8 مارس، 2024 7:26 ص
Search
Close this search box.

“يوم الدين” .. مساحة انتصار الهوية على مجتمع بلا ملامح !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : قراءة – محمد البسفي :

“يوم الدين”.. كما رأيته !

بدايةً.. لست بالناقد السينمائي الذي امتلك الأدوات المهنية الإحترافية لكي يبسط ويظهر الجمال الإبداعي فيما ظهر على الشاشة؛ مساعدًا لمن جلسوا أمامها، في تلقي الفيلم وأترشاف جمالياته.. فما أنا إلا “متلقي” وصلته تلك الجماليات الإبداعية وأستساغها فأراد قراءة ذلك العمل السينمائي الإبداعي بعيدًا عن تأثيرات النخبة الثقافية أو المهنية من نقاد أو سينمائيين أو فنانين أو ما شابه، مستبعدًا أضواء ما حصل عليه ذلك المنتج السينمائي من جوائز وما أُحُتفي به في مهرجانات…

يخطيء – في رأيي – من يشاهد فيلم (يوم الدين) من زاوية تبنيه لقضية مرضى “الجُذام” وما يعانوه من “تهميش” مجتمعي ونبذ، سواء عن قسوة أو حتى غباء، المحيط المجتمعي العام.. فللمخرج “أبوبكر شوقي” – صانع الفيلم الأساس إخراجًا وفكرة وكتابة – تجربة إنتاج فيلم تسجيلي عن مرضى “الجُذام”؛ نجح عبره في نقل ما يعانوه من ضغوطات ومشاكل داخل “مستعمرة الجُذام” بالقاهرة، (المنفى المجتمعي لهم تحت زعم استشفاءهم)، أو خارجها.. إذًا الهدف الفني، أو حتى الدعائي، لصنع فيلم “سينمائي روائي طويل” عن نفس القضية أستبعده لدى صانعيه، وبالأخص لدى “شوقي” تحديدًا، بالإضافة لما لاحظته على طول زمن عرض الفيلم من إصرار وتعمد الأخير، كمخرج للعمل، على حصر كادر الكاميرا في لقطات مقربة، “كلوز آب”، لوجه بطله “بشاي”، أو الفنان المبدع، “راضي جمال”، الذي ذهب المرض اللعين بأغلب ملامحه.. وبالطبع هذا “تعمد” فني يضاد تمامًا أبسط القواعد التجارية لصناعة الفيلم؛ مما يؤثر على انتشاره جماهيريًا وبالتالي على ربحيته، كما أن أقل المطالعات اهتمامًا على ما نشر من أخبار وصور حول الفيلم؛ نجد عدة صور التقطت لـ”أبوبكر شوقي” مع بعض مرضى “الجُذام”، (مِن من تم شفائهم بالفعل)، غير الفنان “راضي جمال”، ولم تتأثر ملامحهم كثيرًا بآثاره بالنسبة الكبيرة التي ذهبت بملامح “راضي”..

“بشاي” .. ساقط الهوية..

من السهل أن تزيح “الجاهل” أو “المريض” أو “الفقير” من محيط حياتك ومساحات تحركك الاجتماعي؛ لتهمشهم في حيز ضيق تصب فيه كل مشاعر النفور والتقزز.. ولكن؛ حينما تجتمع صفات: “الجهل، الفقر لحد الفاقة، التجُذم (نسبة لمرض الجُذام)، التشوه الخلقي، الإنتساب إلى ديانة الأقلية، النبذ العائلي، الامتهان بمهنة جمع المخلفات والمهملات، الحياة غير الآدمية، وأخيرًا الوحدة وقطع النسل”، في شخص بطل (يوم الدين)؛ بما يشبه جمع فسيفسائي دقيق في لعبة “بازل” تم إدارتها وممارستها بخبث وذكاء فني بديع أكدت في كل مشهد وكادر على توصيل المشاهد و”صفعه” بهدف ونتيجة واحدة وهي “رؤية ساقط الهوية المجتمعية”..

اختيار مرض “الجُذام”، تحديدًا، كمحور رئيس تدور حوله الأحداث، جاء اختيارًا ذكيًا لأنه المرض الوحيد تقريبًا الذي يذهب بـ”الملامح البشرية”، ويقضي عليها مسحًا وتشوهًا، كما كان اختيار “راضي” لتجسيد دور البطولة اختيارًا خبيثًا محببًا فنيًا لكي تتمثل به وعبره الفكرة الأعمق للفيلم، وهي إبراز حياة “ساقطي الهوية المجتمعية”، وتجسيدها أمام مجتمعهم بوضوح.

“بشاي”.. بطل الكادر الأساس، الذي يحمل أكثر من اسم، (بشاي، وسليم)، منذ أن قذف به أبيه صغيرًا أمام باب “مستعمرة الجُذام” بالعاصمة، القاهرة، ليقفل عائدًا إلى “قنا”، (إحدى محافظات الجنوب)، مسرعًا قبل أن “يلتزق” به المرض، أو تنتقل إليه العدوى من الغلام، الذي تصبح المستعمرة، (المنفى الاختيار للاستشفاء رغم القذارة والبيروقراطية)، كل عالمه ومجتمعه، حتى يتم شفائه من مرض “الجُذام” مع تقدم العمر به مخلفًا “جرح لا يُشفى”، التشوه، الذي جسد أمام ناظريه جنون مشهده المجتمعي رويدًا رويدًا.. بدأ ماديًا بـ”جنون الزوجة”؛ التي تم إبعادها عنه قصرًا حتى ماتت، وجنون “النبذ والإبعاد” متمثلاً في أم زوجته التي أقصرت هدف رحلتها الطويلة على مجرد رؤية قبر ابنتها.. وجنون “البيروقراطية الصماء” التي كشفت عن عورته وتشوهه الرئيس، وهو أنه “نزيل.. بلا ملف رسمي”، وبالتالي بدون “هوية” محددة تميزه كوحدة مجتمعية فاعلة في محيطه.. وجنون “مصيره النهائي” المُسلط كقدر محتوم على عنقه في حال تمرده على مجتمع منفاه الاختياري والمضي في عزمه على الترحال بحثًا عن جذوره والاتصال بمجتمع عائلته، ليصدمه زملاءه في المستعمرة متهكمين: “أنت.. إن خرجت من هنا.. سوف يتعثرون بك ميتًا تحت كوبري”.. ولكنه تحت وطئة جنون الوحشة وإنقطاع الأبناء والذرية يقرر التحدي والترحال..

لغة سينمائية تبرز بطل.. بلا بصمات !

وعلى نغمات الموسيقى الراقصة في بهجة (الولا ده.. الولا ده.. الولا ده مين ؟)، يبدأ “بشاي” رحلته باحثًا عن جذوره، بطول المسافة من “القاهرة” شمالاً إلى “قنا” جنوبًا؛ مستعينًا بكافة وسائل التنقل والسفر، وقد بدأها بأقدمها بدائية، “عربة كارو وحمار”، بمصاحبة الطفل اليتيم “أوباما”، (نسبة لأول رئيس أميركي ينتمي لمجتمع السود ذو الجذور الإفريقية المسلمة، الصفات المنبوذة في مجتمعه الحر، رغم منصبه)، ليتعرضا لكافة المخاطر والأزمات، من تيه وسرقة وإصابة وسجن وفقد لوسيلة المواصلات البدائية وتهكم وسخرية، وبالطبع نبذ ونفور مجتمعي مصاحب ومضاعف لكافة الأزمات والعقبات، حتى يصرخ “بشاي” محتجًا في تحدي: “هو أنا مش بني آدم ؟”.. وبرغم صرخاته التي ذهبت في صحراء تيه هويته، يبلور مشهد بديع دال؛ يصور “بشاي” جالسًا مفكرًا في مصيره حزينًا على حالة هزال وضعف “أوباما”، بإحدى الطرقات المزدحة، مستندًا على صندوق كبير للمخلفات وقد امتلاء جداره ببصمات اليد ذات الخمس صوابع الدامية، التي تعبر عن حيويتها بقدر ما عبرت عن قسوتها، وقد ظهر “بشاي” وسطها “حيًا” أيضًا، ولكن “بدون بصمة”..

“بشاي”.. بطل يدرك جيدًا حقيقة موقعه من خريطة مجتمعه “الغبي المشوه”.. حينما يقرن اسمه كثيرًا باسم حيوان أو كلمة “حيوان”، (حتى عندما يريد مداعبة “أوباما” لا يناديه بسوى اسم “الجاموسة”)، في أكثر من جملة حوارية له، وحينما سأله “أوباما” عن “كُنية” أبناء القاهرة داخل “المستعمرة” (بين القناوي والغرباوي)، يرد “بشاي” في جملة قاطعة حاسمة: “أهل القاهرة لا يصابون بالجُذام”.. وتجلى وعيه ومدي إدراك صاحبه، “أوباما”، حينما أصرا على دفن “حربي”، (الحمار.. رفيق طريقي حياة الكد والشقاء وأيضًا السفر)، وقراءة الفاتحة على روحه، وعندما يشمئز “المتأسلم” من وجه “بشاي”، (والمقيد مع بشاي اضطرارًا في قيد الحبس)، مرددًا حديث يزعم أنه نبوي بوجوب الفرار من “المجذوم” الفرار من “الأسد”؛ ليرد “بشاي” ببساطة حازمة: “هو النبي قال كده ؟”، مستهزءًا منه وصحبته المتشددة معلنًا لهم بأن اسمه “محمد”، مدركًا بعدم وجوده على خريطة “الهوية الإنسانية”؛ عندما يضطره التشرد وتيه وجِد الترحال إلى اللجوء للمسجد ملمسًا طمأنينة ودقائق راحة لا يجد غضاضة من أداء حركات الصلاة، (ولكن في آخر صف)، آملاً في التصريح له بالبقاء داخل الجدران.. وعي “بشاي”؛ وعي كامل النضوج يجابه عيون المشاهدين ويصفعها تحديًا؛ معلنًا: “أنا معرفش أمتى جالي الجُذام.. كل اللي أعرفه إني كنت بلعب مع العيال وأنا صغير ولما أتعور ما بتوجعش ولا بنزل دم فسموني الوحش !”.. يقولها لقرناءه في عالم “ساقطي الهوية” من الشحاذين الذين التقطوه من أحزانه وتيه طريقه.

استرداد الملامح من مجتمع مشوه..

بين رفاق “الهوية الغائبة”؛ تم الترحيب بـ”بشاي” وصاحبه “أوباما”.. أطعموهما، أحسوا بينهما بالأمان فنام “أوباما” مطمئنًا، مازحوا “بشاي” بدون السخرية منه بل تهكموا جميعًا من أنفسهم، “أحنا باشوات !”، اقتربوا منه في حميمية متلمسين جرحه، (الذي لا يُشفى)، متأكدين من عدم مرضه وبالتالي تشوهه.

والمفاجأة.. التي يدخرها الشحاذون للطفل، “أوباما”، عندما يصلوا إلى “ملفه الرسمي”، (بفضل البيروقراطية العظيمة)، ومعلومات عن والديه المتوفيين وجذوره “النوبية”، وحقائق يرفض معرفتها “أوباما”، وحينما عرفها لاحقًا أستهزأ بها !

يوسع عجوزهم وعي “بشاي” ويجذره: “بص.. لما ترجع يا بشاي لأهلك حتتفاجىء بحاجات وتصرفات مش حتقدر تغيرها… زيك زي الثلاثة وحوش اللي نايمين جوه دول، كلنا مش حنقدر نغير ولا نبقى زي الناس دي لحد ما ييجي يوم الدين ونبقى سواسية”.. لينام “بشاي” وسطهم ويحلم.. يحلم بثوان معدودة يدخل فيها بيت أبيه، بعد كل هذه السنوات، ويرى حضور أخيه العابر، والأهم برؤيته للصورة التي يطالعها في المرآة وقد استرد وجهه كامل الملامح بوسامة الشباب ونضارته.. ولكن حينما يصل، بمساعدة أصدقاءه الشحاذين، إلى قريته يدب التردد في أوصاله، ذلك “الجُبن” الذي يرفضه “أوباما” محتدًا: “طظ فيك”.. وبالفعل تنكر الأخ الأكبر لوجود “بشاي” أصلاً على قيد الحياة؛ وتتمادى مشاعر الضعف بـ”بشاي” عند سماع صوت أخيه الكبير يبحث عنه في أركان المسجد؛ ليجده منكفىء يداري وجهه و”جُرحه”، (في الركن المخصص لصلاة السيدات بالمسجد)، ليناديه الأخ الكبير أن يقف ويظهر له ولا يخجل؛ فهو كان مريضًا وقد شُفي “وكلنا بنحبك”.. يدخل “بشاي” منزل عائلته ويجد نفسه أمام “مرآة الحلم”، ولكن لا يجد في وجهه ملامح.. لا شيء سوى “جرحه الذي لا يُشفى”؛ ويلتقي “الأب” بعد أن يعلم “بخلل عقله” وشيخوخته التي يساعدها “بشاي” بجمع طعام أبيه المنسكب، ويسأله “أنت نستني يابا ؟ .. أنت بتحبني ؟.. أنت تركتني ليه ؟”؛ ليتكلم الأب ويجاوب أسئلة ولده.. “أنا عملت فيك كده علشانك.. علشان بحبك.. في دنيتنا حاجات كتير لن تتحملها ولن ترضى بك.. خشيت أن تتعود عليها وتصبح حياتك.. ذهبت بك إلى من يشبوهنك الذين تصبح بينهم شخص عادي.. سامحني يا ابني”؛ ويقبل الأب يد “بشاي” المشوهة لتنسكب عليها دموعه.

وينتشي البطل، “بشاي”، بانتصار خفي في خاتمة رحلته، وهو يقرر لصاحبه “أوباما” بأنهم عائدين إلى المستعمرة.. ويدعوه الآخير بأن يركب القطار القادم.. لينظر “بشاي” إلى “جرار القطار”، (لأن هذه المحطة لا يمر بها قطارات عادية)، قادمًا ويقول متهكمًا: “ما هذا القطار غير اللائق ؟!”.. يقولها بنشوة الفوز بموقع التقدم خطوة في وجه مجتمعه؛ الذي انتصر عليه حتى ولو بتوسعة هامشه المنفي والمطرود إليه بضع سنتيمترات قليلة، فتكفيه هذه المساحة الضيقة من مجتمع مشوه عاجز.. يكفي “بشاي” أنه ظفر بالاعتراف العائلي ودفئ مشاعره.. حتى يأتي “يوم الدين” الذي يتساوى فيه البشر.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب