خاص / كتبت – رشا العشري :
يرى ابن خلدون أن درجات التطور التي يبلغها عمـران المجتمـع لا يحـدد بحجـم الحواجز وكثافة السكان وحجم الأعمال فحسب، ولكنه يشمل أيضاً المدد الذي تتطـور الدولة خلاله؛ فالدولة تمر بمراحل مختلفة تبدأ بالبداوة، ويكون الملك في أهل العصبية الغالبة يشاطرون الرئيس المجد ويقاسمونه ثمرات الملك فتقوى الدولـة؛ ثـم مرحلـة الحضارة، حيث يزداد عدد السكان وتزدهر المدن وتكثر الصناعات والحرف ويحصل انفراد الملك بالمجد وترف الحضارة ومن ثم بدء ضعف الدولة؛ ثم مرحلة الانحـلال “انفراد تام بالمجد والقضاء على العصبية واستبحار في التـرف والسـكون فـزوال البأس وضعف الحامية، وفيها يكثر الظلم والفساد وتعم الفوضى فتضـعف الدولة ويدفع بها نحو الهرم والدثور ويشير إلى أن الأمم لها أعمار طبيعية كالأشخاص، أي أن الدولة عندما ينتهي عمرها تنهار مثل الأشخاص وأن انهيارها حتمي.
كما يرى أن العمر الطبيعي لأي دولة هو في حدود ١٢٠ سنة، ويتضمن ثلاثة أجيال كل جيل ٤٠ سنة، يتصف الجيـل الأول منهـا بالبداوة والخشونة وقوة الدولة، والثاني بالحضارة والترف وانفراد بالملـك، والثالـث بانفراد تام بالمجد والقضاء على العصبية؛ وفي انقضـاء الجيلـين (الأول والثـاني) تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران فـي “غايـة الوفـورِ والنَّماء (ثم بعد ذلك تدخل الدولة مرحلة) تناقض العمران بعد حين، من أجل التَّدريج في الأمور الطّبيعية، ثم إن المجاعات تكثر عن ذلك في أواخر الدول”.
• أطوار تطور الدولة
وفي شكل تفصيلي مرحلي يمكن تقسيم تطور الدولة عند تبن خلدون إلى ستة أطـوار علـى الشـكل الآتي:
1. طور الظفر: يشترك فيه كل أفراد المتجمع ويكون الحاكم واحداً مـنهم لا ينفـرد دونهم شيء أسوة بقومه.
2. طور الاستبداد: الحاكم يصطنع الرجال واتخاذ الموالي رغماً عن أنوف أهل عصـبيته وعشيرته.
3. طور الفراغ والدعة – لتحصيل ثمرات الملك لما تنزع إليه طبـائع البشـر مـن تأصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصيت.
4. طور القنوع والمسالمة: كون الحاكم قانعاً بما بني أولوه مقلداً للماضين من سـلفه فيتبع آثارهم.
5. طور الإسراف والتبذير: يكون الحاكم متلفاً لما جمع أولوه فـي سـبيل الشـهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع إخذان السوء وخضراء الدمن.
6. طور الانهيار: والنظام الذي يعنيه ابن خلدون هو ربط العلاقات الضرورية للظواهر الواقعية بفعـل الأسباب والنتائج، فكتابة التاريخ قبل ابن خلدون كانت تفتقد إلى التحليل والربط بـين الأحداث على أنه ضرب من الأحداث المتتابعة؛
أما ابن خلدون فقد ركز على السببية في التاريخ والواقع الاجتماعي؛ لأنه لا يمكن فهم التاريخ إلا بفهم الواقع الاجتمـاعي المحيط بالحوادث التاريخية، وهو ما جعله يستنبط نظريته حول دورة الدولة التي يؤكد فيها أن الدولة تمر بأطوار؛ كما يقول: “إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهـم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف علـى الأيـام والأزمنـة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات، فكذلك يقع في الآفاق والأزمنة والدول.
