خاص: إعداد- سماح عادل
“يوسف حبشي الأشقر” كاتب لبناني، يلقب ب”أبو الرواية اللبنانيّة الحديثة”.
تلقّى دروسه الابتدائيّة والمتوسّطة في مدرسة بيت شباب، والثانويّة في المدرسة اليسوعيّة في بيروت، وتخرّج من جامعة القديس يوسف وحصل على شهادة في الحقوق والفلسفة. عمل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. انضم إلى “جمعية أهل القلم” و “مجلس المتن للثقافة”.
الكتابة..
قال “يوسف حبشي الأشقر” في أحد الحوارات عن الكتابة: “الأسباب اللاّواعية التي جعلتني أختار القصة ثم الرواية، القصة للوصول إلى الرواية، هي أنني تعودت القصة في البيت. والدي إميل الأشقر كتب أربع عشرة قصة تاريخية، وكانت أول ما قرأت. رأيت أن القص يسمح لي أن أصنع ما أريد وكما أريد. القصة تتناسب مع كسلي».
كانت روايته الأولى “أربعة أفراس حمر” (1964) البداية ليكتب روايته الأهم والأفضل “لا تنبت جذور في السماء” (1971) وهي التي وضعته في لائحة الروائيين البارزين المعاصرين، ثم “الظل والصدى” (1989). وأصدر عدة مجموعات قصصية، منها: (طعم الرماد 1952- ليل الشتاء 1955- الأرض القديمة 1962- آخر القدماء 1985).
عبقري..
في مقالة بعنوان (يوسف حبشي الأشقر: كيف ضاع منا هذا العبقري؟) يكتب عنه “رضا حريري”: “يبدو وقع اسم الروائي اللبناني الراحل يوسف حبشي الأشقر غريبًا وملفتًا للنظر. فكنيته مركبة من اسمين متناقضين: حبشي وأشقر في الوقت نفسه. اسم أقرب إلى شخصية من عهد «القائمقاميتين» أو «المتصرفيَّة» (نظاما حكم أقرتهما الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بهدف فصل جبل لبنان من الناحية الإدارية عن بلاد الشام). «تتوزع عائلة الأشقر في عدد من قرى المتن الشمالي، ومن بينها ضيعتنا بيت شباب. كان أهل القرية، على سبيل الفكاهة، ينادون جد العائلة بالحبشي لشدِّة بياضه، ومع الزمن صرنا نُعرَف بآل حبشي الأشقر» – مايا يوسف حبشي الأشقر، من مقابلة أجريتها معها”.
ويواصل: “لكن لا يمكن اعتبار الغياب شبه التام ليوسف حبشي الأشقر وأدبه عن الساحة الثقافية اللبنانية حالة استثنائية. فحاله كأبناء جيله الذي ظهر بعد جيل عصر النهضة (ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ومارون عبود…)، وسبق جيل روائيي الحرب (إلياس خوري وجبور دويهي وهدى بركات…)، كأن ولادتهم في الزمن الفاصل بين حدثين مؤسِّسين جعل حضورهم خافتًا، لا هم أبناء النهضة، ولا أبناء الحرب الأهلية. معزولون بين القوميين (على اختلاف توجهاتهم) والشيوعيين، بين اليمين واليسار، دون انتماءات سياسية واضحة”.
ويؤكد: “على الرغم من ذلك ستجد اسم حبشي الأشقر حاضرا في مقالات نقدية ودراسات أكاديمية متفرِقة بوصفه أبا للرواية اللبنانية الحديثة دون توسع حقيقي في شرح هذا الوصف أو توضيحه. قرر يوسف الأشقر الكتابة باللغة العربية رغم حضور اللغة الفرنسية الطاغي بتأثير الانتداب ونزعة التغريب”.
ويحكي عن سيرته: ” في قرية بيت شباب المتنية، المعروفة بحجارة منازلها البيضاء، وقرميدها الأحمر، وصناعة أجراس الكنائس التي تعود إلى القرن الثامن عشر، وُلِد يوسف حبشي الأشقر، في 1929، لأب صحفي وأديب هو إميل حبشي الأشقر الذي أسّس أكثر من مجلة وجريدة وكتب فيها. ألّف الوالد إميل 14 رواية تاريخية، على منوال جرجي زيدان، متناولا محطات في التاريخ الإسلامي وقبله وبعده، من «زينب ملكة تدمر» و«هند والمنذر» إلى «فاجعة كربلاء» و«السفاح والمنصور». كان من الطبيعي في بيئة كهذه أن تنشأ لدى يوسف الطفل الرغبة في الكتابة. على وقع المطر المنهمر في الخارج، وتحت ضوء القنديل، بدأ يوسف الكتابة في غرفة الضيوف المعروفة باسم «الدار».
بنبرة هادئة، ونظرةٍ لا تخلو من الحنين، يروي الرجل في مقابلة مع تلفزيون لبنان ما يتذكره عن تلك الليلة: صراخ والدته خوفًا عليه من البرد، ودخول والده عليه وسؤاله عن ما يفعله. «قلت له عم أكتب. قال لي شو عم تكتب؟ قلت له قصيدة. قال لي اقرأها، قريتها، قال لي منيحة، كَفِّي». يتابع: «سألته الوالدة ليه ما جبته؟ قال لها عم يكتب. قالت له هلأ بيبرد. قال لها معلش، ما دامه عم يكتب خليه يبرد». كتب حبشي الأشقر قصيدته الأولى خلال أعوامه الأخيرة في مدرسة القرية قبل انتقاله في 1944 إلى مدرسة «القديس يوسف للآباء اليسوعيين» في بيروت. كانت تلك المرة الأولى التي يترك فيها بيت شباب ليسكن مع عمته في بيتها الزوجي. خلال دراسته واصل اهتمامه بالشعر ليصدر مع زميله فرنسوا عقل، في المرحلة الثانوية، مجلة «ونحن» الأدبية التي نشر فيها قصائد يغلب عليها الطابع الرومانسي”.
شديد التدقيق..
تروي “مايا حبشي الأشقر” أن والدها كان شديد العناية بنصه، يقضي وقتًا طويلًا في كتابته وتنقيحه، لذلك كانت تفصل بين رواياته فترات طويلة تصل إلى 10 أعوام أحيانًا. وكونه موظفًا من الدرجة الثالثة بالدولة ساعده على ألا يكون مضطرًا إلى أن يعتاش من كتابته. لذلك غاب الأشقر سبعة أعوام بعد نشر روايته الأولى ليعود في 1971 مع ثاني أجزاء ثلاثيته الروائية «لا تنبت جذور في السماء» الممتلئة بالأسئلة الميتافيزيقية والسياسية والاجتماعية. حازت هذه الرواية اهتمامًا نقديًّا واسعًا في لبنان، إذ اعتبرتها إميلي نصر الله «قفزة بعيدة في مسيرة الرواية اللبنانية المعاصرة»، وأن الكاتب «استخدم وسائل جديدة في اللغة والأسلوب». وصلت أصداء الرواية إلى مصر. يروي الناقد المصري غالي شكري كيف عرَّف نجيب محفوظ إلى أدب حبشي الأشقر: «كانت قد صدرت له روايته الثانية (لا تنبت جذور في السماء) التي فرحت بها فرحًا شديدًا، وأعطيت نسختي إلى الأستاذ نجيب محفوظ، فقرأها وقال لي: كيف لا نعرف هذا العبقري؟ إنه روائي فذ. فأعطيته الرواية الأولى، فقرأها أيضًا، وكرَّر: كيف تظلمون مثل هذا المبدع العظيم؟ فهو غير معروف عند القارئ المصري».
الظل والصدى..
في مقالة بعنوان (مواسم حصاد النبيذ..15 عاماً على رحيل صاحب «الظلّ والصدى») يكتب “بيار أبي صعب”: “عاش يوسف حبشي الأشقر في الظل، موزعاً بين الميراث الريفي، ونداء المدينة. عاش مسكوناً بهاجس الموت، ورحل بصمت بعدما نقل الرواية اللبنانيّة من زمن إلى آخر.
ترى لو لم تنشب الحرب… كيف كان سيموت إسكندر، بطل ثلاثيّة يوسف حبشي الأشقر؟ الحرب هي الحرب الأهليّة طبعاً وتلك التي اختار البطل (مثل خالقه) أن يبقى خارجها حتّى الأخير. كيف يمكن للمرء أن يبقى خارج الحرب؟ أن يعيش ويموت بمعزل عن هذا الخطب الجلل الذي غيّر أفقه ومشاعره، وخلخل عالمه الداخلي ومشروع وجوده؟ ذلك أنّ الكاتب الراحل الذي تحتفي الأوساط الثقافيّة العربيّة اليوم بالذكرى الخامسة عشرة لرحيله، لم يكن فقط «ضدّ» الحرب، كما يردد الجميع استناداً إلى روايته -الوصيّة «الظل والصدى» (1989)، ومجموعته القصصيّة «المظلّة والملك وهاجس الموت» (1980). لقد حاول أن يبقى «خارج» تلك الحرب، أي على الحياد. «المحاولة» بحدّ ذاتها، إشكاليّة أدبيّة (وسياسيّة)، بل دراميّة أساساً، مقلقة، ومثيرة للإعجاب، وحافلة بالعلامات”.
ويضيف: “هكذا عاش ومات يوسف حبشي الأشقر، قدم في القرية وأخرى في المدينة. جذور في الريف وعين على الحداثة. مثل بطله إسكندر في «لا تنبت جذور في السماء» يقرأ موتزيل ويعاين صخب المدينة، علماً بأنّ جزءاً أساسيا منه ما زال مرتبطاً بالرحم، هو الباحث عن «الجذور». قل لي مما تهرب، أقل لك من أنت. إلى القرية سيعود ليموت، بعد رواية و١٧ سنة من الحروب. اندلاع الحرب يضع الزمن بين هلالين، ويغطي بالخيش الأبيض أثاث البيت إياه الذي شهد صولات الزمن السعيد وجولاته، وجوهه الأليفة «رفقة التيه في التفتيش عن الطريق». أيام الصراعات العاطفيّة والوجوديّة والحزبيّة، أيّام الشباب والكيف في فورة السبعينات، على حافة البركان… مع الحرب، صار «المطرح الحلمي، مطرح حزن وانحلال». لقد شاخ بطلنا ودخل في قطيعة مع العالم الخارجي، في عزلة صارمة هي الإدانة الوحيدة الممكنة لما يجري”.
دفتر الحرب..
وفي مقالة بعنوان (قراءة في دفتر الحرب) يكتب “عبد المجيد زراقط”: “يوسف الأشقر يلفت في تاريخ الرواية اللبنانية المتعلّقة بالحرب الأهلية أنّ محمد عيتاني أنهى روايته «حبيبتي تنام على سرير من ذهب» بفصل عنوانه «نحو العاصفة»، إذ إنّ المجتمع اللبناني- كما تمثّل في الرواية – كان يتجه نحو عاصفة الشرّ (الموت). ما استشرفه عيتاني حدث، وقامت الحرب التي تدور أحداث رواية يوسف حبشي الأشقر «الظل والصدى» في فضائها ومناخها. وهو الفضاء/المناخ الذي أفضى إليه المسار الروائي لثلاثية الأشقر الممتدّ من «أربعة أفراس حمر» فـ«لا تنبت جذور في السماء» إلى مقدّمة «الظل والصدى».
ويضيف: “في هذه الرواية الأخيرة، يعاين القارئ الحرب (الشرّ)، بوصفها قوة قاهرة تتحكم بمصائر العباد والبلاد كأنها قدر لا يقاوم، وقد صُوّرت أدوات هذا القدر (أمراء الحرب) في الرواية في صور جعلت غير قارئ يسأل الروائي «كيف تجرؤ، وأنت تعيش بينهم؟». أجاب يومها: «من حسن الحظ…» ثم صمت لحظة، وأضاف بعدما هزّ رأسه وابتسم ابتسامة ساخرة: «… أو من سوئه أنهم لا يقرأون!». تعيد هذه الإجابة إلى الذهن صورة سياسي كان يقلّب ورقة بين يديه، على شاشة التلفاز، ويقرأ «مُستطيَر» وهي وصف لـ«شرّ» الحرب المستشرَف من سياسيّ آخر. فسواء كان هذا السياسي لا يجيد القراءة فعلاً أو كان يسخر، فإن الحرب/الشرّ التي عشنا ويلاتها وقرأناها، لم تعلّم، كما يبدو، أمراء الحرب القراءة التي تجعلهم يمضون في خط آخر، أراد إسكندر، الشخصية الرئيسية في «الظل والصدى»، أن يمضي الوطن فيه”.
التمزق الوجودي..
في حوار أجري معه في التسعينات يحكي “يوسف حبشي الأشقر”: “”مجموعتي القصصية الأولى نشرتها في العام 1952 بعنوان “طعم الرماد”. أما مجموعتي الثانية فكانت بعنوان “ليل الشتاء” وكتبتها تحت إلحاح شك عصف بي، فجعلت أرى الصدفة في أصل الوجود وأساسه. وربما كان في أصل نظرتي هذه إلى الوجود والعيش ما حصل لي مرة في ساحة البرج. اذكر أنني كنت خارجاً من محل لمسح الأحذية حين طالعني فجأة عراك بين رجلين في الشارع، فتدخلت بينهما لفض عراكهما. لكن واحداً منهما كان عاجل الآخر بطعنة في بطنه. وحين حضر رجال الشرطة اقتادونا نحن الثلاثة إلى المستشفى حيث التقيت، صدفة، الفتاة التي كنت أحبها في العام 1948، وكانت قد مضت سنوات أربع على افتراقنا وذهاب كل منا في طريق. أروي هذه الحادثة لأبين كم اجتمعت من الصدف في ذلك النهار كي التقي بفتاة كنت أحبها ولم أعد أراها منذ سنوات أربع؟
إصراري على اقتفاء أثر الصدف في رسم مصائر البشر وحيواتهم قادني إلى حالٍ من التمزق الوجودي الذي كان العيش في المدينة إطاره وعنصراً أساسيا من عناصره. وحين أقول التمزق الوجودي أعني التساؤل عن مصير الكائن الذي يعيش في غربة عن ذاته في عالم المدينة. لذا كان عليه أن أبحث عن خلاص من هذه الحال التي لم ألق خلاصاً منها إلا في عالم القرية التي كنت انسلخت عنها وباعدت السنوات بيننا. في صيف العام 1957 عدت إلى بيت شباب مسقط رأسي ومهد طفولتي وملعب صباي، حاملاً أسئلة تمزقي الوجودي الذي عانيته في المدينة، فكتبت عودتي إلى الجذور واستعادتي صلتي المنقطعة بها، فكانت مجموعتي القصصية الثالثة “شق الفجر” التي حاولت فيها الاقتراب من السلام الذي يكتنف الحياة في الريف. لكن ذلك لم يشفني عما أنا فيه، لأن المدينة كانت بدأت تنتقل إلى القرى، وهكذا وجدتني في حال من الضياع لا قرار له”.
ويواصل: “وفي العام 1964 نشرت روايتي الأولى “أربعة أفراس حمر” التي شكلت انطلاقة جديدة في عملي الكتابي، فأحدثت ضجة في أوساط بيروت الأدبية. روايتي الثانية هي “لا تنبت جذور في السماء” ونشرت مجموعة قصصية بعنوان “المظلة والملك وهاجس الموت” في العام 1982. وهذه المجموعة أحب كتبي جميعاً إلى قلبي. أما “لا تنبت جذور في السماء” فكنت بدأت في تحضير مادتها منذ العام 1971. ذلك لأن رواياتي تبدأ بعمل تقميشي يستغرق سنوات قبل أن ابدأ بكتابتها كتابة أولى.
في البداية تحضرني فكرة عامة للرواية فأشرع في جمع مادتها من الصحف ومن وقائع الحياة اليومية فأسجل انطباعاتٍ وملاحظات على غير هدى ومن دون صياغتها في قالب محدد. وحين انتهي من هذا العمل أعود إلى ما تجمع لدي أغربله حذفاً وزيادة قبل أن أشرع في الكتابة الأولى التي تتلوها إعادة كتابة، ربما يصل عددها إلى أربع. هذا ما فعلته في “لا تنبت جذور في السماء” التي بلغ حجم مسوداتها أربعة أمتار من الورق. وهذا ما فعلته أيضا في روايتي الأخيرة “الظل والصدى” التي كنت شرعت في جمع مادتها منذ العام 1974″.
وفاته..
توفى “يوسف حبشي الأشقر” في1992، وخلال عودته إلى القرية من عمله بـ«الضمان الاجتماعي»، في بيروت، حيث أصيب بنوبة قلبية.