قراءة في كتاب: (نشأة التمدن العربي)
بقلم – إيمان البستاني
في إصدار جديد حمل عنوان (نشأة التمدن العربي، قبائل العرب في البصرة والكوفة في القرن الأول الهجري)، هو الكتاب العاشر في سلسة مؤلفاته المنشورة، يقدم الدكتور عبد الحكيم الكعبي، الباحث والأكاديمي العراقي المولود بمدينة البصرة عام 1951م، والحاصل على شهادة الدكتوراه دولة من جامعة تونس الأولى، بتخصص التاريخ والحضارة الإسلامية، رؤية معرفية جديدة عن مفهوم التمدن، من خلال الحفر في ثنايا أول تجربة للتمدن العربي بعد ظهور الإسلام، تمثلت بتأسيس مدينتي البصرة والكوفة على أرض العراق، والكتاب من إصدارات المعهد العالمي للتجديد العربي، نشر وتوزيع دار ابن النديم(وهران)، ودار الروافد الثقافية (بيروت/ الشارقة) 2023 .
بلغةٍ رصينةٍ تليق بالمحتوى التاريخي العميق، وعلى امتداد 172 صفحة، تطالعك المقدمة، لتفتح للقارئ نافذة على ثلاثة فصول تبحث في إشكاليات التأسيس وتحديات البيئة والتخطيط والعمران، والتحولات الاجتماعية التمدنية المتسارعة; خصص الفصل الأول منها للبصرة، والثاني للكوفة، أما الفصل الثالث فجاء بمثابة تأطير أنثروبولوجي وفكري لمفهوم التمدن، ذلك المخاض الصعب، ثم يختم الكتاب بمفاخرات طريفة بين البصريين والكوفيين.
للكتاب سمة الأطروحة أو الدراسة الأكاديمية، ينفع الباحثين لرصانة محتواه وغزارة مصادره، وبالوقت ذاته يغني القارئ غير المتخصص ولا يثقل كاهله، الكعبي اختزل الكثير ليقدم التاريخ بلغة السرد السلسة مدعماً بآراء المؤرخين، كما أدرك بفطنة الباحث الحريص شحة الخرائط القديمة عن مدن العراق وأنهاره، فقام ـ ولغرض الإيضاح البَصَري ـ بإضافة رسوم يدوية ومخططات لأنهر وأسواق وخطط البصرة والكوفة آنذاك (القرن الأول الهجري) نُشرت منها ثلاث خرائط يدوية فقط في نسخة الكتاب الورقية.
في (الفصل الأول) الذي حمل عنوان: (البصرة; مدينةُ الدُنيا)، كما وصفها المؤرخ والجغرافي الكبير (اليعقوبي)، توقف الباحث طويلا عند إشكالية تأسيسها، واستحضر آراء المفكرين والمؤرخين بهذا الشأن، منهم المستشرق الإيطالي (كايتاني) الذي قال عنها: أنها المدينة التي ولدت من ذاتها، ولضرورة في نفسها، في حين وصفها المستشرق الفرنسي (موريس لومبارد) بأنها واحدة من مدن الفطريات، كما أكد ذلك المؤرخ (هشام جعيط)، الذي قال بأن ظهور البصرة كان عفويا، خلافاً لشقيقتها الكوفة التي أُسست وفق إرادة منظمة وقرار مسبق.
والبصرة، المدينة التي عمرها اليوم 1388 سنة ميلادية تقريبا، ولدت فكرة تأسيسها، حين امتد مشروع الفتح الإسلامي بسرعة باتجاه العراق في زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، ولأهمية المنطقة في مراقبة طريق الخليج والطرق البرية للحملة الإسلامية، تم تحشيد القوات العربية لصد هجمات الدولة الساسانية في المدائن، وتم تكليف الصحابي (عتبة بن غزوان سنة 14هـ/ 635م) ومعه مجموعة صغيرة من المقاتلين بمراقبة التخوم المجاورة مع الفرس، وهناك حيث عسكر الجند، بدأت ملامح ظهور مدينة البصرة التي كان سبب وجودها منذ البداية لأغراض عسكرية بحتة. وقد اختلفت الروايات في تحديد سنة تأسيسها بين 14 و16 هجري وتمصيرها، أي حين تحولت من معسكر إلى مدينة حضرية عام 17 هجري، وتجمع الروايات على أن مؤسسها الأول هو الصحابي (عتبة بن غزوان).
لم يكن العرب ـ يومئذ ـ يعرفون اسم البصرة، فقد كانت تسمى (أرض الهند) ويقصد بها عموم المنطقة الواقعة شمال الخليج العربي، وهي تسمية كانت ـ على ما يبدو ـ صدى لعلاقات هذه المنطقة التجارية مع الهند وأقاليم المحيط الهندي. وقد اختلف اللغويون والمؤرخون العرب كثيرا حول اسم (البصرة) وهل هو مشتق من طبيعة الأرض ولونها؟، فهي عند الطبري (كل أرض حجارتها جص) وعند ابن الفقيه (الأرض الرخوة الضاربة إلى البياض) وعند المقدسي (الحجارة السوداء). وقيل عنها أيضًا (حجارة رخوة بيضاء) أو (حمراء طيبة)، وسميت البصرة لشدتها وغلظتها. أما معاجم اللغة وكتب الأخبار فلم تستقر هي الأخرى على رأي محدد واضح، وقد سماها العرب لما دخلوها أول مرة (الخريبة)، كما وصفت بالسبيكة والمؤتفكة والرعناء، وتوالت الآراء والتفسيرات عن أصل التسمية من كلدانية تارة وفارسية تارة أخرى. أما ألقاب البصرة فهي كثيرة أيضًا منها: أم العراق، خزانة العرب، عين العراق، قبة الإسلام، وعين الدنيا.
يستعرض الدكتور الكعبي تاريخيًا موقع البصرة الفريد بين البحر والنهر والسهل الخصيب، وكيف بنيت بعد تخطيطها على ارض مستوية مكشوفة متصلة بالصحراء، خالية من أية عوارض طبيعية، وهي ارض منخفضة، جرداء غير ذات زرع، تفتقر إلى المياه الحلوة، وقد شق إليها من دجلة (شط العرب) نهران، هما نهر الأبلة ونهر المعقل وهي مدينة مستطيلة الشكل على وصف اليعقوبي. والكتاب يرسم صورة قاتمة للواقع البيئي للمدينة والمشكلات التي واجهتها منذ تأسيسها، فكانت مياه الشرب، شحتها وملوحتها أول تلك التحديات، فالبصرة ماؤها مج مالح وإن صلح لسقي الزرع لا يصلح للشرب، وكان أهلها يعتمدون على مياه البطيحة (الأهوار)، وقد امر الخليفة عمر أن (يحتفر لهم نهرًا)، توالت بعدها عمليات حفر الأنهر والقنوات التي شقت إليها من شط العرب، لكن ملوحة المياه ظلت أبرز سمات المدينة. أما المناخ، فلم يكن هو الآخر طيبًا وعرف برداءته، وكاد أن يكون سببًا لصد المهاجرين إليها، إلا أن واقع الحال كان خلاف ذلك، فازدحمت المدينة الفتية بالمهاجرين الجدد، خلال وقت قصير جدا.
وفي مجال تطورها العمراني، تتبع المؤلف مراحل نهوض البصرة التمدني بدقة وتفصيل، منذ أن شرع المسلمون بإقامة معسكر صغير يستوعب (300- 800) محارب، هو عبارة عن خيام وفساطيط (بَيْوت الشَّعَر)، وبعد الاستقرار أصبحت مادة البناء من القصب، النبات الطبيعي المتوفر بغزارة في بطائح البصرة، وكان المسجد الجامع أول بناء شيد فيها، وبجواره ـ لاحقا ـ دار الإمارة والسجن، ثم تطور البناء في المدينة على إثر النجاحات الباهرة للجيش الإسلامي، وبعد أن هاجرت إليها جموع قبلية ضخمة فازدحمت المدينة بالسكان مما تتطلب إعادة النظر في تخطيطها، فقسمت المدينة إلى (خمسة أخماس) بحسب سكنى القبائل الكبرى فيها، وتم توسعة قياسات السكك والأنهج والأزقة، وتحولت مادة البناء من القصب إلى الُلبن(الطين المجفف) ثم الطابوق، وتوسعت المدينة، فانتظمت أسواقها الأربعة الكبرى، المربد، والكلاء والسوق الكبير، وسوق باب الجامع، وانتشرت المساجد وامتلأت المدينة بالحمامات وبني لأول مرة سور طوّق المدينة وازداد بناء القصور. كما أسهب المؤلف في وصف الشبكة المعقدة من الأنهار الكبيرة والصغيرة التي تتخلل الأراضي الزراعية والعمرانية، حيث امتازت البصرة منذ عصرها الأول بكثرة أنهارها التي قدرها الجغرافيون بحدود المائة والعشرين ألف نهر. وعولجت ملوحة الأرض بالسماد وكسح وجه التربة.
أما مجتمع البصرة، قبل الإسلام وبعده، فقد تناوله المؤلف ببضعة تساؤلات منهجية قد ترد في ذهن القارئ، مثل: من هم سكان البصرة الأصليون؟ ماهي أصولهم؟ لماذا ومتى استقروا فيها؟ وما هو أثرهم الحضاري؟ فسلط الضوء على العنصر الأساسي القديم فيها وهم (الآراميون)، وبعض قبائل العرب الجزرية من بكر وشيبان، فضلا عن أجناس أخرى سكنت البصرة قبل الإسلام بحكم وظيفتها التجارية كالهنود، أما بعد تأسيسها فكان أغلب سكانها من العرب المقاتلين، وهناك أقليات اجنبيه من الزّط، والبخارية والسيابجة الفرس، والزنوج الأفارقة الذين عملوا كرقيق في إصلاح الأراضي بأعداد هائلة.
(الفصل الثاني)، الذي حمل عنوان (الكوفة، جمجمة العرب)، وتناول مراحل ظهورها وتطورها، اعتمد الكعبي منهجية مطابقة تماما لمقاربته موضوع البصرة، مبتدأ برسم ملامح شخصية الكوفة، تحت عنوان (مدخل) ثم توالت بعده عناصر وإشكاليات التأسيس والعمران وبنية المجتمع الكوفي، وتوقف عند خصوصية ظهور الكوفة، التي ظهرت ـ بخلاف البصرة ـ وفق إرادة منظمة، وقرار مسبق ارتبط كثيرًا بالحرب وبمركز الحكم، ومن هنا تكمن أهميتها، فهي منطلق العالم العربي الأول، وأكبر مركز لهجرة عربية منظمة إلى أرض خارج شبه جزيرة العرب، أسست لحضارة عربية واعدة تمثلت في تثبيت القبائل البدوية الفاتحة المنتصرة، واستقرارها على حافة الصحراء، ليس بعيدا عن تلك البقعة التي شهدت حضارة عراقية زاهرة في الأزمنة الغابرة، تلك هي أرض بابل موطن الآراميين الكلدانيين والبابليين.
أسست الكوفة رسميا مطلع (سنة 17هـ/ 637م) على يد بطل القادسية القائد (سعد بن أبي وقاص) بعد أن انتزع العراق بأكمله من يد الساسانيين، وهناك رأي آخر يذكر أن سنة تأسيها كان في سنة 14هـ، ولكنه رأي ضعيف، لأن معركة القادسية وقعت سنة 15 هجري. وقد بنيت الكوفة في موضع كان يسمى قديمًا (خد العذراء). أما عن أصل تسميتها فلا يُعرف بدقة تماما، ولكن بعض المؤرخين والجغرافيين العرب جعلوا كلمة (كوفة) كما هو شأنهم مع كلمات أخرى، اسم جنس يدل على كل أرض رملية منبسطة، ومنهم من أعادها إلى أصل آرامي (عاكولا) أو (عاقولاء)، ولعل الأقرب أن يكون أصل الكلمة في السريانية (كوبا) في حين أطلق البعض عليها (كوفان). وقيل إن الكوفة تعني الرملة الحمراء، وهناك من رأى بأنها سميت كوفة نسبة إلى موضع كان موجوداً في المنطقة اسمه (كويفة بن عمر).
هكذا إذن، أسست الكوفة، فولدت من عدم، واختير موقعها على تخوم البوادي العربية في محاذاة مجرى نهر صغير، لضمان حماية الطريق إلى بابل، ومنها إلى المدائن، على بعد بضعة أميال شمال – شرقي الحيرة عاصمة دولة المناذرة، وإلى الغرب من نهر الفرات بمقدار نصف فرسخ، ومناخها صحي وممتع.
خلال حقبة الخلفاء الراشين الثلاثة (عمر وعثمان وعلي) رضي الله عنهم أجمعين، كانت الكوفة تبدو بدائية من الناحية العمرانية، فبعد خمس سنوات من تأسيسها لم تكن سوى أكواخ من القصب والخيام والفساطيط المؤقتة التي تنصب عند عودة المقاتلين للاستراحة بين حملتين عسكريتين. ثم برزت الحاجة إلى الاستقرار بعد هدوء المعارك مع الفرس، لذا استبدلت الخيام ببيوت من القصب، وفي مرحلة لاحقة استبدل القصب بدور ثابتة مبنية باللبن، ثم بالطابوق والآجر. وخلال الثلاثين سنة الأولى من تأسيها كانت تلك البيوت والمخيمات والأكواخ مقسمة إلى سبع مناطق عسكرية / خطط (أسباع الكوفة) بحسب أسماء القبائل الكبرى، على غرار خطط البصرة، وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ظهرت التعديلات على هذه التجمعات القبلية وتغّير نظام الأسباع في الكوفة. وكان العنصر العربي الذي استوطن الكوفة منذ تأسيسها مزيجا من قبائل يمانية وقبائل حجازية ونجدية، فضلا عن سكانها الأصليون (الآراميون)، والسريان النصارى من العرب الأوائل، سكان العراق القدامى.
وعلى الرغم من أن الكوفة كانت جزءاً أساسيا من منظومة الفتح العربي للمشرق، إلا أنها وعلى امتداد القرن الأول الهجري بقيت مكشوفة النهايات لا تحيط بها أسوار، مفتوحة على البادية العربية يشهد على ذلك حركة الناس، وكثرة الشعراء وحضور النمط البدوي القوي فيها وتحولها إلى الحضرية والتمدن، فعرب الكوفة كانوا مستقرين وقطعوا كل صلة لهم بنمط عيش البداوة والترحال وهي المرة الأولى التي ينجح فيها العرب بتأسيس مجتمع مديني جديد بهذه الضخامة ليكون بمثابة بؤرة تتعايش فيها وتتفاعل نماذج و عينات مختلفة من جميع أنحاء الجزيرة العربية.
وقد حاول خلفاء بني العباس الأوائل جعل الكوفة عاصمة لدولتهم الفتية، فأقاموا فيها مدة من الزمن، إلا أن إحساسهم بضعف ولاء أهل الكوفة لهم دفعهم للرحيل عنها. وعلى مدى (13) عامًا، بين قيام دولة العباس سنة 132 هـ، وبناء بغداد سنة 145 هـ اصطبغت الكوفة بصبغة إيرانية نتيجة لتدفق الجنود الخراسانيين عليها.
توقف الباحث عند أبرز معالم الكوفة العمرانية وهي: المسجد الجامع ودار الإمارة والحمامات والجبانات، ودار الرزق، وسكة البريد، والقنطرة، وحمّام أعين وسوق أسد، ودير هند، ودير كعب، ودير الجماجم، وعند أشهر ظواهرها الطوبوغرافية (الكنّاسة) التي تقع غرب المدينة وهي مكان مخصص لرمي القمامة، ثم أصبحت في العصر الأموي، سوقًا للمواشي، ثم مكانًا لتفريغ بضائع القوافل القادمة من جزيرة العرب، كما استخدمت أحيانا مكانًا للتجمعات الأدبية، أو لتعذيب وإعدام المعارضين. ولم تكن في الكوفة آبار صالحة للشرب طيلة الأعوام المائة الأولى بل كانوا ينقلون الماء من شريعة الفرات، وبعد زمن حفروا بئرًا فوجدوا ماءها صالحًا للشرب فسميت (بئر علي).
وينتهي هذا الفصل بتقرير يفيد بأن تاريخ الكوفة منذ تأسيسها وحتى منتصف القرن الرابع الهجري، اكتسى ثلاثة وجوه هي على التوالي: (كوفة عسكرية / سياسية حتى العام 150 هجري) و (كوفة ثقافية بين الأعوام 150 – 250 هجري) و(كوفة أيدولوجية بين الأعوام 250 – 350 هجري)، حيث غدت مركزا أساسيا للعقيدة الشيعية.
أما (الفصل الثالث) والأخير في هذا السفر الممتع، والذي جاء تحت عنوان (التمدن: المخاض الصعب) وتكّون من أربعة عناصر رئيسة هي: مقدمات التمدن ، القبيلة والدولة، محطات وتحديات، وأخيرا مفاخرات البصريين والكوفيين، فكان بمثابة خلاصات ونتائج فكرية، وتحليل أنثروبولوجي لظاهرة التمدن، بعد أن تم ربط ظهور المدن الإسلامية الأولى ( وبخاصة البصرة والكوفة)، بمفهوم مركزي في الإسلام، هو مفهوم الهجرة، الذي كان تعبيرا عن اقصى درجات الإيمان والاستعداد الكامل للجهاد، فأستحق هؤلاء المهاجرون مكانة خاصة في الإسلام، منذ هجرتهم الأولى مع الرسول الأعظم إلى يثرب، وعندما اتسع مدى الفتوحات الإسلامية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، باتجاه العراق وبلاد الشام ومصر، بدعوى نشر الدين الجديد، وجد الإسلام نفسه من جديد مرتبطا (بالهجرة)، وعاد إلى ذلك المفهوم فوسع أطاره، واستجابت له الجموع العربية المسلمة في جزيرة العرب، لتلتحق بأكبر عملية هجرة منظمة ومسلحة في التاريخ، ساهمت في القضاء والى الأبد على الإمبراطورية الساسانية في العراق وبلاد فارس، وفي تحجيم دولة الروم البيزنطية وطردها من بلاد الشام ومصر. وكان من أهم نتائج هذا المنعرج التاريخي الكبير ظهور البصرة والكوفة كأول مدينتين إسلاميتين خارج شبه جزيرة العرب، ولم تكن هاتان المدينتان مجرد محطات استقرار بشري وعمراني فحسب بل كان لهما أدوارًا سياسية واقتصادية وعسكرية وإدارية هامة جدا.
تتابعت عناصر هذا الفصل الفرعية في مناقشة موضوعات جوهرية أخرى تمحورت حول مفهوم التمدن والتطورات الاجتماعية التي عاشها العرب في المدينتين لتنتهي إلى العنصر الأخير من الكتاب الذي جاء بمسك الختام حول مفاخرات البصريين والكوفيين وقد أورد الدكتور الكعبي أمثلة طريفة، تؤشر مدى التحول التربوي والثقافي والنفسي لدى العربي الجديد، في كل من البصرة والكوفة، بحيث أمسى يفاخر على ابن عمه وقبيلته بانتمائه إلى مدينته الجديدة بدلا من عشيرته، حتى أفضت تلك المفاخرات إلى ولادة أدب جديد عُرف بأدب (المفاضلات البلدانية)، وهي أجواء مرحة توحي للقارئ بحياة التمدن والروح الحضرية التي اكتسبوها في مدنهم الجديدة بعيدا عن جفاف الصحراء وجفوتها .
وختاما: لابد من الإشارة والوقوف دون إطالة عند منهجية مؤلف الكتاب ورؤيته، سواء في كتابه هذا أو في مؤلفاته السابقة وأبحاثه المنشورة، فالدكتور الكعبي (بحسب أحد الباحثين المتابعين) يعتمد رؤية علمية واضحة لا مجال فيها للغيبيات وهوى النفس، متخذا من مبدأ الحوار النقدي بين العقل والتاريخ منهجا وأسلوبا، يناقش برؤية تحليلية ناقدة الكثير من المسلمات الشائعة بين الناس على أنها ثوابت وحقائق مطلقة، مدققا في الروايات بموضوعية وتجرد خال من الهوى الشخصي أو الانحياز الحزبي أو الطائفي، أو التوجهات المسبقة، ويمكن تصنيف مؤلفاته (منهجيا) في ثلاثة اتجاهات :
ـ منهج صارم في كتابة التاريخ، تجسد في مؤلفاته عن عصور ما قبل الإسلام وصدر الإسلام، والحضارة الإسلامية.
ـ كتابات ودراسات ومحاضرات في مجالات الفكر الحر والثقافة العربية، نشرت بمجلات وصحف ثقافية عربية مهمة.
ـ دراسات وأبحاث علمية في مجال (المنهج النقدي في قراءة التاريخ)، من المأمول أن تصدر قريبا في كتاب شامل.