خاص: كتب- منتظر الحسني
العراق
فتحت ترجمةُ ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية على يد أنطوان غالان (Antoine Galland) باباً أطَّل منه الغرب على سحر الشرق والبلاد العربية، على الرغم من عدم الأمانة في نقل النص وما مُنِيَ به من حذف وتغيير يُعبِّر عن وجهة المترجم ورؤيته المتسمة بقدر كبير من الورع الذي يتناغم مع نزوع الكلاسيكية الجديدة، وتوالت بعدها الترجمات فجاءت نسخة Grub Street وهي أول ترجمة في الإنجليزية أعقبتها ترجمة أخرى لمترجمٍ مجهول احتذى فيها خُطى غالان فكانت نسخةً أمينةً منها؛ إذْ تتوافر على قدر من اليُسر وسمات القص الحضري وقوة الأسلوب وعدم خرق الذوق الأدبي كما كان يُعتقد؛ فأثارت اعتراضاً على الحذف والتصرف في النص العربي الذي شرعهُ غالان، وتوالت بعدها نسخ أخرى من الليالي لم تستطع التغلب على عيوب الترجمة والوفاء للنص الأصل.
فعمد ريتشارد برتون (Richard Burton) إلى ترجمة ألف ليلة وليلة من مخطوطاتها العربية ليقدم ترجمة يتجاوز فيها هفوات نسخة غالان ونسخ أسلافه المترجمة إلى الإنجليزية؛ فهفت نفسهُ نحو صوغ الأسئلة حول صلة النص المنتج بالنزوع الكولونيالي لديه؛ فالمترجم عاصر الاستعمار وساهم بشكل فاعل في خدمة أهدافه على أكثر من صعيد ، فكل ذلك كان يقضي عليه بالعَوْد إلى قراءة المخطوط في ظل مرجعيات ثقافية واجتماعية وسياسية راهنة واستيضاح صورة هذا المزيج بطريقة احترافية؛ ومن ثمَّ لا يأخذ النصُّ المُترجَمُ بيدِ المتلقي في دروب الليالي أو في رحلة من رحلاتها في عمق البحار من دون أن يُحيطهُ علماً بما حوله من شخصيات واقعية وأسطورية وأمكنة معهودة أو غامضة .
لقد تهيَّأ لبرتون هذا الجهد الكبير في وضع نسخة من ألف ليلة وليلة بفضل مجموعة من الأسباب تتمثل بخبرته الطويلة في شؤون الشرق ومعرفته بلغاته ولاسيما العربية منها وعمله ضابطاً في صفوف الجيش البريطاني وإعداده التقارير الحربية والتجارية ورحلته إلى مصر ومكة والمدينة وغيرها من البلاد الخاضعة لسيطرة القوة البريطانية.
وكان اللافت في ترجمته عدم اقتصاره على متن الليالي فحسب وإنَّما حمَّلهُ بهوامش احتوت مادة علمية تتخطى الشرح والتبيين، لتساهم في تأسيس صورة الشرق الساحر بما يُرضي نهم القارئ المشبع بروح العصر الفكتوري؛ فاكتست مادة الترجمة لديه بما تقع عليه عينه وما دوَّنه في رحلاته ؛ ومن ثمَّ لم تكن ترجمةً لمتنٍ إبداعي فحسب، بل دراسة لعادات الشرق وصوره وملاحظ وخبرات اكتسبها المترجم من خلال معايشته الأرض التي انطلق منها الخيال، مُعبِّراً عن واقع المدينة العربية في العصور الوسطى مجنَّحة بعجائبية لم تألفها أوربا من قبل؛ فتجلى نص الليالي فستاناً فكتورياً باذخاً بالألوان؛ ولم تُخفِ محافظتُهُ على الأصل المُترجَم نهمَهُ إلى سحر التفاصيل والغوص في شؤون الآخر القابع خلف البحار فضمَّن ذلك في هوامش الترجمة، ليوائم بين قطبين يتنازعانه يتمثَّل الأول في الحفاظ على نصٍّ قصيٍّ عابر للثقافات لم يُروَّض بعد.
ويتمثَّل القطب الآخر في سياق العصر الفكتوري الذي يحياه المترجم وما يفرضه عليه من أنساق تُعمِّق النزوع الكولونيالي لديه، فإذا كانت نسخة غالان الفرنسية تهدف إلى دغدغة جمهور القرن الثامن عشر وعدم التعرُّض لقناعاتهِ وقيمهِ باعتماد الحذف والتبديل؛ فإنَّ نسخة برتون تركت النص كاملاً، لكنهُ مثقل برؤى عميقة من خارج الحكايات حاول من خلالها المترجم المواءمة بين ما يريد الجمهور وبين نهم المترجم المأخوذ بإعداد صورة لهذا الشرق بغرائبيته وعجائبيته؛ ومن ثمَّ لم يكن نص الليالي الآتي من العصور الوسطى والراحل عبر البحار قصياً مادام يرضي نهم القارئ ويشبع حب الاكتشاف الذي ساد في تلك الفترة.