15 نوفمبر، 2024 3:58 ص
Search
Close this search box.

نزار قباني.. احتفظ بصخبه وتمرده وخلدته كلماته

نزار قباني.. احتفظ بصخبه وتمرده وخلدته كلماته

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“نزار بن توفيق القباني” دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، ولد نزار في دمشق القديمة في حيّ “مئذنة الشحم” في 21 مارس/آذار عام 1923، وجده أبو خليل القباني من رواد المسرح العربي، درس الحقوق في الجامعة السورية وفي عام 1945 دخل السلك الدبلوماسي متنقلًا بين عواصم مختلفة حتى قدّم استقالته عام 1966.

الكتابة..

أصدر أولى دواوينه عام 1944 بعنوان “قالت لي السمراء” و خلال نصف قرن أصدر 35 ديوانًا أبرزها “طفولة نهد” و”الرسم بالكلمات”، وقد أسس دار نشر لأعماله في بيروت باسم “منشورات نزار قباني” وكان لدمشق وبيروت حيِّزٌ خاصٌّ في أشعاره لعلَّ أبرزهما “القصيدة الدمشقية” و”يا ست الدنيا يا بيروت”.

أحدثت حرب 1967 تطورا هاما في تجربته الشعرية والأدبية، حيث تمرد على كونه “شاعر الحب والمرأة” ليكتب عن السياسة، وقد أثارت قصيدته “هوامش على دفتر النكسة” عاصفة في الوطن العربي وصلت إلى حد منع أشعاره في وسائل الإعلام.

خبز يومي..

في حوار أجراه الكاتب السوداني “الطيب صالح” مع “نزار قباني” بإذاعة الـ «بي. بي. سي» بلندن في أبريل 1973. عندما كان الطيب صالح محرراً أدبياً لدى الإذاعة اللندنية، ومسئولا عن القسم الأدبي العربي، آنذاك. والحوار نُشرت مقتطفاتْ منه في مجلة «هنا لندن» التابعة للـ ــ بي. بي. سي ــ يقول نزار عن  رغبته في تحول الشعر إلى خبز يومي لجميع الناس:”القضية بسيطة جداً: أنني أنزلت الشعر من سماء النخبة إلى أرض البشر: فأناـ منذ بداياتي الشعريةـ كنت أؤمن إيماناً مطلقاً أن الشعر المكتوب هو للناس، وأنّ الناس هم البداية والنهاية في كل عمل شعري. إن أسطورة الشعر المكتوب للطبقات الخاصَّة، للأمراء والنبلاء، سقط، نحن في عصر يجب أن يكون المستفيدون من الشعر هم الناس.. قاتلت في الأصل لأؤُصِّلَ هذه النتيجة. وقد تنبأت بذلك عام 1948 في ديواني «طفولة نهد»، وتوصلت إلى معادلة شعرية يكون فيها الناس جزءاً لا يتجزأ من الشعر”..

ويضيف نزار: “منذ البداية شعرتُ أن هناك هوَّة كبيرة بين الشاعر والجمهور. كان هناك نوع من الجدار اللغوي المنيع الذي يحول دون أن يتذوق الناس الشعر. وشعرُنا القديم الذي استمرَّ من العصر الجاهلي حتى مطلع القرن العشرين كان شعراً صعباً لأنه كان يعتمد على التراكيب اللغوية، وعلى النقش وعلى الزخرفة. فأنا أردتُ من الشعر أن يخرج من جدران الأكاديميات، وينطلق في الحدائق العامة، ويعايش الناس ويتكلم معهم”..

قنبلة موقوتة..

وعن ارتباطه بشعراء آخرين يقول: “أرتبط بمن يلتقون معي في التفكير. خذ، مثلاً، شعر عمر بن أبي ربيعة: أنا أرتبط معه بخيوط الواقعية الأرضية والبشرية. أنت تعرف أن عمر بن أبي ربيعة أخرج الحب كما أخرجته أنا من سراديب الكتب والحرمان إلى الهواء الطلق. أنا أؤمن بالحقيقة، بشاعر يقول بما يريد الناس أن يقولوه. لو كنتُ شاعراً منافقاً لوفرت على نفسي كثيراً من الهجمات والمشكلات واللعنات، إلا أنني أعتقد أن لهفة الشاعر هي وسام: لأن مهمة الشاعر هي أن يضع قنبلة موقوتة تحت عجلة القطار الخشبي المتهالك الذي لم يعد منسجماً مع العصر.

وعن المرأة يقول نزار: ” لقد أثرتَ نقطة أحب أن أوضحها: إن الخصومة مع المرأة هي المصادر الشعرية الحقيقية. نهايات الحب جعلتني أكتب شعراً أحسن من بداياته؛ حينما ينقطع الخيط، وتثور العاصفة مع حبيبتك فأنت تبدأ بكتابة الشعر. هذا يدعوني لأن أقول إن الدراما في الحب هي الشعر الحقيقي، والفرح في الحب لا يعني شيئاً.. إن الفرح عملية مسطحة جداً، فحينما تكون سعيداً مع حبيبتك تكتفي بسعادتك.. إن الفرح والسعادة عملية أنانية جداً. أمّا حينما يقطع الخيط، أو يدخل الحبيبان في منطقة الدراما، فهنا يبدأ الشعر”..

 

مرتزقة الشعر..

في حوار ثاني أجراه الشاعر “نوري الجراح” معه في مايو من سنة 1997 يقول نزار عن صورة الشاعر التي تغيرت لديه:” قبل عشر سنوات كانت أحلامي الطفولية أكبر مني. وكنت أتصور أن الشعر سلطة لا تقهر، وأنه يستطيع أن ينفخ على الأشياء فيحولها إلى جبال من اللؤلؤ والياقوت. بعد عشر سنوات من الإحباطات، والتراجعات والهزائم، تكسّر الحلم إلى مليون قطعة. ولم يعد الشاعر يجلس إلى يمين الخليفة، كما كان يحدث في العصرين الأموي والعباسي، وإنما صار يجلس تحت نعل الخليفة. في الماضي الجميل، كان الشاعر وزيرا للثقافة، ووزيرا للتربية والتعليم، ووزيرا للدفاع، ووزيرا للإعلام ينطق بلسان القبيلة شعرا. أما شاعر اليوم فهو عاطل عن العمل، ينتقل من مقهى إلى مقهى. ومن خمارة إلى خمارة. ومن منفى إلى منفى، ومن عصفورية إلى عصفورية. إن عظمة الشعر مرتبطة بعظمة الدولة. إذا ارتفعت رايات الدولة ارتفعت رايات الشعر. لذلك لا أحلم بأن يكون لدينا شعر عظيم ما دامت حالتنا القومية هي زفت وقطران. وإذا كان قوّاد المنظمات الثورية قد داروا على كعوبهم 180 درجة مئوية. فماذا بوسع الشاعر العربي أن يفعل وليس في يده سوى بندقية عثمانية قديمة. و28 طلقة رصاص هي كل حروفه الأبجدية، والحروف الأبجدية لا تكفي لقتل دجاجة. ويؤسفني أن أقول إن نصف الشعراء العرب أصبحوا من “المرتزقة” أو “الإنكشاريين”، الذين يقاتلون في صفوف السلطة ضد شعوبهم، ويقبضون رواتبهم من خزينة السلطان. لذلك أعتذر عن أحلامي القديمة في “عسكرة” الشعر، لأن السلطات الحاكمة في الوطن العربي، قد نزعت أوسمة الشعراء، وقلعت النجوم عن أكتافهم، وقلعت ألسنتهم”.

النقد..

وعن النقد يؤكد نزار: ” العلاقة بين الشعراء والنقاد ليست متوترة فقط. ولكنها عدوانية السبب في نظري ناشئ عن تقارب المهن بين الشاعر والناقد. وغيرة فطرية لدى النقاد تجعلهم يعتبرون القصيدة “ضرة” لهم. العمل الشعري هو عمل حضاري بالدرجة الأولى، لذلك لا بد أن يُقرأ بحضارة من قبل الناقد. أنا من الشعراء الذين استبيح دمهم مئات المرات. لكنني في كل مرة كنت أمسح دمي وأضع قطعة “بلاستر” على جرحي. وأجلس على مكتبي لأكتب قصيدة جديدة. ودعني أعترف لك أن النقاد لم ينفعوني بشيء. لم يستطيعوا أن يقدموا لي أيّ خدمة لغوية، أو عروضية، أو بلاغية، أو جمالية. لذلك أدرت لهم ظهري. وشققت طريقي بأظفاري. وقررت أن أتعلم من الجماهير كيف يُكتب الشعر”.

فوضى..

وعن فوضى الكتابة الشعرية التي أصبحت تسود الوطن العربي يجيب نزار: ” الجرائد اليومية لا تكترث كثيرا بالشأن الثقافي وليست الصفحات الثقافية فيها سوى ديكور متنافر ومتناقض أشبه بكشكول المسحر. ومن هنا هذه الفوضى التي تمدّ فيها كل خنفساء رجلها إلى الصفحة الثقافية لتستعرض فتنتها. مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل.. ولا إنترنت. وربما لعبت الوجهات ومراكز القوى دورا كبيرا في نشر قصائد لا علاقة لها بالقصائد. وكلمات متقاطعة لا علاقة لها باللغة العربية أو باللغة السنسكريتية. إن “الأمن الثقافي” لا يقل أهمية عن “الأمن القومي”. وما دام الحبل فالتا، والحدود مفتوحة إلى كوبنهاغن وغير كوبنهاغن، فقد يأتي يوم تصبح اللغة العبرية اللغة الأولى في جامعاتنا ومدارسنا”.

وعن شعره يقول: “إنني بعد نصف قرن من الكتابة الشعرية، أشعر أن جمهوريتي لا تزال رافعة أعلامها، وأن جمهوري يمتد على مدى ثلاثة أجيال، منذ الأربعينات حتى التسعينات، فلماذا لم يقتلني فتى في السابعة عشرة أو فتاة في الخامسة عشرة حتى اليوم.لأنهم تربّوا شعريا على يديّ. في حين أن شعراء الحداثة لم يربوا دجاجة، أو عصفورا، أو أرنبا.. وها أنذا بعد خمسين عاما أشعر أن قصائدي تسافر من الماء إلى الماء. وأن لي ركنا في كل بيت عربي من المحيط إلى الخليج. أشرب فيه قهوتي، وآخذ قيلولتي. من بين جميع الشعراء العرب الحديثين لا أرى إلا وجه محمود درويش”.

 

وعن“العولمة” والتطورات على مستوى العالم يستطرد نزار: ” كل ما يجري في العالم الحالي مؤامرة على الشعر. فالعلم أصبح مغرورا إلى درجة أصبح فيها ربا يلعب بالجينات، والهندسة الوراثية، وقوانين الطبيعة بحيث صار إنتاج البشر لا يحتاج إلى رجل وأنثى لإتمام مهمة التوالد. وهذا يعني أن قصائد الغزل لن يكون لها نفع ومواعيد الحب لن تكون لها جدوى، ودواوين الشعر لن تكون لها فائدة. والسهر في ضوء القمر سوف يكون إضاعة وقت. العلم سوف يقتل كل شيء. ثم يقتل نفسه. الكومبيوتر وحش. والأقنية الفضائية وحش. والموسيقى الحديثة وحش. والأزياء الحديثة وحش. والأطعمة السريعة وحش. والرسم الحديث وحش. لذلك لن يبقى في مقهى “العولمة” كرسي واحد يجلس عليه الشعر. ولن تكون في الحدائق العامة مقاعد يجلس عليها العشاق. ولن تكون في الصيدليات حبوب لمنع الحمل. لأنه لن تكون هناك نساء يحملن ولا رجال يعرفون ما هي الأبوة!! طفولتي هي المضاد الحيوي الذي أحمي به نفسي من الديناصورات الأميركية الجديدة التي تريد افتراس العالم”.

الكفر بالعشق..

وعن سؤال كيف تبني “قرارك الشعري”، وكيف يتحدد ميلك التعبيري نحو العالم والأشياء؟ يجيب: “أنا لا أحدد. ولا أقرر.. ولا أبرمج قراراتي الشعرية. كل يوم يدخل في خاصرتي سيف فأصرخ من الوجع. وكل يوم يزاد هوان الأمة العربية، فألجأ إلى البكاء. وكل يوم أرى كيف “يتشرشح” أجدادي على طاولة المفاوضات مع “إسرائيل”، فألعن “سنسفيل أجدادي”! ذهب “زمان الوصل في الأندلس″. وانتهت مرحلة “طفولة نهد”، و”قالت لي السمراء”، و”أشهد أن لا امرأة إلا أنت”، و”أحبك. أحبك. والبقية تأتي”. أنا لا أستطيع أن أرقص على جثة أمة تقترب من الانقراض. لا أستطيع أن أكون شاعرا من البلاستيك، يشتغل على البطاريات. لا أستطيع أن أتغنى بأمجاد النهدين. وأمجاد أمتي تسحق بالبولدوزرات. الناس كفروا بالعشق، وبـ”مجنون ليلى”. وبـ “طوق الحمامة”. وبمرحلة “الحب العذري” الذي هو أشبه بعلك اللبان. بعد قصيدتي الأخيرة “أنا… مع الإرهاب”. وبعد آلاف المكالمات الهاتفية والفاكسات التي تلقيتها من الوطن ومن المغتربين في كل مكان. تبين لي أن كل العرب يريدون أن يكونوا إرهابيين، ويريدون أن يحملوا السلاح ضد التخلف والغيبوبة والاندثار، ويريدون أن يقرأوا شعرا يشبههم. اليوم أكتشف أن نظرية الفن للفن، في زمن الكوليرا، هي خيانة عظمى. وأن الشعر الذي لا يشتبك بهموم الناس، ودموعهم، وقضاياهم المصيرية، سيذهب إلى سلة النفايات”.

وعن موقفه الرافض لعملية السلام يقول: “إنني ضد أي براغماتية تغتالني، وتصادر تاريخي، ولغتي، وثقافتي، وتمحوني من خارطة العالم. إن موقفي ليس أخلاقيا، أو شخصيا، أو انتقائيا، أو طوباويا، أو شعريا، إنه موقف وجودي. والمسألة بكل بساطة هي أن أكون، أو لا أكون. إنني أعتقد أن السلام مع “إسرائيل” مستحيل. ولو بعد عشرة آلاف سنة. فهذه الأرض لا تتسع لنا ولها أبدا. فهي تريد أن تقطع سلالاتنا عن آخرها. ونحن متمسكون بسلالاتنا حتى آخر طفل من الخليل، ويافا، ونابلس، وبيرزيت. قضيتنا مع “إسرائيل” لا علاقة لها بالفلسفة، والتنظير، وعلم النفس، والمواويل، والقصائد. إنها قضية تتعلق بحياتنا أو موتنا. ولا مفاوضات أبدا مع الموت”.

الأجيال الشعرية..

وعن  العلاقات بين الشعراء والصراع بين الأجيال الشعرية العربية يقول: “الخلل خلل أخلاقي بالدرجة الأولى. لأن المبدع الذي يحاول تحطيم كل شاعر ولد بعده بخمس دقائق. ويزدري كل شاعر ولد قبله بخمس دقائق، هو بولدوزر شعر.ثم إنني لا أفهم هذه الخطوط الحمراء التي ترسمونها بين شعراء “خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينات وتسعينيات. هل تكفي عشر سنوات لتكوين ملامح شاعر، وتحديد هويته؟ إن هذا يدل على خوف من الآخرين. وعدم الثقة بالذات. فإنكار الشمس لا يعني توقفها عن الشروق، وإنكار شكسبير لا يعني إلغاءه من الأدب الإنكليزي. “الندرة الجميلة” مختبئة. أما الرديئون، فهم الذين يعرضون ملابسهم الداخلية علينا. ويعكرون مزاجنا ونحن نقرأ جريدتنا الصباحية. هؤلاء الشعراء هم بالتأكيد بحاجة إلى حَجر صحي… فلماذا لا تقدمون بلاغا عنهم إلى السلطات التي تعني بالنظافة العامة والمحافظة على البيئة؟”.

قصيدة سأقول لك أحبّك..

سَأقولُ لكِ “أُحِبُّكِ”.. حينَ تنتهي كلُّ لُغَاتِ العشق القديمة فلا يبقى للعُشَّاقِ شيءٌ يقولونَهُ.. أو يفعلونَهْ.. عندئذ ستبدأ مُهِمَّتي في تغيير حجارة هذا العالمْ وفي تغيير هَنْدَسَتِهْ شجرةً بعد شَجَرَة وكوكباً بعد كوكبْ وقصيدةً بعد قصيدَة سأقولُ لكِ “أُحِبُّكِ”.. وتضيقُ المسافةُ بين عينيكِ وبين دفاتري ويصبحُ الهواءُ الذي تتنفَّسينه يمرُّ برئتيَّ أنا وتصبحُ اليدُ التي تضعينَها على مقعد السيّارة هي يدي أنا.. سأقولها، عندما أصبح قادراً، على استحضار طفولتي، وخُيُولي، وعَسَاكري، ومراكبي الورقيَّة.. واستعادةِ الزّمَن الأزرق معكِ على شواطئ بيروتْ.. حين كنتِ ترتعشين كسمَكةٍ بين أصابعي.. فأغطّيكِ، عندما تَنْعَسينْ، بشَرْشَفٍ من نُجُوم الصّيفْ.. سأقولُ لكِ “أُحِبُّكِ”.. وسنابلَ القمح حتى تنضجَ.. بحاجةٍ إليكِ.. والينابيعَ حتى تتفجَّرْ.. والحضارةَ حتى تتحضَّرْ.. والعصافيرَ حتى تتعلَّمَ الطيرانْ.. والفراشات حتى تتعلَّمَ الرَسْم.. سأقولُ لكِ “أُحِبُّكِ”.. عندما تسقط الحدودُ نهائياً بينكِ وبين القصيدَة.. ويصبح النّومُ على وَرَقة الكتابَة ليسَ الأمرُ سَهْلاً كما تتصوَّرينْ.. خارجَ إيقاعاتِ الشِّعرْ.. ولا أن أدخلَ في حوارٍ مع جسدٍ لا أعرفُ أن أتهجَّاهْ.. كَلِمَةً كَلِمَة.. ومقطعاً مقطعاً… إنني لا أعاني من عُقْدَة المثقّفينْ.. لكنَّ طبيعتي ترفضُ الأجسادَ التي لا تتكلَّمُ بذكاءْ… والعيونَ التي لا تطرحُ الأسئلَة.. إن شَرْطَ الشّهوَة عندي، مرتبطٌ بشَرْط الشِّعْرْ فالمرأةُ قصيدةٌ أموتُ عندما أكتُبُها.. وأموتُ عندما أنساها.. سأقولُ لكِ “أُحِبُّكِ”.. عندما أبرأُ من حالة الفُصَام التي تُمزِّقُني.. وأعودُ شخصاً واحداً.. سأقُولُها، عندما تتصالحُ المدينةُ والصّحراءُ في داخلي. وترحلُ كلُّ القبائل عن شواطئ دمي.. الذي حفرهُ حكماءُ العالم الثّالث فوق جَسَدي.. التي جرّبتُها على مدى ثلاثين عاماً… فشوَّهتُ ذُكُورتي.. وأصدَرَتْ حكماً بِجَلْدِكِ ثمانينَ جَلْدَة.. بِتُهْمةِ الأُنوثة… لذلك. لن أقولَ لكِ (أُحِبّكِ).. اليومْ.. ورُبَّما لن أَقولَها غداً.. فالأرضُ تأخذ تسعةَ شُهُورٍ لتُطْلِعَ زهْرَهْ والليل يتعذَّبُ كثيراً.. لِيَلِدَ نَجْمَة.. والبشريّةُ تنتظرُ ألوفَ السّنواتِ.. لتُطْلِعَ نبيَّاً.. فلماذا لا تنتظرينَ بعضَ الوقتْ.. لِتُصبِحي حبيبتي؟؟

قصيدة حب بلا حدود..

يا سيِّدتي كنتِ أهمّ امرأةٍ في تاريخي

قبل رحيل العام

أنتِ الآنَ أهمُّ امرأةٍ بعد ولادة هذا العامْ

أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالسّاعاتِ وبالأيَّام

أنتِ امرأةٌ صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ

ومن ذهب الأحلام

أنتِ امرأةٌ كانت تسكن جسدي قبل ملايين الأعوام

يا سيِّدتي:

يا مغزولةً من قطنٍ وغمام

يا أمطاراً من ياقوتٍ

يا أنهاراً من نهوندٍ

يا غاباتِ رخام

يا من تسبح كالأسماكِ بماءِ القلبِ

وتسكنُ في العينينِ كسربِ حمامْ

لن يتغيّر شيء في عاطفتي

في إحساسي

في وجداني

في إيماني

فأنا سوف أَظَلُّ على دين الإسلام

يا سيِّدتي لا تَهتمّي في إيقاع الوقتِ،

وأسماء السنوات

أنتِ امرأةً تبقى امرأةً في كلّ الأوقاتْ

سوف أحِبُّكِ عد دخول القرن الواحد والعشرين

وعند دخول القرن الخامس والعشرين

وعند دخول القرن التاسع والعشرين

و سوفَ أحبُّكِ حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ

و تحترقُ الغابات

يا سيِّدتي:

أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ

ووردةُ كلِّ الحريات

يكفي أن أتهجّى اسمَكِ حتّى أصبحَ مَلكَ الشعرِ

وفرعون الكلمات

يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ

حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ

و ترفعَ من أجلي الرايات

يا سيِّدتي

لا تَضطربي مثلَ الطّائرِ في زَمَن الأعياد

لَن يتغيّرَ شيءٌ منّي

لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريان

لن يتوقّف نَبضُ القلبِ عن الخفقان

لن يتوقّف خجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ

حين يكون الحبُ كبيراً والمحبوبة قمراً

لن يتحوّل هذا الحُبُّ لحزمَة قَشٍّ

تأكلها النيران

يا سيِّدتي:

ليس هنالكَ شيءٌ يملأ عَيني

لا الأضواءُ ولا الزينات

ولا أجراس العيد ولا شَجَرُ الميلاد

لا يعني لي الشارعُ شيئاً

لا تعني لي الحانةُ شيئاً

لا يعنيني أيّ كلامٍ

يكتبُ فوق بطاقاتِ الأعياد

يا سيِّدتي:

لا أتذكَّرُ إلّا صوتَكِ

حين تدقُّ نواقيس الأعياد

لا أتذكرُ إلّا عطرَكِ

حين أنام على ورق الأعشاب

لا أتذكّر إلّا وجهكِ

حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ

وأسمع طَقطَقة الأحطاب

ما يُفرِحُني يا سيِّدتي

أن أتكوَّمَ كالعصفور الخائفِ بين بساتينِ الأهداب

ما يبهرني يا سيِّدتي

أن تهديني قلماً من أقلام الحبرِ أعانقُهُ

و أنام سعيداً كالأولاد

يا سيِّدتي:

ما أسعدني في منفاي

أقطِّرُ ماء الشعرِ

وأشرب من خمر الرهبان

ما أقواني حين أكونُ صديقاً للحريّةِ والإنسان

يا سيِّدتي:

كم أتمنّى لو أحببتُكِ في عصر التَنْويرِ

وفي عصر التصويرِ

وفي عصرِ الرُوَّاد

يا سيِّدتي لا تَنشَغِلي بالمستقبلِ،

يا سيّدتي سوف يظلُّ حنيني أقوى ممّا كانَ

وأعنفَ ممّا كان

أنتِ امرأةٌ لا تتكرَّرُ في تاريخ الوَردِ

وفي تاريخِ الشعْرِ

وفي ذاكرةَ الزنبق والرّيحان

يا سيِّدةَ العالَمِ:

لا يشغِلُني إلا حبُّكِ في آتي الأيّام

أنتِ امرأتي الأولى

أمّي الأولى

رحمي الأوّلُ

شَغَفي الأوّل

شَبَقي الأوَّلُ

طوق نجاتي في زَمَن الطوفان

يا سيِّدتي:

يا سيِّدة الشِعْرِ الأُولى

هاتي يَدَكِ اليُمْنَى كي أتخبَّأ فيها

هاتي يَدَكِ اليُسْرَى كي أستوطنَ فيها

قُولي أيَّ عبارة حُبٍّ حين تبتدئ الأعيادْ

وفاته..

عاش السنوات الأخيرة من حياته مقيمًا في لندن حيث مال أكثر نحو الشعر السياسي ومن أشهر قصائده الأخيرة “متى يعلنون وفاة العرب؟”، وقد وافته المنية في 30 أبريل 1998 ودفن في مسقط رأسه، دمشق

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة