خاص : بقلم – محمد عبدالله :
تربيت على أثير الإذاعة المصرية وبرامجها وأصوات جيل العظماء الذين حفروا أسماءهم في القلب قبل الذاكرة؛ وهم على سبيل المثال لا الحصر: “محمد محمود شعبان وجلال معوض وصبري سلامة وأمين بسيوني وصفية المهندس وفهمي عمر وضياء الدين بيبرس وسامية صادق وآيات الحمصاني وهاجر سعدالدين وإيناس جوهر ومحيي محمود ووجدي الحكيم وكامل البيطار وحمدي الكنيسي ونادية صالح وعمر بطيشه وفاروق شوشة ومحمود سلطان وعبدالحميد سعيد وآمال فهمي وعبدالعال هنيدي وسعيد زايد وسناء منصور وميرفت رجب وحلمي البلك وفهمي عمر وعلي فايق زغلول وحازم طه وأحمد وهدان وهالة الحديدي وسعيد العيلي وأميمة كامل وجمالات الزيادي وعبدالبديع قمحاوي”، وغيرهم من أعمدة الإذاعة المصرية الخالدة.
“هنا القاهرة”.. كلمتان كانتا لفترة طويلة مفتاح قوة “مصر” الناعمة ومازالت رغم المنافسة الشرسة من جميع وسائل التواصل والاتصال بدءً من التليفزيون وقنواته الأرضية والفضائية، وإنتهاء بالسوشيال ميديا وما تُمثله من فيضان جارف أزال في طريقه العديد من سُبل التواصل واستحوذ بصورة كبيرة على وقت وعقل الجمهور.
قوة الإذاعة الناعمة التي امتدت إلى كل بيت وكل دار وكل حقل من حقول المحروسة تحمل إليهم رسائل التوعية وتقدم للمستمع خدمات كثيرة في أصعب الأوقات.
كان للإذاعة المصرية أدوار متميزة في حياة الشعب المصري منذ إطلاق البث الأول في 1934، وعلى رأسها الدور السياسي الذي لعبته بنجاح معتمدة على احتشاد الجماهير حول ذلك المذياع الصغير مستمعين عبر أثيره إلى أهم البيانات السياسية في الداخل ودعم حركات التحرر العربية والإفريقية.
وكان أهمها بيان الثورة الذي خرج عبر موجات الأثير الإذاعي بصوت الرئيس الراحل؛ “أنور السادات”، في صباح يوم 23 تموز/يوليو 1952، معلنًا بداية عهدٍ جديد، منهيًا العصر الملكي.
ثم أصبح الأداة الرئيسة لنقل البيانات والخطب السياسية، بداية من عهد الزعيم الراحل؛ “جمال عبدالناصر”، الذي انفردت الإذاعة المصرية بأشهر خطبه السياسية، ومنها كلماته الشهيرة في تأميم “قناة السويس” أثناء الاحتفال بالذكرى الخامسة لثورة 23 تموز/يوليو 1952.
واستمرت الإذاعة في تميزها بنقل البيانات العسكرية، مع وقوع العدوان الإسرائيلى على “مصر” 1967.
أما في انتصار تشرين أول/أكتوبر 1973؛ فصاحبت الإذاعة المصرية عملية العبور واقتحام القوات المسلحة المصرية؛ خط بارليف المنيع، وبُثت من خلالها البيانات العسكرية التي بلغ عددها نحو 56 بيانًا عسكريًا.
وفي مثل هذا اليوم من عام 1934م؛ بدأت الإذاعة المصرية بثها الأول في تمام الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة من مساء يوم 31 آيار/مايو عام 1934؛ بآيات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ “محمد رفعت”، وتلاها إنطلاق صوت “أم كلثوم”، التي تقاضت 25 جنيهًا نظير إحيائها للافتتاح، وغنى أيضًا في ذلك اليوم المطرب “صالح عبدالحي”، ثم مطرب الملوك والأمراء “محمد عبدالوهاب”.
“هنا القاهرة”؛ عبارة حماسية تحمل مشاعر الانتماء للوطن وكانت من أولى الكلمات التي انطلقت عبر الإذاعة المصرية على لسان “أحمد سالم” في إفتتاحها عام 1934؛ وتم اعتمادها كعبارة رسمية لبدء إرسال كل الإذاعات المصرية التي انطلقت في السنوات التالية. وكان “أحمد سالم” أول مذيع في الإذاعة المصرية وكان من أوائل الإذاعيين المصريين، وهو أحد سبعة تولوا مسؤولية الإذاعة الوليدة ووضعوا أسس العمل بها، وهم: “محمد سعيد لطفي باشا، محمد فتحي، علي خليل، أحمد كمال سرور، مدحت عاصم، وعفاف الرشيدي”.
“هنا القاهرة”؛ كلمتان شكلتا وجداني وثقافتي وتوجهي المهني، وكان هذا النداء بالنسبة ليّ يعني ترك ما في يدي لأجلس بجوار الراديو للاستماع إلى السيدة العظيمة؛ “فضيلة توفيق”، أو “أبله فضيلة”، لأستمع إلى حواديتها الهادفة.
أسرتني الإذاعة في جميع مراحل العمر وشكلت منبع التعلم والثقافة والمعرفة في كل المجالات؛ شأني شأن أجيال كان هذا الصندوق الساحر مصدرًا للثقافة والخيال والإبداع.
هذا العشق المبكر لهذا الصندوق الصغير أسود اللون؛ الذي كان يقبع في صالة منزلنا كان لنا كل شيء.. نستمع إلى برامجه ونُطلق العنان للخيال.. من رسم شكل للسيدة العظيمة؛ “فضيلة توفيق”، “أبله فضيلة”، وحتى شخصيات “ألف ليلة وليلة” بكل ما فيها من خرافات وجن وعفاريت.
وقد نجح مخرجو المسلسلات الإذاعية بعبقرية شديدة في تحويل القصص المقروءة إلى مواد إذاعية مسموعة، تلك الأعمال الإذاعية التي حفزت فينا طاقة التخيل عبر المؤثرات الصوتية، وتوظيف مهارات الفنانين الصوتية من تلوين.
كانت الإذاعة مصدرًا للمعرفة في شتى المجالات؛ فمنها تعلمت حب القراءة والشعر مع العظيم “فاروق شوشة”، ومنها تعلمت حب العلوم من الإذاعية “أميمة كامل”؛ والساسة وتحليلاتها من إذاعة “صوت العرب”، وطورت اللغة الإنجليزية والفرنسية مع “الشرق الأوسط”.
والإذاعة وبرامجها هي التي شجعتني ودفعتني للانضمام للإذاعة المدرسية؛ فقد كنت في الصف السادس الابتدائي وكنت أعشق اللغة العربية وفنونها، وكذلك التاريخ وكان لسماع القرآن وتلاوته فضلٍ كبير في ضبط نطق الحروف والإلقاء.
وكان أستاذي العظيم صاحب الفضل الأستاذ “محمد فوزي”؛ مدرس اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، دورٍ كبير في ذلك، فقد كان يُشجعني على إجادة اللغة العربية؛ وهو الذي قرر أن ألقي قصيدتي عن الشهيد “عبدالمنعم رياض”، في الإذاعة المدرسية، وبعد إلقائي لهذه القصيدة في الصباح وجدته يُناديني ليبُشرني بأنني سأشرف على الإذاعة المدرسية.
كانت المفاجأة شديدة؛ فقد كانت علاقتي بالإذاعة المدرسية لا تتعدى قراءة حكمة اليوم أو معلومة اليوم، وقد كنت أبذل مجهودًا كبيرًا للحصول عليها من الصحف والمجلات القديمة أو الاستماع للبرامج الثقافية بالإذاعة المصرية.
ومنذ ذلك الوقت زاد عشقي للإذاعة وتعلقت بالعمل الصحافي والبحث عن الأخبار والمعلومات لتقديمها في صورة رشيقة للزملاء بالمدرسة ثم بعد ذلك صحافيًا وممارسًا للمهنة لما يزيد على 32 عامًا.
ونتمنى دعم الإذاعة حتى تعود لمكانتها التي تستحقها.