كتب: حواس محمود
تمر المجتمعات المعاصرة بمرحلة ضمور وضعف وهزال القيم الاجتماعية النبيلة القائمة على الصدق والاخلاص والمساواة والعدل واحترام الفوراق العرقية والطبيقية ، والوعي والرقي الحضاري ، ذلك أنه في عصر العولمة وسيادة الاستهلاك والتعليب وتحول الدول الى ما يشبه الشركات التجارية التي هدفها الربح السريع ولو على حساب القيم الانسانية الايجابية، اقول ذلك أنه في هذا العصر ما عادت الدول والمجتمعات تلتزم المعايير التي تتطلب احترام المعرفة والثقافة والديبلوماسية والسلم اكثر من المادة والترفيه والصراعات والحروب والمنازعات ، انما السائد الآن هو التفاهة المعممة والمروج لها عبر السوشيال ميديا والفضائيات والعديد من برامج التواصل الاجتماعي، وتحويل الكثير من الشخصيات العادية الى مشاهير يمتلكون الاف المعجبين بهم دون ان يكونوا مستحقين لهذا، لكنه عصر الاستهلاك والتفاهة والابتذال ، وفي المقابل يهمش المبدعون والعباقرة وأصحاب الكفاءات العالية والخبرات والأفكار الموضوعوية والجادة في زوايا الاهمال والتجاهل والنسيان .
مناسبة المقدمة اعلاه هي صدور كتاب بعنوان “نظام التفاهة ” للباحث الكندي “الان دونو”. (ترجمة الباحثة الكويتية مشاعل الهاجري – دار السؤال بيروت)، هذا الكتاب يعتبر هاما جدا في وقتنا الراهن، اذ ينتقد ما هو سائد في الاقتصاد والاعلام والثقافة والفكر بلغة وسط بين الاكاديمية واللغة البحثية العادية.
نظام التفاهة كتاب ينبهنا اننا نعيش في مرحلة خطيرة من انهيارات شتى في مجالات الحياة واننا ننحدر من انسانيتنا العظيمة الى مستويات متدنية ، تأخذنا الاستهلاكية المفرطة والدعاية والاعلام المشغل من قبل الشركات المساهمة التي همها المادة أكثر من الانسان ، والانسان عبارة عن اداة ووسيلة لخدمة الارباح وليس هو الهدف والمبتغى .
ينتقد المؤلف الفن الذي يتوغل في الحياة اليومية والاقتصاد ويتسطح بهما ويقلل من قيمته المعنوية بالقول: “كلما انقع الفن في الحياة اليومية وفي الاقتصاد ، قلت حمولته من القيم الروحية ، كلما تعمم البعد الجمالي ظهر اكثر فاكثر كمحض واحد من الانشغالات البسيطة للحياة ، اكسسوار لا هدف له سوى تنشيط الحياة العادية ، زركشتها وجعلها اكثر حسية” ص 283.
يرى دونو أن التفاهة “تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير… النظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري. إنها تحيلنا إلى أغبياء. فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة هو أمر مفهوم، وأن بعض الناس يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك؛ فإن البعض منا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة ” ص 85.
ويحلل المؤلف وضعية السلطة مبينا التداخل الكبير والهائل بينها وبين عدة جهات اقتصادية وسياسية لدرجة عدم التعرف الواضح على الخصم اذ ” اننا نصطدم باجهزة الشركات أو بالأشخاص القانونيين للمال او برجال القش في قطاع الصناعة الذين يتصرفون تحت ضغط يمارس عليهم من العالم اجمع بواسطة سوق غامضة وحملة اسهم طائشين، تخضع الشركات للقوانين ، والقوانين تصدر بضغط من الناشطين السياسيين، والناشطون السياسيون يتحركون بناء على الاعلام، والاعلام يصغي بانتباه الى الاسواق وكيفيية تطورها ، والاسواق عرضة للاوضاع الجارية ، والاوضاع الجارية تتأثر بأفعال البنوك المركزية والبنوك المركزية مستقلة عن الحكومات ، والحكومات تدار من قبل احزاب سياسية قريبة من الجريمة المنظمة ، والجريمة المنظمة تغسل اموالها في كيانات الافيشور ، وكيانات الافيشور اصبحت جزءا من الشركات متعددة الجنسيات معتمدة من وكالات التصنيف ، ووكالات التصنيف تبدي اراء في الميزانيات الحكومية ، والميزانيات الحكومية مبنية على الواقعية والبراغماتية ” ص 351
ويشير المؤلف ان الصحف تولد لدى قرائها التوتر والقلق بسبب تناولها عدة موضوعات غير مترابطة ببعضها البعض ” ان الصحيفة تقدم لنا ما نتوقعه ، الا انها تشظي ردودنا الذاتية من خلال توجهها نحو موضوعات غير ذات ارتباط ببعضها او بأي شيئ تسبب في ردودنا اصلا ، تخلق الصحيفة توترا من خلال اقسامها المولدة للقلق ، ثم تقوم بتهدئه هذا القلق من خلال تغطيتها لموضوعات تافهة ” ص 355
وينتقد المؤلف الجامعات التي يتحول أساتذتها إلى سماسرة ببيع نتائج الابحاث للمولين ، وهذا دليل ان الجامعة قد “اسست سلطتها على اي اعتبار عدا قدرة العقل على انتاج المعنى ” ص 358
ويعالج المؤلف النظرة السلبية التي ينظربها المجتمع للمثقف على انه الشخص العاطل عن العمل ، فيدافع عن وضع المثقف الذي لا يحتاج في عمله الحر الا للقلم والحبر ، وهو وان بدا ظاهريا انه عاطل عن العمل باعتباره فاقدا لوظيفة ثابتة تدر عليه مبالغ مالية لاعاشة نفسه وعائلته ، الا ان المؤلف يدافع عن وضعية المثقف وعمله الثقافي باعتباره غير مقيد بوظيفة تخضع للبيروقراطية واللوائح والجداول والروتين وضعف الالتزام بالعمل الدؤوب ذلك أن المثقف يندفع للكتابة بشكل اكثر حماسا واخلاصا منه للعمل بوظيفة ما ، ويلخص المؤلف رأيه بالقول ” عندما توقفت عن الكتابة بسبب التعب لم يكن لدي الضمير الخالي للموظف الذي انتهى من اداء عمل اليوم فصار يستطيع الان التفكير في شيئ اخر ” ص 156 بمعنى أن الالتزام بالعمل في حالة المثقف اكثرقوة بما لا يقاس مع الموظف في دائرة او شركة ما ، اذ ينتهي الموظف من دوامه الذي يكون اقل ارتباطا به ويفكر بأعمال أخرى .
ختاما فان كتاب دونو أخذ شهرة واسعة وجرت تغطيات صحفية عديدة له ، لأنه يعبر عن الواقع الراهن ، والوضع المتدهور للقيم والاخلاق والسلوكيات والتعاملات الراهنة ، والذي ينبئ بالمزيد من التدهور الانساني ، وتعرض الحضارة المعاصرة لخطر الانهيار ، ولعل الحروب التي نجدها هنا وهناك والاثار والتداعيات الكارثية الكبرى الناجمة عنها تشكل صورة ومثالا صارخا لما اتى عليه كتاب دونو الحالي.