم تكتف “روسيا” بذلك؛ إذ أعلن (بنك روسيا)، البنك المركزي في البلاد، بشكل مفاجيء عن سعر ثابت لشراء “الذهب”؛ بـ”الروبل”. بسعر: 5000 روبل؛ (45.12 جنيه إسترليني)، للغرام من “الذهب”، وتُعد هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التعبير عن عُملة دولة ما في شكل: “تعادل الذهب” منذ أن قررت “سويسرا” التوقف عن ذلك؛ في عام 1999.

كان “تكافؤ الذهب” ممارسة شائعة من قبل القوى الكبرى في العالم؛ لتسهيل مدفوعات التجارة الدولية في عصر معيار “الذهب”؛ في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان الشيء نفسه صحيحًا بطريقة مختلفة قليلاً خلال حقبة “بريتون وودز”؛ من عام 1944 حتى عام 1971، عندما قرر الرئيس الأميركي؛ “نيكسون”، إنهاء النظام عن طريق إزالة الارتباط بين “الذهب” و”الدولار الأميركي”.

من المتصور أن يستمر ترتيب “بوتين” الجديد، مبدئيًا، من 28 آذار/مارس إلى 30 حزيران/يونيو. وهذه هي الأحدث في سلسلة من التحركات المتعلقة بـ”الروبل” من قبل الروس، بدءًا من الإعلان في 23 آذار/مارس؛ أنهم لن يقبلوا سوى “الروبل” مقابل “الغاز الأوروبي”؛ بدلاً من “اليورو” و”الدولار الأميركي”. لقد توقعت أن تُمدد “روسيا” هذه السياسة على الأقل لتشمل “النفط”، لكنها ذهبت إلى أبعد من ذلك وأشرت إلى نية لجعلها تنطبق على جميع السلع التي تُصدرها تشمل السلع الأخرى: “القمح والنيكل والألمونيوم واليورانيوم المخصب والنيون”.

الهدف الرئيس من هذه التحركات هو محاولة ضمان مصداقية “الروبل”؛ بجعله أكثر استحسانًا في سوق (الفوركس)، على الرغم من أنه يتناسب أيضًا مع المحاولات الطويلة الأمد من قبل “روسيا” و”الصين” لإضعاف هيمنة “الدولار الأميركي”؛ كعُملة احتياطية عالمية؛ (بمعنى أنه العُملة التي يتم تسعير معظم السلع الدولية بها، والتي تحتفظ بها معظم البنوك المركزية في احتياطاتها الأجنبية).

ووفقًا لبيانات من “مجلس الذهب العالمي”، وهو اتحاد تجارة صناعة “الذهب”، تبلغ قيمة مخزون “الذهب” في العالم حوالي: 13 تريليون دولار بالأسعار الحالية، وهو ما يُعادل: 16 ضعف القيمة الافتراضية لجميع عُملات (البيتكوين) في العالم؛ الأمر الذي سوف يحدث تأثير للقيمة، والسعر؛ إذا بدأت تنافس “الدولار الأميركي” مرة أخرى كعُملة احتياطية. تُقدر قيمة الدولارات في العالم بحوالي: 37 تريليون دولار.

فيما جاء الرد الأميركي بالإعلان عن حظر صفقات “الذهب”؛ جنبًا إلى جنب مع “مجموعة السبعة” وحلفاء “الاتحاد الأوروبي” الذين سيفرضون أيضًا حظرًا على احتياطي “الذهب”. تنص إرشادات جديدة من “وزارة الخزانة” الأميركية على أن الأفراد الأميركيين، بما في ذلك تُجار “الذهب” والموزعين وتُجار الجملة والمشترين والمؤسسات المالية، يُحظر عليهم عمومًا شراء أو بيع أو تسهيل المعاملات المتعلقة بـ”الذهب”؛ التي تُشارك فيها “روسيا” والأطراف المختلفة التي تم فرض عقوبات عليها.

تؤثر هذه الخطوة بشكل أكبر على قدرة “روسيا” على غسيل الأموال وستُطبق في الواقع عقوبات ثانوية على الأشخاص الذين يتاجرون بـ”الذهب” مع “روسيا”؛ مما يُمثل زيادة في الضغط الاقتصادي على الكيانات الروسية؛ حيث يُعد حظر معاملات “الذهب” أيضًا محاولة لمنع المعاملات المالية المبتكرة من خلال البلدان الأخرى التي تواصل التعامل مع “روسيا”.

02 – نظام الدفع المشترك لدول “البريكس”..

تمت مناقشة نظام الدفع الموحد القائم على العُملات المحلية في دول (البريكس)؛ منذ عدة سنوات، ولكن لم تتم متابعته بجدية على أرض الواقع. أعطت الأزمة الأوكرانية دفعة لفكرة الإبتعاد عن “الدولار الأميركي” في التجارة الإقليمية. قال محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق؛ “راغورام راغان”، مؤخرًا إن الحظر الأميركي على التعاملات مع “البنك المركزي الروسي” بشكل طوعي يُثير قلق الدول بشأن الاعتماد المفرط على “الدولار”. كذلك، قال “راغان” إنه قد يكون هناك رئيس أميركي غدًا؛ (لم يرغب في تسمية أي شخص)، قد يلجأ إلى عقوبات صارمة لمجرد الإكراه. هل يمكن أن يُصبح هذا الوضع الطبيعي الجديد في تراجع العولمة ؟

لقد استغلت “روسيا” هذا الشعور وتتحدث حتى عن ربط “الروبل”؛ بـ”الذهب”. طرح “بوتين” فكرة قيام الاقتصادات الغربية بإيداع “الذهب”؛ لدى “روسيا” لشراء “الروبل”، والذي يمكن من خلاله شراء “النفط والغاز”. في الواقع، قرر “بوتين” إنقاذ “الروبل” من خلال ربط قيمته بـ”الذهب”. من خلال ربط: 5000 روبل لكل غرام من “الذهب”، يسعى لمواجهة إنهيار العُملة الروسية بدعم من “الذهب”.

هذه فكرة قوية للغاية ومزعجة لأنه بضربة واحدة، يمكن لجزء كبير من تجارة الطاقة العالمية الإبتعاد عن “الدولار”. ويمكن اعتبار ربط العُملة بـ”الذهب” عملًا مسؤولًا اقتصاديًا، مما يُثبت الطباعة المتهورة للعُملة، كما فعلت “الولايات المتحدة” على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية.

في هذه الفترة، نمت الميزانية العمومية لـ”مجلس الاحتياطي الفيدرالي”؛ من: 800 مليار دولار؛ في عام 2008، إلى ما يقرب من: 8.5 تريليون دولار؛ في عام 2021. كان من المستحيل زيادة طباعة العُملة بمقدار عشرة أضعاف إذا كان “الدولار” مدعومًا بـ”الذهب”، كما كان الحال حتى قام؛ “ريتشارد نيكسون”، بفك ارتباطه بالسبائك؛ في عام 1971. أغلق “نيكسون” نافذة “الذهب” لمنع الحكومات الأجنبية من بيع الدولارات لتجميع “الذهب” باعتباره التحوط ضد التضخم المستمر في “الولايات المتحدة”.

من المُثير للاهتمام أن “الولايات المتحدة” تواجه وضعًا تضخميًّا مشابهًا اليوم. يُحاول “بوتين” إحياء “الذهب” وآليات الدفع الأخرى بغير “الدولار” كوسيلة للتبادل. إنها خطوة ذكية؛ لأن لـ”الذهب” صدى طبيعي أيضًا لدى: “الهند والصين”، أكبر مستوردي “الذهب” في العقود الأخيرة. يُقدر “الذهب” المملوك من قبل الأسر الهندية؛ بنحو: 40% من الناتج المحلي الإجمالي. ثقافيًا ونفسيًا، لـ”الذهب” قوة جذب هائلة داخل “الهند والصين وروسيا”. تمتلك “روسيا” أكثر من: 50% من احتياطي العُملات الأجنبية من “الذهب”.

