خاص : بقلم – طارق يوسف :
“الرشيد” في كتب التاريخ (الجزء الأول)
ما وصلنا عن “هارون الرشيد”؛ في أي جانب من جوانب سيرته (سواء في التاريخ أو في القص الشعبي)، لا يمكن أن يوفيه حقه مقال واحد في كل جانب..
لذا رأيت تقسيم المقال الذي يتناول سيرة “الرشيد في كتب التاريخ” إلى جزأين..
فإلى الجزء الأول
************
“يا أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ، فإن خراجكِ لي”
عندما قال الخليفة “هارون الرشيد” هذه الجملة، لم يكن مبالغًا، فقد ذكر المؤرخون أن دولة “الرشيد” كانت من أحسن الدول، وأوسعها رقعة، فقد جبا “الرشيد” معظم الدنيا..
و”الرشيد” من أشهر الحكام العرب القدامى، طبقت شهرته الشرق والغرب على السواء، فقد ارتبط باسمه الكثير من الصفات والمعاني، والصور الخيالية:
فهو الخليفة المترف المسرف في الترف، المشهور بولعه بالغناء واستمتاعه بالنساء والشراب.. وفي هذا قال “ابن حزم”: “أراه كان يشرب النبيذ المخُتلَف فيه، لا الخمر المُتفَق على حرمتها”… ويقول “ابن خلدون”: “ما يُحكى من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بالنُّدمان، فحاشا لله، ما علمنا عليه من سوء”… وقال: “وإنما كان الرشيدُ يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة، أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها”.
ويُجمع المؤرخون أن “الرشيد” كان خليفة قوي هزم أعداء الدولة، “وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض”، وفرض الجزية على بيزنطة وملوك الروم، وقضى على التمرد والمتمردين حتى استقرت أحوال الخلافة..
وذكر المؤرخون أنه كان فقيهًا بألوان العلم والدين والأدب، مشجعًا للفقهاء والعلماء والشعراء والكُّتاب.. كما كان “الخليفة الورع الزاهد المُتهالِك نُسُكًا وطاعة وتبتُّلاً لله”؛ (أحمد فريد رفاعي)، وقالوا فيه: إنه كان يُصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته.. وكان يحج سنة ويغزو كذلك سنة.. وكان عندما يخرج للحج يأخذ صحبته مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج، أخرج للحج بديلاً عنه ثلاثمائة بكل ما يحتاجون من نفقة وكسوة. (الطبري وابن خلدون).
وفي كتب التاريخ نقرأ: أن “الرشيد” كان “من أنبل الخُلفاء، وأحشم الملوك، ذا حجّ وجهاد، وغزو وشجاعة ورأي. وكان أبيض طويلاً، جميلاً، وسيمًا، ذا فصاحة وعِلم وبصر بأعباء الخلافة، وله نظر جيد في الأدب والفقه. قيل: إنه كان يُحب العلماء، ويُعظم حرمات الدين، ويُبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لاسيما إذا وُعِظ. وكان يُحب المديح، ويُجيز الشعراء، ويقول الشعر. وقد دخل عليه مرة “ابن السماك” الواعظ، فبالغ في إجلاله، فقال: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعَظَهُ، فأبكاه. ووعظه “الفُضَيل” مرة حتى شهق في بكائه.” (الحافظ الذهبي)
التأريخ بين الحقيقة والأسطورة
لقد امتزجت الحقيقة بالأسطورة، وتداخل التأريخ والخيال، في رؤية المؤرخين للخليفة “هارون الرشيد”، إلى الدرجة التي جعلت مؤرخين كبار يُعتد برواياتهم، يُضمِّنون تأريخهم روايات هي أقرب إلى مزاج الخيال الشعبي منها إلى التأريخ، فنجد بعض المؤرخين يذكرون في رواياتهم لتاريخ أمير المؤمنين “هارون الرشيد”، أحداثًا لا يمكن أن يقبلها أي مُدّقق في أحوال الممالك والملوك والدول..
فعلى سبيل المثال، نجد الكثير من المؤرخين، عند الحديث عن سبب نكبة البرامكة يُرجعون غضب “الرشيد” عليهم لما يُشبه مؤامرات الحريم وكيدهن، متجاهلين الأسباب المتعددة، والدوافع السياسية المختلفة، والصراع على الحكم، التي أحاطت بحادثة نكبة البرامكة، تلك الأسباب التي تأرجح المؤرخون حولها، ولم يستطع أي منهم أن يجزم بماهية السبب الحقيقي لوقوع هذه النكبة. فجميعهم، رغم اتفاقهم على السياق الذي أحاط بنكبة البرامكة، والأحداث التي سبقتها وتلتها، إلا انهم لم يتفقوا على الأسباب والدوافع التي أدت إلى وقوعها.
فـ”المسعودي، والطبري، وابن كثير” ـ وكل منهم مؤرخ مُعتبَر يُعتَد به ـ يتناولون أسباب غضب “الرشيد” على البرامكة على النحو التالي..
يقول “الطبري” في (تاريخ الرُسل والملوك): “إن سبب هلاك جعفر والبرامكة، أن الرشيد كان لا يصبر عن بُعاد جعفر، وعن بُعاد أخته عباسة بنت المهدي، فكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرًا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكما ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي، وطلب منه ألا يمسها، ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته… فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويتركهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيُجامعها، فيأتي منها غلاها…..”
أما “المسعودي”، فروايته أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة..
*************
“الرشيد” في كتب التاريخ (الجزء الثاني)
إن ما يرويه “المسعودي” عما حدث بعد أن علم “الرشيد” بما كان بين “العباسة” و”جعفر البرمكي”، أمرٍ يُثير العجب.. ففيه من الطرافة والتسلية القدر الوافر، ومن المأساة قدرًا أوفر، ومن الملهاة ما يبعث ضحكًا هو أقرب إلى البكاء.
يقول “المسعودي” في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر): وانصرفت “العباسة” مشتملة من “جعفر” على حمل، ثم ولدت غلامًا، فوكلت به خادمًا من خدمها وحاضنة، فلما خافت ظهور الخبر وانتشاره، وجهت الصبي والخادم والحاضنة إلى “مكة”، وأمرتهما بتربيته، وأن يكتما الأمر ولا يصرحا به لأي كان.
ويستطرد “المسعودي”: لما علم “الرشيد” بالأمر، عن طريق “زبيدة”، أحب زوجاته إليه.. فأمسك “الرشيد” عن ذلك (أي كتمه في داخله ولم يُخبر أحدًا بما علم من خبر الرضيع ابن جعفر البرمكي والعباسة)، وأظهر أنه يُريد الحج، فخرج هو و”جعفر البرمكي”.. ولما علمت “العباسة” بخروج “الرشيد” قاصدًا الأراضي الحجازية، كتبت إلى الخادم والحاضنة أن يخرجا بالصبي إلى “اليمن”.. فلما صار “الرشيد” بـ”مكة”، وَكَّلَ من يثق به بالفحص والبحث عن أمر الصبي، فوجد الأمر صحيحًا.. فلما قضى حجه ورجع، أضمر التخلص من البرامكة ومعاقبة “جعفر” على فعلته، فأقام ببغداد مدة، ثم خرج إلى الأنبار، فلما كان في اليوم الذي عزم فيه على قتل “جعفر” دعا “السندي بن شاهك” (مدير شرطة الخليفة هارون الرشيد، وقد عرف بقسوته البالغة وعدم تردده في قتل أي شخص يقع بين يديه حفظًا لنظام الخليفة وامتثالاً لأوامره)، قال “الرشيد” لـ”ابن شاهك”: إني آمرك بالمضي من ساعتك، والتوكيل بدور البرامكة (أي كبس بيوتهم والقبض عليهم)، فسأله “ابن شاهك” في عجب: البرامكة ؟!.. كلهم ؟! أجابه “الرشيد”: دور البرامكة ودور كتابهم وأبنائهم وقراباتهم وأشياعهم جميعًا..
ثم دعا “الرشيد”؛ “جعفر البرمكي”، إلى مجلسه، فأقاما يومهما بأحسن هيئة وأطيب عيش، وكان بالمجلس بعض من أهل الكلام، وغيرهم من أهل الآراء، وطال الكلام في موضوعات شتى، حتى أمر “الرشيد” بفض المجلس، وخرج مشيعًا “جعفر”..
ثم رجع فجلس، واستدعى خادمه “ياسر”، فطلب منه أن يأتيه برأس “جعفر البرمكي”، فذهب “ياسر” ليُنفذ أمر الخليفة وهو في غاية من الدهشة.. ولما عاد “ياسر” برأس “جعفر البرمكي”، وضعها بين يدي “الرشيد”، فلما رأى الرأس بين يديه، طلب من “ياسر” أن يأتيه بخادميه “محمد” و”القاسم”، فلما أتيا.. قال “الرشيد”: “اضربا عنق ياسر، فإني لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر” !! (ما هذا الخيال ؟!)
وروى “ابن الجوزي” أن “الرشيد” سُئل عن السبب الذي من أجله أهلك البرامكة؛ فقال: “لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته.”
وعن “ابن كثير” تفاصيل أخرى.. فيروي في (البداية والنهاية): “أن العباسة أحبت جعفر البرمكي حبًا شديدًا، فراودته عن نفسه فأمتنع أشد الامتناع من خشية أمير المؤمنين، فاحتالت عليه، وكانت أمه تهدي إليه في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكرًا، فقالت العباسة لأم جعفر: أدخليني عليه في صفة جارية من تلك الجواري، فهابت الأم من تلك، فضغطت عليها العباسة وتهددتها حتى فعلت.. فلما دخلت العباسة عليه وكان لا يتحقق وجهها من مهابة الرشيد (!!) فواقعها فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك. فقال: ومن أنتِ ؟ فقالت: أنا العباسة.. وحملت من تلك الليلة، فدخل “جعفر” على أمه فقال لها: “بعتيني والله برخيص”..
ثم إن “الرشيد” أرسل من ليلته البرد (البريد) إلى ولاته جميعًا يأمرهم بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الأموال، والموالي، والحشم، والخدم، واحتيط على أملاكهم..
وبعث “الرشيد” برأس “جعفر” وجثته، فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشق الجثة الى نصفين وضع النصف عند الجسر الأسفل، والآخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك..
ونودي في “بغداد” أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم…
وروي أن “الرشيد” كان يقول: “لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رخاء، ووددت والله أني شوطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على أمرهم “.
في الحقيقة أن هذه الروايات حول غضبة “الرشيد” على البرامكة، والتي أدت إلى ما يُسمى: “نكبة البرامكة”، لا يمكن التعويل عليها من قبل أي باحثٍ جاد..
فمن المعروف أن البرامكة هم من مكنوا “الرشيد” من الخلافة، فـ”يحيى بن خالد البرمكي”؛ (أبوجعفر)، هو من وقف مع “الخيزران”؛ (أم الرشيد)، وأنقذ “الرشيد” من تجبر الخليفة “الهادي”؛ (أخو الرشيد)، ومن ثم حمل “الرشيد” هذا الجميل فكان يُعامل “يحيى البرمكي” معاملة الابن لوالده، وأطلق يد البرامكة في إدارة شؤون الحكم..
ولنا عود مرة أخرى للبحث عن تفسير مقنع لـ”نكبة البرامكة”، بعد الإنتهاء من الجزئين الخاصين بـ”الرشيد في الخيال الشعبي”..
فإلى اللقاء…