خاص: إعداد- سماح عادل
“يوسف الصمعان” ناشر ومترجم سعودي.
ولد في 24 سبتمبر 1970 نشأ في السعودية، وأنهى جميع المراحل التعليمية فيها، وعند وصوله للمرحلة الجامعية حصل على الزمالة الكندية في اختصاص الطب النفسي، وكذلك زمالة المعهد الوطني الأمريكي في الاختصاص نفسه.
عمل كاستشاري في الطب النفسي بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في الرياض، كما ترأس تحرير مجلة “حكمة” الإلكترونية، المختصة بترجمة المقالات الثقافية والفلسفية. وحصل على جائزة العلماء الشباب من الكونغرس العالمي والكونغرس الأوروبي للفصام. وكذلك جائزة العلماء الشباب من جمعية الطب النفسي الكندية والجمعية الأميركية للطب النفسي البيولوجي.
واشتُهر بترجمة عدة مؤلفات ومقالات متعلقة بعلم النفس، من أبرزها: “جنون من الطراز الرفيع: الكشف عن الترابط بين الزعامة والأمراض العقلية”، و”الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي”، و”فرويد وأتباعه”. بالإضافة إلى “عن متلازمة الغطرسة وأمراض زعماء الدول خلال السنوات الـ100 الأخيرة”.
وأثرى الساحتين الثقافية والطبية بعديد من الأعمال التي تخدم المجالين الثقافي والطبي، فأسس دار “جداول” للنشر والتوزيع عام 2010، كما ترجم عديداً من المقالات والكتب، وترأس تحرير مجلة “حكمة”، وهي مجلة إلكترونية تعنى بترجمة المقالات في الثقافة والفلسفة.
وقالت دار “جداول” للنشر عبر منصة “إكس”، “بمزيد من الأسى ننعى إلى الثقافة العربية وناشريها، الرئيس المشارك لدار جداول، الناشر المترجم الدكتور يوسف الصمعان، الذي انتقل إلى رحمة الله بعد معاناة طويلة مع المرض، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجزيه الجزاء الأوفى على ما قدم للثقافة العربية”.
فرويد..
في الفصل العاشر حول الأيام الأخيرة لفرويد من كتاب (الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي) بول روزان بعنوان “أرذل العمر” ترجمة: “يوسف الصمعان”
1.المرض
توفي فرويد في الثالثة والثمانين من عمره عام 1939، وقد عانى في السنة الأخيرة من حياته من عملية انكماش طبيعية تدريجية وانهيار جسدي. ورغم ذلك كان حضور فرويد قوياً. فقد كانت ترافقه أيدي جدته الرقيقة فضلا عن أسلوبه الأنثوي المحدود. واصل مقابلة المرضى في المكتب ذاته وأثاثه القديمة التي عززت ثقل الأجواء. (بدت الزخارف في شقة عائلية مملة وتعكس ذوقا عتيقا إلى أبعد حد). كان في غرفة عيادة المرضى محاطا بآلهة الحضارات البائدة، وكان قد جمعها على مر السنين.
كان فرويد يعود مرضاه مع عدد من أتباعه وزملائه لسنوات، وقد خيم السرطان على آخر ستة عشرة سنة في حياته. وتظهر صوره أخذت له في أيامه الأخيرة مخلفات الألم الذي ألم به في فمه، فقد تقلص حجم فكه تحت تأثير العمليات المتتالية التي أجريت عليه لإزالة الأنسجة ذات المظهر المشوه. وكان يجد صعوبة كبيرة في التحدث حتى اعتقد كثيرون بأنه كان يعاني من سرطان اللسان.
