17 نوفمبر، 2024 9:38 م
Search
Close this search box.

يستعيد العراق الحقيقي في زمن العراق المزيف بكتاب “أغان من فضة”

يستعيد العراق الحقيقي في زمن العراق المزيف بكتاب “أغان من فضة”

كتابات – لندن

يفضل مؤلف هذا الكتاب الدلالة الحسية في الفضة بوصفها معدنا عصيا على الصدأ ويجمعه من الأغاني كتاريخ مخلص لا يصدأ، ويشبه الأغاني بالفضة لا الذهب الذي يفقد قيمته مع الأغاني وأن احتفظ بثمنه المادي!
“أغان من فضة: الغناء العراقي بوصفه مؤرخا” للكاتب كرم نعمة والصادر مؤخرا عن دار لندن للطباعة والنشر في 206 صفحات، هو بمثابة وثيقة تاريخية عن ألحان عبّرت عن العراق الحقيقي في مواجهة العراق المزيف.
لذلك يستعين بحكاية بشهادة يعتبرها عصية على الفهم عندما وقف الموسيقار ميشائيل بارتوش قائد الأوركسترا السيمفونية السويدية، مبهوراً وهو يشارك المايسترو علاء مجيد البروفات على لحن رائعة الفنان العراقي أحمد الخليل “بين دمعة وابتسامة” التي قدمتها فرقة “طيور دجلة”، وتساءل بشيء من الحيرة والذهول “هل حقاً أنت متأكد أن هذه الموسيقى عراقية صرفة؟” أجاب علاء بثقة مفرطة بالتأكيد، وتعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
لم يجد لحظتها الموسيقار السويدي بارتوش، غير تساؤل عصي على الإجابة، عن شعب ينتج هذه التعبيرية العميقة في الموسيقى، لكنه في الوقت نفسه يتقاتل!
ذلك يفسر لنا، وفق مؤلف “أغان من فضة” الحرية الكامنة في الموسيقى، التي لا يمكن أن نجدها بأي إبداع آخر موحد لكل شعوب العالم. فالفرقة السمفونية السويدية، شاركت في العزف مع أغنية عراقية بولع قل نظيره، من دون أن يفهم الموسيقيون معنى كلمات الأغنية، ذلك سبب يجعلنا نقدر قيمة الغناء بوصفها الأداة الموحدة بين شعوب الأرض وعلى مر التاريخ، من دون أن تكسر أشد الحروب ضراوة تأثير الموسيقى والغناء على الروح البشرية.
يمكن أن نقول عبر هذا الكتاب إن الغناء أشد المؤرخين إخلاصاً على مر التاريخ، أنه يعبر عن الأرواح الساكنة والهائمة في المجتمعات، وعندما يتعلق الأمر بالتاريخ العراقي، فأن العراقيين يختلفون على كل سردياته، لكن أغنية لناظم الغزالي تجمعهم معاً، وذلك يفسر لنا أيضاً لماذا تحول كاظم الساهر بمثابة جائزة ترضية للعراقيين حيال الخسائر السياسية والاجتماعية التي توالت على العراقيين.
كل ذلك دفع كرم نعمة لأن يجد في الغناء هذا المؤرخ الروحي، عبر دراسة متفرقة لأجياله الموسيقية، بدأ بجيل الوصول الصعب الذي شكله الموسيقار العراقي الراحل صالح الكويتي ومرورا بجيل الخمسينيات في اللحن العراقي، الذي كان بمثابة التعبير الأمثل عن حضارة موسيقية صافية من أي شوائب، ثم جيل السبعينيات وهو يقود ثورة غنائية ولحنية صنعت ما يمكن تسميته بأغنية البيئات التي مزجت بين الغناء الريفي وأرث الأغنية البغدادية والمقام العراقي. ثم الجيل اللاحق، حيث شكل الفنان كاظم الساهر، جيلا منفصلا بألحانه، جعل المستمع العربي يلتفت، ولو بشكل متأخر للغناء العراقي، مع ذلك كان هذا الغناء محظوظاً في إحدى المرات النادرة، عندما جعل غناء الساهر الجمهور العربي يبحث عن الأغنية العراقية التي لم تصله على مدار عقود.
يضع كتاب “أغان من فضة” الموسيقار العراقي صالح الكويتي كاثمن جوهرة في قلادة الأغنية العراقية ويستهل به الفصل الأول “جيل البناء الصعب” ويرى أن الأغنية مدينة إلى اليوم بما أسسه صالح قبل هجرته القسرية إلى إسرائيل في بداية خمسينات القرن الماضي، لكن ألحانه بأصوات صديقة الملاية ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وسليمة مراد ونرجس شوقي وعفيفة أسكندر… بقيت حية وترفض الموت كما رفضت أن تصدأ أو تغادر عراقيتها وقيمتها اللحنية الخالدة، فرددتها الأصوات ومازالت إلى اليوم.
ويحصل المؤلف على عشر ساعات صوتية من شلومو ابن صالح الكويتي سجلها بصوته قبل رحيله عام 1987 في إسرائيل، يكشف فيها تاريخ تأسيس الأغنية العراقية، وهي بمثابة وثيقة تاريخية وفنية عن مرحلة التأسيس في الأغنية العراقية.
يستمر المؤلف في عرض ذاكرة “جيل البناء الصعب” في الأغنية العراقية فيمر على أوجاع سليمة مراد وزكية جورج بعد هجرة ملحنهما صالح الكويتي ويدرس أرث الموسيقار محمد القبانجي، فيما يعيد الأسئلة الأهم عن تجربة الفنان ناظم الغزالي، بتساؤل “ناظم الغزالي… لولا ناظم نعيم”.
ويرى كرم نعمة أن قيمة الغزالي الغنائية مرتبطة بالحان ناظم نعيم الذي لحن غالبية ما غناه الغزالي ورافقه في أسفاره، يبدو شاهدا بامتياز على تجربة هذا الفنان الذي يرتبط اسمه عند المستمعين العرب بالعراق، وعند العراقيين بزوجته الفنانة سليمة مراد.
اعتبر ناظم نعيم وفاة ناظم الغزالي أصابته في الصميم وشعر أن الحياة برمتها تخلت عنه. فهاجر بعدها بسنوات إلى الولايات المتحدة حتى رحل في مغتربه.
يتساءل كرم نعمة “ثمة سؤال ينطلق اليوم بعد كل تلك العقود على رحيل الغزالي، عما إذا درس صوت ناظم الغزالي نقديا من دون أن يسقط دارسوه تحت هالة الإعجاب الشعبي به، وتفرده آنذاك في نشر الغناء العراقي في الأرجاء العربية؟”.
ويجيب مؤلف كتاب “أغان من فضة”: باستثناء ما كتبه الناقدان الراحلان سعاد الهرمزي وعادل الهاشمي من دراسات نقدية، تبقى الغالبية العظمى عنه مجرد استذكارات تاريخية وسرد لحكايات عنه وعن زواجه من الفنانة العراقية اليهودية سليمة مراد، فسعاد الهرمزي يرى أن نجاح ناظم الغزالي لم يكن من صنع يديه، بل إن جهد ونصائح الملحن ناظم نعيم دفعته للنجاح. بعد أن انعدمت بينها عوامل الخلاف والفرقة.
فناظم نعيم بنظر الهرمزي “فنان بحق، أما الغزالي فهو مغن فقط، أخفق في أدائه أن يكون قرارا صحيحا، بل إن غناءه كان جوابا قاصرا عن مقتنيات الغناء الصحيح…”. فيما يرجع الناقد الراحل عادل الهاشمي، صعود نجم الغزالي إلى زوجته المطربة سليمة مراد باشا وكان زواجه منها من الزيجات المثيرة للجدل، وأن الغزالي كان به حاجة إلى دفعة معنوية في بداية طريق الشهرة. وكانت أستاذة في فن الغناء، باعتراف النقاد والفنانين جميعاً في ذلك الوقت.
في فصل “أغنية البيئات” وهي التسمية التي اختارها كرم نعمة للتجديد في الغناء العراقي منذ منتصف ستينات القرن الماضي حتى بداية الثمانينات، يثير المؤلف الأسئلة الأهم أمام أبناء هذا الجيل من ملحنين وشعراء ومطربين، ويحفل هذا الفصل بحوارات أجراها المؤلف مع معظم أبناء هذا الجيل، فيصف ياس خضر بالصوت الذي لا يعبأ بوهن السنين، وفؤاد سالم الذي أسرف حزنا وعاش الخيبة في أوجها! وفاضل عواد الصوفي الذي يُزار ولا يزور، وحسين نعمة الصوت الذي أرخ لعذابات الناس وصدق سعدون جابر كان أثمن من صوته عندما دخل رهان المقامات الصعبة.
من دون أن يغفل في ذلك ملحني هذا الجيل، فيكتب بوجع شعري عن ذاكرة الأغاني في موسيقى محمد جواد أموري وطالب القره غولي وفاروق هلال ومحسن فرحان وكوكب حمزة وعبد الحسين السماوي وجعفر الخفاف وكمال السيد.
فصل “أغنية البيئات” الأطول والأمتع في الكتاب، عندما يطالب في نهايته باستعادة الأغنية العراقية المخطوفة اليوم بعد أن استولى الجهلة في علوم الغناء على ألحان أبناء هذا الجيل وركبوا عليها نصوصا هزيلة لتدمير الذاكرة العراقية بفعل بغيض ومتعمد.
في فصل “كاظم الساهر جائزة ترضية للعراقيين” يقدم المؤلف دراسات نقدية جادة وقاسية لألحان وأداء كاظم الساهر، مع أنه يطالب العراقيين بالمحافظة عليه بوصفه المثال الفني والثقافي الجامع، بل أكثر من ذلك عندما يعده نجمة رابعة في علم العراق الوطني.
يحاور كرم نعمة كاظم الساهر بحوار مطول ويثير أمامه الأسئلة الأهم، عن الإصرار الكامن في تجربته الفنية للوصول إلى ما وصل إليه ويتساءل عما إذا كان ذلك مستند على عزيمة فنية لا حدود لها، ويدفع بأكثر من ذلك في التشكيك بقيمة ألحانه، كما يسأله في واحد من المرات النادرة، عما إذا كان صوته يصل إلى مدى ديوانيين بروح طبيعية أم بالاستعارة؟
تأتي إجابات الساهر واثقة ومطمئنة، ويجسد ذلك بالحان يصفها في النهاية كرم نعمة بالمستقبلية في غناء كاظم الساهر.
لا يغفل الكتاب علاقة الغناء العراقي بالعربي في فصله الأخير “كسر معادلة المركز والأطراف في الغناء العربي” ويرى أنه لو تسنى منذ البداية، كما يحصل اليوم، أن تم تبادل غناء المشرق والمغرب العربي، لما احتاج المطرب العربي أن يمر بالقاهرة التي استولت على السردية الموسيقية العربية على مدار عقود حتى انكسرت معادلة “المركز والأطراف” وصار غناء تونس والمغرب وليبيا شائعا في المشرق العربي مثلمنا غناء العراق والخليج العربي شائعا في المغرب العربي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة