يحتاج ملف القطاع الطبي في العراق بمجمله الى دراسة وافية وشاملة ودقيقة، فيها أسباب ومعالجات وتوصيات ومقترحات من شأنها تغيير واقعه الفوضوي، الى واقع يشعر فيه المواطن العراقي بالسعادة والرضا. ومن بين المشاكل الكثيرة التي تنزل على هذا القطاع، مشكلة توزيع الأطباء حديثي التخرج بطريقة لا تراعي ظروفهم الخصوصية ومشكلة البعد عن مدن سكنهم الأصلية. وهي معضلة تبدو مؤرقة خاصة بالنسبة للنساء الطبيبات في عراق يعاني من الفوضى وانعدام الأمن.
ويلقي طبيب عراقي شاب بسيل من الأسئلة “لماذا لم تبادر نقابة الأطباء العرقيين الى طرح تصورها عن مسألة التوزيع الكيفي والمزاجي للأطباء المقيمين؟ وأين النقابة من التجاوزات التي وصلت الى حد البصق في وجه الطبيب وضربه أثناء تأدية واجبه من قبل كل من هب ودب في المستشفيات؟ أين هي من تجاوزات الأجهزة الأمنية أثناء معالجة جرحاهم، ولماذا لم تضع وزارة الدفاع أمام مسؤولياتها ودعوتها إلى إعادة افتتاح المستشفيات العسكرية التي لا يريدها البعض من الضباط الأطباء السابقين لكي لا يفتح ملف الدارسين على نفقة الدفاع وإمكانية تغريمهم بالتكاليف؟
ويضيف نفس الطبيب “على النقابة كممثل حقيقي للأطباء ان تتخذ موقفا في مواجهة مراكز القرار في الوزارة والبرلمان، نعم نطالب بتفعيل دور نقابة الاطباء كشريك اساس في عملية صناعة القرارات الطبية والصحية في البلد”.
ويقول الأطباء العراقيون إن الدول المتقدمة تحرص على رعاية حديثي التخرج من الأطباء وتوكون لهم لجنة خاصة لإيجاد أفضل الحلول لتوزيعهم في أماكن عملهم لضمان تحقيق الخدمة الطبية والعلاجي لكل مواطن، بالإضافة الي تحقيق طموحات الشباب من الأطباء.
وتقول الطبيبة سما محمد والتي كانت تسأل عن مكان توزيعها في دائرة صحة بغداد الرصافة “لقد عينت حسب معدلي في محافظة ميسان التي لم أرها يوما في حياتي ولا أدري كيف سأذهب وكيف سأعود وكيف سأقضي اليوم بعيدا عن أهلي ومحافظتي، وكيف أقطع الطريق الطويل والبعيد عن عائلتي فيما لو تعرضت لمضايقة أو مشكلة، شيء محير جدا وان تسألوني عن (غلطة عمري) أقول امتهاني لهذه المهنة المتعبة والخطيرة “.
وتعلق طبيبة اخرى بقولها “لو أن الوضع في العراق طبيعي وآمن لما تخوفنا كل هذا الخوف، ولكن الناس يختلفون بين محافظة وأخرى، وطريقة التعامل معهم تختلف، وفي موقف طريف حدثتني إحدى صديقاتي عن شخص طلبت منه رفع عقاله عن رأسه فبصق في وجهها. وقال لي بالحرف الواحد (العشاير ما عرفت اتربيج) وطلب الاعتذار وإلا فللعشائر الكلمة الفصل! “
واكد طبيب آخر ان الأطباء العراقيين وبالإضافة الى مسؤولياتهم وعملهم الشاق، فإنهم دائما مشغولو الفكر في توفير الحماية لهم “ففي كل يوم يصادفك موقف يقلقك ويجعلك تدور في دوامة الخوف والرعب إذ أن كل شخص يريد منك العلاج المتميز والذي لا ينقصه أي شيء، إذ أن عدم توفير حقنة يعني تلقيك تهديدا يجعلك لا تنام الليل ولا تأمن الخروج من المحافظة التي عينت فيها، وأنا أعرف العديد من الطبيبات ممن لا يعدن الى أهلهن في المحافظة الأخرى، ويفضلن البقاء في دار الأطباء خوفا من كلمة صغيرة جاءت على لسان احد المراجعين، وهذا ليس تهويلا أو مبالغة فالحوادث التي يتعرض لها الأطباء في الطرق الخارجية لا تعد ولا تحصى ولعل أسهلها واقلها سرقة رواتبنا، وحين تسال الأطباء في المحافظات يأتيك الرد سريعا (عمي بالراتب ولا بالقتل) .