تشعر “الولايات المتحدة” بالقلق من أن هذا الحديث عن نظام الدفع بالعُملة المحلية والإقليمية أو نظام التداول القائم على “الذهب”؛ الذي اقترحته “روسيا” يمكن أن يتحدى “الدولار” ويلغي آثار عقوباته القاسية على المدى القصير إلى المتوسط. ومع ذلك، حتى إذا تم العثور على حل واسع للأزمة الأوكرانية، فإن فكرة الإبتعاد عن “الدولار” كعُملة تداول مهيمنة قد تستمر وقد يكون ذلك كابوسًا حقيقيًا لـ”واشنطن”.

بعد كل شيء، حتى “الصين” تُغذي الطموح في جعل “اليوان” عُملة إقليمية مقبولة على نطاق واسع، إن لم تكن عالمية. يمكن أن تكون حرب “أوكرانيا” نقطة انعطاف للعديد من التغييرات الجذرية في الاقتصاد الجغرافي الذي يحكم عالم متعدد الأقطاب. إن إعادة تصور أشكال جديدة لأنظمة الدفع لها أهمية خاصة في تجارة الطاقة والغذاء. الغذاء وأمن الطاقة من الاهتمامات المشتركة: لـ”الهند والصين وروسيا”.

03 – إطلاق “روسيا” لعُملة مشفرة ونظام تحويل مالي جديد..

تُعد “روسيا”؛ هي المدافع الأكثر صراحة عن التخلص من نير “الدولار”، لكن أجندتها تحظى بقبول كبير بين القوى الكبرى. إن إلتزام “الصين” بتنويع احتياطياتها من العُملات الأجنبية، وتشجيع المزيد من المعاملات بـ”اليوان”، وإصلاح نظام العُملة العالمي من خلال التغييرات في “صندوق النقد الدولي”، يُعزز إستراتيجية “روسيا”. يُحفز تدهور العلاقات “الأميركية-الصينية”؛ “بكين”، على الانضمام إلى “موسكو” في بناء نظام مالي عالمي موثوق يستبعد “الولايات المتحدة”. مثل هذا النظام سوف يجذب البلدان الخاضعة لـ”العقوبات الأميركية”. بل إنه قد يروق لحلفاء “الولايات المتحدة” الرئيسيين الذين يأملون في الترويج لعُملاتهم الخاصة على حساب “الدولار”. عند فرض العقوبات، يجب على إدارة “بايدن” ألا تُفكر فقط في كيفية تشكيل هذه الإجراءات للحرب في “أوكرانيا”، ولكن أيضًا كيف يمكنهم تغيير النظام المالي العالمي.

أطلقت الحكومة الروسية بعد ذلك قطعتين مهمتين من البنية التحتية المالية لدرء العقوبات والحفاظ على استقلاليتها المالية إذا تم قطعها عن نظام الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، المعروف أيضًا باسم (SWIFT)، والذي يسمح للبنوك بإرسال رسائل إلى بعضها البعض. كان أولها نظام دفع وطني مستقل يعمل كبديل روسي لمنصات الدفع مثل: (Visa) و(Mastercard). وكان الآخر عبارة عن نظام مراسلة مالية مملوك يسُمى: “نظام تحويل الرسائل المالية”؛ (SPFS)، وهو النسخة الروسية من: (SWIFT).

