وكالات – كتابات :
تُخبرنا كل قطعة آثار نعثر عليها المزيد عن قصة الأسلاف وحضاراتهم وممالكهم القديمة، فبفضل الاكتشافات الأثرية المتكررة أصبحنا نعرف الكثير عن معالم الحضارات السابقة، إلا أن هناك بعض الحضارات التي ما زلنا نحتاج إلى الكثير من الاكتشافات حتى نكوّن صورة تاريخية كاملة عنها، وعلى رأسها “المملكة الميتانية”.
إذ لا تزال تلك المملكة غامضة بالنسبة للأثريين ودارسي التاريخ، وفي هذا التقرير نُحاول إلقاء الضوء على ما نعرفه حتى الآن عن “المملكة الميتانية”، خاصة بعد أن تسببت موجة الجفاف الأخيرة؛ بـ”العراق”، في الكشف عن موقعها الأثري مرة أخرى، وعاد الأثريون لبحث المكان ودراسته على أمل أن يصلوا إلى فهم أكبر لتلك الحضارة.
“المملكة الميتانية”.. حضارة غامضة غارقة..
في عام 2010؛ عثر الأثريون على موقع “المملكة الميتانية”؛ للمرة الأولى، لكن وجود المياه وارتفاعها أعاق سرعة التقدم في البحث والتنقيب في المنطقة، فالمكان الأثري في “العراق”؛ والذي عاشت عليه “المملكة الميتانية”، عادة ما تغمره مياه “نهر دجلة”، وينتظر الأثريون أوقات الجفاف أو انحسار المياه من أجل البحث والتنقيب للعثور على أي آثار تُخبرنا المزيد عن تلك الحضارة.
وفي عام 2019 أصدر الأستاذ الدكتور “حسن قاسم”؛ مدير آثار مدينة “دهوك”؛ في “العراق”، تصريحًا قال فيه: “إن المعلومات التي نعرفها عن هذه المملكة ضئيلة نسبيًا”، وجاء هذا المؤتمر الصحافي في إطار تغطيات الكشف الأثري الذي عُثر عليه في ذاك الوقت في مدينة “دهوك”، والذي كان عبارة عن قصر ملكي ينتمي إلى “المملكة الميتانية”، ووقتها أُعلن في وسائل الإعلام العربية والأجنبية أن فريقًا من علماء الآثار العراقيين والألمان عثروا على قصر بُني في سنة (3400 ق. م)، أثناء حكم “المملكة الميتانية”.
وفي القصر الميتاني؛ الذي سمح انحسار المياه بالعثور عليه، وجد الأثريون في داخله ألواحًا طينية بكتابات مسمارية تعود لأكثر من: 1800 عام، ولوحات جدارية باللون الأحمر والأزرق والكموني، بالإضافة إلى مجموعة من الأواني الفخارية.
وأوضحت عالمة الآثار الألمانية؛ “إيفانا بوليتس”، لوكالة (دويتشه فيله)؛ في ذاك العام، أن: “المملكة الميتانية؛ هي من أقل حضارات الشرق دراسة، وأن عدد الأبحاث الصادرة عنها قليل جدًا، حتى أن عاصمة الحضارة نفسها لم يتم الكشف عنها وتحديدها بعد”.
“زاخيكو”.. العثور على مدينة تنتمي إلى المملكة ؟
في نهاية شهر آيار/مايو 2022، وبعد أن تعرضت تلك المنطقة للجفاف الشديد؛ بسبب انحسار “نهر دجلة”، استطاع فريق من الأثريين المسؤول عن التنقيب في تلك المنطقة بـ”دهوك”؛ العثور على موقع أثري داخل حوض “نهر دجلة” يعود إلى ما قبل: 3400 سنة في محافظة “دهوك”؛ ضمن “إقليم كُردستان”، وهذا وفقًا لما أعلنته دائرة الآثار في “دهوك”.
إذ استطاع فريق مشترك من علماء الآثار من “إقليم كُردستان” و”ألمانيا”؛ اكتشاف مدينة عريقة تعود إلى عصر “المملكة الميتانية”، وهو ما يُعتبر كشفًا مهمًا، لما سيمنحه من معلومات لعلماء الآثار عن تلك الحضارة الغامضة.
ويُرجح بعض علماء الآثار أن تلك المدينة التي عُثر عليها هذا العام 2022، هي المدينة التي يُطلق عليها في النصوص البابلية مدينة “زاخيكو”، ومنذ العثور عليها، تجري دراسة النصوص المسمارية الموجودة على جدرانها بغرض تأكيد تلك المعلومة أو نفيها، أو الوصول إلى أي معلومات جديدة تخص “المملكة الميتانية”، وحتى الآن ما وجده علماء الآثار من معلومات عن مدينة “زاخيكو” يُخبرنا أنها كانت مركزًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وتجاريًا هامًا، وكانت أقوى مراكز “المملكة الميتانية” في الألف الثاني قبل الميلاد.
وما وجده الباحثون في هذا الكشف الأثري يُعد مثيرًا للاهتمام، فجدران تحصين المدينة التي يبلغ ارتفاعها عدة أمتار، حالتها جيدة بالرغم من أنها مبنية من الطوب الطيني المجفف بالشمس، ويُرجح علماء الآثار أن المدينة قد دُمِّرت بسبب زلزال ضربها حوالي عام (1350 ق. م)، موضحين أن تلك الكارثة الطبيعية قد تكون سبب الحالة الجيدة التي حفظت بها المدينة، وهذا لأن الزلزال تسبب في دفن الأجزاء العلوية من جدران معظم المباني المتبقية، مما جعلها في حالة جيدة نسبيًا على مدى آلاف السنين.
وفي تصريح له قال؛ “بيتر بفالزنر”، مدير قسم آثار الشرق الأدنى في جامعة “توبنغن” الألمانية؛ وعضو فريق البحث بالموقع الأثرى: “إنها معجزة أن تلك الألواح المصنوعة من الطين بقيت محفوظة تحت الماء كل هذه الفترة”.
مستعصية على الأثريين.. ماذا نعرف عن “الحضارة الميتانية” ؟
في كتابه: (1177 B.C.: The Year Civilization Collapsed)؛ أو “1177 ق. م: عام إنهيار الحضارة)، ذكر المؤرخ وعالم الآثار الأميركي؛ “إيريك كلاين”، بعض المعلومات المهمة عن “المملكة الميتانية”، وقد جاء هذا ضمن سرده للتوسعات والحملات التي قام بها المحارب والعسكري المصري؛ “تحتمس الثالث”.
وقد جاء في كتاب “كلاين”؛ أن “المملكة الميتانية” تأسست في العام (150 ق. م)، واستمرت في النمو واستيعاب مناطق قريبة أخرى مثل مملكة “هينجليبات الحورية”، ونتيجة لذلك عُرفت “المملكة الميتانية” بأكثر من اسم، فكان المصريون القدماء يُعّرفونها باسم: “نهارين” أو “نهارينا”، ودعاها الحيثيون: “أرض حوري”، ودعاها الآشوريون: “هينجليبات”، بينما أشار الملوك الذين حكموها إليها باسم: “ميتاني”.
ولم يُعثر على الآثار المتبقية من عاصمتها، والتي كانت يُطلق عليها: “واشوكاني”، ووصف “إيريك كلاين” تلك المملكة بأنها: “مستعصية على الأثريين”، ولكن وفقًا للنصوص الأثرية التي عُثر عليها حتى الآن، فقد كان: 90% من سكان “المملكة الميتانية” من الحوريين المحليين تحت حكم: الـ 10% المتبقية، والتي كانت تتشكل من: “الأسياد والحكام الميتانيين”؛ والذين كانوا على ما يبدو من أصول هندأوروبية، وتلك المجموعة الصغيرة قد جاءت إلى هذا المكان لتُسيطر على السكان الأصليين وتؤسس “المملكة الميتانية”.
وفي حملته الثامنة، شن “تحتمس الثالث” هجومًا بريًا وبحريًا على “مملكية ميتاني”، وجاء في النقوش المصرية أن “تحتمس” أمر قواته أن تُبحر في “بحر الفرات”؛ على الرغم من أن هذا الإبحار كان عكس كل من الريح والتيار، ويُرجح “إيريك” أن تلك الهجمة كانت بمثابة رد انتقامي على اشتباة الملك “تحتمس” في أن “المملكة الميتانية” كانت مشتركة في التمرد الكنعاني أثناء العام الأول من حكمه.
في تلك الحملة هزم “تحتمس الثالث”؛ القوات الميتانية، وأمر بوضع نُصب حجري منقوش شمال “كركميش”؛ على الضفة الشرقية لـ”نهر الفرات”، بغرض إحياء ذكرى انتصاره، ولكن لم تقع المملكة فريسة لتلك الهزيمة فترة طويلة، ففي غضون 20 عامًا استطاع الملك “شوشتاتار” توسيع “المملكة الميتانية”، وهاجم “آشور”؛ عاصمة الآشوريين، وأخذ من هناك غنيمة بابًا من الذهب والفضة زيّن به قصرًا في “واشاكاني”، لتتحالف المملكة مع المصريين القدماء.
وفي أقل من قرن؛ وبحلول حكم الفرعون “أمنحتب الثالث”، في منتصف القرن الرابع عشر ق. م؛ كانت العلاقات بين “المملكة الميتانية” و”مصر” علاقة ودية، تزوج خلالها الملك المصري بامرتين من “المملكة الميتانية”، ومن وحي قصة العلاقات المتوترة بين حضارة “مصر” القديمة وحضارة “المملكة الميتانية”، كتب المؤلف الكُردي؛ “جان كورد”، رواية بعنوان: (حزن الأميرة الميتانية دوتي خيبا)؛ في العام 2017، والتي تُعتبر مزيجًا بين الأحداث التاريخية الحقيقية وبين خيال الكاتب فيما يخص العلاقات بين شخوص الرواية.
تُعتبر تلك الرواية، رغم أنها تندرج تحت بند الأدب؛ مصدرًا معرفيًا مهمًا عن “المملكة الميتانية”، إذ تُغطي أحداثًا مهمة وفترات تاريخية ومساحات جغرافية واسعة، وتبدأ أحداث الرواية من عند أحد أبطالها وهو: “لاوي هوري” ومرافقه الذين يبدأون رحلة بحث عن حفيد الملك الميتاني.
فأنطلقوا من العاصمة “واشوكاني” إلى “مصر”، بناءً على تكليف من الملك الميتاني نفسه، والذي كانت وصلته أخبار أن الملكة “نفرتيتي”؛ زوجة “إخناتون”، قد آذت حفيده، وقد بنى الكاتب تلك الفرضية الدرامية على المعلومة التاريخية التي وثقت زواج إثنين من أميرات “المملكة الميتانية”؛ لملك “مصر” حقنًا للدماء بين البلدين، وتجنبًا لأي صراع عسكري.
كيف سقطت “المملكة الميتانية” ؟
خلال فترة التحالف بين “المملكة الميتانية” وحضارة “مصر” القديمة، سعت هاتان الدولتان لمنع الدولة “الآشورية” من التوسع، فانكمشت – المملكة الآشورية – داخل حدودها وهي تترقب الأحداث الخارجية، في انتظار فرصة لاستعادة قوتها، لكن بالإضافة إلى ضغوطات التحالف “المصري-الميتاني”، كانت “المملكة الآشورية” في منازعات مع “الدولة الكشية”؛ في بلاد “بابل”، ولم تخل العلاقات بينهما من حروب ومهادنة وإبرام معاهدات.
أما في “الممكلة الميتانية”، فكانت النسبة الأكبر من سكانها من الحوريين تحت زعامة طبقات محاربة أرستقراطية من الآريين، وقد بلغت “المملكة الميتانية” من القوة والاستقرار؛ الذي أهلها لأن تبسط نفوذها على بلاد “آشور” لفترة دامت قرنًا ونصف من الزمان، اضطر خلالها ملك الآشوريين إلى دفع الجزية لملوك “المملكة الميتانية”. وظلت العلاقات بين “مصر” و”المملكة الميتانية” جيدة وقوية حتى عهد “إخناتون”، حيث نشب صراع جديد بين الحضارتين وتدهورت العلاقات بينهما.
هذا الصراع أدى إلى تدهور حالة “المملكة الميتانية”، تزامنًا مع ظهور ملك قوي في “المملكة الآشورية”؛ وهو: “أوبالط الأول”، والذي لم يستطع فقط تخليص مملكته من سيطرة وسطوة “المملكة الميتانية”، بل إنه استطاع تدمير “المملكة الميتانية” وإزالتها من الوجود؛ خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، منتهزًا فرصة تردي العلاقات وقطع التحالفات بين “مصر” و”المملكة الميتانية”، وبهذا انتهت “الحضارة الميتانية” على يد الآشوريين.