لما تضرر فم فرويد صار كثيرا ما يلمس بأصابعه الفك الاصطناعي حتى يعدل موضعه. وكان من الطبيعي جدا أن ينشغل بفمه ثم ما لبث أن صعُب عليه التعبير عن أفكاره شفوياً حتي اضطر إلى التعبير بيديه وبإيماءاته لكي يتغلب على صعوباته في التحدث. وبالإضافة إلى ذلك، واجه صعوبات في الأكل. وفي عشاءه، الوجبة الخفيفة في فيينا، كان يأكل بيضة مسلوقة، وكان أكثر انعزالا، ولا يأكل مع الكثير من الناس. كان يأكل بسرعة وغالبا ما كان يقرأ جريدة أثناء تناول وجبته.
أقر بعض المرضى ممن كانوا يخضعون للتحليل، حوالي عام 1939، بعد مقابلتهم فرويد للمرة الأولى، بأنهم لم ينتبهوا إلى مرض فرويد. لكن أولئك الذين كانوا يعرفونه سلفا، لاحظوا في سنواته الأخيرة أنه لا يتكلم بحرية. ومع دنو نهايته، كانت كل كلمة ينطق بها تسبب له ألم وكان من الصعب فهمها.
خضع فرويد دون احتساب خلع الأسنان لواحدة وثلاثين عملية جراحية من 1923 حتى 1939. بالإضافة إلى التدخل المستمر لتعديل الفك الاصطناعي حتى لا يزعجه، ذلك أنه لا يمكن الاحتفاظ به خارج الفم فترة طويلة خوفا من انكماش الأنسجة وبالتالي التدخل لتعديله من جديد. وأمام تفاقم مشاكله، أجريت عليه عمليات على حباله الصوتية في شقه الأيمن. وعندما ذكر فرويد ” أسبوع الآلام ” في رسالة بتاريخ 1939، كان معنى ذلك أن وضعه الصحي سيئ للغاية. افتقد فرويد دائما للراحة وكان يعتمد على الأطباء، حتى باتت حياته مقيدة للغاية. وفي ذلك يقول إن: “الفزع الوحيدة الذي يسببه لي السقام الطويل يتمثل في توقفي عن العمل: أو بعبارة أكثر وضوحا، انعدام الكسب.”
بدأ حجم رأسه يتقلص، حتى صار أصغر وأنحف، من جانب من وجهه المصاب بالمرض. ووصف فرويد نفسه في 1939 ب “العجوز، والضعيف، والمنهك.” حتى أنه كما يقول: “على الأرجح أني لن أنشر أي شيء آخر إلا إذا تم الضغط عليّ لأفعل ذلك.” ولقد كان قادرا على مقابلة خمسة مرضى في اليوم. واحتفظ بحيويته المعهودة رغم من سوء حالته الصحية، وكان يمشي بطريقة صارمة حتى أنها تثير فزع تلاميذه. وبعد وقت قصير من إصابته بالسرطان أعلن فرويد على الملأ: “لقد طرأ تغير على وضعي بحكم الظروف. لم أكن فيما مضي واحدا من أولئك الذين لا يقدرون على كبح ما يبدو اكتشافا جديدا إلى أن يتم تأكيده أو تصحيحه لكن في تلك الأيام كان أمام وقت كثير أما الآن فقد تغير كل شيء”.
وفي نوفمبر 1923، وافق على اقتراح فيدرن بأن يخضع لعملية جراحية على خصيتيه في محاولة غريبة لفحص السرطان. كانت الفكرة للتغلب على قوى الموت بتعبئة غريزة الحياة، ورغم أن الطب الحديث يري أن السرطان يتغذى من بدن المريض وبالتالي كلما زاد المريض صلابة كلما أصبح السرطان على الأرجح أكثر فتكا. وافترض فرويد لفترة أن العملية والتعقيم الذي رافقها كان لها نفس نتائج العملية التي أجراها على الخصيتين، ولكن قد يعود ذلك إلى مجرد اعتبارات ذاتية، ذلك أنه لا يرى في ذلك أيّ جدوى على المدى البعيد.
وفي أبريل 1923 استشار فرويد أحد معارفه القديمة د. مركوس هايك عن ورم في فمه، وقد لامه هذا الأخير على تعاطيه التدخين، ولكنه لاحظ أيضا أنه: “لا يمكن للمرء أن يتوقع أنه سيعيش أبد الدهر.” وكان مقرر له عملية استئصال في عيادة خارجية، وطلب فرويد، قبل الجراحة بأيام قليلة، من دويتش فليكس، الخبير المختص في تشخيص الأورام. أن يفحص ورمه، وقد تخصص فليكس لاحقا (كما فعل غرودك وجليف) في تطبيق التحليل النفسي على المرضى عضوياً، وهو مجال الطب النفسي الجسدي الذي كان اهتمام فرويد به محدودا.
قال فرويد أثناء اطلاع دويتش على الورم: ” للأجل هذا أنا بحاجة لطبيب. إن تبيّن لك أنه ورم سرطاني، عليّ أن أجد وسيلة لائقة لأختفي من هذا العالم. ” كان الموت بالنسبة لفرويد أفضل من الحياة بدون كرامة، والسرطان ألم ومذلة ثم نهاية طال أمدها. لم يكن السرطان يمثل خطرا بعينه، ولكن أعرب دويتش فليكس كطبيب عن قلقه من احتمال أن ينتحر فرويد. وكان فرويد قد لمح إلى ذلك دون أن يكرر ذلك مرة أخرى بأي شكل من الأشكال.
وفقا لماكس شور الذي أصبح الطبيب الشخصي لفرويد منذ عام 1929، كان فليكس دويتش يخضع للتحليل مع بيرفيلد، وكان شور قد انتقد طريقة تصرف دويتش كعضو بجمعية فيينا، ورغم اعتراف شور في عام 1923 بأن سلوك فرويد تجاه مرضه كان قدريا على نحو غير عادي، فقد تعزز لديه الشعور بأن “فكرة الانتحار لم تخطر على بال فرويد قط…” ولقد استاء شور من أن يكون دويتش قد أخبر أحدا من عائلة فرويد حول إمكانية إصابة فرويد السرطان في فمه، ولقد أحزنهم كثيرا أن أخفى عنهم فرويد عمليته الأولى. بالإضافة إلى ذلك اعتقد شور أن هايك ليس جراحا ماهرا، لكن فرويد هو من اختار هايك وليس دويتش.
ورغم أن دويتش توجه مع فرويد إلى المستشفى، فلم يكن أحدا بجانبه عند إجراء العملية، وهذا أمر مشين: “تفاجأت العائلة بتلقيها مكالمة تليفونية من العيادة تطلب منهم إحضار بعض الأغراض لفرويد لأنه يقضي ليلته في المستشفى. فأسرعت زوجته وكذلك ابنته إلى هناك ليجدوا فرويد جالسا على كرسي المطبخ في قسم العيادات الخارجية وقد غطى الدم جميع ملابسه”.
كان الورم سرطانيا، لكن لم يذكر أي من هايك أو دويتش ذلك أمام فرويد (منذ البداية اعتبره دويتش ورم سرطاني صريح في مستوى متقدم). وقد تم فحص فرويد من أجل تشخيص مرضه عبر صورتين بالأشعة السينية حيث “تبيّن تعكر الحالة.” وقد كان لجرعات الراديوم المتتالية آثارا سامة خطيرة على فرويد. ولقد كان هايك يعالج فرويد “بغلظة” حتى أنه لم يكن يتحوط من تقلص الندب. إما لأنه كان لديه انطباعا بأنه بذل كل ما في وسعه، أو أن الورم قد استؤصل نهائيا، وإما أنه كان يعتبر الحالة منذ البداية ميؤوس منها”.
أمر هايك فرويد بأن يذهب في عطلة، ولكن فرويد لم يرغب في أن يقطع رحلته إلى إيطاليا للتداوي في نهاية يوليو كما رغب في ذلك هايك. اعتقد الطبيب المحلي بأن فم فرويد على ما يرام، ولكن فرويد استاء كثيرا من أن ابنته آنا أقنعته بأن يكتب لفليكس دويتش ليزورهما في ايطاليا لإجراء فحص. كما اكتئب فرويد إثر وفاة حفيده الحبيب في يونيو. وخطط فرويد لرحلة إلى روما مع آنا. ويعلم دويتش جيدا أهمية ذلك بالنسبة إليه. كان دويتش، الذي أصبح بعد ذلك طبيبا لفرويد، الرجل الطيب الذي لا يخبر الناس بالأخبار السيئة، كان يؤمن بإخفاء المرض عن المرضى الميؤوس من شفائهم.
وكان طلب فرويد منه أن يساعده على مغادرة الحياة بكرامة بمثابة أعظم عذر كان دويتش يحتاجه. وكان يتعامل معه أيضا بديكتاتورية، متوهما أنه يعرف أفضل ما يتعيّن عليه فعله تجاه حالته. ومع ذلك فإنه يرى ضرورة إجراء عملية أكثر جذرية، أسرّ بها أولا صديقه أوتو رانك ومن ثم لبقية الأعضاء في اللجنة، الذين عقدوا اجتماعا للنظر في الأمر، ولم يخبر دويتش فرويد بالحقيقة، وذلك رغم تأكيده لآنا ولأبيها على تمديد إقامتهما في ايطاليا، وقد خمنت ما حدث.
في غياب فرويد التقى دويتش جراح الفم، هانز بيتلز، الذي أجرى عمليات فرويد اللاحقة. وقد أكد هايك لفرويد أن العلاجات اللاحقة ستكون ذات طابع وقائي. وفي رحلة فرويد إلى روما، سال الدم من فمه بكثافة، واتسعت الأنسجة، وقد “خلف ذلك بلا شك أسى في نفس آنا وفرويد”. وفي الخريف كشفت الفحوصات عن وجود ورم خبيث مما استوجب عملية ثانية.
بعد سنوات عديدة أخبر جونز فرويد في لندن أن اجتماع الأعضاء في اللجنة في ايطاليا ناقشوا ما إذا كان يجب إبلاغ فرويد بالورم الخبيث. وبعيون محترقة سأل فرويد ” بأي حق؟ “.كان فرويد أكثر المرضى ضبطا للنفس، وقد صعق لما علم أن دويتش لم يخبره الحقيقة: إذ يعني ذلك أن فرويد تحت وصاية شخص آخر. وقد استشاط غضبا من دويتش، ومهما كانت مبررات أعضاء اللجنة، وأيّا كانت أسباب تحفظهم، فقد لام فرويد طبيبه على خداعه له.
وفي ربيع 1939، قبل أشهر قليلة من موته، لقد كان فرويد مستاء “فالناس من حولي، كما يقول، يحاولون أن يحيطوني بجو من التفاؤل إذ ما فتئوا يؤكدون على أن السرطان في تقلص، وأن العلاج لن يطول. لا أثق في أي منهم، ولا أحب أن أنخدع.” كانت الاستقلالية ثمينة بالنسبة لفرويد، و”أصر على دفع كامل الأجر لبيتشلر، كما فعل ذلك مع جميع أطبائه”.
وأما تصرف دويتش فقد رأى فيه فرويد تثبيطا لعزيمته في مواجهة الحقيقة. ورغم أن دويتش زعم في السنوات اللاحقة بأنه كان سيأتي الشيء ذاته مرة ثانية، إلا أن فرويد أبى أن يصفح عنه. وانسحب دويتش كطبيب لفرويد، وذلك رغم أن علاقتهما ما لبثت أن صارت من جديد على ما يرام. وفي السادس من أغسطس عام 1924، كتب فرويد لفرينشيزي يخبره بأنه كان يعلم منذ البداية بأن الورم كان سرطانيا.
كان قرار صعبا من وجهة نظر فليكس دويتش. وفي سنوات لاحقة تذكرت هيلين دويتش، عندما كانا هي وفليكس يتنزهان على شاطئ البلطيق في ريجا، مدى قلقه من قراره الذي اتخذه في إيطاليا. لقد علم مسبقا أن فرويد لن يكون سعيدا بإخفاء الحقيقة عنه، وسأل زوجته لمساعدته في تأويل نوايا فرويد وكان كلاهما يخشى إمكانية الانتحار. وفي نفس الوقت قدرا شوقه العظيم لروما، فلقد كان الورم محدودا للغاية ولا خوف من أيّ مضاعفات خطيرة بعينها قد تترتب عن السفر إليها.
خشي فليكس دويتش من أن فرويد قد يفضل الموت على أن يجري عملية مرة ثانية، ولذلك اعتقد بأنه يجب أن تُتخذ الترتيبات الضرورية للعملية الجديدة دون علم فرويد. ولاحقا ادعى شور أن “دويتش هو الذي لم يستطع ‘مواجهة الحقيقة’ لما رأى الآفة القبيحة في فم فرويد…”. لكن بالنسبة لدويتش كان فرويد المكافح الذي لا يستطيع أن يتحمل عجزه أكثر من عجز الآخرين. وبالنسبة لدويتش تبين بعد ذلك أن فرويد كان غاضبا منه خاصة لأنه استغل عجزه، ولقد رأى فيه الطبيب رجلاً يرهبه الناس العاديين وينبغي أن تؤخذ ردود أفعاله في الاعتبار.
وفي 1901 كتب فرويد إلى فليس يقول: “إنك تذكرني بذلك الزمن الصعب والجميل عندما كنت على حق في الاعتقاد في دنو أجلي، ولكن كانت الثقة التي منحتها لي هي التي شجعتني على البقاء. ومن ذلك الحين افتقدت الشجاعة والحكمة حقا.” وكان هذا الحادث في عام 1923 علامة على حساسية فرويد، ولما استأنف حياته السابقة واستطاع أن يزاول مهنته ويكتب ثانية، استطاع أن يواصل حياته ببطولة رغم علمه بإصابته بالسرطان ومعاناته منه.
ظل فرويد يتذمر من طبيبه السابق. وجاء في رسالة من فليكس إلى زوجته في أغسطس 1924 ما يلي: “حتى قبل أن يتحدث البروفسور عن إخفاء مرضه… مع الوقت… يجب أن يدرك أن انفصاله (عني) لا يمكن الدفاع عنه مهما حاول أن يدعمه بدوافع أخرى… لم يُثبت أناه أثناء مرضه أنه أهل للحب ولا أنه قوي كما يتظاهر بذلك. ولما تعافى، شعر بجرح عميق، وما كان له تحقيق مهمة إنعاش الأنا في خضم الضرر العضوي العظيم الذي لحق به، إلا باستبعاد الليبدو عمن كان شاهدا على عجزه. ولقد حاول أن يبرر تمنعه بحجة أن مرضه غير مؤكد. فلقد كان عليه أن يوجه لومه إلى شخص ما.
ومن خلال لومه المتكرر لدويتش قد يكون فرويد أدرك جيدا أن الشكوك الأولية جعلته يتحمل آلامه بصعوبة. ومن وجهة نظر دويتش، حرف فرويد الواقعة تماما: وأعتقد دويتش أن فرويد أراد لاحقا أن يطلع على كل التوقعات في أدق تفاصيلها. وهكذا استخدم دويتش ككبش فداء، ليحمي نفسه من النقد الذاتي.
أشار دويتش في رسالته هذه إلى زوجته كيف أن فرويد أصبح يميل إلى اعتزال الناس أكثر فأكثر، وشارك في كتابة سيرته الذاتية ومقال لموسوعة بريطانيكا. وقد يكون أصيب بالاكتئاب، فقد كان يقضي وقته في المطالعة بمنظار، يتأمل التلال المحيطة بالنهار والقمر والنجوم بالليل. وقد عانت عائلته من انعزاله. وبعد انسحاب دويتش كطبيب شخصي لفرويد كان يتشاور معه أحيانا في أمور طبية ودعاه للعب الورق معه. وقد احتفظت آنا به كطبيب شخصي لها. ولاحقا أهدى فرويد فليكس خاتما، وأخبره كما جاء على لسانه بأن “لا شيء يمكنه أن يفصل بيننا” (ومنذ مدة طويلة كتب فرويد لستيكل: “لا أعرف أبدا ما الذي يمكن أن يفصل بيننا.”
أكد ماكس شور، وكذلك فعل جونز، شجاعة ردة فعل فرويد نحو السرطان، ومهما كانت ردة فعله الفورية لما اكتشف ورمه التي شهد عليها دويتش، فإن تحمل فرويد لمثل هذا الألم كان بطوليا. وبعد سنوات، بعيدا عن استياؤه من دويتش، ظل فرويد دون طبيب شخصي. وفي عام 1929، كان شور المختص في الطب الباطني، يوشك على الانتهاء من تحاليله الشخصية التي شرع فيها منذ 1925 مع روث برونشفيك ومن أجل علاج ماري بونابرت، اتصل شور بفرويد بخصوص مرضها، وقد كانت هي (وربما روث برونشفيك) التي أقنعت فرويد بأن يتخذه طبيبه الشخصي. ووضع فرويد “قاعدة أساسية” لعلاقتهما وهي ألا يخفي شور الحقيقة عن فرويد مهما تكن مثبطة. ولما قال فرويد إنه يستطيع تحمل ألم أكثر وأقوى المهدئات غير المرغوبة، فقد كان يريد أن يتيّقن من أن شور لن يتركه، وإذا حان أجله فلن يكون للألم معنى. (ومع دنو أجله في 1939، ذكّر فرويد شور بوعده) وقد أخبر شور بأنه يتوقع أن يدفع ثمن كل العلاجات التي يتلقاها.
كان فرويد في تقدير شور مريضا مرنا، ولكن أمام مواجهة سرطان مثل الذي ألمّ به فإن كثرة تدخينه للسيجار هي التي كانت تقلق طبيبه أكثر. حاول فرويد أن يخفف مؤقتا من التدخين من لتفادي أيّ مضاعفات على القلب، وليس بسبب فمه. ولكنه لم يكن يستطيع الكتابة دون سيجاره، تتمثل مهمة شور الأساسية، وبمساعدة آنا، في إحداث تعديلات مستمرة على شريحة فرويد مشوهة الخلقة، والتي يُفترض أن تفصل جوف الأنف عن فمه ومختلف الجيوب، ينضاف إلى ذلك مهمة حساسة تتمثل في الكشف عن أورام جديدة يُحتمل أن تكون خبيثة، ورغم من أن فرويد تحمل البلادونا من أجل علاج المقعد التشنجي، فقد كان قليلا ما يستخدم أسبرين أو بيراموندن. وكان فرويد يكره التذمر، ولأجل ذلك أخلص له شور وأحبت آنا الاعتناء به.
* **
في أوائل مرض فرويد في أبريل 1923، كان حفيده هاينز رودولف “هينرلي” يعيش في فيينا. ولم يكن لماتيلدا ابنة فرويد البكر أولادا فأرادت تبنيه. وفجأة توفيت ابنة فرويد ووالدة الصبي صوفي بسبب أنفلونزا وبائية عام 1920. وكان الفتى قد أصيب في صغره بتعفن فيروسي في الأذن، سرعان ما تتطور إلى مرض السل. كان فرويد كريما مع الأطفال الصغار حيث كان يبحث عن أي سبب لإهدائهم هدية، فما بالك بحفيده الوحيد القريب جدا منه. والدته توفيت، وقد مثل موته أثناء مرض فرويد صدمة قوية له.
وفاته..
توفي “يوسف الصمعان” عن عمر 54 سنة بعد صراع مع المرض في 1 مايو 2024.