18 نوفمبر، 2024 7:21 م
Search
Close this search box.

نصُّ يحكيه أعمى راءٍ

نصُّ يحكيه أعمى راءٍ

 

كتب: خضير اللامي

“حين يجلس الكاتب ليبدأ بكتابة روايته، فإنَه ينبغي أنْ يفعل ذلك؛ لا لأنه يجب أنْ يحكي قصة؛ بل، لأنّ له قصة يجب أنْ يحكيها ..” ترولوب.

في البدء، لا يمكن الحديث عن كل شيء هنا، في هذا النص الروائي المُسهَب في تفصيلاته الدقيقة، وبعدد صفحاته التي تبلغ 317، صفحة من القطع المتوسط، ذلك أنه أي النص، يتسع لكثير من أحداث وحوارات وتأويلات، فضلا عن قابليته لإجتراح نصوص عدة؛ رغم قلة شخصياته، التي تحتاج هي الأخرى إلى إفراد موضوع لكل منها، ناهيك عن التقنيات التي استخدمها السارد طه حامد الشبيب على مساحة النص.

وهنا، سأركز في مقالي هذا، على شخصية حمادي الأعمى، بوصفه الشخصية الرئيس في هذا النص حسب، الذي تولى السرد الروائي، وما يحيط به لأنطلق منه لتناوله إيّاه، وربما أعود ذات يوم لتناول ثيمة أخري، ذلك أنَّ معظم شخصيات هذا النص تحتاج إلى تناول تحليلي دقيق. ناهيك عن أحداثه وتقنياته الفنية. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، أنًّ الصراع الدموي بين القوميين والشيوعيين وإفرازاته السلبية على الشعب العراقي، في ستينيات القرن الماضي، يحتاج هو الآخر إلى موضوع منفرد للحديث عنه أيضا لمن يستهويه سرد المناخ التأريخي الفني.

لذا، ففي مقالنا هذا، لا بد مِن أنْ نطرح سؤالا قد يكون كبيرا؛ عن سارد هذا النص الروائي، ونتساءل؛ هل هو كاتب واقعي؟ بمعنى آخر، هل هو كتب بواقعية جميع أعماله أو بعضها؟ وفي هذا النص بالذات؟ هذا ما سنراه في سردنا هذا، للروائي الكبير طه حامد الشبيب مِن أول سطر، إلى نهاية آخر سطر.. ومن خلال عمق النص ورموزه، وتنوع شخصياته، وتأويلاته، وجمالياته وتقانته، فضلا عن الشخصية الرئيسة، التي أطلقنا عليها الأعمى الرائي، ليتماهى مع النص الذي يستولد نصوصا أخر، في فضاءات متن هذا العمل الروائي، ناهيك عن أسلوبه الرشيق، الذي يثبت لنا بالدليل القاطع، أن الروائي طه حامد الشبيب ليس ساردا واقعيا بالمعنى الواقعي حسب، بل، هو يتخيَّل بما هو واقع ليحوّله إلى تخييل؛ أو ربما حدث هذا فعلا كما نراه، في سلوكيات الأعمى الرائي الذي يهيمن على متن السرد الروائي هذا.

إذن، هذه رواية، أو نص، ثلاثة أرباعه الغاطس في الماء، حسب آرنست همنغواي،Arnest Hamingway، إنْ صح التعبير، أو تحكي لنا شيئا آخر، شيئا ما وراء نصها؛ وليس كما جاء في تورية الروائي طه حامد الشبيب في عنوان روايته “عنْ لا شيء يَحكي”. الذي يرسم لنا فيها صورة بانورامية عن مجريات الأحداث والوقائع الجزئية منها والتفصيلية.

وهي قصة أرض خراب،  دمار، اختفاء كل شيء، في الوجود وانتهت بنهاية مفجعة، لا مثيل لها، نتيجة صراع  وتناحر، بين قوى سياسية، في فترة ستينيات القرن الماضي، نسجها السارد طه حامد الشبيب وأنهاها، بخاتمة تراجيدية لثيمتها، ولشخصياتها التي لا مثيل لها، وبخاصة شخصية الأعمى حمادي الذي يهيمن على سرد هذا العمل الروائي.  وفيها نرى تَعدد تناول القارئ إيّاه. بمعنى أنها قابلة للتأويل، واجتراح نصوص أخرى، ابتداء مِن مستهلها إلى نهايتها مما يضفى عليها جمالية ولمسات سحرية، بلغتها العربية الشفيفة ولهجتها الشعبية.

وهنا، في هذه  التورية، أي في عنوان السرد الرئيس؛  “عن لا شيء يحكي”.. يعني أول ما يعني قابلية هذا النص إلى استيلاد نصوص أخرى؛ وهو سيبقى نصا تأويليا بامتياز، بمعنى آخر نصا قابلا لإجتراح نصوص أخر، أو بمعنى آخر، أن النص هذا، يستولد نصوصا بتعدد قراءاته. وهذا يعني أول ما يعني، حيوية النص الروائي الأصلي بقدر تعدد اجتراحات نصوصه كما قلنا. وعلى وفق أصحاب نظريات ما بعد السرد، أو ما يسمى نظرية موت المؤلف، أمثال رولان بارت، ودو سيسير، وجاكوبسن، وفنجشتن، وفوكو، وجاك دريدا الخ .. فهؤلاء هم مؤسسو فلسفة  اللسانيات التي تركزت مفاهيمها على النصوص الإبداعية حصريا..

إذن، دعونا نتحدث عن شخصية الأعمى الذي هو السارد الرئيس في هذه الرواية، وهو الذي يدير دفة سرد الأحداث وتداعياتها وملابساتها بجدياته وتهكماته؛ فضلا عن سخريته، وتندره، التي يتباهي بها بخاصة أمام شلته. وقد يتوهم القارئ ذلك، أنّ  ثمة ساردا آخر، يظهر بين الفينة والأخرى، ويكاد المتلقي لا يصدّق أنَّ السارد الأول لجسد هذا النص هو حمادي ابن عمران الفحام الأعمى؛ و كما أراد المؤلف؛ بيد أننا نفاجأ تماما أنّ الأعمى  حمادي هذا، هو واحد من بين شخصيات العمل السردي وإنْ تولى معظم سرد العمل الروائي، في هذا النص وإن كان الشخصية الرئيسية.

وقد ينصرف ذهن القارئ وأنا واحد منهم إلى شخصية الأعمى في رواية  العمى لخوزيه ساراماغو، وهي أيضا الشخصية الساردة الرئيسة في الرواية تلك.  وقد يتوهم القارئ ذلك، وأنا أتحدث هنا عن رواية الشبيب أنَّ ثمة ساردا مجهريا، يظهر بين الحين والآخر، ويكاد المتلقي لا يصدٍّق أن السارد الأول على مساحة هذا النص هو الأعمى الرائي والناصت في آن. بيد أنه أعمى راءٍ وناصت، إن صح التعبير؛ و كما أراده المؤلف:

“هل كنت أرسم أشكالا أتخيلها؟ ربما. يعني شنو؟ هذا يعني أنّ مخيلتي تشتغل أولا، ثم تتحرك العصا بيدي دون إرادتي بل تسيرها مخيلتي، المهم الآن أنا أفكر أن مخيلتي تسيرها العصا؟”..

إذن، يُعد هذا مقطعا جماليا رسمه لنا الأعمى .كي نصدقه أنه راءٍ، وليس أعمى حسب.. بل، إنَّ ما يطرحه من كلام يقترب إلى مصاف الفلسفة، حين يبلغ الحوار بين الأعمى الرائي ومجموعته مثل: إن كنت لا ترى الشيء وتحكي عنه فإنك بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء.. ص 10 .

ليس هذا حسب، بل، يَعدُ أن الأشياء التي لم يرها هي غير مؤكدة كما يقول لنا هنا: كل الأحداث التي مرت بي خلال حياتي اعتبر وجودها غير مؤكد مائة بالمائة التي لم أرها بعيني.. اسمع عنها فقط: فلا شيء وجوده مؤكد في نظر أعمى.. وهذا كلام يقترب تماما من مفهوم فلسفي يقوله لنا الأعمى الرائي”..

وتتناغم إيقاعات اللهجة الشعبية مع إيقاعات اللغة الفصحى لتضفي عليها جمالية نادرة لمن يتفهمها. ولا أكتمكم أنني أنجزت قراءتها بفترة قياسية جدا وحين رأيت نفسي قادرا على التفاعل معها أنجزت هذا المقال، وقد تجدون أو تلاحظون كيف أنني تفاعلت مع هذا المنجز الروائي لسارد نذر نفسه لمثل هذا العمل مما توجه بستة عشر رواية وهذا جهد كبير يحسب لطه حامد شبيب، ولا أظنني أنني تفاعلت عاطفيا مع هذا السرد، إنما رأيتني منحازا إليه لجمالية لغته وسرده العذب وبساطة شخصياته وبخاصة شخصية العمى النادرة التي تتمتع عقليته بالمعية نراها على مدى سرده بوصفه الشخصية الرئيسة في هذا الجهد الكبير..

وقد تعاملت مع ما يسمى ما وراء النص واجترحت ما استطعت منه ما تشكل لدي نصا آخر عن شخصية الأعمى الرائي؛ وأدركت أنَّ هذا النص لا يمنح نفسه للقارئ أو حتى الناقد استسهال اجتراحه، بما فيه اللهجة الشعبية هي الأخرى التي يتندر بها الأعمى الرائي بين الفينة والأخرى، ولا تمنح نفسها بسلاسة لتضمنها رموزا وإيماءات وحتى إيحاءات ..

وكلما اقتربنا من نهاية الرواية هذي كلما شعرنا بازدياد هذيان حمادي الأعمى، وتخيلاته إذ يروح يقول: أبدا أبدا، لا أثر للسرير هناك. وما دام الأمر كذلك، فإنه يقنع نفسه، أو تقترح مخيلته، كما يقول هو، حمدية ليست في بيتنا أساسا، أسأل مخيلتي أين هي الآن إذن؟ وإلى حد يبلغ به الهذيان؛ أن عينيه كما يقول: عيناي تريان عجبا، أطفالا، صبيانا، الخ..

يقول الرجل الأعمى الرائي إلى جماعته أو شلته الثلاث الذين يعاقرون الخمرة كل ليلة بما فيهم حمادي الأعمى وإن حدث ذات ليلة استعصى عليهم الحصول على قنينة الخمر فستكون ليلة سوداء عليهم:

ويبلغ الحوار بين الرجل الأعمى ومجموعته الثلاث إلى مصاف الفلسفة مثل: إن كنت لا ترى الشيء وتحكي عنه فإنك بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء.. 10

وهنا، يتصاعد الموقف التراجيدي إلى ذروته لدى حمادي الأعمى؛ إلى حيث يتوقف القارئ عند صرخته هذه حين يقول كحكيم بوذي: كل الأحداث التي مرت بي خلال حياتي اعتبر وجودها غير مؤكد مائة بالمائة لأني لم أرها بعيني.. أسمع عنها فقط: فلا شيء وجوده مؤكد في نظر أعمى..

ومسك ختام مقالنا هذا ننقل شذرات، عن ماذا يقول لنا حمادي أعمى طه حامد الشبيب هذا: ودعونا ننصت اليه:

من أين ما تريد أن تبدأ ابدأ …أنت أولها أو تاليها تحكي عن لا شيء.. تمام. 47

لكنه زعم أنه يرى كما يرى الرائي، وأقوال زعمه هذا مبثوثة هنا، في جسد هذا النص الروائي  واطرح هنا أيضا، بعض ما قد أنه رآها كما رؤية الرائي الحقيقي:

أرى أمي في بيت أهلها.. بيت جدي جدوع لا أحد هناك… 51

ويقول مع ندمائه الأربعة وهم يعاقرون الخمر:

” قصدي أنني أرى أبي من بين الأشكال المرسومة على التراب، قصير القامة بحدبة بين كتفيه ورأسه وصدره منخسف… 70- 71

ويزعم لنفسه انه حكاء أفضل من غيره الرائيين:

الأعمى خير من يحكي عن لا شيء.. وليله عصاه التي يتوكأ عليها..

أنا متربع على الأرض وعصاي تنتهب أمامي الخطوط في التراب تبدأ تتشكل وعيناي تبدآن القراءة الخ.. 84.

ومسك ختامنا لهذا العمل الروائي نقول:

هذه رواية، إن أراد الناقد أن يكتب عنها فأنه سيؤلف كتابا بقدر حجم الرواية ذاتها..

وهنا، تألق الشبيب في لغته ولهجته الشعبية في نص وجماليات هذا العمل الروائي الذي كاد أن يتماهى إلى مصاف جماليات الشعر وعذوبته..

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة