يكتبها: محمد فيض خالد
مادت الأرض من تحت قدميه، حدق جيدا، يستحلب ريقه المتيبس، نفر عضل ذراعه الأسمر، امسك بالمرتبة من فوق العربة، رفت على شفتيه ابتسامة لذيذة، ذابت سريعا، وهي تصارخ الصبية الذين تجمعوا من حوله، رمته بنظرة طويلة وهي تسحب الدخان ببطء وتمجَّه، وبصرها شاخص في تراخي، يلتفت إليها في انبهار طفولي، لعلها المرة الأولى التي يرى فيها حسناء تدخن.
لم يشاهد من قبل غير “عدلات” الداية، تحامى وراء المرتبة يراقبها، لمعت عيناه ببريق خاطف، انفجرت ضحكتها تجلجل، تؤشر ناحيته بيدها البضة توسوس حليها، قائلة:”انتبه، لا تكن ارعن”، اضطربت يده وسقط حمله، تشكلت على وجهه ابتسامة مصطنعة يرميها من تحت عين حمئة.
مرَّ أسبوعه الأول في بيتها بسلام، مبكرا يستيقظ، يذهب للجامعة ولا يعود حتى يشيخ النهار وتلملم الشمس أبنائها، يرجع منهوك القوى، يجر أقدامه في ضعف، ليلقي بجسده فوق سريره، ما تزال أمه حاضرة أمامه، بهدوئها المبتسم، تذيع عيناها الطمأنينة والثقة في نفسه، يهب واقفا، يفرد لفافة أمامه، يشرع في التهام حبات الطعمية الحارة، ليبدأ مساء جديد بين كتبه وأوراقه.
حتى كان ذات ظهيرة وعلى غير موع، وجد والده في انتظاره، هرول ناحيته يقبل يده، وقد تأثر وجه الشيخ بابتسامة فرحة، يرعش فمه بالدعاء، كانت “عزيزة” صاحبة المنزل قد استقبلت الزائر وضيفته، شكرها في امتنان، نظرت إليه ساهمة تداعب بنظراتها الشفافة الفتى: “إنه مثل والدي، لم افعل غير الواجب”، ومنذ اللحظة توثقت بينه وبينها صداقة وارتباط،هي التي خلقتها بروحها الحلوة وإطلالتها المشجعة.
تهش في وجهه إذا لاقته، ليجد في نفسه ارتياح وهو يلقي إليها بالتحية، عجل القدر بالتلاقي، انجذب إليه وحيدها “أشرف، يوقفه يطلب مساعدته في حل واجباته المدرسية، في تلك اللحظات يهيج سخاؤه، يجلس على الدرج ويشرع في مدارسته، مع الأيام ذاب التحفظ، استبدل الدرج، وفتحت له شقتها، ليجد راحته مع تلميذه الذي يتردد عليه في كل مساء، خلعت “عزيزة” عنها ثياب حدادها التي لبستها منذ فارقها هي وابنها زوجها المعلم “فتحي”.
بدت طازجة في كل شيء، يتراءى ثراء الأنوثة عبر شفتيها، التي تقطر حمرتهما في رونق، تقاوم المشاعر التي ترشح من ملامحها حين تراه، كل ما فيها ينطق بأنها الأنثى في مصدرها الأول، كان كلما رآها يرتجف قلبه وقد ابتل بنشوة عارمة، ينتظر بفارغ الصبر موعدها، يسارق النظر إليها، فتلهب روحه، وتثير وجدانه، تشب نيران الوجد فيه أحاسيسه المرهفة، مرت الأيام حلوة، ترى فيه كمال الرجولة وجلالها، ويرى فيها نعيم الدنيا، كمولود جديد تشرق الحياة في عينيه لأول مرة.
وذات لقاء، حاولت كبح جماح عواطفها المتأججة، لكنها في الأخير لم تفلح، فضحتها أشواقها، اندفعت نحوه، طوقته بذراعيها، وأمطرته بقبلاتها الحانية، مد يده نحوها في تأثر، رفع ذقنها، حدق في عينيها المشرقة بالمرح، ليقول في حسم: “لا استطيع الحياة بدون، الآن اعترف”، ثم غيبها بين ذراعيه، في هاته اللحظات تخايلت على وجهها ابتسامة رقيقة، أسبلت على إثرها جفنيها في رضا تام، اسلم قياده لحبها، وكلما جمعهما لقاء أنس، تزداد تباريح فؤاده، تتضاعف قناعته بأن الدنيا مستحيلة بدونها.
لم يجد من بد إلا مفاتحة الوالد في أمرهما، انتهز أقرب زيارة للقرية، خلا له المكان فانتحى بالشيخ جانبا، استجمع قواه، واستحضر أمامه “عزيزة” تقطر نظراتها بالأمل، أسرَّ إليه بخبيئة نفسه، أعلن في شجاعة رغبته في الزواج، تهلل عندها وجه الشيخ، اعتدل في جلسته، وقال وهو يهز عصاه منتشيا: “هذا ما كنت أود مفاتحتك فيه، عروسك موجودة، من لحمك ودمك”، سرت رجفة خفيفة في أوصاله، اترجف فرقا، زاغت عينيه في تشتت، عاجله الشيخ في ونس: “ابنة عمك، لم يطلب والدها مهرا، سترث فدانا من الأرض، هي خير من يخدم والدتك ويرعاها في شيبتها”، تطلع نحو والده بنظرة مشلولة، شعر وكأن روحه تنسل من جسده الهزيل، أطلقت عينيه في الفضاء، بدا النهار أمامه أكثر شحوبا، تتراقص أضوائه في خفوت بغيض ينذر بالنهاية، امتلأ حلقه بالمرار، مرار لم يعهده، تحامل على نفسه قاوم بكل ما تبقى من قواه، ليقول في نفس واحد: “ولكني لا أرغب في الزواج منها، إنني أحب غيرها، اتفقنا على كل شيء، لن اكلفك قرشا”.
مسح الشيخ وجه ابنه في حنق، قال بصوت مكتوم: “ومن تكن صاحبة النصيب؟”، ردَّ بصوت مهتز: “عزيزة”، ضحك الشيخ ملئ شدقيه، وقد احتقن وجهه بالدم، دفعه بعصاته في صدره وهو يقول: “عزيزة، نعم عزيزة، الأرملة اللعوب صاحبة البيت، الآن حصحص الحق، لقد صدقت نبوءتي، نجوم السماء أقرب إليكما، إما الزواج من ابنة عمك، أو طلاق أمك”، شاح العجوز بوجهه، غام بسحابة من الأسى يكر حبات مسبحته في غيظ، لم تفلح توسلاته، تأكد مما عزم عليه الوالد، لم يجد من بد إلا أن ينزوي بنفسه بعيدا، مسح الحزن ملامحه فلم تركه إلا كعود البوص المتيبس، ذبل وجهه، واختفى بريق عينيه، يزحف الموت نحوه في كل ساعة، ينز قلبه الأسى، تتكدس عذاباته، وإلى اليوم وهو على حاله، لم يخرج من محبسه، فقد عقله، وهجر شؤون دنياه، ولا أمل في شفائه.