25 ديسمبر، 2024 5:21 م

يسرى العبادي.. تعاملت مع لوحاتها باعتبارها كائنات حية

يسرى العبادي.. تعاملت مع لوحاتها باعتبارها كائنات حية

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“يسرى العبادي” فنانة تشكيلية عراقية. ولدت في مدينة الديوانية عام 1961، حاصلة على شهادة البكالوريوس من أكاديمية الفنون الجميلة بغداد 1985. شاركت في العديد من المعارض منها في دبي الكويت عمان وألمانيا وفرنسا وأمريكا واسبانيا. عملت رسامة في جريدة بغداد 2002، وجريدة الأديب 2004، وجريدة الحقيقة 2003، عملت اختصاصية تربوية في وزارة التربية العراقية. أقامت المعرض الشخصي الأول بعنوان اشراقات على دار أفق/ 2002، والمعرض الشخصي الثاني/ 2003. شاركت في كافة المعارض المقامة داخل العراق وآخرها المعرض الخاص بيوم المرأة 2005 على قاعة الواسطي.

فضاء اللوحة..

في مقالة بعنوان (الفنانة يسرى العبادي والاشتغال على فضاء اللوحة)  كتب “مؤيد داود البصام”: “يقترب عالم الفنانة يسرى العبادي من فنتازيات الطفولة والعفوية وروح البراءة التي تلاحقها عبر ألوانها وخطوطها ونصوصها، فهي تبحث وتلاحق عالم البراءة والطفولة الذي ما زال يحمل الكثير من الأسرار التي تثير الدهشة والتأمل وروح العفوية، منذ حاول الفنان خوان ميرو نقل أحلام الطفولة، ورؤاه الحلمية بلا وعي وبدون أن يتحكم الوعي في حركة اليد على ظهر اللوحة، من أجل إطلاق وبعث الفرح والعفوية الطفولية من الأعماق السحيقة للذات البشرية التي تكدست عليها إثقال الحياة عبر الزمن المعاش،  وبأعماله ولدت مدرسة فنية تتبع أعماق الذات وتهتم بالرؤية الذاتية.

وكان ظهور هذه الأعمال الفنية والأدبية مصاحبا لظهور مدرسة التحليل النفسي والبحث عن الذات في بداية القرن العشرين، وهي الإشكالية بذات الرؤية التي جعلت الكثير من الفنانين يحلمون للوصول إلى هذه اللحظة وتجلياتها والعودة للفطرة والطبيعة الأولى، ففيها هذا المحمول للقيم الجمالية التي تأسر العقل وتشحذ الوجدان، ففي مرحلة الطفولة تخيلات يحاول فيها الطفل جر الانتباه له، وهي أفعال أو لغة يصعب التفكير أو قراءة انتمائها لأنها تمثل لحظة الدهشة واكتشاف العالم الذي لم ير بكل إبعاده.

فالرؤية لدى الطفل شمولية وخيالية فيها من الاتساع ما لا يمكن أن يصل إليه الراشد،  لهذا تشكل هذه اللحظات للراشد أحلام تعبر  خاطر الإنسان فتثير شجونا كانت كامنة تتكدس فوقها عشرات اللحظات والأحداث التي حفرت ندوبا سحيقة في أعماقه التي عاشها خلال نضجه، تتحرك من الأعماق لترتفع لحظة احتدام ثقل الحياة والواقع ومحاولة الهروب من ضغوطات الواقع”.

ويواصل: “ولعل العناوين للمعارض الفردية أو الثنائية التي عرضت فيها الفنانة يسرى العبادي أعمالها تحيلنا إلى هذه الأبعاد التي تشتغل عليها، وتحاول إيجاد المعادلة الموضوعية بين قدرتها في السيطرة على ما حصلت عليه من المعرفة والتجربة المتراكمة خلال دراستها للفن وبين الرؤيا الطفولية لأحلام ومخيال لا يحده حدود.

كم من الذكريات محجوزة في جوف غرفة الذاكرة في أعماق العقل البشري، يتسع جمالها لتغيير رؤية الواقع بغير ما هو عليه، وهي تحاول الانتماء إلى تلك اللحظات والوصول إليها عبر اللون والخط وإعادة صياغة الحركة للشخوص، وإغداق هذا الوجود المحتدم بالصراعات والمشاكل والهموم اليومية لواقع الحياة العصرية بكل ما يحمله من ثقل، محاولة للوصول إلى البهجة والسعادة العفوية التي تحملها الألوان والخطوط والأشكال وحركة الشخوص، ويحرك جزء من السرور والدهشة التي تمثلها براءة الطفولة وعفوية الطرح والبناء الذي تشيد عليه اللوحة كما لو كان عالم ديزني لاند أو سنو وايت وأقزامها السبعة”.

