8 أبريل، 2024 5:01 ص
Search
Close this search box.

نسق الغربة السردي في مجموعة “ثيرافادا” القصصية

Facebook
Twitter
LinkedIn

للقاص والروائي أسعد الهلالي
قصة: “آشوري في لينج”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العثور على وطن في سوق الأنتيكات.
سلسلة من الإشكاليات والمفارقات الدينية والتأريخية نجدها في قصة من القصص الخارجة عن المألوف، تتناول الكثير من الملابسات التي تربط الحاضر بماضي يعود إلى حوالي مئة عام، من الموصل، وهي ترتدي النقاب الأسود بحد السيف، إلى مدينة لينج البلجيكية.
يتكئ الكاتب أسعد الهلالي على أحداث بعيدة جداً، ترجع إلى عهد آخر السلاطين العثمانيين ليمد منها جسوراً إلى الحاضر المضطرب بفواجعه في بلاد شهدت الكثير من الصراعات الملتبسة على مر العصور، يبحث عن جوهر الانسان هنا وهناك، فطرته الأولى المتجاوزة للعقيدة بمعناها التقليدي (الجامد)، أو لنقل الكهنوت الديني المحنط، وكذلك التوجهات الفكرية والسياسية بكل متغيراتها المتناقضة.
القصة هنا، وبصياغة أدبية ـ فنية شديدة الإتقان والاختزال، رغم طول السرد نسبياً، تتوغل إلى جوهر المعنى، معنى الفرد دائم الصراع مع ذاته في المقام الأول، قبل أن ينتقل ذلك إلى دائرة محيطه الخارجي المتزايد تعقيداً تبعاً للتطور الحتمي للوجود الإنساني، فما بين الجد الأكبر والحفيد تنشأ محاورة جدلية عبر نتف من المذكرات المكتوبة في زمنٍ مضى من الناحية المادية، بيد أنه يخلق زمناً خاصاً يروي الأسرار المخفية في تأريخ العائلة والوطن المخضب بحبكة درامية مستمرة، اقتنص منها الكاتب تساؤلاته وردود أفعاله الفكرية لينقلها إلى القارئ في سنوات تدعونا إلى ضرورة البحث عن الكينونة العراقية المبعثرة بين الإثنيات المختلفة، فجاء النص مختزن التأملات الفكرية، تهبه تميزاً له خصوصيته في تجديد السرد العراقي المنفتح اليوم على العالم أكثر من أي زمنٍ مضى.
قصة: “DJ”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
“ألا تريد أن تحلق بعيداً؟… Abdullah allez”
يخرج الكاتب العراقي عن المألوف في هذه القصة من حيث تناوله شخصية محورية غير عراقية تخطو في مسار السرد بكل تفاصيله الدقيقة والمركبة، فالبطل هنا شاب مصري حاصل على ماجستير في التأريخ، يضطر بسسب التقاليد الموروثة في المجتمعات المنغلقة إلى الهروب نحو أوربا، مدينة لينج البلجيكية بالتحديد، وما أبعد المسافة بين تلك المدينة الأثيرة لدى الكاتب وبين مدينة أسوان في جنوب مصر، مسافة يترصد عمقها الثقافي والاجتماعي والتاريخي برؤية غير تقليدية، وهنا تكمن بصمات المبدع أسعد الهلالي عموماً، لأن نصوصه تتجاوز التداعيات النمطية التي تولدها الغربة لدينا من خلال صهرها في رؤى فنية متجددة.
نص “DJ” نجده يحاور الغربة عن طريق الرقص في نادٍ ليلي يثير لدى عبد الله (الصعيدي) سلسلة من التأملات الوجدانية تترنح به بين جانبي بحر المتوسط كما تترنح الأجساد على إيقاع موسيقى صاخبة يبثها شاب عربي عرف كيف يخترق تلك الأجواء، الشخصية المحورية الأخرى المتحكمة بتناغم الأحداث عن بعد، بينما يظل السارد يقف على ضفاف دنياه الجديدة نسبياً بكل ما تمتلك من مقومات الإغراء الجذابة، يستعين بالنبيذ الأحمر على هواجسه المتمثلة في عقد سلسلة من المقارنات الجدلية المختزلة بأبسط العبارات وبأدق المفردات ذات الدلالة التي تتيح للقارئ منحة الرؤية المتفاعلة مع جوهر النص المستعين بالمؤثرات الصوتية، لا ننسى هنا أن الكاتب مخرج سينمائي أيضاً، ولأنه يريد تسليط الضوء باستمرار عبر نصوصه نحو ضرورة الانفتاح على الآخر، اختار أجمل أغانِ سيد درويش ذات الأصالة الفنية والانتماء الوطني، بصوت المطربة الإيطالية “داليدا” لتكون مقاطعها محاكية لمحنة البطل المطارد: “سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة…”
غناء ورقص وحب يتمناه ولم يخبره من قبل في قسم التأريخ مما يزيد من تشوش ذهنه في مرقص يحث كل خلجة داخله إلى التحرر، التحليق الحر، رقصة الحياة لا رقصات الموت التي اعتدنا التعايش معها على مر العهود في مجتمعاتنا المنسية التي تذهب عنها المراكب دون رجوع، لتستمر التساؤلات الملتجة والتي تمضي معنا أينما مضينا في استرسالها:
“المركب دي حتودي على فين؟… وتجيب منين؟… وأنا دلوقت… رايح ولا جاي؟…”

 

قصة: “الشاليه (11)”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فسيفساء سردية
مراكز اللجوء عالم مصغر، يختزل الجغرافيا، يلملم خطوط الطول والعرض، تتجدد في دنياه فرص الحياة، وكذلك مخاطر الموت، تلك هي التيمة الأساسية التي يرسم من خلالها الكاتب أسعد الهلالي حبكة قصته المتناثرة بين البلدان عبر شخصياته السردية متلازمة المسارات رغم تباعد التفاصيل وما يدب بينها من تناقض يؤدي إلى تكامل المعنى، ذلك التناقض الذي يضعنا في مواجهة أزمات نفسية، اجتماعية، جنسية، اقتصادية، وعاطفية، بالإضافة إلى الإشكالية العقائدية والفكرية التي تفرض تطرفها كجدلية معقدة في بلادنا اليوم.
التموج السردي لهذه القصة يجنح نحو البناء الروائي، رغم ذلك يحافظ السياق العام على النسق القصصي من خلال اختزال لا ينال من عمق الشخصيات وتشكيل الأحداث المترابطة والتي تبدأ من النهاية (خبر مقتل أحد اللاجئين) خبر في صحيفة قد لا يلقى صدى لدى أبناء البلد المضيف كونه حادثاً عابراً وقع في مركز لجوء يجمع أناساً غرباء عنهم، ينقلون معهم تأثرهم البيئي المثقل بالضغوط والاضطرابات مع مسبباتها الشخصية والعامة التي انتهت بهم إلى مركز اللجوء ذاك، البؤرة المركزية للنص، مفترق الطرق المصيري لكل واحد منهم، ومن تلك النهاية تنسل البدايات الموثقة في محاضر إفادات التحقيقات التي يديرها محقق يهودي لم تلتئم جراحه من الوحشية النازية بعد، رغم مرور كل هذه العقود، فكيف ومتى يمكن أن يتوقف نزيف الحاضر المتجدد بمختلف أشكاله وتداعياته حتى بعد الرحيل إلى دول المهجر في انتظار فرصة الحصول على نمط جديد للحياة.
يشتد الصراع بين الشخصيات متضادة الأفكار والميول والقناعات، بل يمتد إلى داخل كل منها في بحث دائم عن السلام، أو حتى الحد الأدنى منه، صراع مع الذكريات، الفقر، الحرمان، التهميش والانكسار… ذلك الصراع لن ينتهي بجريمة قتل حتى لو تم القبض على القاتل، فالجرائم مستمرة، سواء على مستوى أشخاص أو مجموعات أو مجتمعات أو أوطان، لذلك القضية الحقيقية التي سيسبر القارئ غورها من خلال بواطن النص ستبقى مفتوحة على دلالات انتقاها المبدع الهلالي بحرفية عالية ومهارة متمكنة في استخدام تقنية أسلوب السهل الممتنع، يتنقل من شخصية إلى أخرى بانسيابية كاميرا سينمائية تجوب خصوصية أماكن متعددة ما بين تقديم وتأخير، سرعة وإبطاء، تصغير وتكبير العدسة الدرامية (Zoom in – Zoom out) لتأتي المشاهد المتتابعة بتشويق فكري يسائلنا عن مصير ترحالنا في دروب الشتات.

 

قصة: “15 أغسطس”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آنجلو وورقة التوت.
قصة الكاتب أسعد الهلالي تتنقل بين محطات محددة من الماضي البعيد، فتُسقِط تداعياتها على الماضي القريب والحاضر، وكذلك تلقي إضاءة على المستقبل المجهول. يتوجس منه البطل حتى يصل إلى طريق مسدود يصد عنه أمل لم شتات عائلته بعد مغادرة وطن الجثث المرتمية في الشواع إثر تفجير إرهابي أو اغتيال تقوم به إحدى المليشيات المتعطشة للدمار بإسم الدين والمذهب.
في زخم كل ذلك الانهيار النفسي والتشتت الوجداني يتفاجأ البطل بانشغال مدينة منفاه بذكرى وفاة السيدة العذراء بعد أن ظل يستنزفها الحزن على فقدان ولدها المبشِّر بالرحمة والمحبة الإلهية عيسى (عليه السلام) هنا تتشكل، بتصويرية مكثفة التفاصيل والدلالات، متوازيات سردية لذات التاريخ (15 أغسطس) لدى البطل الباحث عن حنو الأمومة المتماهية مع مأساة الوطن المنتهك في رمزية مركبة تضعه ضمن حلقة مفرغة من التيه المتشبث بهالات روحانية تتجلى في لوحات مايكل آنجلو الجدارية في كنيسة “سيستاين”، آنجلو المتحدي كل الصعوبات والخصومات وضغائن منافسيه ليعطي للدين، بشكله الواسع العام والمتجاوز كل القيود الكهنوتية المنغلقة، روحاً جديدة من خلال ملاحمه الفنية المتمردة على ورقة التوت التي تتوارى خلفها الأهواء والاطماع في مختلف الأزمنة، وبصورة متزايدة حتى يومنا هذا، وبإسم الدين أيضاً، إذ يتجدد الصلب بأشكالٍ شتى، ومعها يسترسل ذرف دموع السيدة العذراء في لوحة يظل ذهن السارد يتأملها وحلمه بوالدته المتوفاة يتملكه كهاجس يعيد إليه ذكرياته معها في مراحل عمرية مختلفة، يستعطف قبلتها الحانية للخلاص من ضياعه، وكأنها تتوحد مع القديسة العذراء كملجأ ابتهال تضاء له شموع الأمل في كل مكان، لا في الكنائس فحسب. يؤكد هذا الكهل البلجيكي، مرتدي الأسمال غير المتجانسة، والذي يتراءى للبطل كأحد المجانين من متشردي شارع المتنبي في بغداد الذين تتكاثر حولهم الحكايات الغامضة ومتعددة التأويلات، ضمن إشارة تختزل كل الحدود الجغرافية.
يرثي الرجل الثمانيني وفاة القديسة: “كيف تقع في سلطان الموت، من كانت لنا ينبوعاً للحياة؟”
يصخب فينا الحنين إلى دفء الأمومة تحت وقع الشعور بالعدمية وعبثية الواقع الحياتي، ولهذا يبقى السارد يدور في فلك ذات التاريخ الذي شهد فاجعة وفاة والدته، في سنوات حرب الجحيم المتقدة في وطنه. ضمن مفارقة درامية شديدة التعقيد، والإتقان أيضاً، تستدعي أكثر من قراءة متمعنة للنص الذي يرسم بدوره لوحة تتضمن مايكل آنجلو نفسه، بكل أطواره الغريبة، انصرافه عما حوله، وزهده في كل شيء سوى فنه الذي يجد في كل صخرة تمثالاً ينتظر الانتزاع من جوفها، هو أيضاً كان يهرب إلى الفن، إلى إبداعه الخاص ليصقل منحوتات “تبدو دوماً شخصيات قوية متحركة، منعزلة تماماً عن بيئتها…”.

قصة: “رجل غريب الأطوار”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطعة واحدة تكفي.
في شقة صغيرة في إحدى مدن الغربة (لينج البلجيكية) تستعر نيران الوحدة في صدر البطل الراوي بينما يخدع نفسه بكعكة للاحتفال بعيد ميلاده، والآن يرغب القليل منا نسبياً بإقامة احتفال بهذه المناسبة، خاصة بعد توالي العقود والتجارب الحياتية المختلفة، رغم وجود الأهل والأقارب والأصدقاء الذين تجمعنا وإياهم الكثير من ذكريات العمر، أما احتفال المغترب بمفرده بعيد ميلاده فهذا يمثل نوعاً من رد الفعل المتحدي زنزانة الوحشة بعيداً عن أقرب الأشخاص إلى قلبه، مفارقة يرصد الكاتب من خلالها جانباً من سيكلوجية اللاجئ على نحو خاص، حيث لا يستطيع استدعاء من يشاء من عائلته البعيدة للإقامة معه في ظل ظروف معيشية وقانونية صارمة لا بد من الامتثال لأوامرها، البعض يستطيع الانغماس في حياة جديدة بذكريات ومواقف مغايرة تماماً، بينما ينزوي البعض الآخر في عزلة من الأنستلوجيا، تشكل بمفردها جدلية لا تنتهي النصوص من تشعب تفاصيلها، تتجسد مع إتقاد شمع عيد الميلاد وتلألؤ أنجم سماء بغداد في عيني السارد، كما لو كان طفلاً يبحث عن أنفاس أهله، ابتساماتهم الوضاءة، وتهلل الوجوه برؤيته وإن وشمت وجهه الغضون، خاصة أولاده الذين كبروا في غربة عنه، بينما هو المغترب الغريب عن حياة فرّ إليها بإرادة حرة لكنها تظل مهزومة، لا بد أن تلقي ظلالها الكابية على الآخر، والآخر بدوره رجل غريب غامض، بملبسه، بهيئته، بتصرفاته، وكذلك بالحوار الذي يجريه مع المحتفي بعيد ميلاه بلا مقدمات، وبسرعة انسيابية يشرع باب النقاش بين الماضي والحاضر، نحن وأنتم، الحروب وكيفية استثمار خرابها من أجل مستقبل آمن، لا المزيد من الدمار الذي لا يبارح بلادنا الموعودة باستمرارية الموت، الموت الذي يجده قريباً منه ليسأله عن لغز المصير في أرض غريبة تهصر حياتنا في بودقتها ثم تعاود نثرها في غربة جديدة لم نخبرها بعد، غربة نهائية أم عودة إلى رحم الوجود؟

قصة: “جوع العصافير
بعض مما لم يبح به شكسبير عن جوليت”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محاورة فكرية من طراز خاص.
لعل مسرحيات شكسبير من أكثر النصوص التي تم تقديمها برؤى مختلفة بالإضافة إلى الأعمال المستوحاة من تلك النصوص أو معطيات شخصياتها، سواء ضمن السرد الروائي والقصصي أو الدراما المرئية، بل الإذاعية أيضاً، لكن الكاتب أسعد الهلالي في قصة “جوع العصافير” يقيم حواراً فنتازياً مع شكسبير ذاته، وكأنه يحمل أمانة ما توجس الكاتب المسرحي الخالد من الإفصاح عنه في الحقبة الزمنية التي عاشها وعلى خشبة المسرح بصورة خاصة، واختار مسرحية “روميو وجوليت” لما لها من دلالة رومانسية ترسي ظلالها في أفئدة العشاق ليومنا هذا، رغم ما داخلتها من مبالغات وانفعالات مسرحية كلاسيكية، ومن هذا المنطلق أراد الكاتب أن يخلع عن الرواية ثوب العشق العذري ليلبسها ثوب الشبق المحتدم الذي يغازل خيال كل شاب وشابة رغم الردة الفكرية التي تشهدها مجتمعاتنا، لذلك كانت ثورة روميو وجوليت ضمن نطاق القصة ثورة متجددة على ما رسخ في الأذهان، ثورة الجسد بكل ما تكمن في خلجاته من رغبات جنسية غير خاضعة لأي لجام ضمن إضاءة فنية غير مباشرة لما يفرض علينا من كبت يتشكل تحت ضوابط التطرف والعنف وما يفضي إليه من تدني أخلاقي خلف الأبواب الموصدة، لا باب غرفة نوم جوليت فحسب، غرفة المجون المتمرد على كل حجاب يتستر على الخفايا المخاتلة قبضات التسلط بكل أشكاله، بدأً من تحرر النهدين من مشد الصدر (الكروسيه) الضاغط على الأنفاس وشهقات الوجد العابث بالجسد الشاب المرتوي بعض الشيء من جوع العصافير، جوع كل المهمشين في ظل ظروف يغلو تأزمها يوماً بعد آخر.
القصة مكتوبة بلغة محاكية للشعر الشكسبيرى إلى حدٍ ما، لكن دون تكلف ولا تصنُع يقود إلى الرتابة وينال من فحوى النص، إنما تبعث نغماً موسيقياً هادئاً ينساب مع السطور ويكسب العمل الفني خصوصيته وتميزه، حتى أن القارئ يبصر أمامه لوحات مسرحية متتابعة النسق الدرامي الرصين المتعمد عدم رفع بصمات المؤلف الإنكليزي الأشهر عن النص، بل العكس ما أراد الكاتب الهلالي، كي يكون النص بحلته الجديدة فعلاً محاورة فكرية جريئة بين الكاتبن من جهة وبينهما وبين القارئ من جهة أخرى، مما يستدعي قراءة تأملية متأنية، كي لا نضع مثل هذا البناء الفني صعب التركيب ضمن إطار جامد يفرغ السرد من محتواه المنفتح على أكثر من رؤية مثيرة للمتعة الفكرية ـ الجدلية.

قصة: “ثيرافادا”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بعد الوصول إلى حصن الأمان.
يمضي عام على استقرار بطل النص ـ اللاجئ ـ في بلجيكا، ورغم هذا يبقى مترنحاً بين صور من الماضي وأخرى من الحاضر، مع توجس خفي ومستمر من المستقبل، تواجهه مقارنة الأماكن، الناس، الثقافة، العادات والتقاليد… تضعه في منطقة رخوة وضبابية، هي أقرب إلى لجة البحر الذي دفعته أمواجه إلى فردوس أوروبا الشقراء. وحده ينجو من الغرق، ليواجه القارئ معه تساؤل قدري، ووجودي في ذات الوقت، لمَ هو بالذات من وهبت له الحياة من جديد؟؟؟… علامات استفهام تبقى بلا إجابة واضحة وراسخة، تبقينا في تحيّر دائم إزاء ثنائية الموت والحياة، تلك الثنائية الأبدية التي تبقى تشغل ذهن الإنسان منذ أن يعي للدنيا معنى. صورة الأب المتشبث بالحياة ولو على حساب غرق أولاده، على عكس المفترض، تكاد لا تفارق ذاكرته. مواجهة صاخبة بين غريزة الأبوة وغريزة البقاء، لا تتعدى عدة دقائق يجسدها الكاتب بأدق التفاصيل، ثانية فأخرى، دون الخروج عن نسق السرد القصصي المكثف. يهذي خلالها الرجل الفاقد لكل شيء جبروت تركه زوجته في تركيا بمفردها، كما لو كان يجلس على كرسي اعترافه الأخير. فماذا لو كُتبت له النجاة هو أيضاً؟ أي عدمية سينطوي عليها وجوده في الأرض الغريبة؟
يضعنا الكاتب أسعد الهلالي أمام مسارات متعددة، منها الفلسفية والنفسية التي يجنح إليهما البطل إثر سلوك الشاب الوسيم البلجيكي الباحث عن إله يسعفه من الخواء الروحي الذي يعيشه ومجتمعه، فيحفزه أكثر لتعلم اللغة الفرنسية كي يستطيع فهم ماذا يريد ممن جاء إلى بلاده طلباً للأمان، للحياة التي خاتلت الموت عمراً من الحروب والتصفيات الوحشية، كي يفهم أو يتفهم قرار اختياره العيش في أرضٍ غير أرضه المحترقة.
قصة عميقة في صنع حبكة قوية تتعدى محنة اللجوء والفقدان، وإن كانت المحور الأساسي لهذا النص المتميز بتجدد رؤاه، ولذا يحتاج لأكثر من قراءة متمعنة.

قصة: “هِي.. يا.. ما”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“أَمِنَ الضروري أن يهرب منا ما نحب؟”.
تساؤل من ضمن التساؤلات التي يطرحها النص من خلال بطله الفتى المقبل على زهو الشباب وعنفوانه ليدرك حتمية تغيير مسار حياته ويخوض مغامرته المؤجلة نحو جزيرة لا يعلم عنها شيئاً، تقوده رغبة معرفة حقيقة ما حدث ولم يدرك منه سوى كلام الأقاويل التي تنال من حقيقة وجوده، عبر سفينة يركبها خلسة عن عيون البحارة، رحلة بحث عن الحب الغريزي المفتقد، لا يدري إلى ماذا ستقوده بالتحديد، ربما القتل ومن ثم التخلص من عبء الماضي الذي يقف حاجزاً بينه وبين تنسم عبير الدنيا وفهم سحرها الحقيقي في أرض الجزيرة التي يحدثه عنها البحار الصيني، كما لو أنه يلوح له بمرتكز انطلاق جديد لأفكار لم تختمر في ذهنه بعد لذا بقت عبارة عن (فكيرات صغيرة) لا تنفك عن التماهي في أرض ساحلية رخوة تطل في وجه القمر الفضي، بينما الفتى يحتمل المهانة من صاحب العمل، مهانة تمسخ شخصيته وفي نفس الوقت تذكي داخله نيران التمرد كي يقتنص أول فرصة للرحيل، ما دامت شمسه لم تأفل، بل أنها في أول الشروق والزغب الخفيف يعلو شفتيه، ينال بسمات النساء على نحو لم يعهده من قبل، يدرك من خلاله أنه على أعتاب مرحلة جديدة لا بد أن يخوض غمارها مهما عصفت بأهوائه صوب المجهول،
“هِي.. يا.. ما” رمز الأمل والحلم، لكنها أيضاً رمز التناقض الموجود عند كل مفترق طرق يثير فينا حيرة جديدة تستدعي منا وقفة تلو أخرى تحدد مواقفنا ورؤانا المستقبلية دائمة التغير كصخب البحر النابض بحقائق لن نكتشفها حتى نغوص في أعماقه كي نعرف ما نريد، ونحدد مسار إتجاهنا كي ندرك سر وجودنا.

قصة: “لاجئون”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سَفَر لا ينتهي.
مونلوج داخلي يتحرى الراوى في دفق تسلسله الدرامي حياة المغترب في أرضٍ تمتنع عن الإجابة على تحيّره المنتقل معه من بلاده البعيدة التي نبذته إلى عراء الدنيا غير المحدود، حتى وإن تم قبول طلب اللجوء الآخذ في الصعوبة حيناً بعد حين ولأسباب مختلفة ومتداخلة، يركز الراوي على المعتقد الديني من تلك الأسباب ومنه تنسل خيوط السرد لتغزل نسيجاً متكاملاً متخبط الأسئلة ومفتقد الإجابات عن كينونة الإنسان المهمش والمنبوذ من هنا وهناك، بدءاَ من الوطن الأصلي مضبب الملامح والمعنى مما يقودنا إلى إعادة التأمل في رؤى المفترض أن تكون لدينا من المسلمات، بل الغرائز التي وعينا عليها، تنضم بدورها إلى مسببات التيه الذي سلمنا أنفسنا إليه فما أوصلنا سوى إلي مجاهل أكثر تشعباً تلقينا في لجة الأفكار المرتابة من كل شيء ونحن نواصل محاولات التشبث بمواطنتنا البديلة قدر الابتعاد عن مواطنتنا الأصلية، ومع ذلك سنبقى أولئك الدخلاء دوماً، محط الشك والريبة لدى الجميع، هذا الانسلاخ المتكرر، لسبب ولآخر، يبدأ بطل النص (الراوي) يستشعر به وهو يقف عند حافة الهاوية ولم يأمن موطء قدمه بعد، في مثل ذلك الترنح الإنساني تتبدى أمامنا حقائق لا سبيل للتغافل عنها، دوامة تتسع حلقاتها ونحن نتنقل من تساؤل لآخر في سلسلة معقدة من حيث التركيبة الفكرية التي نشأنا عليها مرغمين، يُجدل فيها الخاص بالعام والدين بالسياسة، ونحن نتوارث عبء الخيبات المجمّلة ببريق وزهو الانتصارات في سوق (هرج) كبير.
قصة مصاغة ببراعة في تقصي خبايا العزلة المترسبة داخل كل منا، حتى لو لم نغادر بلادنا سعياً وراء حياة قد تكون متممة لسراب ما كابدنا من عيش حتى صرنا مجرد لاجئين أحتجزنا في وسط الطريق، تتقرر مصائرنا وفق القوانين والأنظمة والمعاهدات والمواثيق الدولية الحريصة في جوهرها على استمرارية الاستلاب بكافة أشكاله.

قصة: “أنا وغويا”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خمار “لوسيانا”.
يستدرج الكاتب أجواء أشبيلية القرون الوسطى إلى أحد أحياء صنعاء القديمة عبر مسار الفن التشكيلي ما بين الرسام المعروف “غويا” المهدد ولوحاته بالحرق من قبل محاكم التفتيش بتهمة الهرطقة، ورسام مهمش يحاول استنطاق الألوان الشحيحة لديه ولو من خلال عينين تطلان من خمار أسود، رغم هذا تستشعر قماش اللوحة هو ذاته قماش كفن عارها، وبذلك يصبح القارئ أمام لوحة مركبة تجسد حنق التعصب المتوارث في كل دين ومذهب، مما يلجيء الشاب المغمور إلى مضغ “القات” و”غويا” إلى إعلان تمرده مرة تلو أخرى في ذلك المنزل الأندلسي العتيق، يثبت الشموع حول حافة قبعته لتنير الألوان أمامه فيستطيع تأملها برؤيته الخاصة، غير مبالٍ برجل الدين المتشدد ووعيده المستعر، ولن يبالي بانسياب خطوط الشمع الذائب على وجهه، المهم لديه إنارة وجه ملهمته بالألوان المعبرة عن مدى أنوثتها المفعمة بالحيوية والإثارة العاشقة للحياة رغم كل الطغيان الكهنوتي، فيما يمتزج “القات” المستحلَب مع الألوان التي لا تعرف ماذا ترسم بالتحديد، فلا تلوح له سوى عينين تتأجج فيهما نيران الشهوة الكامنة في جسد ونهدي “لوسيانا” وذراعها الممتدة كأفعى متوفزة بين تفاحات حمراء تمثل رمز الشجرة المحرمة كي تحل عليهما لعنة الصليب المتمثل في “ستاند” اللوحة الخشبي التي انتهت لتوها، بينما لوحة فتاة الخمار لم تستقر على حال رغم انتفاء سبب التهديد المباشر، كانعكاس إلى تقلقل زمننا وما نواجه من انتكاسة على كافة المستويات، لعل أبرزها هيمنه التيارات المتعصبة بإسم المعتقد الديني والمذهبي وتفشي محاكم التفتيش، المستتر منها أكثر من المعلن في الساحات والميادين.
الكتابة رسم بالكلمات، والرسم كتابة بالألوان، وقصة “أنا وغويا” لوحة نص, ونص لوحة في آنٍ واحد، لذا تستدعي أكثر من قراءة تأملية بعينين تتسللان إلى ما يكمن خلف الخمار الشفيف لثنايا السرد عميق المضمون.

أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب