خاص : كتبت – هانم التمساح :
مياه الشرب في أغلب محافظات “العراق” لم تُعد صالحةً للشرب بسبب تلوثها برواسب طينية، مما يضطر الأهالي إلى شراء الماء المعلّب، وقد أدى تلوث المياه في نهري “دجلة” و”الفرات”، وتهالك محطات تنقية المياه الحكومية؛ إلى التجارة في المياه الصالحة للشرب، والتي باتت الأكثر رواجًا في “العراق”، في الآونة الأخيرة.
وأنتعشت هذه التجارة من خلال معامل تنقية المياه، ومنظومات التصفية المنزلية وقطع غيارها وقوارير المياه الخاصة بها، أو حتى استيراد المياه.
المياه إما منقطعة بالأيام، خاصةً في فصل الصيف، أو تأتي ملوثةً برواسب طينية، وهذا الأمر منتشر في عموم “العراق”، ويعاني منه الكثير من المواطنين المضطرين إلى شرب مياه الصنوبر.
تسمم مياه “البصرة”..
وكانت أزمة مياه الشرب، سببًا غير مباشر لأحداث أمنية وقعت، العام الماضي، لا سيما في محافظة “البصرة”، أقصى جنوب “العراق”، إذ خرجت مظاهرات حاشدة احتجاجًا على تردي الخدمات ومنها خدمة توفير المياه، تطورت لاحقًا إلى مواجهات مع قوات الأمن، ما أوقع العشرات من القتلى والجرحى، بينما لم تقدم الحكومة حلولاً حتى الآن.
وحذر أطباء “البصرة” من إمكانية انتشار أمراض مثل؛ “الكوليرا والإسهال”، بين السكان المحليين، وبلغ عدد الإصابات بحالات التسمم، منذ الصيف الماضي، أكثر من مئة وعشرة آلاف شخص، فضلاً عن نفوق المواشي وتصحر المساحات الزراعية وهجرة الأهالي.
الحكومتان المركزية والمحلية لم تفيا بوعودهما، بعد أكبر موجة احتجاجات شهدتها المحافظة، الصيف الماضي، على خلفية تلوث المياه الصالحة للشرب والبنية التحتية المدمرة، ووفق “الأمم المتحدة” ومختصون في جامعة “البصرة”؛ فقد تضاعفت مستويات التلوث في “شط العرب” أربع مرات في السنوات العشر الماضية.
ثلث سكان الريف يعانون نقص المياه !
بينما كشفت إحصائية صادرة عن “الجهاز المركزي للإحصاء”؛ عن أنّ ما يقرب من ثلث سكان المناطق الريفية يعانون من نقص المياه الصالحة للشرب، في وقت ما زال يشكو فيه سكان بعض المدن الكبيرة من شُحّ المياه الصالحة للشرب؛ كما في مدينة “البصرة”، أقصى جنوب البلاد.
وأشار مواطنون إلى أنهم يتكبدون تكاليف مرتفعة شهريًا، لقاء توفير مياه صالحة للشرب ومعقمة من خلال شرائها، بعدما باتت المياه التي توفرها الحكومة بالشبكات، غير آمنة للاستهلاك حتى مع وجود “الفلاتر” التي يتم تركيبها في المنازل لتنقيتها.
وقد انتشرت محلات صيانة محطات التنقية المنزلية الصغيرة، بشكل غير مسبوق؛ ومع ذلك يتزايد يوم بعد يوم أعداد مرضى الكلى بسبب تلوث المياه.
فيما تعاني المدن والقرى والأرياف من حاجة ملحة لمزيد من العناية بالمحطات القديمة، وبناء محطات تصفية حديثة تلبي حاجة النسبة السكانية المتزايدة، بحسب مهندسين.
ويقتطع سكان هذه المناطق من مصروفاتهم لشراء مياه نظيفة لأهل البيت، وهذا السبيل الوحيد لتجنب السيناريو المرعب الذي ينتظر سكان “أبوغريب” وباقي مناطق ضواحي “بغداد”، بسبب المياه التي تصل وهي خليط من مواد وترسبات مؤذية وغير صالحة لأن تدخل جسم الإنسان.
2040 عراق بلا أنهار !
ويبدو أن أزمة المياه النقية في “العراق” ليست مجرد حدثٍ عابر؛ بل تتعلق بمستقبل “العراق” وأمنه المائي، حيث تبلغ درجة الإجهاد المائي في “العراق”، 3.7 من 5، وفق “مؤشر الإجهاد المائي”، لتدرج ضمن قائمة الدول المُصنفة بأن لديها “خطورة عالية” فيما يتعلق بالشح المائي ومخاطره.
ويتوقع المؤشر العالمي؛ أنه بحلول عام 2040 ستصبح بلاد الرافدين أرضًا بلا أنهار بعد أن يجفا نهرا “دجلة” و”الفرات” تمامًا.
تقف عدة عوامل وراء هذا الوضع المائي الحرج هناك، من أهمها التغيرات المناخية المتمثلة في قلة سقوط الأمطار وجفاف الأنهار، إضافةً إلى عوامل أخرى تؤثر سلبًا على واردات المياه من النهرين نتيجة إقامة دول المنبع، (تركيا وإيران)، للسدود على حساب دولة المصب، (العراق). ناهيك بالسياسات المائية “المتقادمة” – التي أصبحت في حاجة ماسة إلى التحديث – والتي تسهم بدورها في تفاقم العجز المائي، ويصل العجز في مياه الشرب، في بعض المحافظات، مثل “كركوك”؛ إلى 42%، في حين يبلغ إجمالي العجز 18%، وفق تقرير رسمي.
من جهة أخرى؛ حذر تقرير “تأثير تغير المناخ على الدول العربية”؛ الصادر عن “المنتدى العربي للبيئة والتنمية”، من استمرار تضاؤل الموارد المائية ووصول الوضع الحرج، الذي تعيشه عدد من الدول العربية، إلى مستويات حادة بحلول عام 2025.
وأشار التقرير إلى أن “الهلال الخصيب”، الذي يمتد من “العراق وسوريا” إلى “لبنان والأردن وفلسطين” -وهو مصطلح قديم يطلق على حوض نهري “دجلة” و”الفرات”، والجزء الساحلي من بلاد “الشام” – سيفقد كل صفات الخصوبة، وقد يختفي قبل نهاية القرن الحالي؛ بسبب تدهور إمدادات المياه من الأنهار الرئيسة. وكان عالم الآثار الأميركي، “غيمس هنري برستد”، قد أطلق هذه التسمية على هذه المنطقة لكونها منطقةً غنيةً بالمياه وتمتاز تربتها بالخصوبة التي تتيح الزراعة فيها بسهولة ويسر.
ووضع التقرير المشار إليه، “العراق”، في قائمة الدول الأكثر تضررًا بتأثيرات تغير المناخ، لا سيما فيما يتعلق بشح المياه، وذلك بسبب موقعه الجغرافي كمستخدم نهائي لنهري “دجلة” و”الفرات”، لكونه دولة مصب.
سدود إيران وتركيا..
أسهمت إقامة، دول المنابع، للسدود على نهري “دجلة” و”الفرات” في خفض منسوبات المياه الواصلة إلى “العراق”. وأقامت “تركيا” مشروع “شرق الأناضول”، وتضمن بناء 22 سدًّا لتلبية متطلبات مشاريعها الإروائية، وبدورها نفذت “إيران” مشاريع على الأنهار المشتركة مع “العراق”؛ أدت إلى تحويل مجرى بعض الروافد إلى داخل أراضيها.
ويتوقع تقرير “خطة التنمية الوطنية”، (2018 – 2022)، الصادر عن “وزارة التخطيط” العراقية؛ أن هذه المشاريع ستؤدي إلى انخفاض إيرادات “العراق” المائية بمعدل يصل إلى مليار متر مكعب سنويًّا، ما يؤدي إلى خفض الإيرادات عند الحدود من 43.7 مليار متر مكعب عام 2015؛ إلى 28.5 مليار متر مكعب بحلول عام 2035.
كما توقع التقرير إزدياد التركيزات الملحية من 320 جزءًا في المليون؛ إلى 500 جزء في المليون بالنسبة لنهر “دجلة”، ومن 540 جزءًا في المليون؛ إلى 930 جزءًا في المليون لنهر “الفرات”.
السدود التي أقامتها “تركيا” و”إيران”؛ لم تؤثر فقط على كمية المياه الواصلة لـ”العراق”، بل أدت أيضًا إلى زيادة نسبة الملوحة فيها وتلوُّثها، وهو ما تسبَّب في انخفاض الإنتاجية الزراعية وتصحُّر الأراضي، وأثَّر كذلك على نمط الحياة، فهناك كثير من السكان هجروا قراهم وبيوتهم بعدما أدت الملوحة إلى نفوق الحيوانات والأسماك وموت أشجار النخيل في بساتينهم، ونقص مياه الشرب لديهم كـ”البصرة” مثلًا.
سياسات مائية “متهالكة”..
لا يجب تجاهل الدور الذي تؤديه السياسات المائية بالبلاد في تفاقم الأوضاع، خاصة وأن أنظمة الري والصرف الصحي وشبكات توزيع المياه قديمة، وتؤدي إلى هدر كبير في المياه.
“العراق” بحاجة إلى سياسات متطورة، لامركزية، تعتمد على أحدث ما توصلت إليه الأبحاث العلمية والتكنولوجية في هذا الصدد، وإنعاش للبنية التحتية والسدود والخزانات المتهالكة نتيجةً للحروب العنيفة التي مر بها على مدى الـ 30 عامًا الماضية.