خاص: إعداد- سماح عادل
“يوسف أبو رية” هو كاتب مصري، اسمه “يوسف محمد شحاتة أبو رية” ولد في 1954 بمركز ههيا محافظة الشرقية، وتخرج في قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة عام 1977، وعمل بالصحافة ثم تفرغ في السنوات الأخيرة للكتابة وهو من أبرز كتاب جيل السبعينيات. فاز بجائزة نجيب محفوظ للإبداع الروائي من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2005، عن رواية “ليلة عرس” التي ترجمت إلى الإنجليزية. منحته جامعة المنيا في صعيد مصر درعها عام 2003 في احتفالية عنوانها: (العالم الروائي ليوسف أبو رية)، شارك فيها روائيون ونقاد تناولوا عالمه الإبداعي الذي شمل الرواية والقصة القصيرة وقصص الأطفال.
الضحية والجلاد..
في حوار معه أجراه “عبد النبي فرج” يقول “يوسف أبو رية” عن كيفية تشكل وعيه الروائي: “نشأت في مدينة صغيرة تسمى إداريا «المركز» بمحافظة الشرقية يتبعها عدد من القرى قد يتجاوز الأربعين قرية، وهي تشبه المدن الصغيرة المنبثة على خريطة الوادي والدلتا، فالمشهد المصري واحد ومتكرر، ومتشابه أيضا، عدا تمايزات قليلة واختلافات لا يعتد بها ترجع إلى اختلاف العملية الإنتاجية أو الموقع الجغرافي إلى حد ما، فمدن الساحل والمدن السياحية لها أنشطة مفارقة، وإن ظلت نواة المدينة نمطيا ومعادا.. كانت هزيمة يونيو هي انكسار لحلم الأب الذي نقلنا لمدة عامين إلى قريته هذه على أن يبني بيتا كبيرا، به حظائر للماشية ومناحل، ومراعٍ للأغنام، وأن ينشئ مسجدا يحمل اسمه.. والمدهش في الأمر أن هذه الإقامة المحدودة تركت أثرا عنيفا في تجربتي الحياتية والإبداعية، فقد وسمت عالمي الفني بالريفية القحة، لأنها ظلت بئرا أولى أمتح منها، ولم أزل، وقد بدا هذا جليا في غالبية المجموعات القصصية، خاصة «عكس الريح» كما تم التعبير فنيا عنها في رواية «تل الهوى» وهو الاسم الذي نحته لهذه القرية، راصدا فيها انهيار الحلم الأبوي بازدواجيته ـ الناصرية والأبوية، بالمعنى العضوي.. ولم يكن من منفذ للمعرفة غير بائع جرائد بائس، رأيتني أسعى إليه لابتاع مجلة «سمير» فيطالعني عبر رسوماتها الرائعة وجه جيفارا، ومارتن لوثر كنج، وهوشي منه وماوتسي تونغ… ثم قادني طه حسين إلى رفاق جيله، فطالعت الحكيم والمازني والعقاد والرافعي وقبلهم جميعا المنفلوطي، فسقطت في غواية اللغة، والشعر، وهنا كانت البداية للتجارب الأولى في عالم الكتابة”.
وعن الجنس في قصصه والذي يبدو وكأنه أداة قهر وتعذيب يوضح: “الأمر يتوقف على الزاوية التي ترى منها النص، فثنائية الجلاد والضحية ستظل قائمة طالما هناك وضع طبقي جائر، فالجنس قهر وتعذيب تتلقاه الضحية، كما يمكنه أن يصير فضاء للحرية، والانطلاق إذا- تمكنت من الانفلات، وسيطرت عليها روح التمرد.. في «الضحى العالي» قصة تدل على ما أقول «أيام الصبى والعانس»، حيث يكشف النص مدى التراوح بين الظاهر والخفي، فهذه المرأة تعطي للمجتمع وجها أخلاقيا للحفاظ على طهرها الظاهري بينما يكتشف الصبي الجانب الآخر، فتحدث الصدمة والضحية، وكلاهما ضحية لقانون غامض تضطر العانس لمجاراته حتى لا تتهم بالعهر.. وفي «عكس الريح» ترى في قصة «السقوط على الأرض» رؤية أخرى، فهذا العجوز يستطيع بماله أن يشتري زوجة شابة تناوش جسدها غريزة حية ويسكنها في بيته مع ولده الشاب من زوجة أخرى، فكان ولا بد من وقوع المحظور، ومن ثم فالجنس نوع من التحدي لكل ما هو بال وقديم، ونوع من عبور الحواجز فهو رد السوي على كل ما هو غير سوي واستثنائي.. وفي «ليلة عرس» يتحول الجنس إلى طاقة تحرر، وتحقق للعشق تدفع المتلقي للتعاطف معه في حالته السوية، لأنه نوع من الخلاص تتحقق به بهجة مبتغاة، أما الجنس الآخر المدبر فهو ممثل للقهر والتعذيب، فكما بدأت أؤكد أن الجنس ليس نوعا واحدا، حتى لو كان نوعا واحدا فإنه يقبل تعدد القراءة وهذا إثراء للنص”.
ليلة عرس..
و عن روايته «ليلة عرس» وتعدد العاهات لدى الشخصيات وهل هي تعكس عجز العالم يقول “يوسف أبو رية”: “لقد فوجئت مثلك بهذا المعرض، لم أقصده، ولم أخطط له سلفا، ولا أجد في نفسي إجابة شافية لتقليل هذا الأمر. لكن دعني أسرد لك اجتهادات بعض النقاد في هذا الأمر. أول من فاجأني برصد هذه العاهات د. جابر عصفور فقد عددها في مقاله «الأعرج، الحنفاء، العمياوات، العوراء، العنين» فضلا عن الشخصية الرئيسية حودة الأخرس، وتساءل هل استدعى البكم كل هذه العاهات؟ وقال أن الرواية عن عالم هجين تتصارع فيه عناصر القرية والمدينة، إذن فهو عالم شائه استدعى كل هذه التشوهات، وقريب من هذا الرأي كتب د. محمد برادة بعد رصده للعاهات المذكورة، وقال أنها شخصيات افتقدت عضوا من أعضائها وظلت رغم ذلك شخصيات حية متسقة مع حياتها لا تشعر بنقص ما.. وطبق د. شاكر عبد الحميد فكرة المسخ على العالم المطروح كلية، وتناول فكرة الغياب على مستويات مختلفة، وذكر أن افتقاد الحاسة أو أي عضو جسدي تمثيل آخر لصور الغياب المتكررة.. هذه قراءات متعددة ومتباينة ما يخصني بشكل شخصي، أن هذا الكائن الذي يؤلف لنا والكامن بداخلنا، قد يفاجئنا بأمور لا ندركها بوعينا، فهو يعمل وفق نظامه الخاص، مصدره النبع البعيد للعقل الباطن، ويمنحنا رسائل قد تبدو غامضة، لكنها قابلة للاجتهاد والتفسير بمقاربات مختلفة ولا يمثل الكاتب أحد أطراف هذه القضية المعقدة لأنه يقول كلمته في نصه الإبداعي، ثم عليه أن يصمت، ليستمع جيدا للآخرين”.
وعن المرأة في «ليلة عرس» يواصل: “عند قصة قديمة اسمها «الملاك» عن فتاة وقع في عشقها كل أبناء الحي، ردد لها الفلاح المواويل وكتب لها التلميذ نصا من كتابه المدرسي، والغرباء الذين افترشوا ظلة دارها ليتناولوا غداءهم قضموا أيديهم بدلا من اللقمة ـ حين أطلت عليهم من شرفتها ـ والحاوي الذي ظل يوهم الناس بعبور الطوق بين النار والسكاكين فعل ذلك في قفزة حين رآها مقبلة نحوه.. هل هناك ـ في الواقع ـ امرأة كهذه؟ أشك. ولكن النص الإبداعي قد ينحاز إلى امرأة معشوقة فيتجاوز بها، وتصير كنساء الأحلام، تجد هذا في شخصية «فكيهة» في «ليلة عرس» فهي المرأة المثال المرغوبة دوما، دون اكتمال التحقق، على النقيض مثلا تجد امرأة أخرى نموذجا للقبح والدمامة مثل «عزيزة الخنفا».. وعلى كل حال فإن العمل الإبداعي مهما ادعى اقترابه من الواقع هو تجاوز له وخروج عن تبسيطه وابتذاله، فلعلك تقصد ببطلات السينما «المثال» لصورة المرأة”.
الفانتازيا..
وعن لجوءه إلى الفانتازيا في كتاباته يضيف: “لم أكن واقعيا بحتا في يوم من الأيام والواقعية مصطلح يحمل تدرجا متنوعا، ولا يمكن تحديده في أسلوب واحد، حتى الكاميرا غير واقعية، يمكن بزاوية الالتقاط إحالة ما هو موضوعي إلى شكل سحري، علاقته بالأجزاء المكونة له.. إن النص الإبداعي لدي منذ مفتتح «الضحى العالي» وأرجو أن تعيد قراءته لا يمكن وصمه بالواقعية ولأنني انتمي إلى عالم يخلط ما هو واقعي بما هو خرافي وسحري وأسطوري، كان النص مستجيبا للمصدر الأول في عقول البشر الذين قضيت بينهم طفولتي وصباي، إنهم يؤمنون بتحليق النعوش، والسير على الماء، وأن القطار روح يسري بين جدران بيوتهم، وإنهم يعتقدون في «عمولات» المشعوذ والدجال ويمرون أسفل بطن الجمل للقضاء على العقم، وأن أرواح الأسلاف لا تغادر منازلهم.. فجاء النص مستجيبا لهذا المزج بين ما هو خرافي وغيبي، وأحيلك إلى «طلل النار» و«غياب في التراب»، وغيرهما على سبيل المثال”.
وعن شخوصه التي تنتمي إلى الطبقة المهمشة يبين: “لا أكره شيئا في حياتي كراهيتي لهذه الكلمة المقحمة «المهمش» والـ«المهمشون» أو ما يتردد على ألسنة رجال الدولة، فيطلقون عليهم «محدودي الدخل»، لقد جاءت بدائل لكلمات زمن المد الاشتراكي، الفقراء والطبقة الكادحة، العمال والفلاحون. كيف يكون مهمشا وهو في قلب الحياة، هو مهمش وهو بؤرة الحدث، ومستقبل الصراع ؟ إنها صفة جاءت من عل، من طبقات ضعيفة الأصل، محدثة نعمة، تسيج حياتها بأوهام القوة والنصر، وتحتقر كل ما هو جميل وحي، لا تملك ذائقة فنية، ومعادية للثقافة الرفيعة.. والكتابة عن الطبقات الفقيرة قديمة قدم الكتابة نفسها، ماذا تقول عن جوجول أو تشيكوف، أو ماركيز، وآمادو، وفوكنر، وشتاينيك، ماذا تقول عن «المعذبون» عند طه حسين، أو نجيب محفوظ، ويوسف إدريس صحيح أنا لا أنتمي لهذه الطبقة، ولكني لا أتعالى عليها، كتبت عن مأساة طبقتي في سقوطها المروع بعد رحيل الأب المؤسس «عبد الناصر».. ولكن مع ذلك أميل للكتابة بمحبة فائقة عن أجير أبي وعامل طاحونته أكثر من ميلي للكتابة عن الأب ذاته الذي حمل في سلوكه نزعة طاغية، في حدود وضعه الطبقي، وحين وصفته يوما أمام أصدقائه بأنه هو الذي يمثل الإقطاع في جبروته لا الباشا صاحب الأرض، حزن حزنا شديدا، وأسف على إكمالي تعليمي، وقال لأصدقائه وهو يضرب الكف بالكف: علمته من أجل أن يصفني بالإقطاعي”.
هموم الريف المصري..
وفي مقالة: (يوسف أبو رية تم اغتياله حياً) يقول “محمد عبد الله حسين”: “يوسف أبو رية تم اغتياله وهو حي، وفي مرضه لم تقف الدولة بجواره ولا وزارة الثقافة, والحقيقة أن عدد من أعضاء اتحاد الكتاب حاولوا مساعدته ووقفوا بجانبه, فأبو رية كان بحاجة لعملية صعبة ومكلفة جداً، واستطاع اتحاد الكتاب أن يقوم بتدبير المال اللازم لإجراء العملية، ولكن القدر لم يمهله الوقت لإجراء العملة ليفارق الحياة في 14 يناير لعام 2003”..
وعن كتاباته يواصل: “إن هناك صراع جلي داخل كتابات أبو رية فكان هناك تيمة متبعة من أول رواياته حتى آخرها, فطالما كان هناك صراع بين طبقة المهمشين والطبقات الأعلى، وذلك بسبب الأوضاع السائدة من قهر مادي وسياسي واجتماعي، وكل هذه الأوضاع استطعنا أن نلمسها في إبداعات أبو رية.. إن السرد في روايات أبو رية جعل رواياته منفتحة على فنون أدبية أخرى منها السيناريو, والمسرحية وفنون أخرى, فمن السهل أن تتحول روايات أبو رية لأفلام , فأبعد ما يمكن قوله عن روايات أبو رية أن بها رتابة في السرد، إن أبو رية من نوعية خاصة من الكتاب الذين انفتحوا على عوامل أدبية جعلت لكتاباته سمت خاص وخصوصاً رواية “ليلة عرس”..إ ن أبو رية اهتم بالتعبير عن الواقع المصري, بداية ب”عطش الصبا” و”الجزيرة البيضاء” وحتي “ليلة عرس” والتي حصل عليها على جائزة نجيب محفوظ، وتعتبر هذه الرواية درة تاج أعمال يوسف أبو رية, فاستطاع خلال هذه الرواية أن ينفذ إلى أعماق شخصية “جودة الأخرس”، ويصور ما هو مكنون بداخله من كبت وضيق تجاه المجتمع, ويرى أبو رية أن هذه الرواية من أكثر الروايات إثارة للجدل, هذا إلى جانب عدد من الروايات منها “عاشق الحي” والتي تناول فيها الأسطورة الفرعونية الإله “بس”، وهى الأخرى أثارت الكثير من الجدل ودارت حولها الكثير من الآراء النقدية.. يجب أن نفرق في كتابات أبو رية بين مرحلتين مرحلة ما قبل “ليلة عرس” وما بعد “ليلة عرس”، فليلة عرس شكلت طفرة في شكل الكتابة عند يوسف أبو رية, ومجموعة “طلل النار” وغيرها من كتابات ترجمت اهتمام ابو رية بواقع القرية المصرية وتصوير واقعها ومعاناة الفلاح المصري, وذكر عبد الله أن القدر لم يمهل أبو رية الفرصة لإتمام آخر أعماله”.
وفاته..
توفي “يوسف أبو رية” في 13 يناير 2009، عن عمر 55 عاما بسبب مرض سرطان الكبد.