24 فبراير، 2025 12:26 ص

قصّة قصيرة

خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) :

تخرّج “عماد” من الجامعة؛ في سنة 2006، وتحصّل على شهادة الليسانس، وكان تخصّصه اللغة والأدب العربيّ وبعد خمس سنوات من البطالة تحصّل على منصب كأستاذ ثانوي في إحدى الثّانويات القريبة من مقرّ سكناه، كان في القائمة الإحتياطية لسنة 2010؛ واستدعي للتوظيف من طرف الوزارة في سنة 2011، عندما ذهب إلى المديرية ليأخذ مقرّر التّعيين قال له الموظف المكلّف بمقرّرات التعيين: “عليك أن تلتحق اليوم بالثانوية التي عيّناك فيها من أجل إمضاء محضر التّنصيب”، ذهب “عماد” إلى تلك الثّانوية وكان في استقباله الحارس العام، لم يكن الإستقبال حارًّا بل كان باردًا وباهتًا، وقال له معاتبًا وبنبرة حادة: “كان عليك أن تأتي بالأمس وليس اليوم من أجل إمضاء محضر التّنصيب، صديقك محمود جاء بالأمس وأمضى محضر التّنصيب وأنت تأتي اليوم”.

ـ قلت له: “ما منصبك في هذه الثّانوية ؟”.

ـ قال لي: “مستشار التّربية”.

ـ قلت له: “إذاً، لا تتدخل فيما لا يعنيك، عملك مع التلاميذ، اهتم بهم في السّاحة ولا تتركهم يتنمّرون على الأساتذة”.

إذا كنت تجهل القانون سيدوسونك بأقدامهم النّتنة، كم يحبّون المسؤولية والتّسلّط، حارس عام يُريد أن يكون هو المدير بحكم أنّه من أبناء المنطقة ويتصرّف بعقلية الدّوّار، حتّى شقيقه ورث عنه هذه الصّفة البشعة وهي التّصرّف مع من لا تعرف بعقلية الدّوّار، أمّا النّاظر فاستقبلني استقبالاً باردًا، كان لا يريدني في هذه الثّانوية لأنّ إحدى قريباته كانت معيّنة قبلي كأستاذة مستخلفة وجاءت بعدي بعدما ذهبت من تلك الثّانوية مكرها، كان دائمًا يراقبني ويكيد لي كيدًا.

أمّا المدير فوجدته في مكتب مستشار التّربية، استقبلني بابتسامة صفراء باهتة، وعندما قلت له: “أنا طالب دراسات عليا”، رأيت في عينيه الحسد والحقد، وهذا المدير أصله من إحدى ولايات الجنوب الكبير، وهو الذي أمضى محضر إنهاء مهامي كأستاذ مستخلف بغير وجه حقّ، لأنّ القانون يخوّل للمدير أن ينهي مهام الأستاذ المستخلف في أيّ وقت شاء وكذلك المفتش يحقّ له ذلك، ولكنّ المفتش عندما زارني في القسم لم يوقف مهامي كأستاذ مستخلف بل شجّعني وقال لي أمام مدير تلك الثانوية مادحًا: “أنت أستاذ كفء ومتمكّن من المادة، ولكنّ هناك شيء في الخفاء يُحاك ضدّك”.

كلّ الأساتذة هناك بحكم أنّهم أبناء منطقة واحدة لم يقفوا إلى جانبي لأنّهم كلّهم يحكمهم منطق عقلية الدّوّار، أنت من دوّاري أقف معك، المسألة ليست مسألة نقابة، حتّى النّقابة أصبحت تسيّر بمنطق عقلية الدّوّار، نرى التّكتلات والزّمر المتصارعة، كلّ زمرة تخرج عن القطيع تقوم بتأسيس نقابة جديدة يحكمها منطق عقلية الدّوّار، متّى نتخلّص من عقلية هذا ولد دوّاري وهذا ولد الكارطي انتاعي ؟، نحن جزائريون يجمعنا وطن واحد وراية واحدة، يجب علينا أن نحارب هذه الطّباع السّيّئة وهذه التّصرّفات المشينة التّي شوّهت الوجه الجميل لقطاع التّعليم، إذا عملت في قرية تجد العنصريّة وإذا عملت في المدينة تجد العنصريّة، فأين المفرّ بالله عليكم ؟.. هل نحن في بلدنا أم جئنا من كوكب آخر ؟.. من المفروض أن تكون الوحدة والتّضامن بين أبناء قطاع التّربيّة، لا يقال عن هذا الأستاذ هو عروبي، وذلك الأستاذ هو حضري، كلّنا أبناء “الجزائر”، والإستعمار هو الذي أحدث هذه الأشياء المشينة في مجتمعنا من باب سياسة فرّق تسد، أوجّه ندائي إلى الأساتذة والأستاذات: “تخلّصوا من عقلية الدّوّار ومن عقلية الكارطيات، أنتم تحملون رسالة نبيلة هي رسالة التّعليم المقدّس وعليكم أن تكونوا يدًا واحدة، لا تصفّقوا لبعضكم البعض بل صفّقوا للذي يقول كلمة الحقّ وينصح ويوجّه، لو كنّا نعلم بأنّ التّعليم فيه هذه الأشياء السّمجة ما دخلناه ولو منحونا ملء الأرض ذهبًا وفضّة ونقودًا”.

كان الأستاذ “عماد” متمكّنًا من المادة وله ثقافة موسوعيّة، ولكنّ الكلّ كان يحسده لأنّه طالب في الدّراسات العليا، المدير والنّاظر والحارس العام كانوا يحرّضون عليه التّلاميذ، يقولون لهم: “إنّ هذا الأستاذ غير متمكّن من المادة وكثير الغيابات وسمعته سيّئة في كلّ الثّانويات التّي درّس فيها”، حتّى مستشار التّوجيه كان يتدخّل فيما لا يعنيه، في إحدى الأيّام طلب مستشار التّوجيه من الأستاذ “عماد” لقاء لمدّة ربع ساعة من أجل أمر هامّ، فذهب “عماد” إلى ذلك الموعد وهو كلّه شوق ولهفة لمعرفة ماذا يُريد منه مستشار التّوجيه، بعد التّحيّة والسّلام قال له مستشار التّوجيه بالحرف الواحد: “أنت أستاذ غير كفء، الكلّ يشتكي منك، التّلاميذ والأولياء حتّى زملاء المهنة لم يتركوك في حالك، لقد شوّهوا سمعتك وقالوا عنك أقاويل عجيبة”.

ـ قلت له بنبرة حادّة فيها مسحة من غضب عارم: “من تكون أنت ؟.. لا يحقّ لك أن تتدخّل فيما لا يعنيك، لا أنت ولا المدير ولا النّاظر، المفتّش هو الذي يقيّمني ويحكم عليّ هل أنا أستاذ كفء أم لا ؟.. وبالمختصر المفيد: أنا موظّف عند الدّولة والقانون يحميني من أيّ ضرر ماديّ أو معنويّ، ولا يهمّني ما يُقال عنّي، أنا واثق من نفسي، فأنا صاحب دراسات عليا وأديب وشاعر وقاصّ ومفكّر وفيلسوف متمرّد على كلّ الأوضاع القائمة، أنتم لا تُريدونني في ثانويتكم، لأنّ لي بصمتي الخاصّة في التّعليم، والتّلاميذ يحترمونني لأنّني لا أبخل عليهم بما أملك من معلومات، أنا أتقن عملي على الوجه الذّي يُرضيني وأحاول بذل ما استطعت من مجهود حتّى أنير درب تلاميذي الأعزّاء وأجعلهم إطارات ساميّة في هذه الدّولة التّي مات من أجلها شهداءنا الأبرار، لن أهاجر من بلدي مهما فعلوا بي من مكائد ومؤامرات”.

كانت الإدارة وبعض الأساتذة يحرّضون عليه التّلاميذ حتّى لا يبقى في تلك الثّانويّة، يقولون للتّلاميذ أخرجوا من القسم عندما يدخل هذا الأستاذ، واكتبوا تقريرًا ضدّه وأذكروا فيه بأنّكم لا تستوعبون الدّروس عنده، وكان منسّق المادة الذّي كان يحسده كثيرًا قد كتب تقريرًا ضدّه في كرّاس التّنسيق، حتّى مدير الثّانويّة كان أستاذًا في مادة اللّغة العربيّة وآدابها وكتب تقريرًا سلبيًّا في الأستاذ “عماد” بدون وجه حقّ ووضعه في الملّف الإداري للأستاذ، وبالتّالي أحرق كلّ الأوراق التّي كانت في يد الأستاذ ليواجه بها أعداءه، حتّى أولياء التّلاميذ ثاروا ضدّ هذا الأستاذ وقدّموا شكوى ضدّه إلى مدير التّربيّة فأرسل لجنة تحقيق لتقصّي الحقائق فوجدوا الأستاذ مظلومًا ووقفوا إلى جانبه وكتبوا تقريرًا إيجابيًّا في صالحه وقالوا له: “أنت أستاذ عبقريّ، ولكنّك أبتيلت بالحاقدين والحاسدين الذين يكيدون لك كيدًا، اتّصل بالنّقابة ربّما يساعدوك في مواجهة الصّعاب التّي تعتري مسارك المهني”، فردّ عليهم “عماد” قائلاً: “إنّ منسّق الفرع لم يقف إلى جانبي رغم أنّه قريبي حتّى ابن عمّي لم يقف معي وهو الذّي يدّعي بأنّه نقابيّ كبير، عندما كان يعمل معي كان كلّ يوم يهاتفني ونذهب معًا إلى المقهى لنشرب الشّاي أو القهوة ونتجوّل أحيانًا في القرى والأرياف بسيّارته الخاصّة، ولكن عندما غيّرت الثّانويّة انتهت علاقتي به كأنّه ليس ابن عمّي، باعني من أجل مصلحته الشّخصيّة”، لم يرسّم “عماد” للمرّة الرّابعة في منصبه كأستاذ ثانويّ وعانى كثيرًا من تنمّر التّلاميذ ومن سخريّة الزّملاء ومن تهكمهم، رغم كلّ الشّهادات العليا التّي يملكها إلاّ أنّه في الأخير عندما يئس قرّر بأن يضع حدًّا لحياته فقام بشنق نفسه في غرفته المنعزلة عن أفراد أسرته، وفي الصّباح الباكر وجدوه جثّة هامدة وترك رسالة شرح فيها كلّ أسباب انتحاره، لقد كان ضحية هذا المجتمع الذّي لم يُنصفه ولو مرّة واحدة في حياته، كان رجلاً طيّبًا وبشوشًا ومحبًّا للنّاس وإنسانيًّا إلى أقصى درجة، اختار أن يرحل عن عالمنا بهذه الطّريقة المأساويّة التّي أحزنت الجميع، كان عليك أن تصبر يا “عماد” وتواجه الصّعاب بكلّ روح رياضيّة ولا تدع فرصة للأوغاد لكي يحطّموك.

مات “عماد” بتلك الطّريقة المأساويّة، مات منتحرًا بسبب الظّلم الذّي سلّط عليه من طرف الإدارة والأساتذة والتّلاميذ وأوليائهم، لقد دفع الثّمن غاليًّا ومات ميتة السّوء، ليته صبر وواجه الحياة بكلّ أفراحها وأتراحها، ولكنّه اختار أن يُغادر عالمنا بطريقته الخاصّة، إمام قريته رفض أن يصلّي عليه بحجّة أنّه مات منتحرًا، فهل المنتحر لا يُصلّى عليه ؟.. هل خرج من الإسلام لأنّه أراد أن يموت بإرادته ؟، فعزرائيل سينتحر في نهاية المطاف والله هو الذّي سيأمره بذلك، من له اعتراض أنا هنا لكي يناقشني، لقد رحل “عماد” وترك والدته تبكي بكاءً مُرًّا، كانت تُريد أن تفرح بولدها وتراه عريسًا مع الفتاة التّي كانت تودّ أن تخطبها له، ولكنّ شاءت سُنّة الحياة غير ذلك، فوالدته بسبب بكائها على فلذة كبدها أصابها العمى وصارت على حافّة الجنون، تقول لمن حولها: “إنّ عمادًا لم يمت، لقد ذهب إلى فرنسا لكي يحضّر رسالة الدكتوراه في جامعة السّوربون، وسيعود بعد خمس سنوات، لا تقولوا لي عماد مات، لا، عماد لم يمت، هو مسافر فقط، بالأمس هاتفني وسأل عن أحوالي، مازال صوته إلى الآن يرنّ في أذني، إنّي كلّ يوم أقف أمام باب منزلي عند أوان الغروب منتظرة عودته، ولكنّه لم يعد لأنّ الدّراسة أخذت كلّ وقته، إنّه لا يُريد أن يعود إلينا، هل بنات باريس شغلنه عنّا ؟”، قالت لها ابنتها الكبرى: “إنّ أخانا عمادًا مات منتحرًا، رأيناه معلّقًا كأنّه يسوع المسيح مجندلاً على صليبه، لقد ذهب عماد إلى الأبد، ولن يعود إلينا أبدًا، لقد أراد أن يُصبح عدمًا لأنّه كره هذا الوجود الذّي صار لا يروق السّعيد ولا الحزين، كان أخي فتى طموحًا يسعى إلى المراتب السّنيّة، كان هدفه في الحياة أن يُصبح أستاذًا ثانويًّا ناجحًا، ويكمل دراسته العليا ويتحصّل على شهادة الدكتوراه ويُصبح أستاذًا جامعيًّا، ولكنّ هيهات هيهات، عماد المسكين لم يرسّم في منصبه كأستاذ ثانويّ، ولم يكمل رسالته للدكتوراه، فعماد بعد وفاة والده وأخيه الأكبر صار هو المعيل الوحيد لأسرته، من سيعول الآن أسرته بعد وفاته ؟.. لقد قضوا عليه وعلى أسرته، لم يتضامن معه زملاؤه من الأسرة التّربويّة ولا النّقابة”.

بعد وفاة “عماد” بتلك الطّريقة المأساويّة، أحسّت الأسرة التّربويّة والنّقابة بعذاب الضّمير، خاصّة عندما علموا بأنّ “عمادًا” كان يُعالج عند طبيب نفسانيّ وكان يُعاني من اكتئاب حادّ وكان مدمنًا على المهدئات التّي أثرّت كثيرًا على صحّته، وجعلته يُفكّر كثيرًا في الإنتحار، لقد صارت قضية “عماد” قضية رأي عام، لقد ملأت صوره صفحات الجرائد وصفحات مواقع التّواصل الإجتماعيّ، عملوا في صفحات الفايسبوك هشتاغا عنوانه: “كلّنا الأستاذ عماد، لا للظّلم، لا للقهر الإجتماعيّ”، قرّرت المؤسسة التّربويّة ومعها النّقابة التّي كان ينتمي إليها الأستاذ “عماد” تكريم أسرته، جمعوا مبلغًا من المال ومنحوه لوالدته وكان مبلغًا معتبرًا، كما قرّرت لجنة الخدمات الإجتماعيّة التّابعة لقطاع التّربيّة أن تُكرّم والدة الأستاذ “عماد” وتقوم بإرسالها هي وابنتها إلى البقاع المقدّسة من أجل أداء مناسك الحجّ والعمرة هذا العام، وقامت النّقابة بجمع مبلغ معتبر من المنخرطين وقامت بشراء سيّارة فاخرة وقدّمتها هدية لأسرة الأستاذ “عماد”، هو بدوره كان يحلم باقتناء سيّارة عادية تسهّل عليه عملية التّنقّل إلى مكان عمله لأنّه كان يسكن في مكان قصيّ، وقرّر مدير الثّانويّة التّي كان يعمل فيها الأستاذ “عماد” بمعية النّاظر ومستشار التّربيّة ومستشار التّوجيه إطلاق إسم الأستاذ “عماد” على قاعة المحاضرات وهذا حتّى لا تنساه الأجيال التّي ستدرس بهذه الثّانويّة، لقد مات الأستاذ “عماد” وصار صفحة مطويّة من كتاب الماضي، هكذا كان قدر الأستاذ “عماد” الذّي رحل عن عالمنا بطريقة مأساويّة جعلت كلّ من يعرفه ولا يعرفه يتعاطف معه ويندم إذا أساء إليه، كان الأستاذ “عماد” رجلاً طيّبًا يحبّ الخير لجميع النّاس ويتضامن مع المغبونين، كانت حياته مليئة بالمآسي، فوالده مات منتحرًا أمامه وهذا الحادث الأليم سبّب له صدمة نفسيّة أدخلته في دوّامة الإكتئاب الحادّ، أمّا أخوه الوحيد فمات بسبب سرطان الدّم وترك له أرملة بأربعة أطفال، كان هو الذّي يعولهم ولكنّه الآن تركهم لغدر الزّمن، إن الأستاذ “عمادًا” هو مرتاح الآن في عالمه الذي اختاره بمحض إرادته، هو لا يُريد أن يعود إلى عالمنا، إنّه لا يريد أن يتعذّب مرّة أخرى، فلندعه يرقد بسلام في عالمه الذّي لا حزن فيه ولا فرح، بل فيه العدم المحض.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة