قصة قصيرة
كتبها: أمين الساطي
عندما زرته البارحة بعد الظهر في مستشفى الزهراء كانت حالته سيئة، وهو ملقى على السرير، وعيناه جاحظتان، وصدره يعلو ويهبط في أنفاس قصيرة متقطعة. الجو في الغرفة معتمٌ كئيبٌ، يبعث على الإحباط. لقد استشرى داء السرطان برئتيه، وتوقع الطبيب أنه لن يعيش حتى الصباح. بينما هو يحتضر، أشار إليَّ بأصبعه، فتقدمت منه، فهمس بأذني: “لا تخف لن أموت بهذه الليلة، فهناك من سيساعدني لكي أشفى من السرطان”، فهززت برأسي موافقاً. لأجبر بخاطره، ولإعطائه نوعاً من الأمل. تابع حديثه مشيراً برأسه إلى ظرف مغلق موجود على الطاولة بجانب السرير: “لقد تركت لك فيه رسالة، تشرح كل شيء” فهززت رأسي شفقةً عليه، وأنا أسمع تلك الغرغرة المخيفة في حلقه، ولا أدري كيف استطاع أن يتكلم، وأن يميّزني ليخبرني بخطّته.
حين وصلت إلى منزلي فتحت الرسالة بلهفة فقرأت فيها: كما تعرف هناك حضارات بشرية ذكية متطورة خارج كوكبنا. في مجرتنا درب التبانة يوجد أكثر من مئة مليار كوكب، ومن بينها الكوكب الأزرق، وفيه حضارة فضائية متقدمة تقنياً عنا بآلاف السنين.
لقد اتصلت بوساطة التركيز الكامل، مستخدماً الأمواج التي يبثها دماغي، بطريقة التخاطر العقلي لنقل أفكاري مباشرة عبر الأثير، إلى أحد مخلوقاته الفضائية بالكوكب الأزرق، وطلبت منه مساعدتي. فأنا رجل فقير، وأعيل أربعة أولاد وزوجتي. لقد وعدني بأنهم سيرسلون في هذه الليلة فريقاً طبياً لمساعدتي. وأرجو أن أتمكن من اجتياز هذه الليلة من أجل أولادي، فشعرت بنوع متناقض من الخوف والاطمئنان في الوقت نفسه.
اليوم الجمعة والساعة السادسة والنصف. استيقظت صباحاً على رنين الهاتف، لتخبرني زوجة صديقي، بأنه قد فارق الحياة منذ ساعة، أخذت تاكسي واتجهت إلى بيتها، واصطحبتها معي إلى المستشفى بغية استصدار وثيقة بوفاته والحصول على الموافقة لدفنه. بعد وصولنا، طلبت زوجته أن تلقي نظرة وداع أخيرة على جثة زوجها. فأجابنا المسئول في المشرحة، بأننا بحاجة إلى موافقة الطبيب.
وبينما نحن جالسان مع الطبيب في مكتبه ندردش حول المرحوم ، التفت إليَّ مضطرباً وسألني: “فيما إذا كان المرحوم قد أجرى عملية منذ فترة قصيرة لصدره في أميركا”. فالتفتت إليه زوجته قائلة: “بأنه موظف صغير في الدائرة العقارية، ولم يغادر لبنان طوال حياته. وازداد اضطراب الدكتور وظهرت علامات التوتر على وجهه، وتابع حديثه: في حوالي الساعة الخامسة صباحاً، أيقظني الممرض وقال لي: “إن المرحوم يلفظ أنفاسه الأخيرة”، وعندما وصلت إليه كان قلبه قد توقف عن الخفقان، وغاب عن الحياة. حاولت إنعاش قلبه لإعادته إلى الحياة. وفي أثناء ذلك لاحظت لأول مرة وجود شق طولي ناعم على طول صدره، كأنّ أشعة الليزر استُخدمتْ في فتحه، كما أنني لم ألاحظ وجود أي آثار لخياطة الجرح، فاستنتجت بأن مواد لاصقة طبية قد استخدمت للصق الجرح، وكنت قد قرأت في إحدى المجلات الطبية عن مواد بروتينية يتم تحفيزها بوساطة الأمواج فوق البنفسجية، تستعمل في بعض العمليات الخاصة للصق الجروح في أميركا.
ازدادت دهشتنا من هذا الكلام، لكنه تابع حديثه: عندما وصل العاملان المكلفان بنقل جثته إلى المشرحة، وجدا السرير فارغاً والجثة غير موجودة فيه، فاستدعياني إلى الغرفة. أول ما دخلت فوجئت بثوب المستشفى الأبيض الذي كان يرتديه ملقى بجانب الخزانة، ولما فتحت خزانة الملابس لم أجد البدلة التي كان يرتديها قبل دخوله المستشفى، فخطر على بالي بأنه كما يحدث في قليل من الحالات، بأن قلبه بعد أن توقف لعدة دقائق، قد عاد إلى الخفقان من جديد، فعاد من موته المؤقت إلى الحياة، فقام من سريره، ولبس ملابسه وخرج من باب المستشفى، من دون أن يلفت أي انتباه. لكنني عندما نظرت إلى الطاولة بجانب السرير وجدت بعض الأغراض، فاحتفظت بها.
نزلت فوراً إلى قسم الأشعة، لأتأكد من صور الأشعة السينية التي كان قد تمَّ تصويرها لرئتيه، لكنني لم أجدها، فطلبت من الموظف أن يعطيني إضبارته الطبية، ولكنها اختفت أيضاً، فخطر لي بما أن جميع عمليات دخول وخروج المرضى من المستشفى تتم من خلال برامج الكومبيوتر، فطلبت من موظف الكومبيوتر أن يدقق في اسمه، لكنه لم يجد اسمه مدرجاً في نظام كومبيوتر المستشفى.
أخرج من درج مكتبه ساعةً وخاتم زواج ومحفظة وأعطاها إلى زوجته، لكي تتأكد فيما إذا كانت تعود لزوجها. أخذت تتفحص أغراضه بشغف، وهي تحبس دموعها. ولما فتحت محفظته لاحظت بأن الصورة التي تجمعهما مع أولادهما الأربعة والتي لا تفارق محفظته أبداً غير موجودة، على الرغم من وجود بطاقته الشخصية ومبلغ الخمسين دولاراً فانفجرتْ في البكاء.
قام الطبيب من وراء مكتبه، وربت بيده على كتفها ليهدئها قائلاً: “بأنه سيتصل فوراً بالشرطة الجنائية، وهو متأكد بأنهم سيجدون زوجها خلال أيام”، فأومأتُ برأسي إلى الأرض، محاولاً أن أخفي مشاعر السعادة، والابتسامة التي انطبعت على وجهي.