خاص : كتبت – سماح عادل :
“هنري ميللر”، روائي أميركي شهير.. ولد في حي “يورك فيل” في نيويورك، يوم 26 كانون أول/ديسمبر عام 1891، وكان والده من أصول ألمانية، وعاشت الأسرة في فقر، حيث كان الأب يعمل خياطاً، ودخل “هنري” المدرسة 1903، ثم التحق بالعمل في شركة أسمنت، ثم التحق بجامعة “كورنيل” ومضى فيها فترة قصيرة، ثم ترك نيويورك إلى كاليفورنيا وعمل في إحدى المزارع، ومنها إلى أريزونا، حيث أنضم إلى إحدى الجماعات الفوضوية التي أثرت كثيراً عليه، ثم عاد إلى أسرته وعمل خياطاً مع والده، وعمل في مهن كثيرة بعدها مثل، نادل وغاسل أطباق وعامل نظافة وملاكم وعازف بيانو وحتى حفار قبور.
حياته..
تزوج للمرة الأولى من “بياتريس ويلكنز”، وكان زواجه فاشلاً، يقول: “حين تزوجتها كنت لا أكترث لها البتة”، ثم التقى بـ”غوان أوديت سميث”، عام 1923 وأحبها كثيراً، ثم سافر إلى باريس 1929، ثم طلقها وعاش في حي “سان غيرمان”، وأحب خلال هذه الفترة “مونا” وتأثر بالحركة السيريالية الفرنسية واندفع في تيار البوهيمية، وحين بلغ الأربعين نشر رواية (مدار السرطان) 1931، التي اشتهرت فيما بعد وأثارت هذه الرواية ضجة كبيرة ومنع نشرها في أميركا وإنكلترا، ولم يرفع الحظر عنها إلا في عام 1961، وكان الفضل في طباعتها يعود إلى عشيقته “اناييس نن”.
ثم أصدر بعد ذلك رواية (نيويورك ذهاباً وإياباً) 1935، و(الربيع الأسود) 1936، و(مدار الجدي) 1939، وقبل الحرب العالمية مباشرة عاد إلى نيويورك، حيث واصل إنتاجه، وكانت آخر زيجاته عام 1967، فقد تزوج خمس مرات، وكانت آخر زوجة يابانية شابة تصغره بحوالي 50 عاماً، وبعد سنوات قليلة تعرف على ممثلة شابة لا يزيد عمرها عن 30 عاماً واسمها “براندا فينوس”، وعاشا قصة حب جعلته يبتعد عن زوجته الأخيرة، ثم أمضى سنواته الأخيرة على كرسي متحرك وحيداً في إنتظار الموت حتى توفي في حزيران/يونيو 1980 عن عمر 88 عاماً.
كتابته..
تتميز كتاباته بأنها مزيج من السريالية المفعمة بإستدعاءات الطفولة وحب للحياة مع تمرد على كل الضوابط والقيود، وهو يعمد إلى تحطيم تابو الجنس ويفرد له صفحات جريئة، وقد ثار جدل كبير حول الإباحية والرقابة في فرنسا في منتصف الأربعينيات أدى إلى تكوين لجنة باسم “الدفاع عن ميللر وحرية التعبير”، وكان من بين أعضائها “أندريه جيد” و”سارتر” و”أندريه بريتون” و”بول الوارد”.
إن فعل الكتابة لدى “ميللر” يتلخص في التجربة الجريئة، سواء جمالياً أو سياسياً، ورغم أن “ميللر” كان يدرك نقطة الضعف في أنه كان مركز كتاباته والناقد الأول لشخصيته، فإنه كان يعتبر ذلك مصدر تحرره.
في روايته (الصلب الوردي)، التي نشرت 1962، عرض “ميللر” آرائه، يقول: “إن الهدف من الحياة أن نعيش، وأن نعيش تعني أن نكون يقظى، تلك اليقظة المبتهجة السكيرة الرائقة الرائعة”. كما قال في موضع آخر: “إن كل نمو هو قفزة في الظلام، فعل تلقائي غير متعمد وبدون إستفادة من التجربة”.
رسام محترف..
كان “ميللر” يهوى الرسم، وقد أنتج عدداً كبيراً من اللوحات التي كان لبعضها قيمة فنية كبيرة، يقول “ميللر” عن الرسم: “أعطني قليلاً من الأمل، قليلاً من السماء، وأعطني الكثير من الحب، أن ترسم يعني أن تحب، وأن تحب يعني أن تعيش الحياة إلى أقصاها”. ولقد ترجمت أعماله إلى 80 لغة، ورسم حوالي 2000 لوحة، تم عرضها في 60 معرضاً دولياً.
مهووسات بالتملك..
في كتاب: (إعترافات هنري ميللر)، يجري الكاتب “كريستيان دي بارتيا”، حواراً مطولاً مع “هنري ميللر”، يقول فيه عن الأمومة: “الحقيقة أن أغلب النساء مهووسات بالتملك، والأم الجيدة شيء نادر في رأيي، وهي شيء رائع في حياة الكاتب، لكن هناك أمهات لديهن حس التملك ويفضلن الطاعة على المحبة، وفي ظني أن هناك خلل ما في الحياة الجنسية لغالبية هؤلاء النسوة. ثمة نساء يشبهن الأرض إنهن مخصبات بشكل كوني”.
ثم يضيف: “الجنس الضعيف على العكس هو الأقوى، كان على أمي أن تكون قوية، فقد كان أبي سيفرط في ماله لولا أن أدخرته أمي في البنك، وعندما توفيت فوجئت بالمال الذي أدخرته، أتذكر أن أبي كان يقول لي: أشتري لي سجائر وأحذر أن تراك أمك، وكانت هي تقول لي: لا تشتري له سجائر أنها مضرة بصحته”.
يقول “ميللر” عن الكتابة: “لم أبدأ إلا في سن الثالثة والثلاثين، أكيد أني كنت أريد أن أكتب قبل ذلك، عندما كنت شاباً، ولكن لم تكن لدي الشجاعة والثقة بالنفس، كنت أعمل بشركة التليغراف حين كتبت رواية (الأجنحة المتكسرة)، كانت هذه أول محاولة لوضع رواية، وقد أنهيتها في 3 أسابيع، كانت رواية ضخمة وهي قصة 12 ساعي بريد أعرفهم شخصياً في شركة التليغراف، أفراد شديدو التميز جميعهم من جنسيات أجنبية منهم هندوس مثلاً”.
كوابيس “ميللر”..
يقول “هنري ميللر” في الحوار: “بدأتني الكوابيس مبكرة جداً في حياتي، ربما لأنها كانت كثيرة الإضطراب، والآن ومنذ، يا إلهي، عشر سنوات لدي كابوس واحد يتكرر باستمرار، كأنني أرى نفسي في المرآة قد أكون بصدد الحلاقة وفجأة أتطلع إلى المرآة وأجد أني لست أنا، إنه شخص آخر، وحينئذ أدرك أنني مجنون وأنهم سيضعونني في مستشفى المجانين، أذهب إلى المستشفى وأنا لا أدري كيف وصلت إليه، وحينئذ أبقى وحيداً وبعد أن أقضي سنين عديدة في المستشفى، حيث أتحدث إلى كل المقيمين، قلت في النهاية أعثر على منفذي السري، أتسلق الجدار وأترك نفسي أسقط فأجدني في العالم الخارجي، أتطلع فأرى الناس قادمين فأقف منتظراً وإذ يقتربون مني أقول لهم: أهلاً كيف حالكم ؟، وأين أنا ؟.. فيتطلعون إلى بعضهم البعض ويقولون مجنون”.
رسالة “ميللر”..
في الحوار يقول “ميللر” عن رسالته التي توزعت في كتاباته: “حياة الإنسان في عمقها تتمثل في أن يتخلص من مخاوفه، وهناك شيء آخر هام وهو أن حياتك غير مهمة لك أنت فقط ولكنها مهمة أيضا بالنسبة للآخرين، لكل منا درب خلاصه الخاص وإنه ليس ثمة مخلص للبشرية، إذن كل منا مخلص نفسه لن يأتي المخلصون على الإطلاق. إن مغامرة الإنسان الوحيدة هي الذهاب نحو الذات وحل مشكلة العالم الحديث تتمثل في أن يمضي كل إنسان إلى ذاته، رسالتي في صميمها تتمثل في أن يحقق الإنسان الكون داخل ذاته، وهذا ليس ممكنا لكل إنسان. معنى الحياة أن تحوي في ذاكرتك الكون بأسره، كل شيء في نهاية الأمر يحتويه الفرد الواحد، إننا من الممكن أن نعيش آلاف الحيوات في حياة واحدة، وأهم فكرة أن نكف عن التصارع ونكف عن إجبار أنفسنا لأن تصير شيئا آخر، كن أنت نفسك، رغم ذلك فإنه من المستحيل أن يعرف الإنسان نفسه تمام المعرفة إذ تظل ذات الإنسان وبشكل ما سرا مغلقا بالنسبة له، بمعنى من المعاني ستظل هناك دائما حجب، ويقال أنه لا ينبغي تمزيق الحجاب الأخير وإلا سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام الجنون، لأننا عندما نزيح الحجاب الأخير نرى العدم، إن الفكرة الأكثر رعبا هي أن ترى وأن تفكر داخل العدم، قد يكون الإله (لا شيئا) أو (أي شيء) إن هذه الفكرة تستطيع أن تقودك إلى الجنون” .
رؤية سوداوية..
يضيف عن فلسفته في الحياة: ” فلسفتي ليست مرحة، من الممكن أن تكون مبهجة بالنسبة لي وللكائن الفرد إلا أنها أكثر قساوة بالنسبة لجماهير الشعب، إن الوضع البشري رديء، فنحن نعيش كالفئران ونحن لسنا حتى حيوانات جيدة، لدي فكرة سيئة عن العالم كما هو عليه، وفي رأيي أن الوضع البشري رديء ولا إنساني، لقد اكتشفت مبكرا رعب العالم ورعب أمريكا ورعب الإنسان الأبيض الذي اخضع الأرض، والملطخ الأيدي بالدماء، بدماء المرممين ودماء السود ودماء الهنود الحمر والإسكيمو وضحايا القنبلة الذرية، إذا كانت لدي رؤية سوداء للإنسانية فأنا مدفوع منطقيا، إلا إذا كنت أرغب في الانتحار، إلى الإيمان بأننا سنتوصل يوما إلى خلق إنسان أرقي يعمر هذه الأرض.
المصدر:
كتاب: “اعترافات هنري ميللر في الثمانين” – كريستيان دي بارتيا – ترجمة خالد النجار – إصدار دار الهلال.