16 نوفمبر، 2024 1:33 ص
Search
Close this search box.

هل نحن بحاجة إلى علم إجتماع ديني شيعي

هل نحن بحاجة إلى علم إجتماع ديني شيعي

هل نحن بحاجة إلى «علم إجتماع ديني شيعي»؟:
قراءة في مشروع «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن
إعداد، د. راشد الراشد
(باحث وأكاديمي من البحرين)
مدخل
مبادرة مهمة ومشروع ملح وبحث متميز طرحه المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن مؤخراً في كتابه «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»؛ فدراسة دراسة المجتمع الإنساني لأية أمة وكيان حضاري إنساني هو ضرورة ملحة معرفياً، لأنها تغني الفكر الإنساني وتزوده بالطاقة اللازمة للحياة، ليمارس دوره في قيادة إنسانيتنا نحو الكمال. والشيعة مكون إنساني عريض، له وجوده المؤثر في أكثر من إتجاه، ليس لأبناء المكون بذاته، وإنما أصبحت له تأثيراته الواضحة على حضارتنا الإنسانية، بما يمتلكه من مقومات فكر ومضمون أخلاقي في وصاياه وتعاليمه، كما له هويته الفريدة الخاصة، وبروزه نظاماً إجتماعياً له امتداداته العريضة وتأثيراته الواسعة في حضارتنا الإنسانية، وبات من الضروري اليوم دراسته بوصفه مكوناً كبيراً فاعلاً في مسرح الأحداث، وله إسهاماته في صناعة الواقع، رغم نشوئه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وهي تجربة فريدة يختصه بها «الاجتماع الديني الشيعي» الذي تجاوز كل حقب التاريخ التي مرت عليه رغم ضرواتها في معظم الفترات تلك.
هناك ضرورة ملحة لدراسة «التشيع» بعيون البحث الهادف، للوصول إلي معرفة العوامل التي ساعدته للبقاء والإستمرار طيلة قرون متمادية، بالرغم من حملات القمع المتواصلة التي استهدفته وجودياً، والتي وصلت إلى حد التصفية المجنونة لكل ما يتعلق بتراث وإرث وكل هذا الكيان. فمن المؤكد بأن هناك نظام إجتماع ديني يتفرد بخصائص ومميزات جعلته يصمد طيلة فترات التاريخ التي مضت عليه، بل استطاع بفعل تلك المميزات والخصائص أن يتجاور الحدود الجغرافية الضيقة، ليواصل انتشاره، ويغطي اليوم رقعة واسعة من كرتنا الأرضية، وله إسهاماته الخلاقة في رفد الإنسانية بالمضمون الأخلاقي الفريد، الذي يحمله فكراً ومنهجاً وحركة. ولأن الشيعة وعقيدة «التشيع» أصبحت حالة مؤثرة مشهودة؛ فإنّ تتبّع تطور «النظام الاجتماعی الديني الشيعی» هو أمر تفرضه طبيعة حجم الانتشار، وما يمتلكه «التشيع» من عناصر قوة في الفكر والمضمون الأخلاقي بصفة خاصة.
أهمية مشروع المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن
ما يطرحه البحث الذي يقدمه الأستاذ الباحث والمفكر الدكتور على المؤمن يجيب على العديد من التساؤلات التي يثيرها موضوع «علم الاجتماع الديني الشيعي»، بدءاً من: هل يمكن أساساً دراسة «الاجتماع الديني الشيعي» أو «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»؟ وما هي أهم مكوناته وعناصره التي يتشكل منها؟ وما هي طبيعة التحدّيات التي تواجه الإجتماع الشيعي للتغيير والتجديد؟ وما هو دور الفقهاء والمراجع الدينية والحوزة العلمية في الاجتماع الشيعي؟ وهل هناك في «التشيع» قواعد عقدية وفقهيه يستند إليها «الاجتماع الديني الشيعي»؟، وغيرها من الأسئلة الهامة والملحة حول واحد من أكثر الموضوعات حساسية وإثارة للجدل، ليس على المستوى الشيعي الخاص، وإنما على المستويين الإسلامي العام والعالمي، لما ينطوي عليه من إشكاليات في طبيعة الفهم والموقف من ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي. ونحاول في هذه السطور قراءة المشروع بعيون منفتحة، على مدى الحاجة إلى مثل هذه الأبحاث المعرفية، لإثراء ساحتنا الفكرية بما يمكن أن يساعدنا كأمة على المضى قدماً وبخطوات راسخة نحو الريادية وتبوء مواقع الصدارة في حضارتنا الإنسانية المعاصرة.
إن طبيعة البحث في شأن تطور الاجتماع الديني الشيعي؛ له حساسيته الخاصة، إذ يصطدم الباحث ــ عادة ــ بين مناهج التوصيف وكتابات النقد الموجهة والمنحازة وتحديات إسقاطات قيم التطوير والتجديد والإصلاح من جهة البحث، وبين إسقاطات المواقف المنهجية والعاطفية المسبقة من هذا الاجتماع. وفي كل الأحوال؛ إن مجرد شغل «علم الاجتماع الديني الشيعي» هذه المساحة من الاهتمام هو بحد ذاته دعوة صريحة وواضحة لكي يتقدم مفكرو الشيعة بتغطية هذا البحث من زاويتهم الخاصة التي تنطلق من «التشيع» فكراً ومنهجاً ورسالة ومضامين أخلاقية، وهو ما يحتاجه «النظام الديني الإجتماعي الشيعي»، ومما لا يستطيع من هم خارج دائرته الإبداع فيه.
ويأتي کتاب «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع» للباحث والمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن في هذا السياق من معركة القيادة والريادة في فضاء في الفكر الإنساني، والذي يتناول فيه الدكتور على المؤمن موضوعاً له أهميته القصوى في فضاء الفكر الإنساني. وتنبع قيمة البحث الأساسية من أن هذه المقاربة النوعية في فضاء علم الإجتماع، لها حساسيتها الخاصة، خاصة لصلة البحث المركزية بما وصفه بالاجتماع الديني الشيعي، نظراً للظروف الراهنه التي يعيشها «مجتمع الشيعة» في الخارطة العالمية، رغم أن علم الاجتماع أضحى اليوم في وقتنا الراهن ثقافة أكاديمية تدرسها الجامعات والهيئات الأكاديمية البحثيه في جميع أنحاء العالم، بغية الوصول إلى فهم دقيق للقواعد والأسس التي تقوم عليها مكونات مجتمعاتنا الإنسانية، إلاّ أنّ «التشيع» لم يحظ بما يستحقه من اهتمام وعناية الأبحاث الأكاديمية في هذا السياق.
لقد قام الباحث الدكتور علي المؤمن بدراسة التطورات التاريخية التي رافقت ظهور التشيع كفكرة دينية ومذهب وعقيدة، باعتبار أن ذلك مقدمة يقوم عليها موضوع البحث الأساسي في «علم الاجتماع الديني الشيعي»، إذ تستدعي منهجية البحث العلمي مثل هذه الدراسة، وما يستلزمه من استعراض تطور حركة الشيعة ونموها كاجتماع مدني واسع الإنتشار، والذي أصبح اليوم يغطي رقعة ومساحة جغرافية هائلة، وله تفاعلاته وتأثيراته على مسرح الحياة.
نعم؛ لقد أشار الباحث في مقدمته للبحث، الى أنّ موضوعه ليس متعلقاً بدراسة التشيع كمذهب ديني أو مدرسة فقهية تتميز بسجالاتها العلمية في ميدان العقيدة والفقه بمختلف فروعه، وإنما هي محاولة لتأسيس نظرية علم إجتماع خاصة لمكون استطاع أن يفرض وجوده رغم كل الظروف السياسية الصعبة والقاسية التي مر بها. والحقيقة أن الباحث نجح في خلق مبادرة حيوية مهمة للغاية في سبيل تأسيس نظرية لعلم اجتماع ديني يختص بالتشيع كأمة لها من الحضور والفعالية، بحيث تستحق البحث والدراسة لمعرفة الأسس والقواعد التي تقوم عليه فكرة هذا الاجتماع، وتنبع قيمته الأساسية من أن الباحث يأتي من رحم الكيان الشيعي ومن داخله.
في تقديرنا ليس هناك سابقة في البحوث الفكرية وحتى العلمية المتخصصة في قضايا وشؤون علم الاجتماع في مكتبتنا الإسلامية والعربية التي تناولت تأسيس علم اجتماعي ديني يختص بالشيعة كمكون إجتماعي كبير في خارطتنا الإنسانية، وقد طالعنا مجموعة ضخمة من الدراسات والبحوث العلمية لعدد من الجامعات العربية والإسلامية، ورغم غزارة الإنتاج في الدراسات العليا؛ إلّا أننا لم نقف على دعوة واحدة تتناول موضوع علم اجتماع لمكون الشيعة كموضوعة تخصصية قائمة بذاتها. وبالتالي؛ فلمفكرنا العراقي الدكتور علي المؤمن تسجيل السبق في طرح هذه المبادرة المهمة لأمة لها انتشارها وحضورها الواسع في عالمنا المعاصر، وهي أمة ــ كما تشير الاستقصاءات الميدانية ــ ناهضة في شتى الميادين، وأن سرعة انتشارها وحجمه، أصبحت ملحوظة بشكل لا تحتاج إلى عناء بحث أو تقصي، وهذا ما يجعل تأسيس علم اجتماعي شيعي هو في غاية الأهمية، لا أقل لإثراء البعد المعرفي في ظاهرة الاجتماع الشيعي، لما تستحقه الظاهرة معرفياً من أمر الدراسة المعمقة والبحث العلمي.
المتتبع لحركة علم الاجتماع وحتى العلوم المتفرعة منه؛ فإنه يلحظ فقراً شديداً، بل انعدام شبه مطلق في دراسة ظاهرة الاجتماع الديني الشيعي دراسة موضوعية بعيدة عن ما علق بها من تشويه، بسبب طغيان البعد السياسي المشحون بالحساسية المفرطة لكل ما يتصل بفكرة التشيع وموضوعه الشيعة، حيث طغت الأبحاث ذات الطابع والايحاء السياسي الموجّه أو المذهبي المستغرق في القواعد الفقهية والأصول الدينية، مما أخذها بعيداً عن الموضوعية في دراسة «الاجتماع الديني الشيعي»، والأسس والقواعد التي يقوم عليها، وغابت عن معظم تلك الدراسات والأبحاث المطروحة في فضاء الفكر الإنساني العام الأصول المنهجية السليمة لدراسة الاجتماع الشيعي وبحثه، رغم ما وصل إليه هذا الاجتماع من قوة حضور وانتشار وتأثير لا يمكن تجاهله أو إغفاله بأي حال، بل إننا نقف اليوم أمام أهم ظاهرة اجتماعية دينية وسياسية في العالم، وهي تستحق العناية والدراسة والبحث.
لابد هنا من التعمق في هذه الظاهرة الكونية الفريدة، عبر استعراض جذورها وخلفياتها التاريخية، مروراً بدراسة بيئة النشأة والتأسيس، وكذلك محاولة التعرف على منظومتها الفكرية وهيكلتها الاجتماعية وعناصر قوتها، وبحث كل العوامل التي أدت إلى تطورها ووصولها إلى ما هي عليه اليوم من حضور وانتشار كبيرين، وما قام به الدكتور المؤمن في هذا المجال، هو تأسيس منهجي متفرد.
الاجتماع الديني الشيعي بين علي المؤمن وعلي شريعتي وعلي الوردي
تعود أهمية بحث «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر العراقي الدكتور علي المؤمن الى عدة عوامل أساسية، منها ــ وفي صدارتها ــ سد ثغرة كبيرة في جدار البحث العلمي حول موضوعة الاجتماع الديني الشيعي، وأن هندسة البحث جاءت من الداخل هذه المرة، دون إسقاطات المدارس الفكرية المناوئة أو المنافسة، حتى التي تفتقر إلى المهنية والعلمية في البحث.
تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض المقاربات المتناثرة ــ في مكتبتنا الإسلامية العريضة ــ من كتّاب غربيين وكتّاب مسلمين وعرب، لكنها محصورة بمناهج المدارس الغربية في العرض والتحليل، وليست لها علاقة بالتشكل الفكري والثقافي والديني لمجتمع الشيعة، ولا للاجتماع الشيعي بكل منظومته الفكرية والعقدية التي يتشكل منها. وهنا تكمن قيمة البحث الذي بين أيدينا؛ فهي المرة الأولى التي يطل فيها باحث على موضوع الإجتماع الديني الشيعي من رحم المكون، وممن تابع مراحل تطوره وانتشاره خلال أكثر من الأربعة عقود الماضية الأكثر أهمية وحساسية لهذا الاجتماع، وعاش هواجسه المتعددة والمتنوعة في داخل المكون؛ فما جاء في بحث الدكتور المؤمن هو حصيلة بناء معرفي من الداخل، أمتد زهاء أكثر من نصف قرن من المعايشة والتفاعل، وهكذا فهو لم يكن مجرد بحث أكاديمي بحت لنيل شهادة جامعية عليا أو بحث ترفي من خارج المنظومة يريد من خلاله الباحث زيادة رقم إضافي على قائمة أبحاثه.
لقد تناولت ظواهر علم اجتماع المسلمين والشيعة، أسماء لامعة في فضاء علم الإجتماع العربي والإسلامي، كالدكتور علي الوردي والدكتور على شريعتي وغيرهم من أرباب الفكر وعلماء الإجتماع في عالمنا العربي والإسلامي، لكن الطابع العام الذي اتسمت به هو أنها أعتمدت مناهج البحث والتفكير من مدارس فلسفية خارجه عن «التشيع»، وربما من مدارس معادية تعمد إلى توجيه مادة البحث إلى أهداف موضوعة مسبقة، تستهدف التشويه والتشكيك أو إدخال بعض المادة الفكرية فيها، بغية توجيهها أو تحريفها، بما يتلائم مع وهم الإحساس بالتفوق والريادة في ميدان الفكر والحضارة الإنسانية، وقد ساعدها في ذلك الفراغ أو الفقر الشديد في ميدان البحث العلمي الخاص بمكون «الشيعة».
يأتي بحث الدكتور علي المؤمن ليؤسس لمدرسة بحثية خاصة تنطلق من «التشيع»، بما يمتلكه من مقومات ذاتية مذهلة، وذلك بإزاء المدرسة التي تتبنی الآراء والمناهج وطرق التحليل الغربية، التي أسهمت في توهين التشيع كعقيدة ومذهب وهوية وقضية، وأدت إلى تشويه صورة «الاجتماع الديني الشيعي» على نحو مبالغ فيه، عبر إسباغ الصبغة السياسية حتى على العوامل الطبيعية لحركة الاجتماع وكيفية سيرورة الأحداث والمتغيرات في الاجتماع البشري، وهي تفتقد إلى الموضوعية والمنهجية العلمية في تناول قضية حركة المجتمع الشيعي عند تناول هذا الإجتماع، مثل آراء علي الوردي وآراء علي شريعتي وغيرهم ممن تناولوا «الاجتماع الديني الشيعي» بمناهج وآراء المدارس الغربية التي أخذوا منها العلم والمعرفة، واستقوا معارفهم البحثية منها، بالإضافة إلى الخلط الرهيب بين تفريعات هذا العلم النفسية والسياسية والثقافية والفكرية والعقائدية وإسقاطاتها على الاجتماع الديني الشيعي، وبين الهواجس الشخصية على طبيعة المعطيات القائمة على الأرض في البيت الشيعي الكبير والواسع.
ثمة مفارقات هائلة بين فروع علم الاجتماع المتشعبة والمتعددة، حيث لا يحتوي أي علم من العلوم الإنسانية هذا المستوى من التنوع والتعدد في تفريعاته كتلك التي في علم الاجتماع، نظراً لشمول الرقعة التي يغطيها، وسعة المساحة التي يتحرك فيها، حتى أضحى علم الإجتماع اليوم في المعاهد العلمية مهيمناً وطاغياً على سائر العلوم، بإعتبار أن المجتمع البشري هو غاية كل العلوم، وهو ما يختص به علم الاجتماع دون سواه، ويغطي كل تفريعاته.
«علم الاجتماع الديني الشيعي» حقل تأسيسي جديد ضمن علم الاجتماع الديني
يعتبر عالم الإجتماع السلوفيني “توماس لاكمان” (١٩٢٧-٢٠١٦) أحد الرواد الذين اهتموا بدراسة علم الاجتماع الديني، وهو أول من نال درجة الدكتوراة في علم الإجتماع الديني عام ١٩٥٩م، ويحسب له بأنه هو من أوجد طريقة للتواصل بين الأفكار والمعتقدات الدينية وأمور البحث العلمي القائمة بين مراكز البحث العلمي في أوروبا وامريكا، خاصة تلك التي تعني بدراسة جميع الظواهر الاجتماعية والدينية. ثم تظافرت الجهود العلمية ــ بعد ذلك ــ لدراسة عامل «الدين» كعنصر من عناصر التأثير المهمة في حركة الاجتماع البشري وصياغة السلوك الإنسانية وصناعة الهوية الفكرية والثقافية التي يتمتع بها أي مجتمع، لكن أياً من تلك البحوث، رغم وفرتها في المكتبة الغربية، لكنها لم تتناول ظاهرة «التشيع» كفكرة دينية راسخة ومؤثرة في الاجتماع الشيعي، بل طغت عليها الرؤية المسبقة عن الإجتماع الشيعي، والحكم عليه من خلال المعطيات السياسية، بالإضافة إلى كون هذه البحوث تمثل الرؤية والمشروع الغربي للاجتماع الديني الإسلامي العام. أما «علم الاجتماع الديني الشيعي»؛ فلم يحظ بأي إشارة أو اهتمام قبل مشروع الدكتور علي المؤمن، رغم حضور هذا الاجتماع وفاعليته في مسرح حضارتنا الإنسانية.
نعم؛ برزت بعض الكتابات السريعة التي تناولت حركة المجتمعات الشيعية من ناحية الإصلاح والتغيير السياسي ودور علماء الدين في توجيه المجتمع الشيعي وقيادتهم الميدانية، وهناك أيضاً كثير من الدراسات النقدية في حركة الشيعة نحو تحقيق مطالبهم السياسية، لكن ينقص جميع تلك الكتابات الحديث عن التفاصيل الموضوعية المتعلقة ببناء «الاجتماع الشيعي» والأسس التي يقوم عليها، وسائر التفاصيل المرتبطة بتشكيل الهوية والفكر والمسألة العقدية فيه، على نحو الموضوعية ومنهجية عرض وتحليل المعطيات القائمة.
ومن هنا فإن مشروع «علم الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور علي المؤمن يأتي لسد ثغرة هائلة في جدار الأبحاث المتخصصة في علم الاجتماع الديني، ويتناول موضوعاً مهماً يتعلق بالإجتماع الشيعي. وهذا المشروع عبارة عن نافذة تأسيسة لهذا العلم الذي نرجو أن يفتح صفحة جديدة في سماء المعرفة الإنسانية، لتقديم صورة مغايرة عن واقع هذا الاجتماع بما تعكسه الموضوعية والمنهجية العلمية في تناول هذا العلم.
حقيقة وجود «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وهيكليته
كان نقصاً وثغرة كبيرة في جدار الفكر الإنساني عندما تم إهمال دراسة «الاجتماع الديني الشيعي»، رغم تاريخه الطويل وما يمتلكه من مقومات بقاء واستمرار وجود، وكان مجحفاً أن يقتصر التعاطي مع «الاجتماع الديني الشيعي» كإطار سياسي يتعلق بشؤون الصراع السياسي القائم بين الجماعات في داخل الدولة والنظم السياسية القائمة، وحصره في أحسن الفروض، في زواية التعصب أو التطرف المذهبي، دون الاتجاه بمنهج البحث نحو موضوعة «الاجتماع الديني الشيعي»، وهو محور لهذا البحث الذي بين أيدينا.
إن «التشيع» بما هو عنوان فكرة ومذهب وهوية، يمثل ذلك المشروع التاريخي الطويل الذي يمتد إلى عراقة تاريخنا الإسلامي، وما أحدثه من تحولات ضخمة على صعيد الاجتماع، ليس الإسلامي أو القومي العروبي فحسب، وإنما على صعيد الاجتماع الديني الإنساني برمته. ولا يخفى هنا بأن الفكرة الشيعية هي أحد أبرز عناوينه الأساسية الحاضرة، تأثراً وتأثيراً في هذا العالم، والتي تحتل مساحة ورقعة واسعة منه، لها منظومتها العقدية والدينية كما لها منظومتها الاجتماعية. ولا يمكن بحال تجاوز حقيقة وجود النظام الإجتماعي لكتلة بشرية هائلة تعيش التجانس والتناغم في مشروع عام إسمه «التشيع»، ولها ما يختص بها من نظم اجتماعية تشكل في مجموعها الثقافة الذي يقوم عليه مجتمع الشيعة.
الحقيقة؛ إنه برغم ما تعرض له «الشيعة» من ظلم واضطهاد فاحش على مدى القرون، لكن الاجتماع الشيعي استطاع أن يستمر، متجاوزاً كل التحدّيات والصعوبات التي فرضت عليه في مختلف الظروف، ومن المؤكد بأنه لولا المنظومة التي يتشكل منها هذا الاجتماع الإنساني، ويقوم على أساسها، لما تمكن «الشيعة» من البقاء بهذا الحضور المذهل الذي نشاهده في كل السياقات؛ فكم من المحاولات التي جاءت لتقويض قاعدة «التشيع» والقضاء عليه كفكرة وكيان، وكم أُلصقت في تاريخه من تهم وتشويه، لكنه ظل صامداً، بينما مرت عليه كل الحملات التي استهدفته كمحطة عابرة في هذا التاريخ. ومن المؤكد بأن هناك هيكلية ونظام اجتماعي خاصين بهذا الاجتماع الديني الشيعي، أستطاع الشيعة من خلاله المرور عبر محطات التاريخ المختلفة، وتجاوز أكثرها شراسة وقساوة، على أن خسر الجميع كل محاولاتهم المستميتة من أجل القضاء على هذا الاجتماع.
لقد تعرّض الشيعة وعقيدتهم المحورية التشيع لحملات قاسية شرسة، كما تعرّض الاجتماع الديني للشيعة إلى ضربات قاسية جداً، بما لم يتعرض لها اجتماع ديني إنساني آخر، والتي كان معظمها في كل مرحلة من مراحل التاريخ كافية لإنهاء وجودها وتصفيته الى الأبد، كما حدث لتيارات وجماعات فكرية وعقائدية أُخرى، بينما انتهت من تاريخ البشرية صفحات عديدة لكيانات ملأت يوماً ما صفحات هذا التاريخ بوهج التمدن والحضارة، لكن أغلبها لم يستطع الصمود في مواجهة تحدّيات البقاء والاستمرار، وانتهى وجودها، بينما كانت كل الوسائل والإمكانات المادية متاحة ومتوافرة تحت تحكمها وسيطرتها، بل كان لبعضها من النفوذ ما يجعل أمر بقائها قضية عادية وطبيعية، لكنها لم تصمد أمام طبيعة تحدّيات الزمن وتقلبات الدهر، بينما إستطاع الشيعة البقاء والاستمرار، رغم قسوة التحدّيات والصعوبات التي واجهتهم، والتي وصلت إلى حد التصفية والإبادة الجماعية.
والحقيقة أن بقاء التشيع واستمراره لم يأت نتيجة فراغ، وإنما فرضته عوامل وعناصر موضوعية مهمة تتعلق بمكوناته وعناصر تشكيله. وهذا ما يعطي لبحث الأستاذ الدكتور المؤمن قيمته، فى أنه تجاوز الاصطفافات المبنية على حسابات عالم المصالح والمنافع، إلى دراسة الاجتماع الديني الشيعي كظاهرة من الظواهر الإنسانية التي تفرّدت بعناصر استثنائية في مكوناته الفكرية والعقدية والهيكلية، جعلتها تصمد طيلة هذه القرون، رغم ما عصف بها من تحديات صعبة ومحن قاسية، وهي مما تستحق العناية والاهتمام، بما ينفض بفكرنا الإنساني الخلاق في سعي الصادقين من البشر نحو الكمال المدني والحضاري المنشود. ولا شك أن في ظاهرة الصمود الكبيرة “للتشيع” عوامل كامنة مستقرة، تجعل منه عنواناً، بل عِلماً متفرداً في دراسة الاجتماع الإنساني. وأظن بأن الأستاذ المؤمن استطاع أن يحرك الفكر الإنساني في هذا الاتجاه.
عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» وإنسانيته
سبقت الإشارة الى أنّ هناك مجموعة من العوامل التي تقف وراء صمود وبقاء «التشيع» كمنظومة عقدية وفكرية، رغم قسوة وضراوة ما تعرض له الشيعة طيلة تاريخهم من ألوان القهر والاضطهاد، وفي فترات هي الأشد قسوة وتوحشاً عندما تعرض «الشيعة» الى القتل على الهوية، كما حدث في عدة عهود وحقب تاريخية مضت، ونالت من وجودهم المعنوي وحضورهم الشيء الكثير، لكن كل تلك الحملات الشعواء لم تستطع إنهاء وجود الاجتماع الشيعي أو تصفيته والقضاء عليه، بل يمكن ملاحظة أن الضربات القاسية التي تعرض لها الشيعة على مدار التاريخ، منذ فجر الإسلام، وتحديداً مع الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية، وبجميع العهود التي تلتها، وإنتهاءً الى وقتنا الراهن، حيث نجد استمرار الحملات القاسية لتحطيم «الشيعة» وتدمير كل ما يتصل بهويتهم ومكونات نظامهم الديني الاجتماعي وهيكلته؛ نلاحظ انتشاراً وتمدداً استثنائياً لظاهرة الاجتماع الشيعي، حتى يمكننا القول بأنها الظاهرة الاجتماعية الفريدة عالمياً التي لا تمتلك عوامل البقاء والصمود وحسب، إنما تمتلك عناصر القوة والتفوق والانتشار التي تجعلها البديل الحضاري العالمي الأمثل.
ولم تتوافر هذه الأسباب والعوامل من فراغ، إنما لوجود عناصر ثابتة مولدة لها ذاتياً. وما يهمنا في هذا السياق الإشارة إلى واحدة من هذه العناصر المهمة التي يمكن ملاحظتها بوضوح في «الاجتماع الديني الشيعي»، وهي عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، بمعنى أن “التشيع” ونظامه الاجتماعي، بما هو كيان فكري ومنهج وسلوك حياتي وعقدي؛ لم يأت لمكون عنصري أو إثني أو جغرافي أو عرقي محدد، إنما تفوّق «النظام» بأنه الفكرة الاجتماعية العقدية العابرة لكل عناصر التجزئة في الفكر الإنساني، من قبيل العنصر واللون والعرق والانتماء الإثني والجغرافي. فبالإضافة إلى قدرة «النظام» على تحطيم كل ما يمكن أن يكون عنصراً من عناصر التجزئة والتفتيت؛ فإنه استطاع أن يتجاوز كل الأطر الضيقة التي يمكن أن تحبس الأفكار في صناديقها الضيقة، وتجعلها مهيئة تماماً للتحلل والاضمحلال ثم الإندثار؛ إذ أن الفكر الذي ينطوي على عناصر التفكيك والتجزئة؛ فإنه بطبيعته يعمل على تجزأة المجزأ وتفتيت المفتت، وصولاً إلى الإضمحلال والتلاشي والفناء. أما التشيع ونظامه الاجتماعي؛ فإنه ظل متماسكاً بكل عناصر تشكله وهيكليته وإطاره.
الهوية الشيعية الواحدة
يتمتع الشيعة بهوية واحدة، لها خصائصها وسماتها ومميزاتها الخاصة، التي لا تختلف بين مكان وآخر أو بين فئة من هذا المكون والفئات الأخرى. وهذه إحدى أهم عناصر القوة المكونة للاجتماع الشيعي الذي ينبغي معالجته بالدراسة والتحقيق؛ فرغم التنوع والتعدد الهائل في الاجتماع الشيعي، من حيث تعدد الأعراق والقوميات والانتشار الجغرافي الواسع، الذي يشمل القارات الخمس، إلّا أنّ الهوية الواحدة في الفكرة والبعد العقدي للاجتماع الشيعي هو الحاضنة الكبرى الجامعة والموحدة لكل هذا التنوع والتعدد، بحيث يمكن ملاحظة الفوارق الفنية في كل شيء إلا في مضمون الهوية والاجتماع الديني الشيعي. ولم تأخذ الفوارق الطبيعية المتصلة بالعرق أو العنصر أو اللون أو القومية أي أثر في تجاوز وحدة الهوية في الاجتماع الشيعي، مع وجود الفوارق الفنية الشاسعة في طبيعة تشكل بيئة الاجتماع الشيعي من حيث الأعراق والقوميات المنتمية إليه.
لقد قام الباحث الدكتور المؤمن بمناقشة إشكاليات الهوية الشيعية في الفصل الثامن من الكتاب، شارحاً علاقتها بمعايير الانتماء المذهبي والقومي والوطني. في الوقت الذي تناول فيه بشيء من التخصيص حول انعكاس الاجتماع الديني والثقافي في النجف الأشرف على الهوية الشيعية، باعتبارها من وجهة نظر الباحث الحصيف، تمثل المركزية التقليدية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، مع ما كان ينبغي لجمال وكمال البحث أن يركز في محاور وموضوعات وأفكار البحث بعيداً عن التوصيفات التي تنزع من البحث قيمته المعرفية، بما يُعرف في فضاء قضايا الفكر ومناهجه بالإنحيازات المسبقة.
بحث المؤسسة المرجعية والحوزة العلمية
رغم مكانة المؤسسة المرجعية والحوزات العلمية كمؤسسات أساسية يقوم عليها «النظام الديني للاجتماع الشيعي»؛ فإن الهوية أكبر وموضوع أعمق من اختزاله بثقافة مجتمع أو مؤسسة ما، مهما تعاظمت مكانتها ودورها في رفد حركة التشيع على أرض الواقع، ولا يمكن لعنصر بمفرده مهما كانت أهميته وخطورة الدور الذي يلعبه، من أن يكون المصدر الوحيد لقراءة معرفية رصينة لكيان تلعب فيه مجموعة من العوامل المتشابكة في تشكيل هيئته وهويته. صحيح أن المؤسسة المرجعية والحوزات المنبثقة عنها يمكن أن تحتل مساحة واسعة من تمثيله، باعتبارهما العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء التشيع، ولكن مهما تعاظم دورهما لا يمكن بحال جعلها في مقام المذهب نفسه والاجتماع الديني الشيعي، بالنظر لتضافر مجموعة من العناصر في تكوينه وتشكيله وتطويره، وذلك بالرغم مما للمؤسسة المرجعية والحوزات العلمية من ثقل واضح على المذهب بما هو عقيدة وفقه، وعلى الاجتماع الديني الشيعي بما هو كيان واقعي قائم.
تعتبر المؤسسة المرجعية ومؤسسة الحوزة العلمية لها من المقومات الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، وفي هذا السياق عالج الأستاذ المؤمن في الفصل الثاني من كتابه «المسار التاريخي للنظام الإجتماعي الديني الشيعي»، حيث بذل جهداً ملحوظاً في رصد مرحل تأسيس النظام الذي يقوم عليه كيان الاجتماع الديني الشيعي، وذلك كما أشار الباحث، منذ عصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحتى وقتنا الراهن. ثم تناول بشيء من التفصيل والتخصص في الفصل الثالث من البحث البنية العقدية والفقهية للاجتماع الديني الشيعي، والتي تناول فيها القواعد الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، كقضية مؤسسة المرجعية، وما يرتبط بها من بحث مسألة التقليد وتأثيراتهما المباشرة في الإجتماع الديني الشيعي.
بالطبع؛ لم يتجاوز الباحث قضية التعدد والتنوع في المؤسسة المرجعية، وكيفية تطور المفاهيم المتصلة بالمؤسسة المرجعية، وعلاقتها المباشرة في التصدى وتحمل مسؤولية الاجتماع الديني الشيعي في مختلف المجالات المتعلقة بالقضايا والتحدّيات المعاصرة للاجتماع الديني الشيعي. أما الركيزة الأخرى التي يقوم عليها بناء الاجتماع الديني الشيعي، والذي يكمن في مؤسسة الحوزة العلمية؛ فقد خصص لها الباحث فصلاً مستقلاً، يتناول فيها الحوزة العلمية باعتبارها المؤسسة الدينية للنظام الاجتماعي الديني للشيعة، وعقد مقارنات ومقاربات مهمة بين الحوزتين العلميتين في النجف الأشرف وقم المقدّسة لأهميتهما في النظام الديني الشيعي.
وهنا ركّز الباحث الدكتور علي المؤمن في هذا الفصل من بحثه القيم على محور له أهميته الخاصة في الفكر الديني الشيعي، بل والبناء العقدي للنظام الديني الإجتماعي للشيعة، لكن تجدر الإشارة إلى أن الباحث فاته التعريف بالحوزة العلمية وتبيان أهميتها ودورها في النظام الديني للتشيع، واستعراض التطور الحاصل فيها، مروراً بمراحل التأسيس، ووصولاً إلى وضعها الراهن، تعريفاً وتأصيلاً لموقع الحوزة العلمية كركيزة من الركائز المهمة التي يتشكل منها النظام الديني للتشيع.
عناصر القوة في الإجتماع الديني الشيعي
لم يفت الباحث الحصيف الدكتور علي المؤمن أن يخصص فصلاً كاملاً مستقلاً لتناول عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، والذي أستعرض فيه ما يربوا على إثني عشر عنصراً من عناصر القوة التي تشكل الحماية الرصينة الثابتة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو حجر زاوية في مشروعه الخاص بتأسيس علم خاص بالاجتماع الديني الشيعي. ورغم أهمية العناصر التي أشار إليها الدكتور المؤمن كعناصر قوة للاجتماع الديني الشيعي، لكن، وباعتبار البحث محاولة علمية لتحريك موضوع البحث لدى المهتمين والباحثين ومن يعنيهم تطور الفكر الإنساني والإسلامي والشيعي على وجه الخصوص؛ كان لابد من الإشارة إلى عناصر القوة في الفكرة والمنهج. أما الطقوس الدينية كالمزارات والمقامات ووجود جماعات المقاومة وحتى الإشارة الى ايران باعتبارها رأس الحربة في المجابهة الحضارية القائمة؛ لا يمكن أن يكون دالاً من ناحية الموضوع على أهميتهما في تشكيل الاجتماع الديني الشيعي القائم على الأرض.
إن الاجتماع الديني الشيعي بما هو فكر وقضية عقدية؛ يمتلك من عناصر القوة في مضمونه الحضاري والأخلاقي والفكري، وحتى العقائدي، ما يجعله متفوقاً على كل محاولات التحريف والتزوير، وما تؤدي إليه الصراعات السياسية على هذه المضامين الروحية والفكرية والأخلاقية. ويكفي الإشارة هنا، رغم ما تعرض له الشيعة من قمع طيلة قرون في معظم مناطق تواجدهم، إلّا أن اجتماعهم الديني ظل قائماً بدون الكثير من الطقوس، مع ما تشكله من رمزية في الفكر الشيعي، وكان كذلك مستمراً وقائماً ولقرون متطاولة، من دون الطقوس المعروفة في القرن الأخير، وكذلك من غير ايران المعاصرة وثقلها الكبير في الاجتماع الديني المعاصر. ومن الأهمية بمكان، رفد هذا البحث بالمزيد، لمقاربة عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، بما هو فكر ومنهج ونظرية، ثم يمكن القيام بالإسقاطات اللازمة من عناصر التأثير القائمة في وقتنا الراهن، والإشارة إلى مراحل تطورها في تاريخ الاجتماع الديني الشيعي.
لقد تناول الدكتور المؤمن بشكل متميز، موضوع التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية، وعلاقة كل مجتمع من هذه المجتمعات بالدولة والسلطات والأنظمة السياسية القائمة في بلدانها المحدّدة، وقد اختار ــ في تحليله ــ ستة نماذج، هي الأبرز والأهم على مستوى دراسة الاجتماع الديني الشيعي، لطبيعة ما تمثله من ثقل ومكانه في هذا الإجتماع، سواء من حيث المسألة الدينية أو الفكرية أو ما يتصل بالهوية والانتماء العقدي، وهذه النماذج الشيعية الستة، كما وردت في البحث، هي: المجتمعات الشيعية الخليجية، العراقية، الإيرانية، اللبنانية، الأذربيجانية والهندية، والتي أعتبر الباحث الكريم تمايزها، يمثل تهديدات وفرص مهمة حقيقية للاجتماع الديني الشيعي في الوقت ذاته، مع أن هناك وجود شيعي يعتد به في أماكن أخرى متفرقة من العالم، وتشكل في وجودها جزءاً مهماً من الاجتماع الديني الشيعي الذي ينبغي عدم حصره في منطقة جغرافية محددة، نظراً لتميزه الكبير في هذا الاتجاه.
مستقبل «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»
في الفصل الأخير من البحث المميز، وهو الفصل التاسع، عالج الدكتور علي المؤمن مسألة مستقبل قيادة «النظام الإجتماعي الديني الشيعي»، وقد ركّز الباحث هنا على المستقبل الذي سيخلف المرجعية الدينية الحالية التي تتصدر مشهد الاجتماع الديني الشيعي، متمثلة في مرجعيتي السيد على الحسيني السيستاني والسيد علي الحسيني الخامنئي، وقد استفاض في مناقشة السيناريوهات المحتملة لما بعد هاتين المرجعيتين الكبيرتين، نظراً لمساحة تأثيرهما الكبير على الاجتماع الديني الشيعي في وقتنا المعاصر، وأستغرق في الحديث عن ما ينتظر مسألة (قيادة) الاجتماع الديني ومستقبله، في ضوء المعطيات القائمة الراهنة. وكنت أتمنى ــ كما أشرت في قرائتي السابقة ــ أن يبقى هذا البحث بمثابة عمل مفتاحي لموضوع يتصل بالإجتماع الديني وليس بحثاً تحليلياً سياسياً.
في تقديرنا؛ فإن دراسة مستقبل أي نظام اجتماع ديني بحاجة إلى التأصيل في عناصر تشكله الأساسية، دون النزوح إلى الاستغراق في بعض تفاصيله، وقد كان بالإمكان الاستفادة من بعض التفاصيل على الأرض، لا بنحو الاستغراق، وإنما كشواهد وأمثلة دالة في التأصيل المنهجي للفكرة، لأن إنتزاع البحث من مساره المنهجي بالاستغراق في التفاصيل، لا يساعد في التأسيس لخلق قاعدة علمية منهجية في دراسة موضوع بحثنا، وهو التأسيس لعلم اجتماع ديني شيعی، يتجاوز التأثيرات المرحلية لبعض الشخصيات والمؤسسات، مهما تعاظم دورها؛ فهذا الاجتماع الديني الشيعي ظل قائماً وشامخاً قرون متطاولة، لأسباب وعوامل تتجاوز العناصر المرتبطة بوقت ومرحلة ما من عمر هذا الاجتماع، وهذه قضية البحث الأساسية التي ينبغي تركيز جهد البحث العلمي فيها، وصولاً إلى معرفة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تطور الاجتماع الديني الشيعي وبقائه واستمراره، رغم المنعطفات الحادة التي مرت في تاريخه.
الخلاصة
يمثل هذا البحث بأطروحته «الاجتماع الديني الشيعي» خطوة رائدة مهمة للأمام؛ إذ تساعد كثيراً في النظر وبناء الرؤية المنهجية الصحيحة لفهم الاجتماع الديني الشيعي، سواء في مناطق النفوذ كإيران والعراق، وبقدر ما في لبنان، أو في غيرها من دول العالم التي يحاول فيها الشيعة الاندماج مع الأنظمة السياسية القائمة، كأغلب الشيعة في المنطقة الخليجية، رغم مظاهر الإقصاء والتهميش المتعمدة على أسس طائفية بغيضة وكريهة، أو في واقع الشيعة الذي يشهد واقعاً من الصدام أو الإضطهاد (الطائفى) الممنهج في بعض البلدان، كما يساعد جداً المختصين والمهتمين على تفكيك ومعالجة الإشكاليات القائمة والمعقدة في واقع الاجتماع الشيعي.
وهذا البحث ــ في تقديرنا ــ يمثل مبادرة منهجية رائدة لتأسيس «علم اجتماع ديني شيعي»، يقفز على مناهج البحث القائمة وإشكالياتها المنهجية القائمة على الاعتماد على ما يطرحه مفكرو الغرب ومناهجهم في البحث العلمي وفي دراسة الظواهر الاجتماعية، وقصور ذلك عن الوصول إلى فهم أعمق لظواهر بعض المجتمعات، خاصة عندما يكون متلعقاً بمسألة الهوية والدين؛ فهو بحاجة إلى التأصيل من خلال ما يمتلكه من أدوات ذاتية تنسجم وتتناغم مع ذات التجربة موضوع البحث، وليس إلى إسقاطات مدرسة خاصة بدراسة أوضاع اجتماعها العام. ولن تستطيع الدراسات الحداثية من تقديم قراءة مفيدة لواقع اجتماع ديني معين، وهي تستل أفكارها ورؤيتها من مناهج تنتمي إلى أصول فلسفية متصادمة معها فيما ترتكز عليه من مفاهيم، وما تنطوي عليه من مبادىء، بل ستكون نتيجة تلك الدراسات مصدر تهديد حقيقي لأي اجتماع لا ينسجم معها في منظومته الفكرية والعقدية، حيث ستكون النتيجة الحتمية لهكذا إسقاطات أن تقدم صورة مشوهة لواقع (اجتماع) مزيف، يجري بناء الرؤية حوله من خلال الاستفادة والاستعانة بمصادر غيره في القراءة والتحليل، خاصة عندما يتصل بدراسة وبحث واقع “الاجتماع” من زاوية الدين والهوية والحالة العقدية.
وهذه من الإشكاليات الخطيرة التي وقع فيها مفكرون كبار على غرار الدكتور علي الوردي والدكتور على شريعتي وغيرهم من المفكرين، الذين تم بناء قواعد وأصول مناهج التفكير والتحليل عندهم على الأسس (المادية) المحضة التي أنتجتها جامعة السوربون الشهيرة وغيرها من جامعات الغرب التي درسوا فيها وتخرجوا منها، حيث أنتجت هذه المعاهد العلمية الغربية المئات ممن لم تتح لهم فرصة التعليم والتربية داخل المعاهد العلمية الدينية التي تمثل هويتهم الفكرية والعقدية، أما لعدم وجودها أصلاً أو لعدم كفايتها في عالمنا الإسلامي خلال القرن المنصرم، والذين تخرجوا منها وهم يحملون فكراً أسّس له “ديكارت” و”إفلاطون” و”فرويد” وغيرهم من مفكري الغرب وفلاسفته. وقد كان أغلب مفكري الشرق، الذين تخرجوا في حقبة ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات وحتى ستينيات القرن المنصرم، تلامذة نجباء لمدارس الغرب ومناهجها في التفكير، والمبنية على أصول معرفية مغايرة تماماً للمضامين المعرفية والأخلاقية للشرق، وخصوصاً عالمنا الإسلامي.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن المعاهد العلمية الشيعية، رغم عراقة تاريخ الحوزات العلمية، لم تكن تمتلك الجاذبية أو الإمكانات الفنية والمنهجية لتقديم دراسات وبحوث علمية ذات جدارة وكفاءة مهنية كما كانت عليه الجامعات الغربية، مما دفع الميسورين من أبناء الشرق الإسلامي الكبير للتوجه إلى الجامعات الغربية، التي كانت تمتلك وما تزال شهرة وصيتاً كبيرين للمهتمين بالعلوم والمعرفة والباحثين عنها، بالإضافة إلى عاملي الاضطهاد والإقصاء، اللذين كانا يصبغان واقع أغلب الشيعة في العالم بلونيهما، على مختلف مناطق تواجدهم، وسيطرة أنظمة سياسية تضع السلطة والتمتع بالنفوذ والسيطرة والتحكم أولويات لها، وليس من اهتماماتها البحث والمعرفة.
ومع التطورات الكبيرة التي رافقت انتصار الثورة الإسلامية في ايران، حدثت مجموعة من المتغيرات المذهلة في عالم الفكر والمعرفة، وأصبح في الشرق الإسلامي اليوم نخبة مميزة من أرباب الفكر الذين يسهمون اليوم في تطوير قاعدة رصينة من المراكز والمعاهد البحثية والعلمية، التي تعبر عن انتمائها العقدي والمعرفي، ما يجعلها اليوم محل اهتمام وعناية كبيرة في فضاء الفكر الإنساني، وعلى مستوى عالمي، كما تقوم بعمليات رصد وتحليل واسعة للمعطيات والوقائع على الأرض ومحاولة قراءة اتجاهات المستقبل على ضوئها. وقد بدأت حركة الدراسات تنشط في شتى ميادين المعرفة، انطلاقاً من مصادر التفكير الأساسية للدين، وأصبح لديها مناهجها الخاصة في التحقيق وميادين العلم والمعرفة المتعددة والمتنوعة. و«التشيع» بوصفه منظومة دينية وهوية عقدية واجتماعية، يمتلك من المقومات الذاتية التي يمكن للباحث أن يستند إليها، دون الحاجة إلى نتاجات تمثل مناهج فكرية وعقدية متعارضة، لسبب وجيه يتمثل في خطر ما يمكن أن تحدثه هذه المناهج من تشويه وارتباك في عمليات التفكير والتحليل والاستنتاج.
إن ما يطرحه المفكر الدكتور علي المؤمن في بحثه، يدخل في سياق التطورات الإيجابية الكبيرة الحاصلة في عالم الفكر، وإن المشروع الذي يحمله لتأسيس علم خاص بالاجتماع الديني الشيعي، هي مبادرة في طريق شاق وصعب، لكنها خطوة رائدة تضع كل ما أنجزه الشيعة، رغم تاريخهم الملىء بالتحدّيات القاسية والصعبة، على الطريق الصحيح، لمزيد من تطوير حضور التشيع في موقعه المناسب في التأثير، ليس على واقع الشيعة كأمة ومجتمع أو كطائفة فحسب، وإنما على حضارتنا الإنسانية برمتها، لأن التشيع يمتلك كل المقومات والعناصر الأخلاقية التي تجعله مؤهلاً بجدارة واستحقاق لقيادة حضارتنا الإنسانية.
إنها مبادرة استنهاضية شجاعة لأخينا العزيز الدكتور علي المؤمن، في زمن نهضة واسعة وشاملة يشهدها الشيعة، وفي زمن أحوج ما تكون فيه حضارتنا الإنسانية إلى رؤية وفلسفة حياة تقوم على مبادىء وأسس أخلاقية راقية، بعد أن تعبت البشرية من الزيف والكذب والخداع الذي انتجته حضارة ومدنية الغرب، وما كرسته من مدنية زائفة تقوم على التخلف والانحطاط الأخلاقي، ويسود فيها الفساد من كل ناحية، وفي شتى جوانب الحياة، كما تسود فيها قيم الجاهلية وهيمنة منطق القوة والغاية تبرر الوسيلة. ويستحق هذا المشروع البحثي الفكري من جميع المهتمين والمعنين بنهضة الشيعة والتشيع أن يرفدوه بالمزيد من الدراسات المعمقة، بما يعود بنتائجه ومكاسبه على المشروع الحضاري الكبير من جدارة وأهلية قيادة التشيع لحضارتنا الإنسانية، بما يحقق الرحمة الإلهية للبشرية ((وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ))(1).
كما نثمن للدكتور علي المؤمن جهوده العلمية الاستنهاضية، متمنين عليه الاستمرار في مسيرة الابداع، لإثراء مكتبتنا الإسلامية الشيعية بالدراسات والأبحاث المعرفية التي تسهم في الارتقاء بالفكر والاجتماع الديني الشيعي، ويصل بهما إلى مواقع الريادة والتفوق. كما نشد على أيادي الباحثين من أبناء الأمة ليواصلوا مشوار الاعتزاز بمدرستهم الفكرية، ويخرجوا ما تزخر به من كنوز معرفية، تسهم في الارتقاء بجودة حياتنا على كوكب الأرض، بحيث نلمس رحمة الله المباركة ترفرف على إنسانيتنا المعذبة وحضارتنا التي صرعتها المصالح الضيقة والأنانية المفرطة.
ويفيدنا أن نذكر في خاتمة هذه السطور، بأنّ الغاية والغرض الأساسي لمهمة الأنبياء تكمن في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وذلك على العكس من رسالة الشيطان ومن يمثله في الأرض الذين يمتهنون إخراج الناس من النور الى الظلمات، وهي ظلمات الجهل والتخلف والتبعية والفساد والانحطاط وكل ما يمكن أن يسهم في تدمير حضارتنا الإنسانية وتلويثها، إلى عالم الخير والرفاه والازدهار وتحقيق العدالة. يقول سبحانه وتعالى فيما يلخص الغرض الأساسي لدعوة جميع الأنبياء والرسل: ((ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ))(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) سورة الأنبياء، الآية 107
(2) سورة البقرة، الآية 257.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة