تذهب مجموعة نمر سعدي “نساء يرتبن فوضى النهار” (وزارة الثقافة الفلسطينية، 2021) نحو نساء يؤسّسن فضاءين يحمل كل منهما كثافة معناه كما كثافة امتداده، إذ هنّ نساء الجسد والحب ويفتحن سيرتهن على ولع الشعر كما ولع الروح، وفضاء ثان تتناسل من أغصانه رؤى المخيلة في تجوالها الحر كطائر يحلق ولا يهتم كثيرًا بالوقوف على غصن ما لالتقاط الأنفاس.
في البدء وقبل الشعر تأتينا مجموعة نمر سعدي هذه بعد مقدمة هامة ومشتعلة بالحماسة كتبها الراحل الكبير منذ أيام قليلة، محمد علي شمس الدين، وهي حماسة سأقول – دون تطرف أو مبالغة – إنها تأتي من وله الشاعر الراحل بفضاءات الشعر عند نمر والتي تقارب إلى حد ما تلك الفضاءات التي كرّس لها الراحل شمس الدين تجربته الشعرية الكبرى والثرة وأعني تلك النزعة التصوفية التي حلّق بجناحيها في عوالم الكون والموجودات وترجمها في الشعر على مدى العقود الأربعة السابقة، ولكنها تأتي في قصائد سعدي على نحو مختلف ومذاق مختلف، وسبك مغاير بالتأكيد. هي تجربة شعرية تنحاز لقصيدة التفعيلة، حيث الإيقاع سيد الحركة وناظم الكلام رغم ميل القصائد إلى سياق ومناخ أقرب للتأمل بما هو انفتاح على سياقات شعرية بلا ضوابط شكلية.
“أهم ما في تجربة نمر سعدي الشعرية هو البنائية التي تنجح في مزج رؤية المخيلة وما يمكن أن تؤلفه من صور حية باللغة الشعرية التي تستفيد من انسيابية السرد”
أهم ما في تجربة سعدي الشعرية البنائية التي تنجح في المزج بين رؤية المخيلة وما يمكن أن تؤلفه من صور حية وبين اللغة الشعرية التي تستفيد من انسيابية السرد فتقدم عناقيد من الشعر تأتلف وتمنح السياق الشعري سلاسته وقدرته على إيصال الفكرة والصورة ومعهما المعنى أيضًا.
في “نساء يرتبن فوضى النهار” تذهب القصيدة إلى حلمها محتشدة بهتاف خافت يؤثثه الشاعر بلغة تعثر على حضورها الحيوي في العلاقة مع الصورة الشعرية بالذات.. هي شعرية البحث الدائم والدائب عن لغة تشكيلية ترسم عالمها أو ما يقاربه وتمنحه لوحات ومشاهد تقترب من سرديات تحكي بسلاسة ويسر:
“شجرٌ أنا، شجرٌ قديمٌ طاعن في الحب أو طاعن في اليأس، أبحث في الحياة عن القصيدة، والقصيدة وردةٌ مائيةٌ في القلب، تلمع كلما اشتعلت رمال الروح من عطشي، أريدك.. فاحتويني، قالها رجل لسيدة تربي حزنها الرعويَ كي ينمو كلبلاب على الشرفات أو كالوعل في تيه الفلاة.. وكي يخطَ على البحيرة شاعرٌ مرثية لغبار قبلته”.
“قصيدة نمر سعدي إذ “ترتكب” كل هذا الجموح في المخيلة “تتنكب” عن الاقتراح الطبيعي وهو قصيدة النثر بانفتاحها الشامل و”عريها” العاصف وكأنها تؤثر أن تتوقف عن مغامرتها”
في المجموعة يمتحن نمر سعدي علاقته باللغة أو إذا شئنا الدقة علاقة مخيلته باللغة فنجده يحتفل بتركيبية لغوية خاصة مثل “أنوثة نثرك الزرقاء” و”لا أحب شتاءك الحافي” أو “ولكني أحب غناءك المائي”، وكلها تقوم على تركيبية تبني معمارًا مختلفًا يجتهد أن يأتي مغايرًا وأن يتسق مع “وعي” الكتابة الشعرية ونزوعها لبناء علاقة “هادئة” مع قارئ الشعر. أعتقد أن هذا كله يشي ويضمر اقترابًا من ملامسة حاجز القصيدة النثرية التي رغم ذلك تظل بعيدة تحجبها “ستر الإيقاع” واشتراطاته ومناخاته الخاصة. أتحدث هنا عن تجريبية شعرية تناوش الفلسفة والصوفية، وتحتفل بالرؤية الحلمية ولكنها مع ذلك تظل ملتزمة بقيود الإيقاع واشتراطاته وحيزه المؤطر مسبقًا ولعل ذلك يأخذني إلى بهاء العوالم التي تفتحها مخيلة القصيدة ولكن أيضًا وقوفها قبل حاجز قصيدة النثر بمسافة واضحة ومؤطرة.
لا أعني هنا بالتأكيد فكرة التدخل في خيارات الشاعر، ولكن أعني بالذات أن قصيدة نمر سعدي إذ “ترتكب” كل هذا الجموح في المخيلة “تتنكب” عن الاقتراح الطبيعي وهو قصيدة النثر بانفتاحها الشامل و”عريها” العاصف وكأنها تؤثر أن تتوقف عن مغامرتها قبل ضفافها المفتوحة:
“لي أن أشبه طوق زهر اللوز حول الخصر
بالقلق الجميل وبالغيوم المستحيلة
وهي تمشي كالعرائس في أساطير الرعاة
وفي أغاني البدو من بيت لبيت”
هي قصائد تنحاز للشعر وتحتفي بحيوية حضوره في حياتنا على نحو يحمل الكثير من الوجد والحميمية في التعبير عن رؤى وهواجس ومشاعر وربما أحلام فيها الكثير من جمال المخيلة ورونق الصورة