• أطوار الدولة الرئيسية
إذا كان تطور الدولة من خلال تطور الحسب داخل البيت المالك، وتطورها من خلال حال العصبية داخل العصبة الحاكمة إنما يعني شيئاً واحداً، وهو تطور العلاقات داخل الجماعة التي قادت الثورة وتسلمت الحكم، فإن الدولة تبعاً لذلك، تتطور ككل، حاكمين ومحكومين، بالتالي إن الدولة عند ابن خلدون مرت بثلاث أطوار رئيسية كما ذكرنا سابقاً وهي: طور التأسيس والبناء، وطور العظمة والمجد ، وطور الاضمحلال ، نعرضها بشئ من التفصيل:
1. طور التأسيس والبناء
يتميز هذا الطور الأول من أطوار الدولة بخصائص ومميزات معينة، أهمها مايلي:
1. استمرار العصبية: سيطرة الأنا العصبي على الأنا الفردي داخل العصبة التي استلمت الحكم والسلطة، إن العصبة الغالبة في هذا الطور تعتبر الحكم مغنماً لها ككل، ورئيسها يعتبر نفسه واحداً منها بل خادماً لها وفق التقاليد البدوية القبلية ولا ينفرد بشئ دونهم لأن ذلك هو مقتضى العصبية، ويرى ابن خلدون أن العلاقات السائدة داخل العصبية الحاكمة في هذا الطور الأول من أطوار الدولة هي بكلمة واحدة، المساهمة في السلطة، والمشاركة في الثروة الناجمة عن الغنائم، غنائم النصر.
2. طور التأسيس: وهي أن علاقات الدولة برعيتها من جنس علاقات أفرادها بعضهم مع بعض، فإذا كانت العلاقات القائمة بين أهل الدولة، أفراد العصبية الحاكمة، هي علاقات مشاركة ومساهمة، فإن علاقاتها مع أهل العصبيات الذين أصبحوا تحت سلطتها، ومع سكان المناطق الخاضعة لنفوذها، هي أيضا علاقات تتسم بكثير من الرفق والتسامح لأنها صادرة من الخلال الحميدة التي جعلت العصبية الحاكمة تتبوأ منصب الرئاسة ومن ثمة الملك. تلك هي الخلال التي تؤهل للرئاسة والملك، وواضح أن الانصاف بها يتطلب أن يكون صاحبها رئيساً أو ملكاً بالفعل، أو على الأقل في طريقه إلى الرئاسة العامة أي الملك؛ ومن هنا كانت هذه الخلال لا تتحقق إلا في طور تأسيس الدولة.
من ثم فإن علاقة صاحب الدولة مع أهل عصبيته مبنية على سياسة كسب القلوب: قلوب أفراد عشيرته وأهله الأقربين والأبعدين. أما سياسة العصبية الحاكمة مع العصبيات المغلوبة، فهي أيضاً تستهدف كسب ولائها ومناصرتها. إن العلاقات السائدة إذن، سواء على مستوى السياسة الخاصة، أو مستوى السياسة العامة هي علاقة “كسب القلوب” بكل ماتنطوي عليه هذه العبارة من معني.
ج. السياسة المالية للدولة: وهي سياسة تابعة للأساس الذي أقامت عليه سلطتها وبنت عليه مجدها، فإذا كان هذا الأساس هو الدين كانت سياستها حينئذ قائمة وعلى سنن الدين، فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية، وهي قليلة الوزائع؛ بالتالي فإن سياسة الدولة في هذا الطور تقوم على ثلاثة أسس سليمة: 1. نظام المشاركة والمساهمة، والتيسير الجماعي في إطار العصبية الحاكمة، وهذا عنصر مهم وأساسي في الحفاظ على الوحدة والالتحام داخل الجماعة الغالبة الحاكمة؛ 2. سلوك سياسة كسب القلوب وإنزال الناس منازلهم، وهذا ما يضمن للدولة ولاء مختلف الفئات التي يسري عليها حكمها؛ 3. الاقتصاد في النفقات وعدم الغلو في فرض الضرائب والجبايات، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى خلق جو من الاطمئنان والازدهار، فيزداد ولاء الرعية للدولة وتمسكها بعصابتها.
2. طور العظمة والمجد
يتميز هذا الطور، هو الأخر، بخصائص ثلاث تكاد تناقض مميزات الطور الأول، وهي نتيجة الرخاء الذي ساد الدولة في أخر الطور السابق، وهكذا، فبدلاً من خشونة البداوة تبدأ “رقة الحضارة ” وبدلاً من المساهمة والمشاركة يبدأ الاستبداد والانفراد بالمجد، وعوضاً عن اعتماد صاحب الدولة على عصبيته وعشيرته يلجأ إلى الموالي والمصطنعين الذين يأخذ في الاعتماد عليهم والاستغناء تدريجياً عن عصبيته، كل ذلك نتيجة تدخل العنصر الاقتصادي في الميدان بشكل أكثر وضوحاً وأشد تأثيراً ، مما يبرز المصالح الخاصة الشخصية التي تتناقض مع المصلحة المشتركة التي كانت أساس العصبية والملك.
3. طور الهرم والاضمحلال
من خلال دراسة الطورين الأولين وجد أن العصبية والمال هما الدعامتان الرئيسيتان اللتان عليهما يقوم كيان الدولة، فبالعصبية والشوكة تستطيع العصبة الثائرة المطالبة إحراز النصر وتأسيس الملك، وبالملك تستطيع هذه العصبة أن تبني مجدها، فتنتقل من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة؛ والهرم إنما يصيب الدولة إذا أصاب إحدى هاتين الدعامتين، أو كلتاهما، ضعف أو خلل، وهذا ما يقرره ابن خلدون في فصل هام عقده بعنوان ” فصل في كيفية طروق الخلل إلى الدولة، حيث يقول ابن خلدون ” اعلم أن مبنى الملك على أساسين لابد منهما؛ فالأول: الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني: المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال، والخلل إذا طرق الدول، طرقها في هذين الأساسين.
حيث يرى ابن خلدون أن صاحب الدولة عندما يذهب به الاستبداد إلى أقصى مداه، وعندما يعمد إلى الإكثار من الضرائب والمغارم إلى الحد الذي لا مزيد عليه، تتفكك عرى العصبية وتضعف لحمتها من ناحية، ويضجر السكان ويتقاعسون عن العمل من ناحية ثانية، وتكون النتيجة ضعف الدولة بفساد عصبيتها، ودخولها في طور الهرم نتيجة الأزمة الاقتصادية المحتومة التي يتسبب فيها تجاوز النفقات للمداخيل، وعد إيفاء الدخل بالخرج.
هذه الوضعية، أي وضعية ضعف السلطة، ونشوب أزمة اقتصادية هي ما يقصده ابن خلدون بحالة هرم الدولة، وهي حالة توازي ما نعبر نحن عنه اليوم بــ” الوضع الثوري “.
• العلاقة بين الدين والدولة
نظراً لأهمية الدين في نظرية التطور الخلدونية يفرد له الكثير من الكلام ويأتي على تأثيره في أكثر من فصل في أبواب المقدمة. وبرأيه أن الأمة اذا “أقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقلّ الخلاف وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة… والسبب في ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه…” ؛ فهو على رغم تأكيده على ضرورة العصبية لقيام الدولة وحاجة النبوة إلى شوكة لحمايتها إلا أنه يعود فيؤكد على دور الدين عند قيامه في تعزيز الدولة وزيادة قوتها بإضافة قوة الدين على قوة العصبية. فالدين يجمع العصبيات ويخفف من تناقضات رجال الدولة ويوحد تباين أغراضهم ويعزز من مناعة العصبية وقوتها ويعطي من قوته قوة للدولة. ويقدم أمثلة على ذلك كما وقع للعرب في الفتوحات وصدر الاسلام و”دولة الموحدين في المغرب” إذ “أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة… فلم يقف لهم شيء.
فالاجتماع الديني هو قوة يصهر العصبيات ويقوي الاجتماع البشري ويزيد من لحمة الدولة ويقلص من تناقضاتها ويجمعها في وجهة واحدة وهدف مشترك. لذلك اعتبر الدين الاجتماع الديني من أسس نظرية التطور إلى جانب الاجتماع البشري، العمران، والجغرافي، البيئة، والمناخ، والغذاء، والتكوين.
• الدولة والعمران
يؤسس منطق العمران وبشاراته على مفهوم الانفتاح على العمران الإنساني من خلال نموذج افتراضي للاجتماع الإنساني الأول الذي يقوم على ظاهرتين متكاملتين هما التبادل والمدافعة، تفرزان ظاهرة ثالثة هي الحاجة إلى الوازع أو السلطة كواقع اجتماعي ، حيث يفترض في الظاهرة الأولى منطق الافتقار -التبادل في أدنى درجاته- الذي يقود إلى تبادل المنافع والخدمات عن طريق الانفتاح على الآخر. لكن التبادل يحتاج إلى نوع ما من الضبط والمدافعة الذي يقوده إلى غايته ولا يخرجه عنها ظلماً ولا عدوانًا، ومن ثم حاجة الاجتماع البشري في أدنى درجاته إلى آلية ما لضبط التبادل ومدافعة ما يعوق الانفتاح على الآخر، من أمور تخرجه عن غايته من الاستعمار وخلافة الأرض.
أن ما يجمع كل أنماط السياسات العمرانية أنها نوع من الإلزام “حمل الكافة” بما يعنيه ذلك من دلالات القاعدة القانونية في عرفنا: عموم الخطاب، الإلزام، الجزاء على المخالفة، فهي تحتمل المعنى العام للإلزام للكافة، إذ هي قوانين مفروضة وموضوعية يسلم بها وبإلزامها الكافة وينقادون إلى أحكامها، تتولى عملية التنظيم الوضعي لسلوك الأفراد والجماعات في علاقاتهم المتبادلة، سواء اتصلت تلك العلاقات بمصالح فردية أو عكست ما هو مرتبط بالمصلحة العامة. ” وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، وال يتم استيلاؤها: « سنة الله في الذين خلوا من قبل». كما أنها تراعي درجة معينة من المصلحة العامة، سواء بصفة أساسية وأولية ( السياسات العقلية التي تراعي المصلحة العامة ابتداء) أم بصفة تبعية ( السياسات العقلية التي تراعي مصالح السلطان أصلاً وتحقق هامشاً من المصلحة العامة تبعا لها) أم بصفة شرعية ( السياسة الشرعية التي تراعي مطلق المصلحة الإنسانية).
• استقرار الدولة والاستغناء عن العصبية
يعرف ابن خلدون العصبية بأنها ” النعرة على ذوي القربي وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين مايصله من المعاطب والمهالك”، ويقصد بها في التعريف الإجرائي: التحلق والالتفاف حول إنسان أو جماعة سواء كان ذلك بسبب الارتباط بالعرق أو القبيلة أو جنس معين أو طبقة من الطبقات الاجتماعية، وإعطاؤها السيادة، وذلك من أجل مصلحة معينة.
يربط ابن خلدون بين قوة الدولة ورسوخها واستقرارها في نفوس الناس، وبين خفوت حدة العصبية التي ألفوها من قبل. فهناك تحول كبير يحدث لدى أفراد المجتمع عندما تقوى شكيمة الدولة وتتوارث حاكمًا بعد آخر.. ورويداً رويداً تنسى النفوس شأن الأولية (العصبية) وترسخ في العقائد دين الانقياد للحكام والتسليم لأمرهم. ويعطى ابن خلدون شاهدًا تاريخياً يدعم به هذا الحكم فيقول: “.. ومثل هذا وقع لبني العباس فإن عصبية العرب قد فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالى من العجم، والترك، والديلم والسلجوقية وغيرهم… ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي، وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها، وصار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم، ثم انقرض أمرهم، وزحف آخرا التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة “.
• المال والعصبية بنية من العلاقات المتفاعلة والمتطورة:
لا ينحصر النظام المالي بالنبسة لابن خلدون في كونه مجموعة من العلاقات التي تربط الدولة بالرعية، ولا حتى في اعتبار المال ما تكتنزه الدولة في بيت مالها من دهب وفضة، إن للمال دور مهم في الثأثير على عادات الإنسان وسلوكه، وتغيير نمط عيشه وتقاليده، وتحويله من البداوة وخشونتها إلى الحضارة ودعتها. فتصبح الحضارة في نظره هي توفر المال وتوفر ثقافة استعماله، فبقدر ما يساهم المال في تغيير نُظم وعادات الإنسان والارتقاء بها في سلم الحضارة، بقدر ما تساهم هذه الأخيرة في تفاقم الحاجة للمال وهو ما يدفع بالدولة للزيادة في المكوس والضرائب . المال والحضارة لا يستقلان عن بعضهما البعض بل ويدخلان في دوامة من التفاعل السلبي المتبادل هي التي تقود في نهاية المطاف نحو حضارة فاسدة وهي مرحلة من مراحل انحطاط الدولة عند ابن خلدون.
إن الدولة غالباً ما تستمدُّ مقومات حضارتها من دولة سابقة عنها، ويتمثل ابن خلدون على ذلك من أن العرب: ” قدِّم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعاً وعثروا على الكافور في خزائن كِسرى فاستعملوه في عجينهم ملحاً ” . فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم واستعملوهم في مهنهم بلغوا مبلغا في الحضارة حتى أن صاحب المقدمة يحكي العجائب عن إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. لكن لا بد الإشارة إلى أن المغلوب دائما يقتدي بالغالب ويحاول تقليده في زييه ونمط عيشه بصفة عامة . وهو ما يلخصه ابن خلدون بعبارة الرعية على دين مَلِكها.
خاتمة
إن مفهوم الدولة الذي عرفه بن خلدون ليس مفهوما فلسفيا مجرداً يمكن فكه عن بيئته التاريخية. وليس كذلك مفهومًا اجتماعياً مستنبطاً من أنظمة محددة بعينها. إنه مفهوم تاريخي اجتماعي حيث حاول المؤرخ البحث عن النواميس والقواعد التي تعتبر بمثابة القواسم المشتركة لمجموع الدول والأمم التي عَقَلَ هذا المؤرخ تاريخها في كتابه المعروف اختصاراً بـ: “تاريخ بن خلدون” . يتم استيعاب هذه النواميس فقط لفهم بنية وتاريخ هذه الدول وليس للتنبؤ بأنظمة مطابقة لها. لأن بن خلدون لم يكتب فلسفة التاريخ ، وهو يحذرنا منذ البداية من سوء الفهم .. يحذرنا من الخلط بين هذه القوانين الشاملة وبين :” التجافي عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال وهو داء ذوي شديد الخفاء إذ لا يقعُ إلاّ بعد أحقابٍ متطاولة”. قانون التاريخ هو الصيرورة والحركة والتغير لكن دون أن نجعل لهذه الصيرورة غاية تجري نحوها.
الدولة الخلدونية ؛ إذن؛ بنية من البنى المتفاعلة، تَزمُّنا وتزامُنا، والتحليل الخلدوني تحليل تاريخي اجتماعي. ومصطلح الدولة قد يرد عندهُ أحياناً ويقصد به الشريعة لا لشيء إلاّ لأنه تأثر بآراء الفقهاء الدين الذين كانوا يرون في الدولة تجسيداً لشريعة الله في الأرض. لذلك لا غرو أن تتخلل تحليلاته بعض المواقف الفقهية. لذلك ، فلدراسة الدولة في الفكر الخلدوني، يجب التمييز بين الكلمة/ المصطلح الذي يستعمل بمعاني متعددة وبين تفريعات المفهوم الناتجة عن تعدد نمادج السلطة وأشكال الحكم، وبين نظرية الدولة التي تعتبر خلاصة لتجربة معرفية وتاريخية واسعة لهذا العلامة. من هنا بالضبط تأتي إشكالية الدولة عند ابن خلدون.
نستخلص من ذلك أن ابن خلدون فصل بين تطور الدولة باعتبارها شخصاً يملك، وعصبية غالبة، وأخرى مغلوبة، وربط تطور الدولة في المستوي الأول بتطور الحسب نازلاً من القوة إلى الضعف، وفي المستوى الثاني ربط تطور الدولة بتحول العصبية من التعاون والتعاضد إلى التنافس والتخاذل. أما تطور كلية الدولة باعتبارها أسرة حاكمة وعصبيات مغلوبة محكومة، فيعني أساساً تطور الحكم كله من المساهمة والمشاركة، والرفق بالرعية إلى الانفراد بالمجد والاستبداد بالحكم.
قائمة المراجع
أولاً: كتب
1. ابن خلدون، المقدمة ( بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط4 ، د. ت) ، ص28.
2. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ، مقدمة بن خلدون (بيروت : دار الكتب العلمية، ط.1 ، 1995 )، 220.
3. ادمون رباط، محاضرات في القانون الدستوري ( بيروت: مطبوعة بالرونيو، 1960 ) ، ص103.
4. إسماعيل سراج الدين ، ابن خلـــــــدون انجاز فكري متجدد ( الإسكندرية : مكتبة الإسكندرية، 2008)، ص96.
5. شعبان جمال, واخرون فكر ابن خلدون الحداثة والحضارة والهيمنة ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ، 2010) .
6. علي سعد الله, نظرية الدولة في الفكر الخلدوني (عمان: دار مجدلاوي ، 2003).
7. د. محمد عابد الجابري ، فكر ابن خلدون .. العصبية والدولة ( بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1994).
8. أ.د. محمود فهمي الكردي ، عبد الرحمن بن خلدون: قراءة معرفية ومنهجية (القاهرة: جامعة عين شمس، مركز الدراسات المعرفية، أغسطس 2000).
ثانياً: دوريات
1. أ.د. رياض عزيز هادي ، مفهوم الدولة ونشوءها عند ابن خلدون ، مجلة العلوم القانونية والسياسية (بغداد: مجلة العلوم السياسية، العدد 3، 1977 )، ص 78.
2. د. سهيلة زين العابدين ، نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار (الرياض : جامعة أم القري ، 1424هـ)،
3. د. محمد يسار عابدين، د.عماد المصري، الفكر التنموي في مقدمة ابن خلدون دراسة تحليلية مقارنة، مجلة جامعة دمشق ( دمشق : مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية المجلد الخامس والعشرون- العدد الأول- ٢٠٠٩ م).
4. مجلة البحوث الإسلامية ، ابن خلدون وريادته لعلم تفسير التأريخ : قوانين ابن خلدون الحضارية وتقويمها، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء، من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1406هـ .
ثالثاً: شبكة المعلومات الدولية
1. أسس نظرية التطور في مقدمة ابن خلدون . الدين قوة توحيد للدولة ، جريدة الحياه، 2001.
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/2001/8/28/%D8%A7%D%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%A8%D9%8A%D8%A9.html
2. العصبية : مفهومها – انواعها- أسبابها – أثارها السلبية، الفصل الأول، د.ت
http://libback.uqu.edu.sa/hipres/FUTXT/12666.pdf
3. بوشما حميد ، إشكالية الدولة عند ابن خلدون، ديوان العرب ، مارس .٢٠١١
http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=27665\