خاص: ترجمة- د. محمد بناية:
لم تستهدف المقاتلات الإسرائيلية ذلك اليوم مجرد مبنى فحسّب؛ ولكن اطلقت النار على قلب عملية دبلوماسية هشة، وأعلنت بذلك نهاية حقبة؛ حيث الحوار والمباحثات، وإن كانت بالغة الصعوبة والسرية، جزءً من الأدوات السياسية. بحسّب ما استهل “مسعود كاظميان”؛ تقريره المنشور بصحيفة (اقتصاد بويا) الإيرانية.
الآن وبالقضاء على هذه الأداة دخلت المنطقة مرحلة جديدة؛ حيث أصبحت المواجهة بلا قواعد ومعلنة، تتجاوز تداعياتها الخطوط الحمراء، وتبُشر بميلاد نظام جديد لم تتضح معالمه حتى الآن.
وفي تاريخ الشرق الأوسط المليء بالصراعات والخيانة؛ تبدو الأحداث في الغالب على شكل زلازل جيوسياسية، لا تتضح أبعاد خسائرها الواقعية إلا بعد هدوء الغبار.
والهجوم الجوي الإسرائيلي الأخير على العاصمة القطرية، كان من اللحظات الفارقة، فلم يكن الهجوم عملية عسكرية بحتة، لكن كان بمثابة بيان استراتيجي أسقط فجأة آخر أحجار المفاوضات الدبلوماسية غير المعلنة. تلك المفاوضات التي تأسست على قنوات غير رسمية وثقة شبه معدومة، واستمرت قرابة العامين على أمل إخماد نيران الحرب في “غزة”.
شطرنج في الدوحة: تحليل الاستراتيجيات المتناقضة ووفاة الدبلوماسية..
فهم الأبعاد الكاملة لتلك الكارثة الدبلوماسية؛ يستدعي النظر في جذور وأسباب القضاء المفاجيء على المفاوضات. هذا التحليل، يتطلب التدقيق في فحص الأسس النظرية والدوافع المتناقضة للأطراف الفاعلية.
المعروف أن دور “قطر”؛ في هندسة دبلوماسية الشرق الأوسط، يقوم على مبدأ حيوي وهو الحياد الاستراتيجي. وتمكنت عبر استضافة أكبر قاعدة جوية أميركية في المنطقة، بالتوازي مع احتضان مكتب (حماس) السياسي، أن تضع نفسها كقناة اتصال فريدة بين أطراف متنازعة.
بدأت هذه القناة منذ عام 2012م؛ بعد انتقال “خالد مشعل” إلى “الدوحة”، وكانت تقوم على حدٍ أدنى من الثقة غير المعلنة. وفي هذا النموذج؛ كانت (حماس) و”إسرائيل”، اللتان لا تمتلكان أي قناة تواصل مباشر، تتبادلان الرسائل والمقترحات عبر وسطاء قطريين وأميركيين. لم يكن هذا المسار مهمًا فقط لتبادل المعلومات، بل كان ضروريًا أيضًا لحفظ حصانة المفاوضين؛ حيث يُعتبر احترام أمن ممثلي الطرفين مبدأ مقدسًا وأساسيًا، وبدونه لا يمكن لأي مفاوضات أن تبدأ أو تستمر.
لكن الهجوم الإسرائيلي على فريق مفاوضات (حماس) في “الدوحة”، شكّل خرقًا فادحًا ومتعمدًا لهذا المبدأ. وقد وجهت هذه العملية فعليًا رسالة مفادها أنه في هذه الحرب، لا قانون ولا قاعدة يمكن أن تضمن الحصانة، وبذلك تم تدمير الأساس الذي كانت تقوم عليه الثقة في المفاوضات.
في المفارقة الاستراتيجية الإسرائيلية..
كان فريق مفاوضات (حماس) في “الدوحة” يضم شخصيات مثل: “خليل الحية” و”زاهر جبارين”، وقد كانوا في حالة تواصل دائم مع الوسطاء.
وتُشير التقارير إلى أن هذا الفريق كان على وشك الرد على آخر اقتراح أميركي لوقف إطلاق النار، عندما وقع هذا الهجوم المفاجيء. ثم نسّف هذا الحدث كل الجهود الدبلوماسية المضنية، التي استمرت أشهرًا وسنوات في ليلة واحدة.
وتُشيّر تحليلات الخبراء إلى أن “إسرائيل” استخدمت طائرات مقاتلة بتقنيات التخفي عن الرادار، مما جعل الدفاعات الجوية القطرية عاجزة عن الرصد والرد في الوقت المناسب.
هذا التناقض في السلوك الإسرائيلي كان يُمثّل ما يمكن تسميته: بـ”المفارقة الاستراتيجية”، وهي مفارقة لا يمكن تفسيّرها بمبَّررات بسيطة مثل الانتقام، فكيف يمكن لدولة أن تقبل اقتراح وقف إطلاق النار من “أميركا”، وفي اللحظة نفسها تشَّن هجومًا على فريق التفاوض للطرف الآخر ؟.. هذا الفعل المزدوج لم يكن مجرد خطأ في التقدير، بل كان خيارًا مدروسًا.
حكومة “نتانياهو” كانت تعلم جيدًا أن قبول المقترح الأميركي ليس إلا خطوة تكتيكية للحفاظ على صورتها الدولية، بينما كان الهجوم العسكري يعكس سياستها الحقيقية: تدمير المفاوضات والاستمرار في الحرب حتى القضاء الكامل على (حماس).
هذا التناقض بعث رسالة واضحة ومؤلمة: لا معنى للتفاوض مع “إسرائيل”، لأنهم حتى إن جلست معهم على طاولة المفاوضات، فإنهم يسعون إلى قتلكم.