رؤية عفوية..

ويفصل عن ماهية عملها في الفن التشكيلي: “اشتغلت الفنانة يسرى العبادي، على فضاء اللوحة الذي احتوى التشخيص والمنمنمات لإشكالها المتنوعة من إزهار وحيوانات وإشكال زخرفية مختلفة، وتحركت في تشييد اللوحة وفضائها على وقع الرؤية العفوية بما قدمت شخوصها ورموزها الطفولية مع مفردات من الأشياء بصور الجمادات أو الأوراد أو مجموعة المنمنمات التي استقتها من المخزون الصوري الشعبي والفن الإسلامي، أشكال تحلق في الهواء بصورة هلامية، لا قاعدة أو أرض لها سوى تحقيق هذا البعد التعبيري، للتحرر من مثقلات الحياة، باستخدام التبسيط والاختزال والفنتازيات.

وفي معظم أعمالها كان للتشخيص الطفولي بحركاتهم وإشكالهم ووجودهم في عالمها الخاص، الطابع الغالب على أعمالها وإن افترقت أعمالها في كل مرحلة بين معرض وآخر بحجوم اللوحة، ظلت لفترة تقدم بإحجام صغيرة ثم انتقلت إلى المساحات الكبيرة أو بتغيير الأنماط التي تتعامل معها والتشخيص (الفكرات )، إلا أنها ظلت تبني لوحتها على أساس الفرحة والعفوية وأشكال ما يسمى في المسرح (الفرجة).

اشتغلت على الألوان المبهجة والألوان الحارة بالذات، وعلى الرغم من وجود إعمال بخلفية ألوان باردة، إلا إن الطابع العام للإكسسوارات كان بألوان مبهجة وحارة، وهو ما أسست له بهذا المزج بين اللون الواحد وإدخال لون رديف يكسر رتابة اللون الواحد في خلفية اللوحة، وظل مسارها الحلم بإشكال الفنتازيات التي تلاعبت فيها نحو تحريك الرؤية البصرية لتعميق الناحية التعبيرية في لوحتها، متمثلة بين البساطة في النص وبين امتلاء اللوحة بدسامة اللون.

لقد كانت كما في معارضها السابقة تبرهن على قدرتها في استخدام اللون وإبراز قيمته للرؤية البصرية مما يجعل لوحتها بإبعادها الجمالية، ذات قيم جمالية ونصية مشتركة، وضعت الرؤية البصرية بكثافة الزخرفة لتحريك الجو العام للوحة، باختيارات المنمنمات والإشكال الفلكلورية من وقائع الحياة الشعبية، في منحى لتأكيد الفطرية والعفوية، كما نجدها في رسومات الأطفال، وبخلفية ما يشبه (الأزر) البسط الشعبية التي تنسجها أيدي فطرية، ولكنها رسومات تتشكل بتكوينات جمالية، فمن يمعن النظر في الإشغال الفلكلورية في الحياكة أو الرسوم على الملابس، سيجد هذا النسيج المدروس لتجانس الألوان واختياراتهم للخطوط بحبكة مذهلة وفي بعضها ما يذهل وكأنها أعمال لفنان استقى قدرته من الدرس الأكاديمي الذي ينقص الفنان الفطري أصلا ولهذا فان إعمال الفنانين الفطريين عندما ندرس إبعادها الجمالية، تمنحنا ذات الشعور بأنها إعمال مدروسة لفنانين محترفين “.

ويؤكد عن لوحاتها: “إن اللوحة التي تشتغل عليها الفنانة يسرى العبادي، توحي بذلك الجهد الجمالي لتطريز اللوحة وتوشيتها، من دون أن تثقل عليها، وتترك الحرية في الأبعاد الجمالية للتكوين العام للوحة بالمساحات والفضاء المدروس عند أنشاء اللوحة باحتواء الكتلة مهما اتسعت، وهي الميزة التي تتصف بها لوحتها لتشكيل المعطى  لجمالية التكوين بين الكتلة والفضاء، فكتلتها حرة غير مقيدة، تمثل تجربة الدهشة والتأمل الأولى لحرية الفكر عند الإنسان، بينما الفضاء لديها مساحة مدروسة لحركة الكتلة، فهي تهتم بالكتلة على أساس التوافق بين الرؤيا للحياة وبين جمالية البناء العام للشكل، ليتحقق هذا البعد المدهش في حركة الكتلة داخل فضاء غير محدد.

وعلى الرغم من المساحات الواضحة للخلفية، ولكن مع هذا الفراغ الذي تسبح فيه الكتلة بحرية، وإلغاء البؤرة المركزية تختفي القاعدة التي تحمل ثقل الكتلة وتوازنها في بناء اللوحة أكاديميا، لتجعل سطح اللوحة ذات منظور واحد، وتتحرك كتلتها لتخلق منظورها الخاص في الرؤية البصرية، متجانسة مع استنطاقها للقيمة الجمالية للون، وتأطير وجوه أشخاصها ذات الشبه بالأقمار أو الأقراص الطائرة، ويشكل اللون الأسود البؤرة التي تعتمد عليها في تحقيق الألوان الأخرى لقيمة البعد الجمالي عندما يتحقق بيد احترافية، ولهذا تلغي البؤرة المركزية للوحتها، فهي أصلا تخترقها، بهذه الموسيقى الطفولية التي تشتغل عليها، وكثافة الألوان ودسامتها لإظهار قيم جمالية تتجانس مع النص المطروح”.

“ديوان الطفولة”..

في حوار معها أجراه “عادل محمود” تقول “يسرى العبادي” عن معرضها الشخصي الذي أقامته على قاعة (حوار) بعنوان “ديوان الطفولة”، والذي طغت عليه صور الطفولة التي تعكس فرحا وبهجة انعكست في رسوم الأطفال المختلفة في اللوحات التي هيمنت عليها الألوان البهيجة بتناسق مميز. أن أبرز ما يميز تعاملها مع لوحاتها هو اعتبارها كائنات حية، وهذا ما ينعكس في الجوانب المختلفة مثل التعامل مع الخط أو اللون وغير ذلك، ويؤدي إلى أن تعبّر اللوحة عن داخل الفنان بصدق، وتعكس ما يدور في داخله، وبالتالي تكون لوحة موصلة الإحساس.

وعن واحدة من لوحات المعرض تتضمن أشكال الأطفال والألوان البهيجة أيضا، عبارة عن لوحة ذات اتجاه عمودي بخلفية زرقاء فاتحة مائلة إلى البنفسجي، حيث تم تنفيذ الأشكال والنخلة في اللوحة بطريقة مميزة، تضمن فيها جذع النخلة نفسها ألوانا ورسوما مصغرة كثيرة مختلفة. تقول الفنانة عن هذا اللوحة أنها تعبر أيضا عن البحث عن العيد الذي تم فقده، وأنها حاولت فيها عكس الألوان المتنوعة في البيئة التي عاشت فيها حيث أنها نشأت في منطقة الديوانية وشاهدت كيف يتهيأ الأطفال للعيد بألوان زاهية.

وأن اشتغالها لهذه النخلة بهذه الطريقة كان للتعبير عن أن النخلة تحمل آمال النساء أو أدعيتهن والعلاقة بالنخلة كأم أو (عمة) كما يسميها البعض، حيث تدعو النساء قربها لأغراض مختلفة مثل الإنجاب والخصب وغير ذلك، فضلاً عن مكانة النخلة المتميزة في نفوس العراقيين.

 توهّج دائم..

وفي مقالة بعنوان (شمس التشكيل.. توهّج دائم) كتب “الكاتب عبد اللطيف الموسوي”: “ثمة أشخاص يدخلون القلب من لقاء واحد حتى لو كان قصيرًا والتشكيلية المتميزة يسرى العبادي التي رحلت قبل أيام عن عالمنا من هؤلاء. وقد تولّد لديّ هذا الانطباع عندما التقيت بها لدى افتتاح مهرجان الواسطي للفن التشكيلي قبل ثلاثة أشهر في مبنى وزارة الثقافة، لكن وجهها كان مألوفًا بالنسبة لي لأنني كنت قد رأيتها في مناسبات عامة سابقة..

كان لقاء سريعًا أحسست خلاله برغبة في إجراء حوار صحفي معها لألقي الضوء على تجربتها وفنها . وعندما رحبت بالفكرة بأدب جم ، أخبرتها إنني سأتواصل معها لاحقا.

وأخيرا وقع ما لم يكن في البال.. أمر جلل أصابني بالصدمة، إذ كان قضاء الله أقرب، فخطفت يد المنون الفقيدة يسرى العبادي من بين أيدي محبيها وذويها.. وهكذا لم يتسنَ لي إجراء الحوار مع هذه السيدة الرائعة التي قد قرأت الكثير عن تجربتها، فلفني الحزن مع إنني لم ألتقِ بها إلا مرة واحدة في لقاء عابر، كما يطلق عليه، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن عابرًا.

كان مغادرة العبادي لهذه الدنيا رحيلًا صادمًا ومفجعًا فوقفت خلال الأيام الماضيين عاجزا عن رثاء هذه الإنسانة النبيلة، لكن العزاء الوحيد لي ولجميع محبيها إنها رحلت تاركة وراءها إرثًا غنيًا من محبة الناس وبصمة فنية متفردة لن تمحى من ذاكرة التشكيل العراقي”..

وفاتها..

توفيت في بغداد في 29 يونيو 2022.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة