خاص : كتبت – سماح عادل :
بين مؤيد ومعارض مازالت تتلاطم ثورة 14 تموز 1958.. رغم مرور 59 عاماً على وقوع أحداثها وانفجاراتها، خاصة في ظل مناخات شعبية عامة سادت في السنوات القليلة الماضية، تستقصي المعرفة وإعادة تقييم وترتيب تأريخ بلداننا العربية، مثيرة الكثير من الجدل والخلاف خاصة بين أوساط المثقفين مازالت وستظل مستعرة لا يضع لها حداً سوى “العلم” بتحقيقاته وتحليلاته للمعلومات التأريخية الموروثة.. ومن جانبها حرصت (كتابات) على جمع آراء بعض الكتاب والروائيين والمثقفين في ثورة 14 تموز التي مازالت ذكراها تشتعل جدلاً بينهم..
الخراب النفسي..
يبادر الروائي والناقد “سلام إبراهيم” بقوله, لـ(كتابات)، “من خلال قياس نتائج سريع لـ(١٤ تموز) وماتلاها دون تنظير, يصادف هذا العام ١٤ تموز (يوليو) ٢0١٧ الذكرى ٥٩ لترسيخ ثقافة الانقلابات العسكرية وإضفاء الشرعية على العنف المستشري أصلاً في البيئة الاجتماعية العراقية وتاريخه الدموي، إذا كانت الأحداث تقيم بالنتائج فلنعاين إذاً:
– عقب هذا التاريخ قامت الأحزاب الشمولية بتشكيل الميليشيات التي قامت بدور الذراع العسكري للقمع الحزبي وهي على التوالي:
1 – المقاومة الشعبية: الحزب الشيوعي العراقي.
2 – الحرس القومي: حزب البعث العربي الإشتراكي.
3 – الجيش الشعبي: حزب البعث العربي الإشتراكي.
4 – جيش المهدي: التيار الصدري.
5 – قوات بدر: المجلس الأعلى.
5 – عصائب الحق.
أما الآن فقد تضخمت وتكاد تبتلع المؤسسات النظامية لتقضي على آخر وهم من أوهام الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.
– تأصيل ثقافة القتل: لو نحسب كم عراقي قتل على أيدي السلطات, وليس في الحروب منذ 1921 – 1958، ونقارنها بمن قتل بين ١٩٥٨ – ٢٠١٧ سيكون الرقم مهولاً.
– الخراب الاقتصادي: لا أريد الخوض فيه، لكن بلد زراعي كان يصدر المنتجات قبل 1958, تحول إلى بلد مستورد لكل شيء يعتمد اقتصاده على النفط، الريف مهجور، الصناعة تلفت، والخزينة أفلست, زمن سلطة الأحزاب الدينية فساداً وهدراً.
– الخراب النفسي: كل عراقي يعاني من توتر نفسي ورعب, ويتحول بسهولة من ضحية إلى قاتل، ومصاب بفصام نفسي بهذا الشكل أو ذاك لصرامة التقاليد الشكلية وقمعها لتطلعات الإنسان في الحرية والتعبير.
– لم يشهد مجتمع مشكلة لاجئين وهاربين, وبوقت مبكر, مثل المجتمع العراقي خارج العراق، أما الآن فقد أضيف إلى ذلك المهجريين بالملايين داخل العراق.
– سادت الكراهية والقتل والثأر بين طوائفه وأديانه.
– أكثر المجتمعات في العالم يحتقر المرأة ويعتبرها شيء أو سقط متاع.
– شيوع الكذب والخداع والتشاطر والغش في العلاقات بكافة تفاصيلها الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية.
– يكفي أن المجتمع يمزق الآن نفسه بنفسه, وأبنائه يقتل أحدهم الآخر.
أما العواطف وطيبة “عبد الكريم قاسم”, وإخلاصه ومساعدته الفقراء فلم تثمر شيء، فسذاجته أدت إلى حتفه وفتح باب جهنم على العراق والعراقيين في 8 شباط (فبراير) 1963، أقول هذا دون فلسفة وتنظير قومي أو ماركسي بالثورة الوطنية, التي أكلت أبناء جلدتي وتكاد تقضي على ما تبقى”.
الخلاص من الإقطاعية..
أما الروائي “حميد الربيعي” فيرى، في حديثه مع (كتابات)، انه “لم يلتق المثقفون كما التقوا عند وقائع (ثورة تموز)، وهذا متأت أصلاً من الرغبة العارمة لدى الجماهير العراقية في التغيير، بعدما نخر السوس في جسد الحكم الملكي، بالذات في أيامه الأخيرة، المتمثلة في استهتار الوصي وبغاء الإقطاع، الذي وصل بعد عام 1953 حداً لا مثيل له، فـ(ثورة تموز) كانت رغبة لإرادة جماهيرية في بناء دولة مدنية حديثة، تمتلك مؤهلات البناء ما يجعلها واحدة من الدول النموذج في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن العراق إبان فترة الأربعينيات قد شهد طفرة حضارية واسعة باتجاه التمدن والدولة الحديثة”.
الرغبة تجسدت بالخلاص من شكل الحكم الملكي والإقطاعي وفي تحقيق الديمقراطية، التي كان الشعب يطالب بها للتخلص من التبعية البريطانية وحلف بغداد، خاصة وأن دول المنطقة آنذاك كانت تتجه إلى النأي بعيداً عن التكتلات الدولية والحرب الباردة، فالفقر المدقع والأمية وانتشار بيوت الطين وعدم توفر الخدمات، بالإضافة إلى توظيف الأجنبي والبطالة المنتشرة كانت من المؤشرات الرئيسة على مقدار التحول الضروري.
كل هذه المؤشرات كانت مساهمة مميزة لانبثاق الثورة أو توفير القاعدة الجماهيرية للتغيير، بيد أن الذي حدث أن التغيير جاء بيد العسكر أولاً وأن هؤلاء العسكر لم يسعوا فعلياً في إرساء الحياة السياسية ثانياً، والأهم أن البلد بسبب التناحر السياسي دخل في فوضى اجتماعية ثالثاً، قاد بالنتيجة إلى موت الحلم الذي فرحت به الناس في أثناء التغيير الذي حدث في 14 تموز عام 1958.
تآمر محلي..
من جهته يقول الناقد السنيمائي “يوحنا دانيال”, لـ(كتابات)، “ثورة أو انقلاب 14 تموز عام 1958.. تثير جدلاً كبيراً كل عام, ليس بين المثقفين وحدهم, لكن بين معظم العراقيين.. هل ساهمت في تغيير وضع العراقيين ؟.. أم أنها فتحت أبواب الجحيم على العراق.. أرضاً وشعباً ؟.. ولأن معظمنا لم يعاصر النظام الملكي, فإنه من الصعب أن نبني آراء حيادية وموضوعية, من دون الرجوع للكتابات الأجنبية والمتخصصة, واستناداً إلى أهم أكاديمي بحث في نشوء العراق الحديث، وتحوله من الملكية إلى الجمهورية.. الأستاذ (حنا بطاطو), الباحث الأميركي من أصل فلسطيني, فإن النظام الملكي لم يكترث للتحركات الشعبية.. ولا للتململ الذي يسود بين الطبقات الوسطى الدنيا المثقفة, وعمل على محاربة القوى السياسية الثورية, إضافة إلى التأثير القادم من ثورة (تموز) يوليو المصرية، وإلغاء الملكية.. كلها كانت عوامل ضربت المسامير في نعش النظام الملكي, على أيدي تنظيم الضباط الأحرار العراقي, لكن الثورة الفتية, لم تكن بحكمة وذكاء ثورة يوليو (تموز) المصرية, إذ افتتحت عهدها بجريمة نكراء, تمثلت بمجزرة العائلة المالكة, ثم أعقبها النزاع السياسي بين القوميين والشيوعيين, الذي طبع العراق بطابعه الانقسامي العنيف, الذي أدى إلى انقلاب 8 شباط (فبراير), وإجهاض الثورة نفسها, وفتح أبواب الاحتراب السياسي, لكن للحق يجب الإقرار بأن الثورة رغم عمرها القصير حققت إصلاحاً زراعياً ثورياً وأصدرت قانوناً تقدمياً للأحوال الشخصية ينصف المرأة وأنشأت مدناً جديدة لسكنى الضباط ولسكنى الفقراء والكادحين في أحزمة البؤس المحيطة ببغداد, وأصدرت قانوناً ثورياً يحدد من صلاحيات شركات النفط الأجنبية ويقلل من الأراضي الممنوحة لاستثماراتها, إضافة لقيام الزعيم “قاسم” بالمطالبة بضم الكويت للعراق, وهكذا أصبحت الثورة وقيادتها هدفاً للتآمر المحلي من قبل القوى القومية والإسلامية والناصرية, بدعم من الدول الإقليمية مثل الكويت والأردن ومصر, إضافة إلى الدعم الأميركي, الذي كان يهدف لإخراج العراق من النفوذ السوفياتي.. وتصفية قوى اليسار فيه..”.
المثقف وثورة تموز..
الناقد والروائي “خضير فليح الزيدي” كان رأيه, أنه “قيل قديماً في فحص الشخصية العراقية بأنها لا تعيش إلاّ في حاضنة التطرف، ذلك نتاج الفضاء السياسي المتشنّج ومعطيات البيئة الغاضبة والجغرافية القلقة وقسوة تاريخ وقائع الدم، والمقصود بالتطرف يدخل هنا في بلورة الرأي للمثقف أيضاً، غالباً ما يبلور المثقف العراقي الرأي وفق نطاق تلك النظرية”.
المثقف العراقي ارتمى في أحد المعسكرين المتضادين، المعسكر الجمهوري الداعم لثورة تموز 1958, ويعتبر زعيم ثورتها “عبد الكريم قاسم” الوطني الذي أنصف شرائح الفقراء وأعاد إنصافهم وانتشالهم من فقرهم ووزع عليهم قطع الأراضي، وبناء وخطط المدن رغم فترة حكمه القصيرة، حتى تحدثت المرويات الشعبية بأن صورته ظهرت في القمر، كذلك عمل على تقريب الشيوعيين إليه فترة من الزمن، حتى تحولت النخب الشيوعية وأجيالها هي المدافعة عنه وعن ثورته ليومنا هذا.
أما الفريق الآخر فهم الشرائح الأخرى التي ارتمت في أقصى اليمين وراحت تحن بـ”نوستالجيا” الماضي التليد، كان هذا الفريق يدافع عن النظام الملكي الذي حكم العراق منذ تنصيب الملك “فيصل الأول” حتى مقتل الملك “فيصل الثاني” في قصر الرحاب في واقعة الرحاب المعروفة للجميع، والمعروفة بـ”مجزرة الرحاب” التي نفذها حفنة من الضباط الأحرار ضد النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري في ثورة تموز.
لكن لب القضية الذي بقي غائم الموقف ليومنا هذا، أن الشيوعية العراقية قد دافعت عن ثورة تموز كثيراً وهي التي عانت من ويلاتها وهذا مذكور في أدبياتها وما تعرض إليه عناصرها من قتل وتشريد وسحل ومؤامرات، ذلك يحيلنا إلى أن المجموعة الشيوعية العراقية فضلت الدفاع عن حلم الثورة على الارتماء أو الدفاع عن الفكرة الملكية، حتى السياسي البعثي قديماً قد هاجم الفكرة القاسمية واصفاً زعيم الثورة بالديكتاتور المتفرد، ولكن هجوم نظام البعث كان غالباً ما يوصف بالهجوم الناعم، فهو يقبل بالنظام الجمهوري ويعتبره النظام الوطني الأصلح للبلد ولكنه يرفض “عبد الكريم قاسم” وانقلب ضده.
“ذلك يؤشر على أن كلا النظامين حامل في داخله فكرة الضد النوعي، مثلما يحمل جينات خرابه وهدمه، مما حدا بالمثقفين العراقيين إلى الارتماء لأحد المعسكرين، لم تفرز لنا النخب الثقافية أجيالاً تقف في منطقة الحياد من المعسكرين أو أن تقوم بفرز محاسن الفريق الأول عن الثاني أو العكس”.
صراع الزعامات..
الكاتب والمترجم “أحمد فاضل”, يقول: “لن نخوض كمحللين للواقع الذي كان يعيشه العراق بعد حصوله على الاستقلال من بريطانيا ودخوله عصبة الأمم شكلياً لربطه بمعاهدات سيواقتصادية مع المحتل البريطاني حتى قيام ثورة 14 تموز/يوليو 1958، لكننا سنقوم بتحليل نتائجه على المستويين المحلي والعربي والعالمي، اعتماداً على الخارطة التي وضعها الأربعة الكبار وهم “بريطانيا، أميركا، روسيا، فرنسا” للمنطقة الأشد صراعاً في العالم وهي منطقة الشرق الأوسط, التي لا زالت محل صراع تلك الدول.
فبعد سقوط الملكية على يد ثلة من الضباط الأحرار, وهي الرغبة الدفينة للشعب العراقي الذي خرج صبيحة يوم الثورة فرحاً مزغرداً، سرعان ما انقلبت أحواله إلى نكبات بعد أقل من 5 سنوات على قيام الجمهورية العراقية، بسبب صراع الزعامات التي قامت باغتيال الزعيم “عبد الكريم قاسم” أحد أبرز رجالاتها على يد “عبد السلام محمد عارف”, الذي كانت تحركه أجندات قومية شوفينية سرعان ما آلت أمورها لحزب البعث الذي استحوذ على مقدرات البلاد بصعود “أحمد حسن البكر” و”صدام حسين” لحكم البلاد سنوات طويلة.
الشرق الأوسط, وخلال تلك الحقبة, شهد حروباً عديدة كارثية بين بعض دوله والكيان الصهيوني، انعكست سلباً على وضعه سياسياً واقتصادياً ولو ظل العراق ملكياً – برأيي – آنذاك لكان في منأى عن تلك المشاكل بسبب لعبة الكبار الذين كانوا يديرون حلقاته، وكأنهم يلعبون لعبة الشطرنج، وبما أنه لا يغرد خارج سرب منظومته العربية, فقد استغل “صدام حسين” نفوذه كقوة عسكرية كبيرة واقتصادية بتنفيذ أجندته الخاصة بالقيام بغزو الكويت واحتلالها, بعد خروجه منتصراً من حربه مع إيران، وبمساعدة من دول كبيرة معروفة حتى انتهى العراق باحتلاله من قبل أميركا نتيجة للرعونة التي حكمته, وكأن هناك خيطاً واهياً كان يربطه بثورته الأولى في تموز 1958, والتي لم يحسن إدارتها، أو لم تكن لتدوم برغبة الكبار الذين لا يزالون يتحكمون بمصائر منطقتنا، وهناك شواهد كثيرة على ذلك, ليس آخرها ما جرى في العراق من غزو داعشي وما يجري في سورية ومصر”.
ليلة الحكايات الكبرى..
الكاتب والناقد “حمزة عليوي”, كان رأيه أن 14 تموز “ليلة الحكايات كلها، حكايات الأجداد عن عراق آخر يغالب ظلام الليل.. ربما تكون الحكاية المنقولة عن الباشا “نوري السعيد”، عندما أحرجه صديقه اليساري، ومن العجب أن يكون “يساري” صديقا لنوري السعيد، هذا الحكاية المتنقلة على ألسن كثير من العراقيين، ربما هي ترجمان لحقيقة ما جرى في العراق بعد عام 1958، فالباشا الذي أحرجه أصدقاؤه اليساريون، بالضبط عن سنوات حكمه للعراق بالأصالة أو بالنيابة، قد أثقلت صدور العراقيين، وأحدهم قال له بعد أن لعبت الدنيا برأسه: “باشا أنت تنام على صدورنا منذ ثلاثين عاماً، ألا يكفي ؟!”.. فكان أن ردًّ عليه الباشا، بقول لا أبلغ منه: “وجودي في الحكم أشبه بالسدادة في فوهة برميل تملأه القذارة, فإن أزلتموني عن فوهة السدادة فإن القذارة كلها ستطفح عليكم !”.. وبصرف النظر عن صحة أو عدم صحة ما ينسب إلى الباشا، الشخصية المكروهة في العراق، على الأقل حسب أدبيات ما بعد ليلة الرابع عشر من تموز، فإنه يعبر عما حدث في العراق بعد تلك الليلة، والغريب أنه من النادر أن تجد عراقياً يحافظ على رأي بعينه، ويكرره سنة بعد أخرى، فيما يخص تقييم ليلة 14 تموز عام 1958، حتى أنا، كاتب هذه السطور، أحاول أن أتملص من محنة وصف ما حدث، أهو ثورة أم انقلاب ؟.. وما هو تأثيره في حياة الناس، ومن ثم الأدب العراقي ؟.. الحق إنه من الغريب أن نعتقد أن الأحداث السياسية يمكن أن تؤثر في مسار وتطورات الأدب في مكان بعينه، بالفعل إنه لأمر غريب، لكن تاريخنا الأدبي كان يُؤرخ دائماً بحوادث السياسة.
هذا ما تعلمناه في الجامعة، وهذا ما يقوله عقلنا الباطن. مع ذلك، فإن سرداً عراقياً مادحاً كتب عن تلك الليلة، كتاب كثيرون امتدحوا ما فعلته تلك الليلة في حياة الناس، وهم لا يكذبون, وبالفعل فقد غيّر ما حدث صبيحة تلك الليلة حياة العراقيين إلى الأبد، أن دفعهم إلى جهنم أو دفعهم إلى الجنة المفترضة، جنة الفقراء وحكاياتهم عن كنوز كسرى وقيصر.
بالضبط هذا ما حدث، فإن الأغلبية الغالبة من العراقيين كانوا فقراء، وكانوا يطمحون بالثأر والانتقام من ظالميهم. وهي حكاية أية “ثورة”، من ثورة النبي “محمد” إلى ثورة “فرنسا” إلى غيرها. يهمني أن أفهم كيف نظر الكاتب العراقي إلى تلك الليلة وتأثيرها على حياته الخاصة، أولاً، ثم حياة الناس جميعهم ثانياً. أغلب كتابنا كانوا لحظتها من الفقراء الذين تحسنت حياتهم بأثر من حدث أو أحداث تلك الليلة، “فؤاد التكرلي” الوحيد الذي كتب عن الوجه الآخر، كان ذلك عنوان مجموعته القصصية الأولى، ثم أفرد قصة الوجه الآخر بكتاب كامل، فصارت رواية عند بعضهم باسم الوجه الآخر. “التكرلي” نفسه كتب باكورة سرديات الجحيم، رواية لا أتقن منها في الرواية العربية اسمها: “الرجع البعيد”، تحدث فيها عن حقيقة ما حصل، حقيقة القتلة في ليلة أخرى اسمها ليلة الثامن من شباط عام 1963.
مع ذلك، فإن هناك كم لا بأس به من روايات وقصائد ونصوص مسرحية كتبت عن ليلة الرابع عشر من تموز، لكنها مع الأسف لم تلق اهتماماً حقيقياً من نقاد الأدب، ومن دارسي المجتمع العراقي، وهذه قضية تستحق الاهتمام والاعتبار.. لكن هذا ما حدث, ففي بلاد اسمها العراق، يوجد فيها عشرون جامعة لا تجد فيها كلية واحدة قد رشحت باحثاً أو ناقداً عراقياً ليدرس هذه الأمور, أليست هذه مفارقة كبرى، أن يجري الصمت عن أهم ليلتين في تاريخ العراق: ليلة الرابع عشر من تموز وليلة الثامن من شباط ؟!”.
إعادة توزيع الأرض..
يقول الشاعر “سعد مشني”: بعيداً عن الجدل السنوي الذي تثيره ذكرى ثورة ١٤تموز، حول مواضيع إشكالية كثيرة من أهمها التوصيف السياسي لعملية تغيير نظام الحكم الملكي، للآن لازال وصف ثورة يلاقي القليل من الاعتراضات، التي تعتقد أن توصيف انقلاب عسكري هو الأصح، أما الاختلاف الذي يصل للخلاف حول تحميل مسؤولية الثورة بفتح باب الانقلابات العسكرية وتقويض الاستقرار وجعل العراق أرض الاحتراب الأيديولوجي والحزبي والطائفي الذي نتج عنه حمامات من الدم.. كما يعتقد البعض، اعتقد أن التوصيف الموضوعي هو اعتبار الثورة ثورة إعادة توزيع الأراضي، حيث وزعت أراضي الإقطاع على الفلاحين، وكذلك منحت أراضي المواطنين لإنشاء دور للسكن.. هذه الخطوة المهمة أحدثت تغيرات مختلفة على صعيد التحرر الاجتماعي والثقافي، فقد نجحت الثورة بإعادة تشكيل العلاقات المجتمعية.
الميزة الأهم هي التحول النوعي في قيادة البلد الذي تحول من مؤسسات ما قبل الدولة المتمثلة بالمؤسسة الدينية والعشائرية وبعض التجار المتنفذين وبقايا الضباط الذي خدموا في جيش الدولة العثمانية المنحلة.. أزاحت الثورة كل هؤلاء لتبرز للساحة السياسية وجوه تمثل الطبقة الوسطى ذات جذور ريفية، ربما عملياً تأخذ شكل انقلاب لكن على الأرض أحدثت تغيرات ثورية لهذه اللحظة الراهنة لازالت فاعلة، إن السلطة الدينية القابضة على السلطة في العراق كانت متضررة من “ثورة قاسم” لأنها فصلتها عن قواعدها الشعبية.
لذلك أغلب الآراء التي تهجو الثورة إما أبناء ملاك الأراضي أو أبناء البيوت الدينية وأتباعهم، يضاف لهم البعثيين لأنهم أطاحوا بقاسم، ولا يخفى النوع الرابع وهو الانتهازي، أغلب قيادات “حزب الدعوة” أبناء من الإقطاع، “عادل عبد المهدي” إقطاعي، بالإضافة إلى أن الهجوم على “قاسم” هو ضرب “الحزب الشيوعي العراقي” بطريقة غير مباشرة، وضرب الاحتجاجات في ساحة التحرير التي تطالب بالإصلاح, والتي يقودها ناس مقربين من الشيوعيين، وأخذت تقنع الشارع العراقي بضرورة التغيير.
كيف يمكن تفسير أن يتحول ميليشاوي قاتل أو طائفي بين ليلة وضحاها إلى ليبرالي يبكي الملك والوصي مع الدانتي لما حصل في صبيحة يوم الثورة، جراء حالة انفلات وانفعال وهستيريا عرفت بها الشخصية العراقية”.