وقال سعد مزعل الطبيب الاختصاصي “ازدادت في الفترة الأخيرة ظاهرة ابتزاز الأطباء والتهديد باختطافهم وقتلهم طلبا للفدية المالية.. وتتركز أغلب حالات تهديد الأطباء في المناطق غير المستقرة أمنيا، ويحدث بعضها في مناطق مستقرة، لكن مصدرها الأول العشائر والعائلات التي تهدد الأطباء إذا ارتكب الطبيب خطأ طبيا، أو اتهم بالتسبب في وفاة مريض، لذلك يلجأ بعض الاطباء إلى الوساطة للابتعاد عن المراكز الصحية في المناطق التي تكثر فيها حوادث ابتزاز الأطباء.
وحسب الدكتور علي بستان المدير العام لصحة بغداد، فرع الرصافة، فإن العلاقات الخاصة والوساطات تلعب دورا في توزيع الملاكات الطبية لا سيما بضاحية الصدر في بغداد، أكثر المناطق التي يتجنبها الأطباء والطواقم الطبية.
ويرى الطبيب سلمان باسم من الديوانية أن الكثير من الاطباء يعانون من التهديد المستمر من قبل العصابات، ومن مواطنين في الكثير من الاحيان، ولهذا السبب يتردد بعض الاطباء في اجراء عمليات جراحية للمرضى، ويؤكد باسم أنه تعرض للابتزاز بعدم موافقته على اصدار شهادات وفاة مخالفة للتعليمات والضوابط. وأضاف “يُجبر الطبيب في بعض الاحيان على دفع دية او فصل عشائري لأهالي المتوفى”.
ويعدّ الدكتور الشاب علي باسم واحد من بين عدة أطباء ينوون الهجرة إلى خارج العراق، بعدما ضاق ذرعا بالتهديدات والاعتداءات. ويقول علي باسم إن “توفير الحماية الشخصية لكل طبيب امر غير عملي، لا سيما أن اغلب الاطباء يعيشون في مدن ومناطق تتسم بالطابع العشائري”.
ويضيف ان عشرات الاعتداءات والمشاحنات تحدث ضد الكوادر الطبية في المستشفيات والمراكز الصحية، يرتكبها اشخاص يرون ان الكادر الطبي تسبب في موت شخص أو تدهور حالته الصحية، وهناك حالات خطيرة تتعرض لها الطبيبات فنضطر نحن وجميع الكوادر الطبية الى حمايتهن وتهريبهن من ابواب خاصة وضعت لهروب الاطباء!
ويروي الطبيب مدحت شلال كيف اعتدى عليه أفراد عشيرة اتهموه بعدم الاستجابة لمطالبهم في ضرورة العناية المناسبة بمريضهم، ما ادى إلى وفاته. ويتابع “هُددت بالقتل ما اضطرني إلى ترك المستشفى والانتقال إلى بغداد”.
وإذا كان اطباء المستشفيات يتعرضون إلى التهديد اللفظي والجسدي، فإن اطباء الاختصاص يتعرضون في الغالب إلى التهديد بالقتل والاختطاف من قبل جماعات تطلب فدية مالية .
ويقول ضابط الشرطة احسان علي إن أمن الاطباء والمستشفيات جزء لا يتجزأ من أمن المجتمع، ولا يمكن تأمين الحماية للأطباء وحدهم، اذا كانت هناك فوضى أمنية يعيشها الجميع.
ويروي الدكتور بلال رشيد أن هناك الكثير من المواقف التي يصل فيها المريض إلى المستشفى، ولا يعاينه الطبيب الا بعد فترة من الزمن، بسبب النقص الكبير في عدد الاطباء، وحيث تتم عمليات مسلحة وتفجيرات، تزداد اعداد الجرحى والمصابين والمرضي فيقلّ عدد الاطباء.
ويقول الباحث الاجتماعي جمال مهند “انها معادلة غير متوازنة، فمقارنة بأعداد السكان، هناك نقص حاد في نسبة الأطباء”.
ويشير طبيب رفض ذكر اسمه إلى أن وثيقة حماية الأطباء من التهديد العشائري التي وقعها وجهاء مدينة الصدر، هي أكبر دليل على ما يتعرض له الاطباء هناك، مدفوعين بتراجع الخدمات الطبية في المدينة.
ويضيف “اذا كان تهديد الجماعات المسلحة قد انحسر بشكل كبير، الا ان وتيرة التهديد التي تصدر من المواطنين والعشائر مستمرة”.
وبحسب الطبيب ماهر فريح فإن الملاحقة العشائرية للأطباء ليست ظاهرة نادرة الحصول، بل هي حدث يومي نعايشه باستمرار. واضاف “تلاحق العشيرة الطبيب غالبا دون وجه حق، وفي بعض الحالات يتهم الطبيب بالقتل العمد، من قبل اشخاص واسر وعشائر”.
ويرجع الصحفي ماجد عبد الحق اسباب ذلك كله “إلى غياب الوعي بدور الطبيب والتنكر لدوره الاستثنائي في معالجة الناس”، داعيا إلى توعية المواطنين بضرورة احترام الاخر والقانون تأسيسًا لثقافة اللاعنف.
واشارت الطبيبة شهلاء البدري إلى أن احد المسؤولين تحدث حين رفضنا التوزيع غير العادل للأطباء، عن ان خدمة المواطن انما هو من الشرع والعقل والمنطق، ولم نستطع في وقتها إجابته خوفا من الحرس الواقف وراءه كان يسجل اسم كل من يجادل بالحق والمنطق حتى تتم معاقبته بأقسى العقوبات. واليوم تضيف شهلاء ـ نقول لهذا المسؤول هل ان الشرع والمنطق يقضي بتوزيع البنت المتخرجة حديثا في محافظات بعيدة جدا عن اسرتها في ظل أوضاع صعبة جدا للرجل فما بالك بالمرأة حتى وان كانت طبيبة !
وتقول الطبيبة مها سامر “نحن الأطباء نعيش في رعب وخوف على مدار اليوم فكيف تريدون منا العمل والابداع والخدمة الممتازة ونحن نرتجف خوفا من الوقوف امام المريض وذويه، وحين تأتي حالة صعبة نهرع الى المدير نعتذر من استلامها خوفا من الخطأ حتى وإن كان بسيطا، صدقوني نحن نعيش بين اناس يتمنون ويتصيدون الأخطاء حتى وان كانت طبيعية وبسيطة من اجل الابتزاز، فهؤلاء اصلا يعيشون على الرزق الحرام، ووجدوا اليوم امامهم اطباء خائفين مرعوبين فأرادوا استغلالهم” .
وتروي الطبيبة سمر هشام قصتها مع الاعتداءات عليها قائلة “قمت بعلاج احد المرضى فطلب مني دواء خارج علاجه، وحين رفضت هددني بعدم الوصول الى بغداد سالمة، وبالفعل نفذ تهديده وقام بسلبي راتبي الشهري مع قلادة وخاتم، وحين استنجدت بالأمن الواقف أمام المشفى قال لي وبالحرف الواحد (انت السبب كان الاجدر بك اعطاءه الدواء الذي يريد!”
وتؤكد طبيبة اخرى على ان من الخطأ الذي ترتكبه وزارة الصحة العراقية هو توزيع الأطباء الجدد في المحافظات البعيدة وخاصة البنات، فالأطباء الجدد ليست لهم الخبرة الكافية للتعامل مع الوضع الجديد، إذ أن ايام الدراسة والجو الهادئ الذي كانوا يعيشون فيه يجعلهم بعيدين كل البعد عن فن التعامل مع نماذج بشرية تحتاج الى خبرات عديدة ودورات كثيرة كي تستطيع التعايش مع الواقع المرير في المحافظات .
ويقول مراقبون إن ابتعاد الطبيبة على سبيل المثال مسافات بعيدة جدا عن اهلها، يجعلها عرضة لمخاطر عديدة نفسية واجتماعية وايضا امنية.
ويشير هؤلاء إلى وجود حلول كثيرة بالإمكان دراستها لتجاوز آثار تعيين الاطباء والطبيبات العراقيات بعيدا عن مناطق سكنهم، منها تعيين الأطباء الجدد لسنوات محددة في محافظاتهم وحسب التوزيع الجغرافي ومناطق سكناهم، او توزيع المتزوجين في محافظة واحدة، او تشكيل لجنة دقيقة هدفها إيجاد حلول عملية وعلمية لوضع متأزم وخطير اسمه توزيع الأطباء الجدد وخاصة البنات في محافظات بعيدة جدا عن عوائلهم.