قد تكون مبادرات “روسيا” أحادية الجانب للهروب من قبضة “الدولار” دفاعية بطبيعتها، لكنها عملت أيضًا مع دول أخرى لتقويض هيمنة “الدولار”. تُمثل هذه التحالفات تهديدًا طويل الأمد للدور البارز لـ”الدولار” في التجارة الدولية. وبالتالي، تحدٍ للقيادة العالمية لـ”الولايات المتحدة”. عززت الرغبة المشتركة لتقليل الاعتماد على “الدولار” العلاقة بين “روسيا” و”الصين”. ساعدت مقايضات العُملات الثنائية بين البنكين المركزيين “روسيا” على تجاوز “العقوبات الأميركية”؛ في عام 2014، وتسهيل التجارة الثنائية والاستثمار. في عام 2016، دعا رئيس الوزراء؛ “دميتري ميدفيديف”، إلى تنسيق أنظمة الدفع الوطنية للبلدين وناقش احتمال إطلاق نظام دفع جديد عبر الحدود بين “روسيا” و”الصين” للتسويات المباشرة بـ”اليوان” و”الروبل”؛ في 2018.

في عام 2019، “الصين” رفعت علاقاتها مع “روسيا” إلى: “شراكة تنسيق إستراتيجية شاملة لعصر جديد”، وهي أعلى مستوى في العلاقات الثنائية لـ”الصين”. بعد ذلك، استثمر “البنك المركزي الروسي”: 44 مليار دولار في “اليوان”، مما زاد حصته في احتياطيات النقد الأجنبي لـ”روسيا”؛ من خمسة إلى: 15 في المئة؛ في أوائل عام 2019. تبلغ حيازات “اليوان” الروسية حوالي عشرة أضعاف المتوسط ​​العالمي وتشكل ما يقرب من ربع احتياطيات “اليوان” العالمية. في عام 2019، وقعت “الصين” و”روسيا” اتفاقية تزيد استخدام عُملتيهما الوطنيتين في التجارة عبر الحدود إلى: 50%. في عام 2021، حث وزير الخارجية الروسي؛ “سيرغي لافروف”، “الصين”، على العمل مع “روسيا”، لتقليل اعتمادها على “الدولار الأميركي” وأنظمة الدفع الغربية. سمحت الحكومة الروسية لصندوق الثروة السيادية الروسي بالاستثمار في احتياطيات “اليوان” والسندات الحكومية الصينية.

يسعى “بوتين” إلى توسيع مثل هذه البنية التحتية المالية البديلة من خلال تعاملات “روسيا” مع الدول الأخرى. في عام 2019، ربطت “إيران وروسيا” أنظمة الرسائل المالية الخاصة بهما، وبالتالي تجاوزتا نظام (SWIFT)؛ من خلال السماح للبنوك في كلا البلدين بإرسال رسائل المعاملات عبر الحدود. ناقشت “روسيا وتركيا” استخدام “الروبل” و”الليرة” التركية في التجارة عبر الحدود. قدمت “روسيا” نسختها من (SWIFT) للبنوك في “الاتحاد الاقتصادي الأوراسي”؛ (شراكة بين خمس دول ما بعد الاتحاد السوفياتي)، وأعربت عن اهتمامها بتوسيعها إلى دول في العالم العربي وأوروبا. حاولت “روسيا” حشد المزيد من الدعم لإزالة الدولرة في المنتديات متعددة الأطراف؛ مثل مجموعة (البريكس)، التي تتكون من: “البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا”، و”منظمة شنغهاي للتعاون”. قام “بنك التنمية” الجديد التابع لمجموعة (بريكس) بجمع الأموال بالعُملات المحلية كجزء من هدفه: “الإبتعاد عن طغيان العُملات الصعبة”. في عام 2020، شدد أعضاء “منظمة شنغهاي للتعاون” على أهمية استخدام العُملات الوطنية في التجارة بين بعضهم البعض وناقشوا إنشاء “بنك تنمية” و”صندوق تنمية”. يمكن لـ”روسيا والصين” استخدام هذه المنتديات لإنشاء تحالف واسع لإزالة الدولرة مع وعد بمزيد من الاستقلال المالي للجميع وتقليل الاعتماد على “الدولار”.

رابعًا: الخطوة الغربية المقبلة..

سيكون على إدارة “بايدن” النظر في هذا السياق الأوسع؛ لأنه يُحدد أفضل السُبل للضغط على “روسيا” للانسحاب من “أوكرانيا”. قد تُساعد العقوبات الصارمة الإضافية ضد “روسيا”؛ “أوكرانيا”، على المدى القصير، لكنها تُخاطر بتسريع حركة إزالة الدولرة الأوسع نطاقًا والتي يمكن أن تُضعف على المدى الطويل القيادة الأميركية العالمية بشكل أساس. أما إذا أرادت “الولايات المتحدة” تعزيز النظام المالي العالمي القائم على “الدولار الأميركي، سيكون على إدارة “بايدن” اتخاذ خطوات جدية لتخفيف التوترات مع “الصين” وتشجيع “الصين” على استخدام (SWIFT)؛ بدلاً من التحول إلى أنظمة بديلة؛ بحيث لا تتخذ “الولايات المتحدة” سياسات من شأنها أن تؤدي إلى الانفصال المالي عن “الصين”. يتعين على المنظمين الماليين الأميركيين الاستجابة لطلب نظرائهم الصينيين لتعزيز الاتصال والتعاون بشأن لوائح السوق. يجب على المسؤولين الأميركيين أيضًا تشجيع المزيد من الشركات الصينية على الإدراج في أسواق الأسهم الأميركية، الأمر الذي من شأنه أن يُحفز “الصين” على دعم استقرار الأسواق المالية العالمية القائمة على “الدولار”.

كذلك، يمكن لـ”الولايات المتحدة” أن تُضعف القوة المالية الأساسية لـ”روسيا”: من خلال تضييق الإيرادات التي تُدرها من خلال صادرات “النفط والغاز”. وذلك من خلال تعاون “الولايات المتحدة” في مجال الطاقة مع “أوروبا” لتقليل اعتماد “الاتحاد الأوروبي” على الطاقة الروسية. لتحقيق ذلك، لابد ان تعمل إدارة “بايدن”؛ على المدى القصير، على توفير إمدادات طاقة بديلة لحلفائها في “أوروبا” ومنطقة “آسيا” و”المحيط الهاديء”. على المدى المتوسط ​​إلى الطويل، سيكون على “الولايات المتحدة” أيضًا العمل مع حلفائها لمواجهة صادرات الطاقة النووية الروسية؛ حيث لدى “روسيا” الهيمنة المطلقة في سوق صادرات الطاقة النووية العالمية؛ (تمتلك: 60 في المئة من حصة السوق)، تسمح لها بتسليح سيطرتها على تكنولوجيا الطاقة النووية وإمدادات الوقود في أوقات التوترات الجيوسياسية. كذلك سوف يعمل “الكونغرس” على تمكين مؤسسة تمويل التنمية، مؤسسة تمويل التنمية التابعة للحكومة الأميركية، لتُصبح مصدرًا موثوقًا به لرأس المال للأسواق الناشئة والبلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط؛ إذ يُعتبر تمويل التنمية أداة مهمة، ولكنها غير مستغلة بشكل كافٍ في فن الحكم الاقتصادي.

خاتمًا، حاولت “روسيا” دفع جهود نزع “الدولار” من خلال مؤسسات التنمية متعددة الأطراف، وسيكون على “الولايات المتحدة” الرد. يجب على “واشنطن” رفع مكانة (DFC) والعمل مع مؤسسات تمويل التنمية لحلفاء “الولايات المتحدة”، مثل “بنك اليابان للمؤسسات الدولية”، لتعزيز دور “الدولار” وقيادة “الولايات المتحدة” في تمويل التنمية الدولية. وهو ما يعني أن تأثير العقوبات سيكون أعمق من محاولة استهداف تغيير السلوك السياسي لـ”روسيا” أو تقييد تحركاتها العسكرية. فقد أصبح الإفراط في استخدامها دليل توتر عميق داخل الغرب حول مكانة القيادة الأميركية للنظام الدولي، وأداة في يد “روسيا” وغيرها لتغيير قواعد اللعبة للأبد.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة