23 ديسمبر، 2024 12:20 م

نعمات البحيري.. الكتابة لديها جرأة على ترتيب العالم

نعمات البحيري.. الكتابة لديها جرأة على ترتيب العالم

 

خاص إعداد- سماح عادل

“نعمات البحيري” كاتبة مصرية، اسمها “نعمات محمد مرسي البحيري”، ولدت بالقاهرة بحي العباسية في 1953 ثم عادت مع أمها لتعيش طفولتها المبكرة في بيت جدها في “تل بني تميم” بشبين القناطر قليوبية، تخرجت في كلية التجارة عام 1976 جامعة عين شمس.

حياتها..

كانت “نعمات البحيري” تعمل في شركة للكهرباء كأخصائية للشئون الإدارية، حتى مرضت في أكتوبر 2004، لكنها ظلت تقاوم لتقدم رؤيتها للعالم كتابة وحياة، سافرت إلى النمسا وسويسرا وألمانيا عبر وفود ثقافية وكتبت عن أسفارها ونشرت عنها في جريدة “الأهالي” و”العربي الكويتي” و”العربي الناصري”، تزوجت من شاعر وناقد عراقي بعد قصة حب شهيرة، وعاشت معه في العراق في نهاية الثمانينات، واستوحت تجربتها معه في روايتها (أشجار قليلة عند المنحنى) الصادرة عام 2000.

الإبداع هوية..

في حوار معها أجرته “باسنت موسى” تقول “نعمات البحيري” عن الإبداع: “الإبداع هو نوع من التمرد على الصيغ الثابتة والتقليدية للحياة، لإعادة تشكيل الواقع فنياً وجمالياً لإحداث درجة توازن بين ما نعيشه وما يجب أن نعيشه، أو أحداث التوازن بين الحلم والواقع، هو بالنسبة لي كذلك بالإضافة إلى أنه قضية وجود إنساني وهوية لا تعادلها أي هوية أخرى يرغبون في حصارنا فيها، الإبداع يرتق كسور الروح والقلب ويرمم الأنقاض ويسد الفجوة التي بينك وبين الحياة.. فلماذا لا نعتمدها فعل ثوري من أجل إنقاذ الحياة بكل جمالها وقبحها ومشاكلها وحلاوتها”.

وعن الكتابة تواصل: “الكتابة قدمت لي ما لم أحلم به أن أعيد صياغة فتاة هشة وضعيفة ومتوارية ومنسحبة، تم رفضها منذ اليوم الأول لمولدها لأنها “بنت” ومنذ السنوات الأولى حولت طاقة غضبها لسوء استقبال الحياة لها إلى طاقة ثورة على كل هذه الأعراف والموروثات الجامدة التي تحتفي بالإنسان في إطار تمايز عرقي وديني وجنسي.. وتحتفي بكل ما هو جامد وقديم ويسحق الإنسان.. الكتابة حولتني إلى إنسانة تمتلك بعض الجرأة على أن تعيد ترتيب العالم في أوراقها، وفق حلم عادل ومشروع هو الحلم بالعدالة والحب والحرية، وحياة من صنعنا واختيارنا نحن البشر لا حياة تفرض علينا.. وقدمت للكتابة نفسي بحب صوفي جميل، لكن ما أعطته لي الكتابة كان أكثر بكثير مما قدمته لها.. لحظة اكتشاف الموهبة الإبداعية لحظة مهمة جداً علينا جميعاً أن نسعى لها وفي أحيان كثيرة يعيش الإنسان ويموت ولا يكتشف موهبته الحقيقية، فيظل طيلة عمرة في حالة أرجحة ما بين الثابت والمتحول. هذا ما حدث معي فقد ظللت لسنوات طويلة حتى بعد تخرجي في الجامعة أتخبط بين فنون مختلفة بين الغناء والتمثيل وكتابة الشعر، يغمرني التوتر والاضطراب النفسي ولا من أرض صلبة أقف عليها حتى اكتشفت أن موهبتي الحقيقية في إبداع القصة والرواية فهدأت بي الحياة رغم مشاكلها وصعوباتها، لكن ظل الطريق واضحاً لا يغيب عن ناظري مهما كانت العوائق، ليست لعبقرية مني ولكن لأن الإبداع هو قضية وجود بالنسبة لي وهوية إنسانية تتحقق على الورق.. اكتشفت موهبتي بشكل عشوائي حين تقدم لي أحد الرجال ليخطبني وكنت أرغب في نموذج لرجل مغاير عن كل رجال العائلة، تربطنا قواسم مشتركة حب القراءة والتأمل وحب الفنون موسيقى وسينما وحب البشر وتصبح عناصر الالتقاء أكبر بكثير من عناصر الاختلاف، والتي يمكن احتوائها في علاقة إنسانية جميلة تنتج حب واستقرار وحياة وإبداع، وحين طرحت تفاصيل “عريس الغفلة” على الورق بغية إعادة اكتشاف فحوى هذه التفاصيل وجدتني أكتب شكلاً قصصياً فغامرت وقدمتها لمجلة خطوة في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وفوجئت بأنني كاتبة وبدأت أواظب على تطوير ملكاتي وأعيد اكتشاف أجناس أخرى للإبداع غير القصة القصيرة فكتبت الرواية والمقال والسيناريو والنقد الأدبي والسينمائي”.

سياسة القطيع..

وعن حال المرأة المثقفة في مجتمعاتنا تقول “نعمات البحيري”: “غالباً المجتمعات التي تنزع للاستقرار ترغب دائماً في صياغة آمنة للبشر، فتصبهم في قوالب عادية وأدوار وأشكال وصيغ سابقة التجهيز تستمد هذه الروح من موروثاتها الدينية والاجتماعية والثقافة السائدة، لذلك نجد دائماً مبدأ تقسيم العمل يتم بين الرجل والمرأة فيحظى الرجل بدور المنتج والممول للأسرة، وتحظى المرأة بالأدوار الخدمية الطبيخ وتنظيف البيت وإمتاع الرجل والتسرية عنه وإنجاب الأطفال، ربما بعد الثورة التكنولوجية تغيرت وسائل وتقنيات هذه المنظومة لكن ستظل هي نفس الروح ومن يتجاوز هذه الصيغة عليه أن يدفع الثمن باهظاً، الإنسان يدفع ثمن خروجه عن سياسة القطيع. والإنسان المتحضر غالباً يبحث عن صيغ متحضرة لإنتاج علاقة أرقى بالحياة وبالجنس الآخر، وكلما ترقت المجتمعات كلما صار لديها فهماً أرقى للعلاقة بين الرجل وامرأة، لكن في الغالبية العظمى بين فئات كثيرة من مجتمعاتنا الشرقية تدفع المرأة فاتورة الزواج والطلاق كما تدفع المرأة المبدعة فاتورة خروجها عن السياق. فتضطرب وترتبك وتشعر بالاغتراب والعزلة بين حتى الأقرباء والأصدقاء إلى أن تمتلئ بمعنى أكبر هو أنها تحقق نفسها وتؤدي رسالتها المنوطة بها وتقول كلمتها التي جاءت من أجلها”.

وعن تناقض المثقفين من الرجال وحاجة المرأة للرجل تقول: “المثقفون في العالم ليسوا كتلة واحدة وهم في النهاية بشر ونتاج الثقافة السائدة في مجتمعاتهم، لكن لأننا في العالم الثالث مجتمعات لا تقرأ ولا تكتب ولا تمارس الحياة، هي تتفرج على الحياة عبر الفضائيات والسينما والبوتيكات ولكن لا تعيشها لعوامل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وربما سياسية، كل هذا يدفع المثقفين لاختيارات أقل تكلفة وهي الطرق الآمنة. لذا فأغلب المثقفين يعملون بنظرية جان جينيه حين قال “إن الوضع الأمثل حيث الواقع الهش لأبعد حد يرغمنا على أن نحتفظ بالدوار كي نحافظ على توازننا” وأغلب الناس يأمنون للطرق الممهدة وليس للطرق غير الآهلة بالبشر، كما أنه في الغالب سنجد أن وسادة مثقف العالم الثالث لا تحتمل دماغين يفكران، ويتم التكريس عبر الميثولوجيا الشعبية.”المركب اللي ليها ريسين ما تنفعش” وغيرها مع أن المشاركة في الرأي والخبرة شديدة الأهمية لإنتاج حياة ملئها الانسجام والحب والتواصل. لذلك سنجد أن أغلب كاتبات ومبدعات المنطقة العربية مثلاً يتراوحن في الصيغة الاجتماعية ما بين عوانس ومطلقات وأرامل في أفضل الأحوال، لكن في الغالب المبدعة تمتلئ بإبداعها وتعيش من أجله، ويصير إبداعها مثل طفل مات أبوه وتخشى عليه من زوج الأم فتفضل عدم الزواج.. الرجل والمرأة وجهان للحياة ولا يمكن للرجل الاستغناء عن المرأة والعكس صحيح لكن ليس لضرورة بيولوجية، ولكن لضرورة إنسانية والتفرقة بينهما تفرقة مصطنعة ومفتعلة ومقصودة لتهريب القضية الحقيقية للإنسان التي يجب أن يوجه إليها كل طاقته، وهي كيف يعيش وكيف يطور حياته في اتجاه أرقى وعي وأرقى أداء للإنسان داخل الحياة، لذا يتم صرف أذهان الناس عن قضاياهم الحقيقية بقضايا فرعية ومن فرط تسليط الإعلام الموجه والدراما المسطحة والتعليم المخلخل على الفوارق المفتعلة بين الرجل والمرأة يحدث صراع وهمي، وفي النهاية لا تستطيع المرأة ولا يستطيع الرجل العيش بمنأى عن بعضهما، وبنفس القياس يمكن تهريب القضايا الحقيقية لأي مجتمع بصرف أذهان الناس إلى صراعات مفتعلة بين الأديان والطوائف والأعراق والألوان، الله نفسه لم يفرق لكن البشر يفرقون من أجل مصالحهم.. وانتشار الأصولية في الغرب الآن هي أحد وجوه هذه الصراعات للاعتلاء من أصولية مسيحية في مواجهة أصولية إسلامية والمتأمل جيداً لحركة الرأسمالية المتوحشة وقادتها وساستها يكتشف أن الصراع ليس دينياً ولا حضارياً ولكنه صراع مصالح.. فالرأسمالية ترغب في تنميط العالم بنمط استهلاكي يرتدى الجينز ويأكل الهامبورجر والبيتزا ويشرب الكوكاكولا ويشاهد أفلام الأكشن والعنف ويتلقى الحياة عبر الفتات التي لا تلقيها الرأسمالية العالمية للبشر إلا إذا صاروا أدوات في خدمتها”..

أشجار قليلة عند المنحنى..

وفي حوار آخر أجراه معها “عبد النبي فرج” تقول “نعمات البحيري” عن  روايتها “أشجار قليلة عند المنحنى”: “هناك الكثير من عناصر الحياة مثل قصص الحب أو الزواج أو السفر أو دخول الحرب يطمح كل مبدع لأن يكتبها في الروايات لتشير إلى عناصره من عالمنا ثم يعيد بناءها وفق رؤية فنية لا تغفل الذاتي والشخصي والسياسي والاجتماعي، لذا فدخول بعض العناصر الحياتية في النص الأدبي غالبا ما يمنح النص شبهة السيرة الذاتية لكن دور الفن والموهبة في تصوري هو الذي يحدد مقدار المجسد والمغيب من التجربة الذاتية داخل النص الأدبي، أنا شخصيا لا أهاب مسألة تحديد ما هو ذاتي أو غير ذاتي في كتاباتي، لأنني أكتب دائما بخبرة الحياتي والمعاش سواء كانت من تجاربي أو من تجارب الآخرين، فالمبدع دائما عليه أن يتسلح بعناصر الثقة في النفس وأنه حتى لو أخذ من حياته وكتب فهذا أيضا لصالح الفن وليس لاستعراض الذات.. وفي “اشجار قليلة عند المنحنى” هناك “أشجان” القريبة الشبه على نحو ما مني و”عائد حسون” القريب الشبه بدرجة ما من زوجي السابق. والتجربة كاملة هي تجربة زواجي من كاتب عراقي والحياة معه في بغداد وقت حرب الخليج الأولى، لكنني أيضا لا أستطيع أن أجزم أن الرواية سيرة ذاتية تماما لأنك لا تستطيع أن تفصل عنصر الخيال عن التجربة الذاتية المعاشة التي هي المادة الخام الأولية للسيرة الذاتية. وقد أخذت منها مع إعمال الخيال ما يصلح لأن أصوغ منه فنا روائيا، وتقريبا ستجد أن أغلب أعمالي “ارتحالات اللؤلؤ” وهذه الرواية وقصص “ضلع أعوج” ترى من نفس المنظور. ولا يمكن اعتبارها سيراً ذاتية فالسيرة الذاتية ينقصها عنصر الخيال وفعل الإبداع الذي يتمثله الكاتب من حذف لعناصر السيرة وإضافة عناصر متخيلة، ليصبح لدينا عمل فني مكتمل العناصر الفنية والموضوعية واللغة الدالة والموحية، وكل جهد تبذله الذات المبدعة بمقدوره أن يشكل إضافة للنص الإبداعي ليبحر بما هو خاص إلى ما هو عام. والذي يحدد هذا هو عنصر مقدرة المبدع أو المبدعة على تخصيص العام وتعميم الخاص”.

صادقة وساخرة.. 

في مقالة بعنوان (نعمات البحيري‏..‏ كما عرفتها) يقول “د‏.‏ وليد محمود عبد الناصر” :”قابلت الكاتبة والأديبة الراحلة نعمات البحيري لأول مرة في مدينة جنيف السويسرية منذ أكثر من عقد من الزمان‏,‏ وكان ذلك في منزل أديبة مصرية مغتربة مبدعة وصادقة الحس تقيم في سويسرا منذ عقود‏,‏ وهي الدكتورة فوزية أسعد‏.. في ذلك اليوم أبهرتنا جميعا الكاتبة الراحلة نعمات البحيري بصدقيتها وصراحتها في التعبير الأدبي شديد الحساسية عن هموم الإنسان والمجتمع المصري‏,‏ وحقيقة شعورها بما يموج في المجتمع من إرهاصات وتفاعلات‏,‏ وتطور طبيعة البشر والمعاملات والعلاقات الإنسانية والاجتماعية فيما بينهم وعلاقتها بتطور المجتمع ككل‏,‏ ولم يخل أسلوبها من روح دعابة خفيفة الظل‏,‏ ولكنها نافذة للأعماق ولا تقف عند السطح‏,‏ كما اتسم حديثها بنبرة سخرية إيجابية وليست سلبية‏,‏ ساعية للأفضل وليست تدميرية النزعة أو سوداوية الرؤية‏.‏ ودار نقاش ممتع حتى ساعات الصباح الأولي‏,‏ ركز بشكل خاص علي تناول وتحليل وتقييم اثنتين من مجموعاتها القصصية اللتين كانتا حينذاك قد صدرتا لتوهما‏,‏ واقصد تحديدا مجموعتين صدرتا لها في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين وهما “ارتحالات اللؤلؤ” و”ضلع أعوج”‏.‏. ومرت سنوات عديدة كان الاتصال مع الأديبة الراحة فيها متقطعا وعلي فترات متباعدة زمنيا نسبيا‏,‏ ولكنه كان دائما وديا وإنسانيا ومفعما بروحها الجميلة‏,‏ ونفسها المقبلة علي الحياة وحميمية اهتمامها بالاطمئنان علي أصدقائها وأحوالهم‏,‏ وبعد عودتي من العمل في الولايات المتحدة الأمريكية عام‏2006‏ بشهور‏,‏ ذكرت لي صديقة مشتركة ظروف الراحلة الصحية‏,‏ وهو الأمر الذي أحزنني كثيرا‏,‏ ولكن شاءت الظروف أن نلتقي معا من جديد بعد ذلك بأسابيع قليلة‏,‏ ووجدت لديها نفس الروح الصلبة التي عهدتها من أول لقاء معها‏,‏ كان مازال لديها الإصرار القوي علي الحياة وروح الدعابة‏,‏ وتوظيف قدراتها الإبداعية كأديبة وقاصة لترجمة تجربة معاناتها الذاتية مع المرض الخبيث إلي عمل أدبي تمثل في رواية “يوميات امرأة مشعة‏”.‏ التي عكست ما عانته‏,‏ ولكنها لم تقتصر علي الذات‏,‏ بل عالجت قضايا تتصل بالوجود الإنساني وحكمته‏, ‏ وقدرة الإنسان علي المقاومة وإرادة الصمود من جهة والتكيف مع واقعه المتغير ومتطلباته من جهة أخري‏,‏ دون تجاهل للأبعاد الاجتماعية التي كانت منطلقها الرئيسي في أعمالها الأولي العديدة في الثمانينيات والتسعينيات‏,‏ واختلط الهم الخاص دائما لديها بهموم إنسانية عامة‏”.

وفاتها..

توفيت” نعمات البحيري” 17 أكتوبر 2008 بعد رحلة مع مرض السرطان حاربت فيها بجسارة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة