إعداد/ زياد ماجد
مقدمة
حفلت الأسابيع الماضية بجملة تطورات سياسية وميدانية في سوريا. وجاءت هذه التطورات بعد تسريب أخبار عن اتفاق مبدئي أنجزه البيت الأبيض مع الروس واتفق الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على خطوطه العريضة خلال لقائهما، في 7 يوليو/تموز 2017، في قمة العشرين في ألمانيا(1).
من معالم الاتفاق أن واشنطن في أولويتها الوحيدة، وهي “الحرب على الإرهاب”، تقبل بتفويض روسيا في إدارة الشأن السوري، وصولًا إلى حلٍّ يناسب موسكو ويترك لواشنطن وحلفائها الدور الأبرز في مهاجمة تنظيم “الدولة الإسلامية” شمال شرق سوريا (منطقة الرقة)، فيما قد ينسق الطرفان في العمليات العسكرية اللاحقة ضده في الشرق (منطقة دير الزور).
في موازاة ذلك، نشطت روسيا على خط التواصل مع بعض القوى العسكرية المقاتلة ضد النظام (جيش الإسلام وفصائل ما زالت منضوية في الجيش الحر في وسط البلاد) للاتفاق على تخفيض التوتر في أكثر من نقطة اشتباك، لاسيما في الغوطتين وفي ريف حمص الشمالي. وعملت في لقاءات آستانة وفي الاتصالات الجانبية على تقسيم مناطق النزاع، متفقةً مع الأميركيين على السعي مع الأردن لضبط حركة المعارضة المسلحة في الجنوب، مقابل وعد موسكو بِثني الإيرانيين وحزب الله عن محاولة التمدد فيه.
على أن التطورات شمالًا، لجهة التوتر التركي-الكردي الذي تلجم واشنطن تصاعده حتى الآن، وسيطرة “فتح الشام” على أجزاء واسعة من محافظة إدلب، إضافة إلى استمرار الاشتباكات والقصف في محاور الغوطة الشرقية ومحاولة النظام وحزب الله التقدم في جوبر وفي بعض النقاط الأُخرى، تؤجل تطبيق التجميد العسكري الشامل الذي تريده روسيا لتكرس من بعده صيغتها “السياسية” للحل.
إدارة الصراع روسيًّا وفق التقسيم الجغرافي ومؤدياتها
ما الصيغة التي تريدها موسكو تتويجًا لتخفيض “مستوى العنف” أو تجميد الجبهات؟
من الواضح أن الخريطة السورية كرَّست مناطق خمسًا (سبق وأشرنا إليها في ورقة بحثية بعنوان: “جغرافيا الصراع: ديناميات المناطق الخمس في سوريا” نشرها مركز الجزيرة للدراسات، في 8 سبتمبر/أيلول 2016(2)):
• منطقة أولى غربية طولية (تمتد من الساحل السوري إلى حماة فحمص ودمشق ومداخل الجنوب)، يسيطر النظام وميليشياته والقوى الشيعية التابعة لإيران عليها، بحماية عسكرية جوية ودبلوماسية روسية. وفي هذه المنطقة مناطق معزولة ومحاصرة للمعارضات المسلحة، يعمل النظام وحزب الله على قضم بعضها (محيط الحدود اللبنانية وبعض ضواحي دمشق)، وعلى السعي لوقف العمليات العسكرية في بعضها الآخر للتطبيع معها وتحييدها ريثما يُنظر في شأنها.
• المنطقة الثانية هي منطقة إدلب، وهي متروكة راهنًا لتطورات داخلها قد تطرح لاحقًا سيناريوهات مختلفة. فتمدد سيطرة “فتح الشام” فيها، “يُجيز” للأميركيين والروس اعتبارها منطقة مُسيطَرًا عليها من قبل “منظمة إرهابية”. وهذا يعني دوليًّا (نتيجة تصنيفات مجلس الأمن) “مشروعية” التعامل معها عسكريًّا. يمكن كذلك تفويض تركيا إيجاد حلول وسط فيها تُجنِّبها العمليات العسكرية “الدولية”، أو يمكن تركها نهبًا لاقتتال داخلي يُعزَل عن السياق السوري العام ويستنزف أطرافه حتى الإنهاك (ومعهم مئات الألوف من المدنيين).
• المنطقة الثالثة هي منطقة سيطرة الميليشيات الكردية، في عفرين ثم من كوباني حتى الحسكة وحدود العراق، نزولًا حتى الشدادي، وانتهاءً بمدينة الرقة. وهذه المنطقة محمية أميركيًّا، رغم التحفظ التركي الحاد على سيطرة “وحدات الحماية” الكردية عليها. ورغم الدعم التركي لفصائل من المعارضة السورية المسلحة المتواجدة في ريف حلب الشمالي على تماس مباشر معها (بما يُعدُّ جيبًا مستقلًّا للمعارضة في المنطقة، ولو أنه راهنًا محدود التأثير عسكريًّا وسياسيًّا).
• المنطقة الرابعة هي منطقة جنوب سوريا، حيث محافظتا درعا والقنيطرة وبعض أنحاء البادية على تخوم الحدود الأردنية والعراقية. وترتدي هذه المنطقة أهمية استراتيجية قصوى لوقوعها على التقاطعات الحدودية المذكورة، ولقربها غربًا من الجولان السوري المحتل ومن الحدود الإسرائيلية. وتُؤكد مختلف المؤشرات والإجراءات وجود اتفاق روسي-أميركي-أردني على تطبيق وقف شامل لإطلاق النار فيها، يستثني “جيش خالد بن الوليد” المحسوب على “تنظيم الدولة”، تمهيدًا لفتح معبر حدودي معها يُعيد التواصل الاقتصادي عبر الطريق الدولية بين دمشق وعمَّان. على أن تنسحب من تخومها القريبة من الجولان جميع مجموعات حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية وخبراء الحرس الثوري الإيراني، وأن يلعب الأردن دور الضامن للعلاقة بكتائب “الجيش الحر” المحلية وسائر المجموعات المعارضة.
• أما المنطقة الخامسة في هذا التقسيم، فهي منطقة الشرق السوري، المحيطة بمسار نهر الفرات. وهي منطقة سيطرة تنظيم الدولة المتآكلة في شمالها (الرقة) والمتعرضة لضغط في وسطها وجنوبها (في الخط الممتد من تدمر باتجاه دير الزور). وإذا كان مطلب بعض الميليشيات الكردية وحلفائها من مسلحي مجموعات عربية التقدم بعد السيطرة على الرقة نحو معدان على طريق دير الزور، وفتح جبهة من جنوب الحسكة نحو الميادين (عبر خط الشدادي-مركدة) يلاقي بعضَ الاهتمام الأميركي، فإن في وجه ذلك عراقيل كبرى، تبدأ بالارتفاع المتوقع لحدَّة الاعتراض التركي على خطوة من هذا النوع، وتمر برفض إيران لها لما ستمثِّله من سيطرة كردية على شرق البلاد وشمال شرقها، وتنتهي بصعوبة الأمر عسكريًّا وتداعياته سياسيًّا واجتماعيًّا في ظل تصاعد التوتر العربي-الكردي وعمليات تهجير سكان عرب حدثت في العامين الأخيرين.
• بذلك، يبدو أن القرار بمن سيلعب الدور الأساسي في معركة دير الزور والميادين والبوكمال المقبلة ما زال قيد البحث. وهذا يفسِّر المحاولات الحثيثة للنظام السوري والميليشيات الشيعية الأجنبية المقاتلة معه لتحصين مواقعهم في ريف حلب الجنوبي -نحو الشرق- كما في السخنة وفي خطوط موازية للحدود العراقية التفافًا على نقطة التنف، بهدف إظهار الجاهزية لخوض المعركة. من جهتها، وبعد تقدمها في جنوب البادية السورية وتمركزها في التنف، تحضيرًا للتقدم باتجاه البوكمال بدعم أميركي، حوصِرت قوى معارِضة سورية، واتفق الأميركيون والروس على وقف تقدمها، وتجنب الصدام مع قوات النظام وحلفائه القريبين منها(3).
• تجاه هذا التقسيم لمهام وخصائص سياسية وعسكرية للتراب السوري تُديره موسكو وتوافق عليه واشنطن، يُظهر طرفان إقليميان، هما تركيا وإيران، حذرًا وبراغماتية عالية، في حين تغيب الأطراف العربية نتيجة التوترات بينها واستنزاف بعضها في حرب اليمن وبُعدها الجغرافي عن حدود سوريا(4). فتركيا القلقة من النفوذ الكردي على حدودها الجنوبية تحاول قدر الإمكان الحد من هذا النفوذ وجعله موضع مقايضة مع واشنطن وموسكو، عبر التهديد بالتدخل في عفرين تارة، والبحث عن دور في إدلب تارة أخرى. أما إيران، فتُظهر براغماتية عالية لتجنب أي اشتباك سياسي مع حليفتها موسكو، خاصة في الجنوب السوري، مقابل إظهارها حزمًا عسكريًّا وسياسيًّا في موضعين لا تبدو مستعدة للتنازل عن النفوذ القائم أو المطلوب فيهما: الحدود السورية-اللبنانية؛ حيث يتمركز حزب الله ويواصل توسيع سيطرته، والحدود العراقية-السورية؛ حيث تتقدم ميليشيا “الحشد الشعبي” في بعض نقاط الحدود من الجانب العراقي، وحيث تريد إيران أن يكون لحلفائها وجود في الجانب السوري أيضًا، بما يضمن لطهران السيطرة على الخط البري الممتد منها عبر بغداد إلى دمشق فبيروت.
إفراغ القضية السورية من أبعادها السياسية
على أساس ما جرى عرضه آنفًا، تبدو الحركة السياسية دوليًّا متجهة إلى تحويل الشأن السوري إلى شأن تقني إداري، يرتبط بسلة تفاهمات حول وقف النار في مناطق، وتصعيد القتال في مناطق أخرى وتقاسم نفوذ عبرها يُبقي موسكو الأكثر تأثيرًا شرط إقناعها إيران بإبقاء الحدود مع إسرائيل آمنة كما كانت عليه بين العامين 1974 و2011؛ وهو ما تستعد طهران للموافقة عليه مقابل انتزاعها النفوذ حدوديًّا مع العراق ولبنان وفي الخط الواصل بينهما. أما تركيا فتصارع ليكون لها تأثير مركزي في الشمال على حساب الدور الكردي المتوسع، في حين يريد الأردن بسط نفوذِه جنوبًا وفتح طريق عمَّان-دمشق للاستفادة تجاريًّا في مرحلة قد تترافق مع عودة بعض النازحين الموجودين في أراضيه إلى سوريا (وهم في معظمهم من الجنوب السوري). ويبدو البيت الأبيض راضيًا بتسوية مرحلية كهذه، تخفِّف التوتر، وتبقي لواشنطن الدور الأبرز في الحرب على تنظيم الدولة بموجباته العسكرية واقتصاد حربِه وخطابه الأيديولوجي والسياسي.
هذا يعني أن قرار موسكو بإبقاء بشار الأسد رئيسًا في دمشق، وبالتالي رأسًا محليًّا للسُّلطة على الجزء الغربي من سوريا لمرحلة زمنية غير محددة، صار مقبولًا في واشنطن. ولا يبدو التحفظ الأميركي على الحضور الإيراني داخل الخريطة السورية قابلًا للتطور إلى إجراءات ملموسة تُهدده، على الأقل في المستقبل المنظور. وهذا يعني كذلك أن موسكو ستحاول، إن استتبَّ الأمر لترتيباتها، أن تخصص المرحلة الانتقالية التي تريدها لإدماج من تقنعه من فصائل معارضة محاصرة ومطبع معها في غرب سوريا (في الغوطتين وفي ريف حمص) في آلية مصالحة مع البنية الأمنية-السياسية للنظام. وإن نجحت، تعمد إلى السعي لتكرار التجربة في الجنوب، تاركة الشرق (حيث الأولويات الأميركية) والشمال وملفاتهما المتفجرة لوقت لاحق.
ولتدعيم المسار الذي رسمته، تُراهن موسكو على مشاريع اقتصادية وإعادة إعمار تجذب مستثمرين من الصين ومن بعض الدول الأوروبية. وليس محسومًا بعدُ موقف الاتحاد الأوروبي من هذه المشاريع، خاصة أن تنفيذها يتطلب رفع العديد من العقوبات الأممية والأوروبية المفروضة على النظام السوري، وهو ما لا يسهُل إنجازه لأسباب قانونية عدَّة(5).
خلاصة
يمكن القول: إن روسيا نجحت بعد مُضي عامين على تدخلها العسكري المباشر في سوريا في انتزاع تفويض سياسي لها لإدارة ملف البلاد. وقد ساعدتها على الأمر سياسات الانكفاء الأميركية التي بدأها الرئيس أوباما واستمر بها الرئيس ترامب، وموجبات التركيز الغربي على أولوية ما يُسمَّى بـ”الحرب على الإرهاب”. كما ساعدها تعثر الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع الدولي في التعامل مع الكارثة السورية (ولموسكو بالطبع دور أساسي في إحداث هذا التعثر). والإدارة الروسية إذ تركز على الجانب التقني لتخفيض العنف، تجهد لتصفية القضية السورية عبر الانتهاء من كل بحث في التغيير السياسي والاكتفاء بالكلام عن مصالحات وإعادة إعمار تلي وقف النار الميداني، وتُبقي النظام المسؤول عن خراب سوريا وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مسيطرًا على قسم واسع من البلاد.
في مواجهة كل ذلك، هل ما زال بمقدور القوى السياسية والمجتمعية السورية العمل على إبقاء قضيتها، بما هي قضية كفاح ضد حكم استبدادي متوحش، حية؟ تكمن الإجابة على الأرجح في مدى قدرة هذه القوى على صياغة خطاب واضح للمستقبل، وإعادة تنظيم نفسها داخل سوريا وفي المنافي، وتركيزها على رفض أن تكون بلادها أرض حصانة للمتهمين بارتكاب جرائم حرب أو أرض إفلات من العقاب. وهذا يتطلب تكثيف الجهود الحقوقية وتنسيقها لإيجاد جميع الثغرات التي تسمح بالادعاء على أركان النظام السوري في أكثر من دولة غربية ومحفل دولي، بما سيجعل كل تطبيع معهم شديد الصعوبة، ويفرض مع الوقت على الروس والإيرانيين إعادة البحث في جدوى حمايتهم وكلفتها على المديَين المتوسط والبعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*د.زياد ماجد- أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الأميركية في باريس .
مراجع
(1) “روسيا والولايات المتحدة تعقدان وقف إطلاق نار جديدًا في سوريا”، foreignpolicy، 7 يوليو/تموز 2017:
(2) للاطلاع على الورقة كاملة، يمكن تصفح الرابط التالي:
http://studies.aljazeera.net/mritems/Documents/2016/9/8/078c87f79a8b43118c6d90a6a4836072_100.pdf
(3) يأتي هذا بعد تقدم وحدات للنظام ولميليشيات شيعية باتجاه التنف، وقصف طائرات أميركية لها في 18 مايو/أيار ثم في 8 يونيو/حزيران 2017، قبل أن تجمد اتصالات بين واشنطن وموسكو التوتر وتَحول دون توسعه.
(4) تحاول مصر والإمارات لعب دور جديد عبر دفع معارضين سوريين محسوبين عليهما ومرضي عنهم سعوديًّا (مثل السيد أحمد الجربا) للتفاوض مع النظام على شروط هدنٍ إنسانية في عدد من المناطق تمهيدًا لتطبيع سياسي. على أن الأمر يبدو حتى الآن محدودًا ومحصورًا بالسقف الروسي.
(5) من هذه الأسباب أن التصويت الأوروبي على القرارات يتطلب إجماعات ما زالت إلى الآن غير متوفرة. ومنها أيضًا أن جهود منظمات حقوق الإنسان الدولية وتقاريرها حول جرائم النظام السوري، كما بعض الدعاوى التي بدأت تظهر ضده من مواطنين سوريين حاملين لجنسيات أوروبية، تُقيد حركة الحكومات التطبيعية مع النظام في دمشق. ومنها كذلك أن مسألة العقوبات على الأسد وأعوانه مرتبطة سياسيًّا بالعقوبات على روسيا نتيجة الأزمة الأوكرانية، وهذا يعقِّد رفعها في المرحلة المقبلة.
المصدر/ الجزيرة للدراسات