13 أبريل، 2024 7:34 ص
Search
Close this search box.

نهاية العالم ليست غدًا !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : بقلم – أحمد عبدالعليم :

يطرح منظرو الرأسمالية مقولة يؤكدون من خلالها على أن (اقتصاد السوق) الذي يسيطر عمليًا ونظريًا على العالم، ويعد المرجع الرئيسي للمجتمع البشري، يمتلك عقلًا خاصًا يذهب بالعالم نحو (سوق عالمي متجانس) و(عقلاني) قادر على أن يؤمن بدوره احتياجات البشر دون تمييز، وعلى السياسة أن تمارس دورها في حفظ استقلالية وعقلانية هذا (السوق).

يبدو هذا الطرح وكأننا أمام عالم مثالي يحكمه “عقل كلي عادل” لا يفرق بين البشر، ويضمن لهم جميعًا السعادة والرفاه دون تمييز، وإذا ما تمكننا من استبعاد السياسة والإيديولوجيا يبدو الأمر أننا أمام (علم موضوعي محض) وعقل مستقل قادر على إدارة شئون العالم.

بيد أننا في اللحظة ذاتها، إذا ما نظرنا إلى واقع العالم في العقود الخمس الماضية، التي تمكن فيها (اقتصاد السوق) من السيطرة، حيث حقق انتصارات حاسمة، نلحظ أن التناقض بين النظرية والواقع تناقضًا حادًا وظاهرًا للعيان. حيث يسيطر نسبة قليلة من سكان العالم على مجريات الأمور به، فهم يملكون المال والنفوذ والسلطة، بينما يعيش الغالبية الساحقة تحت وطأة شروط النظام الرأسمالي العالمي الذي يمكن أن نعده بطمأنينة نسخة “محسنة” من النظام “العبودي”.

وبينما يتحدث منظرو الرأسمالية العالمية بكلماتهم الأنيقة حول السعادة، والرفاه، والحرية لجميع البشر، يموت ملايين الأطفال في نزاعات مسلحة وحروب تصنعها وتمولها وتغذيها الرأسمالية العالمية، كما يموت ملايين الأطفال من جراء أمراض كان يمكن علاجها، ويعيش الملايين تحت وطأة شروط حياتية قاسية في ظل المجاعات، والتلوث، والتهديدات اليومية، وعلى الجانب الآخر يعيش ملايين البشر في ظل شروط النظام الرأسمالي المجحفة، مهددين بالخروج من النعيم في حال لم يتمكنوا من الالتزام الصارم بشروطها ومحدداتها التي تستهلك حياتهم ماديًا وروحيًا.

إن هذه الانتصارات المتلاحقة للرأسمالية في نسختها “المتوحشة” تطرح بديلًا أيديولوجيًا واحدًا، تروج له وتقدمه بوصفه الرؤية التي تعبر عن “نهاية التاريخ”. فبعد الحديث عن “نهاية القومية” من خلال “نهاية التاريخ والجغرافيا”، تطرح الرأسمالية نهاية “الأيديولوجيا” ومن ثم نهاية السياسة، كي يصبح الحاكم الأوحد للعالم دون انحياز ودون “قدرة على تغييره” هو (اقتصاد السوق) بما يملكه من (عقل كلي) كامن يسيطر على العالم في محاولة أخيرة للمنتصر لتمكين “اليأس”، وتثبيت “هندسة الخضوع” للسيطرة على كافة أدوات التغيير والمقاومة.

ومن ثم إلزام البشر جميعًا بهذه الرؤية. والإعلان عن نهاية “الأيديولوجيا” وإخضاع الثقافة والفنون مثلما تمكنوا من السيطرة على “الإعلام ووسائله المختلفة”. ومثلما تمكنوا أيضًا من السيطرة على التعليم وأدواته المتنوعة عندما تمكنوا من تحويل “المؤسسات التعليمية” لمصانع لإنتاج “آلات بشرية” خاضعة وخائفة.

يقول “باتاي”: لا شيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد/العبد، ولا يوجد مبدأ طبيعي/حيواني بإمكانه إقامة علاقة السيادة/العبودية، حتى بالنظر إلى أن بعض الحيوانات تفترس حيوانات أخرى، فهذه يمكن أن نطلق عليها “قوة غير متكافئة”، لكن لا يوجد بينهما سوى هذا الاختلاف الكمي، فالأسد ليس ملكًا على الحيوانات، إنه وفق حركة (المياه) مجرد موجة أعلى من غيرها تتغلب على الأضعف. فلا يمكن إذاً تبرير هذا التحول (الكيفي) الذي يقوم به (أفراد من البشر) بالرغبة في السيطرة على آخرين بدعوى الاختلاف البيولوجي الذي يجعل من بعض الأجناس البشرية أعلى قدرًا من الأخرى فيما يتعلق بالوظائف الحيوية المختلفة ومن بينها التفكير، وهي مقولة من شأنها أن تقوض رغبة البعض في إقامة علاقات تبعية تفرض تراتبًا اجتماعيًا يمنح البعض حقوقًا أعلى، مثلما يفرض على البعض واجبات أكثر وأشد قسوة.

بينما يكشف “بيير بورديو” الأمر بوضوح بأن شروط الحياة في ظل المجتمعات الحديثة هي نفسها شروط الإنتاج الاجتماعي في الرأسمالية الجديدة، والتي تموضع الدولة في فضاء “ملغز”؛ حيث ترى البشر ولا تراهم في الوقت عينه، تراهم بينما تضع سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية …الخ من شأنها إفقارهم على كافة المستويات، ولا تراهم بينما “يتفككون” في واقع قاس وحاضر لا أفق له، وعلى هذا النحو يبدو العنف في مستواه الظاهري وكأنه عنف فردي، محكوم بعلاقات فردية، بينما – وفي لحظة ما – سيتكشف بوضوح مستواه العميق والذي يتجلى في عنف سياسات الدولة وشروط الإنتاج.

يستمتع الإنسان بإعلانه (المغرور) والمتكبر، بأنه أعلى شأنًا من (الآخر)، وأسمى قيمة من كافة مفردات (الطبيعة) بتنويعاتها المختلفة، وربما تمثلت بداية هذا الزعم في قطيعة الإنسان مع الطبيعة، و(إزالة) أكثر خواص الإنسان صراحة، والكامنة في كونه (موجود حي) قبل كل شيء، ومنحه مملكة (الإنسان) كل ما سلخه عن مملكة (الحيوان)، وهو بذلك كان يفتح دورة لعينة منذ ولادتها، لأنها اقتبست مبدأها ومفهومها من (الأنانية).

والآن وقد تقاربت الإنسانية بفعل إعمار أشد كثافة جعل العالم أكثر صغرًا، ولم يترك أي جزء من الإنسانية في مأمن من عنف كريه، يستبد بنا حصر العيش، في هذا العالم الذي يتصف على الأرجح بأنه الأشد قسوة على الإنسان/الفرد من أي وقت مضى، حيث توجد جميع وسائل الإبادة والمذابح والتنكيل دون أن تلقى أي استنكار على الإطلاق. واجب الإنسان في وجوده الاجتماعي أيضًا أن يتعرف على نفسه بوصفه (هو) قبل أن يتجرأ على الإدعاء بأنه (أنا)، وأن يدرك أن احترام الغير لا يعرف سوى أساس طبيعي واحد، في مأمن من (المنطق) ومغالطاته – بالنظر إلى أنه سابق عليه – يكتشفه الإنسان في نفوره من رؤية (مثيله) يتألم.

وفي ظني أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن أو إنكار وجود هذا الواقع/الأزمة، بما يعني عدم التعامل مع مشكلاته وتصديرها للقادم، ففي هذه الحالة يواجه المجتمع إمكانات وجوده وفنائه، إذ يعد التوقف عن التفاعل مع الواقع ومعالجة أزماته توقف عن الفعل، هذا التوقف يعني مزيد من التعثر وتعقد المشكلات، فتحديد الصيغة التي تشكل رؤيتنا لـ (الموقف الراهن)، ثم تحديد الفعل الذي يجب أن نتخذه تجاه هذا الموقف، هما الخطوتان اللتين تشكلان المستقبل، ومن ثم فالمجتمع عبر مؤسساته المتعددة، والمتباينة، لا يحدد مواقفه لأفراده في اللحظة الراهنة فحسب، بل ويمتد تأثير قراراته ومواقفه لأجيال قادمة، ربما تثني على هذا الفعل أو تنكره، ولكنها في كل الأحوال تتأثر بتداعياته، وهو الأمر الذي يزيد من أهمية ما يقوم به الجيل الحاضر ومسئوليته تجاه الأجيال القادمة، هؤلاء بالطبع ليسوا غرباء عن المجتمع، من حيث كونهم امتداد له إننا في اللحظة الراهنة بينما نقرر ما يجب أن نقوم به من أفعال، ونقرر ما يتحتم علينا من اختيارات، لا نختار لأنفسنا فحسب بل نختار أيضًا للأجيال القادمة.

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب