بقلم محمد مختار ( كاتب وباحث )
يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
وكل نصوص القرآن الكريم تحدثت عن عتق رقاب العبيد المملوكين رجالا ونساء ، فقط عن تحرير العبيد وعتق الرقاب، ولم تأتي آية قرآنية أبدا بما يشير حتى ولو من بعيد إلى أن هناك أى سبب يمكن من أجله استرقاق النساء والرجال الاحرار، ولو حتى كان هؤلاء من بين الاعداء ، يقول المولى سبحانه وتعالي في كتابه الكريم : فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) ( سورة محمد – 4 ) فحتى مع انتصار المسلمين على الكفار في الحروب فبعد أن تضع الحرب أوزارها فالمصير الوحيد للاعداء غير المسلمين بالطبع هو إما (فَإِمَّا مَنًّا ) أو (وَإِمَّا فِدَاءً) ، ولم يقل الله سبحانه وتعالى أبدا أن يتم استرقاق الاسري من النساء او الرجال فضلا عن قتلهم، فإذن من أين جاء فقهاء المسلمين الذين أسسوا المذاهب الفقهية بعد 600 سنة من وفاة النبى صلى الله عليه وسلم باسترقاق الاسري من غير المسلمين، بل وحتي في معاملة الأرقاء بعد استرقاقهم فإن فقهاء المسلمون كانوا وراء هولوكست راح ضحيته عشرات الملايين وربما مئات الملايين ( اكرر مئات الملايين ) من البشر ضحايا القتل والتعذيب لا لسبب إلا أنهم وجدوا انفسهم ضحايا الاسترقاق .
فكما هي العادة التي اعتدادها فقهاء المسلمين في كل عصر وفي كل مصر، فقد فرغوا النصوص الشرعية من مضمونها، فالآية الكريمة والحديث الشريف كانا واضحين في اعتبار أن النفس معصومة وأن الدماء تتكافأ حرا أو عبدا، لكن فقهاء المسلمين استنوا سنة جديدة لا أصل لها في كتاب ولا سنة، فالحسن نفسي ينسي الحديث الذي رواه فيقول بأن الحر لا يقتل بالعبد، وعلى الرغم من أن بعض الفقهاء قالوا بأن النفس هنا تتكافأ من حيث الدماء وأنه من قتل عبدا يقتل به سواء كان القاتل حرا أو عبدا، إلا أن الجمهور من الفقهاء ذهب لعكس ذلك، فمن
رأى أن الحر يقتل بالعبد وهو قول الحنفية وجماعة من السلف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ومنهم من رأى أن العبد لا يكافئ الحر، ومن ثم فلا يقتل به لنقصه عن رتبته، وليس في هذا تنقص لآدمية العبد ولا استخفاف بحقه، ولكنه لما كان مملوكا لم يكن مكافئا للحر، فلا يلزم في قتله إلا الدية على هذا القول، قال القرطبي مبينا هذا الخلاف: وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ علي وابن مسعود ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عتيبة، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْتُلُونَ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ، لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْآيَةِ.
وقال ابن قدامة رحمه الله: ولا يقتل حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، لِعُمُومِ الْآيَات وَالْأَخْبَارِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ـ وَلِأَنَّهُ آدَمِيُّ مَعْصُومٌ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ ـ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ـ رَوَاهُ الدار قطني، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ مَعَ التَّسَاوِي فِي السَّلَامَةِ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ كَالْأَبِ مَعَ ابْنِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ الْحُرُّ، كَالْمُكَاتَبِ إذَا مَلَكَ مَا يُؤَدِّي، والعموميات مَخْصُوصَاتٌ بِهَذَا، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ..
ودلل جمهور الفقهاء على ذلك بأن العبد كالسِّلعة والمتاع بسبب الرق الذي هو من آثار الكفر، والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليه، وقد قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55] فكيف يُساوى المؤمن بالكافر، وكيف يقتل به؟
فجمهور الفقهاء اعتبروا العبد مال مقوم لا يساوي الإنسان الكامل وإذا ما قتل سيد عبده أو جاريته فهو قد أتلف ماله فلا عقاب عليه، وإن قال بعض الفقهاء بأنه يؤدي مثل قيمته لبيت مال المسلمين، لكن لم يقل أبدا أن السيد الذي يقتل عبده يكون قد ارتكب جرما يستحق أن يحاكم من أجله لأنه قتل إنسان!
بل أجاز الفقهاء أجاز للسيد أن يقيم الحد على من يملكه من جارية وعبد وحيث جاز ذلك في الحدود عند جمهور الفقهاء بما في ذلك حدود القطع والقتل، حيث لم يخالف فيه إلا الحنفية وهذا باتفاق الجميع
وهكذا يمكن القول إنه كما كانت الحضارات السابقة للإسلام، واللاحقة له أيضا متوحشة في تعاملها مع الرقيق، فإن المسلمين كانوا هم أيضا متوحشون مع الرقيق وإن كانوا أقل وحشية في بعض الأحيان.
فكما كان يقتل السيد الأبيض الزنجي في مزارع القصب تحت السوط وهو يعمل بدون أن يعاقب من قانون أو سلطة مدنية، فإن فقهاء المسلمين أعطوا لملاك الرقيق المشروعية الدينية في قتل عبيدهم تحت السياط ضربا وتعذيبا بدون أن يقتص منهم، ولا حتى بدون أن يشعر أحدهم بأنه قد فعل شيئا ذا بال يمكن أن يستغفر عليه ربه، ونقل عن الصحابة رضي الله عنهم في عدم قتل السيد بعبده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الرجل بعبده، كانا يضربانه مائة، ويسجنانه سنة، ويحرمانه سهمه مع المسلمين سنة إذا قتله عمدًا، عن علي رضي الله عنه أنه قال: «من السنة أن لا يقتل حر بعبد» ، هذا فيما يتعلق بقتل العبد، أما جرح العبد وتقطيع أوصاله من جانب سيده أو أي حر آخر ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن : «ولأن حرمة النفس أغلظ من حرمة الأطراف، فلما لم يجب القود بينهما في الأطراف فأولى أن لا يجري بينهما في النفس «ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به الحر، كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي ولأن العبد مال لسيده، فلا يستحق المطالبة على نفسه
أما عن الضرر الناتج عن التأديب من جانب السيد للعبد في المجتمع الإسلامي، ووفقا للمصادر الإسلامية أنه إذا أدب السيد عبده التأديب المشروع، فهلك، فلا ضمان عليه في قول جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، لأن التأديب من السيد فعل مأذون فيه شرعًا لإصلاح العبد كضرب المعلم، والموت نتج من فعل مأذون فيه، والمتولد من فعل مأذون لا يعد اعتداء فلا ضمان عليه فيما تلف به كالحد، ولأنه لا يجب للعبد شيء على نفس سيده، أكثر من ذلك فحتى القصاص بين الأرقاء بعضهم وبعض كان شرطا له أن يتساوى العبد الجاني والعبد المجني عليه في القيمة المالية، فقد روي عن أحمد وعن عطاء أن شرط القصاص بين العبيدين أن تتساوي قيمتهم المالية، وأن اختلفت قيمة العبد الجاني عن العبد المجني عليه لم يجري بينهما القصاص، بل أن ابن عباس أعلنها صريحة بأن العبدـ، ذكر أو أنثى ليس إنسان بل أقل من الإنسان وبمثابة مال مقوم، فأفتي في كتابه المغني باب الجراح بأنه ليس بين العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال.
وإن كان واقع ما حدث في المدينة المنورة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد رجلا قتل عبده، فعن على رضي الله عنه قال: قَتَل رجلٌ عبده عمدًا متعمدًا، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، ونفاه سنةً، ومحا سهمه من المسلمين.
وكان يمكن أن يبني على موقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفا مغايرا مع الاحرار الذين يقتلون عبيدهم من المسلمين، ولكن جمهور فقهاء المسلمين استغلوا هذه الواقعة بأن أطلقوا يد الأحرار في قتل عبيدهم ، واستدلوا بأن إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص من هذا السيد القاتل مع أنه قتل عبده عمدًا، وإنما أوقع عليه جملة من العقوبات التعزيرية، ولم يقد منه، ولو كان السيد يقتل بعبده لما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العقوبات، بل لأقاد منه لا سيما وأنه صلى الله عليه وسلم في مقام التشريع، فاقتصاره على هذه العقوبات دليل على عدم وجوب القصاص على السيد إذا قتل عبده، وهكذا شهدت بلاد المسلمين بعد ذلك مذابح يومية تجري بغطاء من الشرع والدين يذهب ضحاياها الأرقاء.
الشاهد من كل ما سبق أن كل الأديان، بما فيها الإسلام، لم تأبه كثيرا لفكرة الحرية، وأن الغالب على كل الشرائع أنها كرست للعبودية والقهر والظلم، وليس من صحيح القول بأن الدين يهتم بعظائم الأمور وأن العبيد فئة مهمشة في المجتمع فلم يهتم به فقهاء المسلمين، بل العكس هو أن عدد الأرقاء في ديار المسلمين كان أضعاف عدد الأحرار، وكان الدين دائما يصب في اتجاه تكريس المجتمع العبودي، حدث ذلك دوما ويحدث على الدوام، وإن اختلفت الأشكال والأسماء والوجوه، بل أن ما يدمي القلب هو أن أشهر واقعة لسبي مصريين أحرار في تاريخ مصر القديم والوسيط كانت على يد جنود الخليفة المأمون في سنة 831 م، عندما ثار أهالي منطقة البشرود الساحلية بين فرعي النيل دمياط ورشيد ضد ظلم ولاة المأمون، الذين أسرفوا في جمع الضرائب، بخلاف الجزية، فكان أن أخمد جنود المأمون ثورة الفلاحين بكل قسوة وقام جيش الحامية بسبي كل نساء وأطفال المحتجين ضد الظلم، وهى واقعة إن طبقت عليها القواعد الشرعية فهو استرقاق باطل، لأن من وقعوا في الرق هنا ليس جيش محارب بل ذرية ذميين يخضعون للدولة الإسلامية، وما ارتكبوه هو الثورة ضد الظلم والتعسف، فليسوا محاربين وليسوا في دار حرب، بل هم ذميين وقع عليهم العسف والجور، فكان جزاؤهم السبي والاسترقاق.