خاص: إعداد- سماح عادل
“يحيى حقي محمد حقي” كاتب وروائي مصري، ولد في 17 يناير 1905 في بيت صغير من بيوت وزارة الأوقاف المصرية ب “درب الميضة” وراء “المقام الزينبي” في حي السيدة زينب بالقاهرة، لأسرة تركية مسلمة متوسطة الحال، هاجرت من (الأناضول) وأقامت حقبة في شبه جزيرة “المورة”.
حياته..
تلقى “يحيى حقي” تعليمه في كُتَّاب “السيدة زينب”، وبعد أن انتقلت الأسرة من “السيدة زينب” لتعيش في “حي الخليفة”، التحق سنة 1912 بمدرسة “والدة عباس باشا الأول” الابتدائية بحي “الصليبية” بالقاهرة، وهي مدرسة مجانية للفقراء والعامة، وهذه المدرسة هي التي تعلم فيها مصطفى كامل باشا. قضى “يحيى حقي” فيها خمس سنوات، وفي عام 1917 حصل على الشهادة الابتدائية، فالتحق بالمدرسة السيوفية، ثم المدرسة الإلهامية الثانوية بنباقادان، وقد مكث بها سنتين حتى نال شهادة الكفاءة، ثم التحق عام 1920 بالمدرسة “السعيدية”، انتقل بعده إلى المدرسة “الخديوية” التي حصل منها على شهادة (البكالوريا)، و التحق في أكتوبر 1921 بمدرسة الحقوق السلطانية العليا في جامعة فؤاد الأول، وكانت لا تقبل سوى المتفوقين، وقد حصل منها على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925.
عمل “يحيى حقي” بالمحاماه، ثم عين أمينا لمحفوظات القنصلية المصرية في جدة عام 1929 ثم نقل إلى إسطنبول عام 1930، حيث عمل في القنصلية المصرية هناك، حتى عام 1934، بعدها نقل إلى القنصلية المصرية في روما، التي ظل بها حتى إعلان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1939، ثم عين سكرتيرًا ثالثًا في الإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية المصرية، وقد مكث بالوزارة عشر سنوات رقي خلالها حتى درجة سكرتير أول حيث شغل منصب مدير مكتب وزير الخارجية، وقد ظل يشغله حتى عام 1949وتحول بعد ذلك إلى السلك السياسي إذ عمل سكرتيرًا أول للسفارة المصرية في باريس، ثم مستشارًا في سفارة مصر بأنقرة من عام 1952 وبقى بها عامين، فوزيرًا مفوضًا في ليبيا عام 1953.
أُقِيلَ من العمل الدبلوماسي عام 1954 عندما تزوج من أجنبية وهي رسَّامة ومثَّالة فرنسية تدعي (جان ميري جيهو)، وعاد إلى مصر فعين مديرًا عامًا لمصلحة التجارة الداخلية بوزارة التجارة، ثم أنشئت مصلحة الفنون سنة 1955 فكان أول وآخر مدير لها، إذ ألغيت سنة 1958، فنقل مستشارًا لدار الكتب، وبعد أقل من سنة واحدة أي عام 1959 قدم استقالته من العمل الحكومي، لكنه ما لبث أن عاد في أبريل عام 1962 رئيساً لتحرير مجلة المجلة المصرية التي ظل يتولى مسئوليتها حتى ديسمبر سنة 1970.
الكتابة..
الفترة الأولى من مراحل حياته الفنية تمتد ابتداء من 15 يوليه 1926 منذ نشر قصته القصيرة (فله- مشمش- لولو) حتى نوفمبر 1934 حين نشرت له “المجلة الجديدة” قصة “البوسطجي”، إذ كان يكتب للمجلة الجديدة من اسطنبول، وانحصر إبداع “يحيى حقي” آنذاك في القصة القصيرة،
وربما تبدأ المرحلة الفنية الثانية بقصة “قصة في سجن” التي بعث بها من أسطنبول ونشرت في 1931 “المجلة الجديدة”، وقصته “إزاره ريحة” أغسطس 1931 وقصته “أبو فودة” التي نشرت سلسلة في “السياسة الأسبوعية” فبراير 1933 ثم قصته “الخزنة عليها حارس” ملحق السياسة” يونية 1934 وبعدها يبدأ ميله نحو الفن الروائي فتنشر له “المجلة الجديدة” قصة ” البوسطجي” مستقلة في نوفمبر 1934.
و من أفضل أعماله..
1- رواية قنديل أم هاشم
2- رواية صح النوم
3- كناسة الدكان
4- رواية البوسطجي
5- رواية دماء وطين
6- رواية أم العواجز
7- رواية تراب الميري
8- سارق الكحل
9- كتاب دمعة فابتسامة
10-كتاب فكرة فابتسامة
أما بالنسبة للنقد الأدبي، فله عدة مؤلفات منها: (خطوات في النقد، فجر القصة القصيرة، عطر الأحباب، هموم ثقافية)، والمترجمات ترجم المسرحية والرواية، منها: “مسرحية الدكتور كنوك” لجول رومان، ورواية “لاعب الشطرنج” لستيفان زفايج.
الجوائز..
حصل “يحيى حقي” في 1969 على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، كما منحته الحكومة الفرنسية عام 1983، وسام الفارس من الطبقة الأولى، ومنحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية. وكان واحدًا ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية ـ فرع الأدب العربي ـ لكونه رائدًا من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990.
أديب معاصر..
في حوار مع ابنته “نهى يحي حقي” أجرته “علياء أبو شهبة” تقول: “عبقرية يحي حقي شملت الكثير من الأعمال الإبداعية المتميزة، لكن عندما يتذكره البعض يقتصرون عبقريته على “قنديل أم هاشم”، رغم أن أعماله كان بها نظرة نحو المستقبل، وعند قراءتها الآن تشعر وكأنه أديب معاصر، لذلك أدعو القارئ لإعادة اكتشافه”.
وتصف “نهى حقي” والدها بأنه:” كان كاتبا متعدد المواهب فإذا بحثنا عن مؤلفاته بوصفه كاتب وأديب سوف نجد مجموعة قصصيه كبيرة، وبوصفه ناقد أدبي مخضرم له مجموعة كتب تتميز بالنقد الموضوعي العميق، وهو أيضا أستاذ متمكن في أصول وقواعد اللغة العربية، كما أنه مؤرخ لديه عدة كتب يسرد من خلالها حقائق تاريخية بصورة أدبية، فقد رسم بقلمه لوحات جميلة من تاريخ مصر.. كما أن يحي حقي استطاع من خلال أدبه أن يجوب بالقارئ بين المحافظات المصرية من الإسكندرية حتى أسوان بتقاليدها وعادتها لتتسرب داخل أذنيك موسيقاها وكأنك تسمعها؛ من فرط دقته في وصفها، وظهر عشقه العميق إلى اللغة العربية من خلال كتاباته عن الأسلوب العلمي الحديث و”مدرسة العلم الحديث” التي حاول بها صنع مدرسة أدبية خاصة به، فهو كاتب مواكب للعصر وملتفت تماما للتطوير”.
وتواصل “نهى حقي”: “تعلمت من والدي الكثير، وورثت عنه العديد من صفاته، منها التأمل والنظر إلى الأمور من عدة زوايا قبل الحكم عليها، وورثت عنه القلق والإحساس بالبسطاء، لكن أهم ميراث بالنسبة هو حب اللغة العربية فقد كان عاشقا لها، وكان دائما ينصحني بالتعمق فيها و دراستها، تعلمت منه أيضا حب الحيوان والعطف عليه، وكان يتسم بأنه شخص عاطفي سريع التأثر بما حوله وسريع البكاء”.
جهاد مع اللغة..
كتاب “جهاد في الفن” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة، تضمن حوار مطولا مع “يحيى حقي” أجراه معه الصحفي “مصطفى عبد الله” يقول فيه “يحيى حقي” عن الكتابة: “إذا كان الزمن سيُنسي البعضَ آثاري ككاتب قصة وروائي، فلا أتصور أن يجور على جهادي مع اللغة، فقد خدمت العربية كثيرا، بمعنى أنني أخرجتها عن الميوعة والتشتت، واحترمتها أشد الاحترام، وقبلت يديها، وكأنها سيدتي الأولى، فهي صاحبة الفضل عليَّ”.
إنكار الذات..
ويقول الكاتب “جهاد فاضل” في مقاله له: “لم يكن يحيى حقي أديباً “شللياً” معنياً بتأليف قلوب المحررين الثقافيين حوله، أو زرع نفسه في وسائل الإعلام، على غرار الكثير من أدباء زماننا الراهن. ومن ألطف ما سمعتُه عن يحيى حقي في الاحتفالية التي دعا إليها المجلس الأعلى للثقافة بمصر، أنه عندما كان رئيساً لتحرير مجلة (المجلة) التي كانت من منابر الثقافة الرفيعة، أنه كان يرفض نشر أية دراسة عنه أو عن أدبه في هذه المجلة، مع أنه كان باستطاعته أن يفعل العكس، وأن يكون رائداً لما هو سائد في المنابر الثقافية اللبنانية على سبيل المثال.. فلهذه الجهة كان يحيى حقي نموذجاً يُقتدى في إهمال الذات، كما في البحث عن خامات أدبية جديدة يقدّمها للناس. فمما أخذه عليه أساطين الأدب في عصره، أنه فتح صفحات (المجلة) لأدباء شبّان لا هم في العير ولا في النفير، بعضهم جاء إلى مكتبه “بالمجلة” من الصعيد وهو باللباس الصعيدي.. فنشر لهؤلاء، واعتنى بهم، وأرشدهم، حتى أصبحوا الآن أدباء معروفين. وعندما قيل له مرة: ولكنك كثيراً ما تُهمل أبحاث الأكاديميين لتنشر “لغيطاني” أو “الكفراوي”، كان جوابه أن مثل هذه الأبحاث الأكاديمية محلّها دوريات الجامعات، لا مجلات يفترض أن تكون مخصصة للثقافة العامة”.
ابن ثورة 1919
ويقول الكاتب رجاء النقاش في مقالة بعنوان “يحيي حقي وصانع القباقيب!”: ” أديبنا يحيي حقي كان في تكوينه الأصلي ثمرة من ثمرات ثورة 1919, وهو أحد عشاقها الذين عاشوا فيها, وقد كان في الرابعة عشره من عمره عندما اشتعلت هذه الثورة ولكنه كان يشارك في المظاهرات, وكان شغوفا بأن يعرف كل شيء عن هذه الثورة, وعندما كتب عنها في الذكري الخمسين لها في 1969, وضع يده علي بطلها الأصلي الذي لا يفوقه شخص آخر في بطولته, وهو المواطن الشعبي العادي الفقير صاحب الاسم المجهول والذي دفع من دمه وحياته ثمن هذه الثورة بالكامل. ولعلي لم أقرأ صورة هزت قلبي هزا عنيفا عن ثورة 1919 مثل هذه الصورة التي رسمها يحيي حقي لأحد الأبطال الشعبيين الشهداء في ثورة 1919, حيث كتب تحت عنوان (ابن القباقيبي) من كتابه الرائع (صفحات من تاريخ مصر).. يقول يحيي حقي:(وقع الاختيار علي هذا الولد الوحيد. سقط قتيلا برصاص الانجليز في مظاهره أمام الدكان فسار معها يردد هتافاتها, فخرجت له جنازة مشهورة في تاريخ الثورة بأنها جنازة ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله, من مستشارين وقضاه ومحامين, إلي الطلبة الكبار والتلاميذ الصغار, إلي صفوف غفيره أخري من أبناء الشعب. كنا نريد بهذه الجنازة أن نقول لصحافه الانجليز: انظري الرعاع يشيعون بطل الرعاع. وهذه الجنازة لم تشبهها جنازة أخري طوال الثورة.. ماذا كان اسمه؟ أين قبره؟. لا أحد يدري كم عدد شهداء ثورة 1919 ؟ لم يجر إلي اليوم إحصاؤهم مع الأسف, ولا تخليد أسمائهم في سجل شرف, دع عنك إقامة نصب تذكاري يفي بحقهم علينا. تمنيت أن يقام هذا التمثال, وأن يكون تمثالا لصبي بجلابيه يمسك في يده المرتفعة فرده قبقاب!)”
رصاصة ورواية..
يقول الكاتب “فؤاد دوارة” في مقالة “الرصاصة التي انطلقت من قلب يحيى حقي”: ” لم يحدث في تاريخ الأدب العربي كله، أن استطاعت قصة في أقل من سبعين صفحة، أن تنتقل وحدها بمؤلفها من عالم المجهول إلى قمة الشهرة، ليصبح كاتبا معروفا، هذا هو ما حدث مع رواية يحيى حقي القصيرة “قنديل أم هاشم” وصرح يحي حقي في حوار أجريته معه سنة 1964، قال فيه: “حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير “قنديل أم هاشم” لا أجد ما أقوله سوى أنها خرجت من قلبي مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت في قلوب القراء بنفس الطريقة ” وهو ما فسره في سيرته الذاتية الموجزة التي أضيفت إلى مؤلفاته الكاملة، التي بدأ إصدارها عام 1975، فقال عن سنوات الاغتراب الخمس التي قضاها في روما: “طوال تلك السنوات لم أنقطع عن التفكير في بلادي وأهلها. كنت دائم الحنين إلى تلك الجموع الغفيرة من الغلابة والمساكين الذين يعيشون برزق يوم بيوم. وحين عدت إلى مصر سنة 1939 شعرت بجميع الأحاسيس التي عبرت عنها في “قنديل أم هاشم ..” وهو ما يجعلنا نقطع بأنه لم يكن يؤلف رواية خيالية بقدر ما يسجل جانبا من سيرته الذاتية، وحياته الواقعية في حي السيدة زينب، فإذا اختلفت بعض تفصيلات حياته كما نعرفها عما جاء في الرواية، فأهم من ذلك الموقف العام، والمشاعر والأحاسيس التي أكد أنه عاشها جميعا”.
قنديل أم هاشم..
في دراسة بعنوان (قنديل أم هاشم الرؤية الفكرية والتعبير الفني) للباحث “أحمد كريم بلال” يقول: “صدرت قصة «قنديل أم هاشم» للأديب المصري الكبير يحيي حقي في الأربعينيات من القرن الماضي ولا نعتبر أنفسنا مبالغين حين نضعها في مركز متقدم ضمن قائمة تضم أفضل القصص والروايات الصادرة في القرن الماضي.. ويمكن تصنيف هذه القصة الطويلة ضمن تيار قصصي ذي إطار موضوعي يعبر عن الصراع الحضاريّ، أو بمعنى أصح يعبر عن أزمة التفاعل مع الحضارة الغربية والموقف المذبذب منها. ويهدف هذا النوع من القصص والروايات إلى الحفاظ على الذات العربيّة في خضم الموجة الغربية العاتية على الوطن العربي في العصر الحديث”.
ويضيف الباحث: “والقضية المحورية في قنديل أم هاشم هو: الصراع بين الأصالة والمعاصرة، بين القيم الشرقية العتيقة بتبعاتها الثقيلة، والحضارة الأوربية المُبهرة بما تتضمنه من كرامة الإنسان وحريته، فضلاً عمّا تحمله من تقدم علمي لا مثيل له. وفي ركاب هذه القضية المحورية لا بأس من إثارة بعض القضايا الفرعية المتعلقة بما يعانيه الشرق من جهل وتخلف.. ويمكن اعتبار هذه الرواية رواية رمزية، ويمكن أن نعتبر قنديل أم هاشم رمزًا للعادات والتقاليد الموروثة المتأصلة، أو رمزًا للثبات والتحجر أمام الموروث دون أدنى محاولة للتطور، ولذا يصف الكاتب القنديل بأنه أبدي ومتعالٍ على كل صراع، يقول يحيي حقي:” كل نور يفيد اصطدامًا بين ظلام يجثم، وضوء يدافع، إلا هذا القنديل بغير صراع” .
وفاته..
توفي “يحي حقي” عام 1992 في القاهرة، عن عمر يناهز سبعة وثمانين عامًا.
https://www.youtube.com/watch?v=wG6tNHQUqfA