عرض – سماح عادل :
نظراً لأن “النقد الغربي” هو المرجعية الأساسية للنقد الأدبي العربي، يصبح من الهام التعرف على نظريات النقد الأدبي الغربية، لفهم سيرورة النقد العربي.. ونهتم هنا بنظريات القراءة، التي احتفت بالقارئ، ولقد تعددت هذه النظريات واختلفت تنظيراتها.
مراحل النقد الأدبي..
مر النقد الأدبي في الغرب بعدة مراحل كبرى:
1 – مرحلة الذوق، مع الانطباعيين كـ”اندريه جيد” و”أناتول فرانس”.
2 – مرحلة التأريخ الأدبي، مع “غوستاف لانصون”.
3 – مرحلة السيكولوجيا، مع مجموعة النقاد النفسيين كـ”فرويد” و”شارل مورون”.
4 – مرحلة المرجع الواقعي، مع الواقعية الاشتراكية “جورج لوكاتش”.
5 – البنيوية التكوينية، “لوسيان غولدمان” و”جاك لينهاردت”.
6 – مرحلة النص، مع البنيوية اللسانية والسردية والسيميائيات “تودوروف” و”رولان بارت” و”امبرتو ايكو”.
7 – مرحلة الأسلوب، مع مجموعة من الأسلوبيين مثل “ميخائيل باختين” و”بيير غيرو”.
8 – مرحلة التيمة، مع “غاستون بلاشار” و”بيير ريشار”.
9 – مرحلة ما بعد الحداثة، التي ركزت على مفاهيم التأويل والتفكيك والتاريخ والبيئة والجنوسة والاستشراق والجمالية والقراءة.
نظريات القراء..
تبلورت “نظريات القراءة” مع عدد من الأسماء، كـ”ولفغانغ آيزر” و”هانز روبير يوس” و”امبرتو ايكو” و”رولان بارت” و”ميشيل شارل” و”تزتيفان تودوروف” و”رايمون ماهيو” و”فرناند هالين” و”ستانلي فيش” و”ميشال اوتن” و”روبرت اسكاربيت”، ولم يظهر الاهتمام بالقارئ والمتلقي إلا بعد مرحلة “البنيوية” و”السيميائيات” التي ركزت كثيراً على النص وأقصت بشكل كلي مفهوم المؤلف، والمرجع، والسياق، وكان التركيز على النص باعتباره مجموعة من البنيات الداخلية المغلقة، وعالماً من العلامات اللغوية، بيد أن النص في منظور السيميائيات أخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام على حساب القارئ الذي اهتم به “رولان بارت” و”تودوروف” و”امبرتو ايكو”، ومن ثم جاءت “نظريات القراءة” في مرحلة ما بعد الحداثة “1960 : 1980″، لتعيد الاعتبار للمتلقي بعد أن تسيد المؤلف زمناً طويلاً مع علماء النفس، ومؤرخي الأدب، وكتاب السير الذاتية، وبعد ذلك ساد النص مع البنيويين والسيميائيين لمدة لا بأس بها.
وعليه فإن دور القارئ لم يبرز إلا مع نظريات “ما بعد الحداثة”، وتطور النظريات الحديثة كالتأويلية، والتداوليات، والنقد الثقافي، والنقد النسائي، والتاريخية الجديدة، ومن ثم برز دور القارئ كعنصر فعال في تناول النص الأدبي، وعملية التحليل والتأويل والإدراك والسرد والقص، ولعل ما يزيد في صعوبة تحديد هذه المدرسة هو إفادة ممارسي هذا النوع من النشاط النقدي من الطروحات الحديثة، سواء اللغوية، أو النفسية، أو مكتشفات النقد النسائي.
ولما لم يكن لهم مدرسة واحدة توحد غايتهم أو تحدد منهجيتهم، فإن كل من اهتم بالقراءة أو القارئ هو منتسب إلى هذا التوجه، سواء كان هو “رولان بارت” أو كان “هارولد بلوم”، والأسماء التي ترتبط بهذا النقد هي في الأصل أسماء ألمانية، خاصة التي اعتمدت على مقولات الناقد الهولندي “رومان انغاردن” مثل “فولفانغ آيرز” و”هنز روبرت يوس”، أما على الجانب الأميركي فهناك “نورمان هولاند” و”جيرالد برنس” وغيرهم كثير.
بداية الاهتمام بالقارئ..
الاهتمام بالقارئ جاء قبل فترة “ما بعد الحداثة” بكثير.. فقد ظهر نوع من الاهتمام بالمتلقي مع البنيويين والسيميائيين أنفسهم، وكذلك مع الشعراء والكتاب والمثقفين البنيويين الجدد، مثل “تزتيفان تودوروف” و”جاك دريدا” و”جوليا كرستيفا” و”رولان بارت” و”امبرتو ايكو” و”ميخائيل ريفاتير” قد أولو أهمية للقارئ، ومن الإشارات الأولى إلى دور القراء ما نجده في عهد “ادغار الان بو” وما كتبة “شارل بودلير” والشاعر الرمزي “فاليري”.
أنواع القراء..
صنفت نظريات القراءة القراء إلى عدة أصناف، “القارئ النموذج” عند “امبرتو ايكو”، و”القارئ الجامع” عند “ريفاتير”، و”القارئ الخبير” عند “فيش”، و”القارئ المرتقب” عند “وولف”، و”القارئ المثالي”، و”القارئ الخيالي”، و”الضمني” عند “آيز”، و”القارئ الملتزم”، و”القارئ المستهدف”، و”القارئ المسقط”، و”القارئ التاريخي”.. كما تحدثت نظريات القراءة عن الخبرة الافتراضية عند المتلقي، فاشترطت فيه مجموعة من الخبرات، كأن يمتلك الخبرة اللسانية، والمعجمية، والأيديولوجية، والتواصلية، والخبرة المعرفية، والتاريخية، والثقافية، والنفسية …
تعدد نظريات القراءة..
ليس هناك نظرية واحدة تهتم بالقراءة، وإنما هناك قراءات متعددة مختلفة ومتباينة، ويمكن تحديد بعض هذه القراءات في (القراءة السيكولوجية – التأويلية – الشعرية – السوسيولوجية – السوسيونقدية – بلاغة القراءة – والقراءة السيميائية – وجمالية التلقي – والقراءة التواصلية”.
القراءة السيكولوجية..
تقوم برصد اللاشعور النصي، واللاوعي الأدبي داخل النصوص، ودراسة النص في مرحلة ما قبل الطبع.. وتركز هذه القراءة على الجوانب النفسية الشعورية واللاشعورية، وتهمل الجوانب النصية، والجمالية، والاجتماعية، والتاريخية، مما سيدفع القراءات اللاحقة إلى تجاوزها والبحث عن بدائل منهجية أخرى.
القراءة التأويلية..
العمل الأدبي يمر عبر سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، مما يعني وجود معان جديدة ومختلفة يمكن تصورها في العمل، والتي لا يمكن أن يكون المؤلف قد تصورها أو الجمهور المعاصر، إذ يتوقف ما ينقله النص لنا على طبيعة الأسئلة التي نطرحها عليه، وعلى قدرتنا أيضاً على فهم السياق التاريخي الذي كتب فيه النص، ويتم تأويل النصوص عبر مراعاة الكاتب، والنص، والسياق التاريخي، ويعتقد الناقد الأميركي “هيرش غونيور” أن النص الأدبي يمكن أن يعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أوقات مختلفة، وأن أهمية النص يمكن أن تتغير عندما يتغير السياق التاريخي.
القراءة التفكيكية..
ترتبط بالفيلسوف “جاك دريدا”، وتقوم هذه القراءة على تغييب الانسجام، وتقويض النظام، وتشتيت العضوية الكلية، والبحث عن المتناقض، والمختلف، والمتنوع.
سوسيولوجية القراءة..
تهتم بالبحث في الشروط المادية، والنفسية، والمؤسسية المباشرة للقراءة، هي قراءة تجريبية تدرس ثلاث مكونات مهمة في عملية الإبداع، هي “الإنتاج والتوزيع والاستهلاك”، ويمثلها “روبير اسكاربيت”، الذي تتبع سير الكتاب ورصد أصولهم الاجتماعية والمهنية والأسرية، كما ناقش الاعتبارات المادية، ومشاكل التمويل في ارتباطها بالكتابة، والنشر، والتوزيع، ويعتقد “اسكاربيت” أن الكاتب حين ينشر نصه يسعى إلى عمل صله بالقارئ، وهو يهدف إلى الإقناع أو المد بالأخبار، أو الإثارة، أو التشكيك، أو زرع الأمل أو اليأس وإن حياة النصوص تبدأ من لحظة نشرها، وفي ذلك الوقت تنقطع صلتها بالكاتب لتبدأ رحلتها مع القراء.
فينومينولوجية القراءة..
تعرف بالقراءة الظاهراتية، وترى أن القارئ ذات واعية تتفاعل مع النص وتمنحه وجوده، فقد ذهب “رومان انغاردن” إلى أن النصوص الأدبية هي موضوعات قصدية لا تتحقق إلا بعد تلقيها وقراءتها، ومن ثم فإنها أعمال مفتوحة دلالياً، وبنيات غير مكتملة تستوجب من القارئ إتمامها، وملأ ثغراتها حسب أفق توقعاته، رغم ذلك فإنه لا يوجد تحقق مثالي للنص الأدبي لأن ذلك مرهون بالخبرات الشخصية للقارئ، ومزاجه، ورصيده المعرفي، والمتغيرات الزمنية والمكانية وغير ذلك، ويرى “سارتر” أن الأدب ليس شيئا في ذاته وإنما هو كيان معطل يتحقق وجوده بفعل القراءة.
سيميائية القراءة..
ترتبط هذه القراءة بـ”رولان بارت”، فهو الذي بلور لذة النص في إطار التعامل معه، وهو الذي أعلن موت المؤلف في كتابه “درس السيميولوجيا”، واعتبر بارت أن الناقد الجديد ليس سوى قارئ، فما عليه إلا أن يعيد إنتاج النص مرة أخرى، ويرى أن النص يتألف من كتابات متعددة تنحدر من ثقافات عديدة، تدخل في حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض، بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد، وليست هذه النقطة هي المؤلف وإنما هي القارئ، فوحدة النص ليست في منبعه وأصله، وإنما في مقصده واتجاهه، في حين يهتم “امبرتو ايكو” بفاعلية القارئ فإن نقرأ معناه أن نستنبط، ونخمن، ونستنتج انطلاقاً من النص سياقاً ممكناً يجب على القراءة المتواصلة إما أن تؤكده وإما أن تصححه، والأمر يتعلق بترسانة من الأفكار أو بذاكرة جماعية، وبذلك تركز سيميائية القراءة على المتلقي باعتباره قارئاً مفترضاً، له خبرة كبيرة في إعادة بناء النص تفكيكاً وتركيباً، باستكشاف البنيات النصية المضمرة، والبحث في كيفية بناء الدلالة والمعنى، عن طريق المكونات الشكلية والجمالية.
بلاغة القارئ..
ترتبط بـ”ميشيل شارل”، وتقول هذه النظرية بأن النص الأدبي عبارة عن آليات لغوية وبلاغية، تفرض على القارئ نوع القراءة، التي ينبغي اللجوء إليها، وهي قراءة انحرافية عن المعنى الجاهز للنص، وتهتم بالبحث عن المعنى الأسمى دون التوقف عند حد معين.
جمالية التلقي..
تعتبر من أهم النظريات المعاصرة، ونشأت في ألمانيا الغربية، ومن ممثليها “ياوس” و”آيزر” والناقد الاميركي “ستانلي فيش”، بلورت هذه المدرسة مجموعة من المفاهيم الأساسية، كأفق الانتظار، والمسافة الجمالية، والقارئ الضمني، وفعل القراءة، ومرحلة استجماع المعنى، ومرحلة الدلالة.. يقول “أيزر” في كتابة “عملية القراءة” لقراءة وفهم النص يجب علينا أن نكون على دراية بالرموز التي تستخدمها هذه القراءة، إن النص الأدبي المؤثر يجبر القارئ على أن يصبح مدركاً بشكل نقدي للرموز المألوفة، لا يوجد تفسير واحد صحيح ولكن التفسير الصحيح يجب أن يكون داخلياً ومتماسكاً، وإن أفضل تفسير هو الذي يمكن أن يوضح أكبر عدد من التفسيرات المتوافقة”، وحدد “أيزر” لفعل القراءة ثلاثة مبادئ وهي: “القارئ الضمني – والسجل والإستراتيجية – وفكرة النفي”، فالقارئ الضمني هو صورة الكاتب المختلفة عن الكاتب الحقيقي والسارد داخل النص، فهو الذي يقوم القارئ ببنائه انطلاقاً من النص، وهو النظام والإطار المرجعي للنص، أما الإستراتيجية هي مجمل الشروط والخطوات التي يمكن إتباعها لفهم النص وتأويله، ومنها التركيز على منظور معين في القراءة، وإدراك النص ككلية عضوية، وتلخيص النص باكتشاف تيمته وموضوعه، وتتبع خطية النص، وملء الفراغات لإزالة الغموض وخلق الانسجام، ويقصد بالسجل تلك العلامات والمؤشرات السياقية السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية، والثقافية، والنفسية التي تساعد القارئ على فهم النص، وتعرف بالمعرفة الخلفية أو موسوعة القارئ، كما يستهدف النفي إبعاد الإسقاطات التأويلية الخارجية، ومن ثم تلغي إمكانيات النفي في النص العناصر المألوفة والآتية من خارج النص.
ظهرت نظرية التأثير والتقبل في ألمانيا في أواسط الستينيات من القرن العشرين، وكانت تثور على المناهج الخارجية التي ركزت على المرجع الواقعي، كالنظرية الماركسية، والواقعية الجدلية، والمناهج البيوغرافية التي اهتمت كثيراً بالمبدع، وحياته، وظروفه التاريخية.
ومن رواد هذه النظرية في العالم العربي “عبد الفتاح كليطو” في كتابيه: “الحكاية والتأويل” و”الأدب والغرابة”، و”حميد لحمداني” في كتابه “القراءة وتوليد الدلالة”، و”محمد مفتاح” في كتابه “التلقي والتأويل”، وكلهم نقاد مغاربة.
شعرية القراءة..
توصل “تودوروف”، في دراساته الشعرية والبنيوية، إلى أن القراءة الشعرية هدم وبناء وتفكيك، كما أنها تهتم بقراءة الخطاب صيغة، وزماناً، ومنظوراً، ووصفاً، ومن ثم تتكئ هذه القراءة على التدليل والترميز والتأويل.
القراءة السوسيونقدية..
يمثلها “كلود دوشيه” و”بيير زيما”، وتهدف إلى قراءة تحترم استقلالية النص، باعتباره شكلاً جمالياً، وفي نفس الوقت تنصت إلى الطرق التي بواسطتها يتضمن هذا الشكل ما يربطه بالآخر الاجتماعي، فهي تربط الأدب بالمجتمع لكن ليس في ضوء الانعكاس المباشر، بل تقرؤه قراءة جمالية مستقلة في علاقة بالواقع المعطى، ويعني هذا أنها تتعامل مع اللاوعي الاجتماعي داخل المتخيل الأدبي، من خلال الجمع بين النصية والاجتماعية، وهنا يتم التشديد على الخلفيات التاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية ضمن لا وعي اجتماعي يتشكل داخل النص الأدبي فنياً وجمالياً.
القراءة التواصلية..
تستوجب وجود ثلاث أطراف: “المرسل والرسالة والمتلقي”، المرسل هو الذي يسنن رسالة ما، سواء ذهنية أو وجدانية، ليقوم المتلقي بتفكيكها في ضوء سنن مشتركة أو لغة يعرفها كلاً من المرسل والمتلقي، يقول الباحث التونسي “حسن الواد”: “لقد اعتنت نظرية التخاطب بمرور البلاغ من الباث إلى المتقبل، عبر قنوات الاتصال، حسب قواعد في التسجيل تواضع عليها الناس، إلا أن إيصال البلاغ في الغالب مغامرة لا تتم دائماً بسلام، فمهما بذل الباث من جهد في تفادي عناصر التضليل والتحريف وسوء الفهم فإن بلاغه لابد من أن يتأثر بها”.
المصدر:
كتاب “نظريات القراءة في النقد الأدبي”، الدكتور جميل حمداوي.