8 أبريل، 2024 6:36 ص
Search
Close this search box.

نحو إعلام ثالث للجماهير (3) .. الشخصية الإعلامية المستقلة

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتب – محمد البسفي :

الباب الثالث: (نحو خلق شخصية إعلامية مستقلة)

الفصل الأول: في نقد مدرسة الديمقراطية العولماتية

آراء في نقد الإعلام المعولم في المنهجية والتطبيق

بأستعراض ودراسة أغلب الآراء والأبحاث التي جاءت مؤيدة للعولمة الإعلامية وآليات تطبيقها داخل دوائر اتصال دول العالم الثالث، وبلدان العالم العربي خاصة، نلاحظ أنها تنطلق جميعها في ترحيبها التبشيري هذا من نقطة حق “حرية الصحافة” وضرورة الخروج بها من تحت سطوة السلطات الحاكمة؛ التي لا تمل الفرص في السيطرة عليها وتقييد حريتها قدر المستطاع، فبات بالتالي مبدأ تحرير الصحافة من سطوة الحكومات هدفاً في حد ذاته تنشده الحركة الإعلامية؛ تصوغ له مفاهيمها وآليات عملها، عبر موقفين ميزا مسيرتها حتى هذه اللحظة؛ وهما: موقف مجابه كرد فعل أمام ضغوطات سلطة محلية مستبدة، وموقف منطلق من منطق “ثقافة مجتمع المستعمرات” المنبهرة بمنتجات ومخرجات الثقافات الأعلى منها تقدماً. دون الإلتفات إلى كيفية خلق منظومات إعلامية مستقلة متكاملة تعكس احتياجات وثقافات مجتمعات دول العالم الثالث وتعمل على تنميتها وتوعيتها وحل مشكلاتها المتشعبة.

ففي الوقت الذي يرجع فيه “د. سليمان الشمري” سبب شلل الصحافة العربية إلى إنحراف وظائف الوسائل الإعلامية عن الهدف الرئيس لها، والذي يحصره في: “الربط والتفاعل بين قمة الهرم، (السلطة)، والمجتمع والعكس أيضاً، وهذا هو مربط الفرس، فالوسيلة الإعلامية لها دور مهم في مراقبة السلطة التنفيذية ومحاولة جعل نفسها سلطة رابعة مثل السلطات الثلاث الأخرى، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويكون للصحافة إسهامات حيوية في خلق وتشكيل الرأي العام، وأيضاً نقل تصورات ومواقف الرأي العام إلى صناع القرار، فالصحافة في الأنظمة السلطوية لا تنقل تطلعات ومعاناة شعوبها بشكل دقيق، إنما تكتفي بنقل الأوامر والقرارات الصادرة من صناع القرار إلى الجماهير، فالاتصال يسير في إتجاه واحد من أعلى إلى أسفل”، لذا فهو يرى أنه: “في ظل العولمة التي تحمل في طياتها رياح التغيير العالمية، فنجد أن هناك زيادة في هامش الحرية الإعلامية لدى بعض القنوات الفضائية العربية، فالموضوعات المحرمة مناقشتها في القنوات المحلية والتي كانت مقصورة مناقشتها على بعض الفئات صاحبة النفوذ السياسي أو الاجتماعي أو الديني أصبحت تناقش على الملأ وأصبح لها جمهور في مشارق الأرض ومغاربها، وقد يكون ذلك خطوة أولى في تهيئة الشعوب العربية للوصول إلى الديمقراطية”. ويقطع الباحث بأن العولمة قد أفرزت للعرب في مجال الإعلام شعاراً جديداً يٌسمع لأول مرة ويتكرر سماعه يومياً، هو مصطلح (الرأي والرأي الآخر)، “فموضوع الحرية يمثل حجر الزاوية لموضوع العولمة التي تشمل شتى النواحي الاجتماعية للفرد والجماعات” (1).

وبهذا الشكل التبسيطي لا يرى أنصار العولمة الإعلامية من أوجهها سوى زاوية التحرر التعبيري والإعلامي البراقة، نظرياً، بينما تحمل تطبيقاتها العديد من التفاصيل والتناقضات. ودون الإلتفات إلى أوجه نظر أخرى تقارن ثقافة العولمة بالثقافات الوطنية في دول الجنوب أو سواها، واصفة الأخيرة بأنها “ثقافات تتميز بالخصوصية والإنتظام داخل أطر تاريخية معينة، كما تتميز بالقدرة على ربط أهلها بسمات وجدانية ذهنية مشتركة تتمثل في القيم والذاكرة الجماعية والإحساس المشترك بهوية تاريخية ومصير واحد، أما ثقافة العولمة ليس لديها القدرة على أن تولد لدى الأفراد إحساساً مشتركاً بهوية تاريخية أو مصير مشترك، وينظر إليها على أنها ثقافة لا تحمل ذاكرة جماعية كما أنها تتسم بنزعة توسعية وأنها منقطعة عن أي ماضي، وإن كانت تستغل الماضي ليوفر لها عناصر مستمدة من الأنماط الشعبية والوطنية في الموضة والأثاث والموسيقى والفنون، التي تنتزع من سياقاتها الأصلية وتوضع في توليفات، فهي في أساسها ثقافة لا تاريخية”، على حد مقارنة “د. عواطف عبدالرحمن”، مرجعة أسباب إنتشار أنماط الثقافة الأميركية وتغلغلها في حياة الشباب على النطاق العالمي إلى:

  1. هيمنة شركات الإعلان الأميركية على التسويق العالمي، مما ساعد على قولبة الإعلانات الأميركية وصبغها بالطابع الأميركي، وخصوصاً لدى قناعات واسعة من الشباب، سواء في العالم الرأسمالي أو في دول الجنوب.
  2. تفوق الولايات المتحدة في صناعة الموسيقى الشعبية والأفلام والمسلسلات، وقد تزامن إنتشارها في الأسواق الخارجية مع ظهور التليفزيون وأخيراً الأقمار الصناعية (2).

لذا فتؤكد الباحثة على أن النظام الإعلامي الراهن، بكل ما يحويه من تفاوت وتحيزات وعدم تكافؤ في توزيع موارد الاتصال والمعلومات، يهدف إلى إبقاء الجمهور والرأي العام في حالة من الجهل الكامل حقيقة ما يدور، وقد أظهرت الحروب الإقليمية المعاصرة، وفي مقدمتها حرب الخليج والبوسنة والصومال وأحداث رواندا ومعركة التجديد لبطرس غالي الأمين السابق للأمم المتحدة، أن قطاعات كبيرة من الرأي العام الأميركي تعاني من حالة تزييف وعي متعمدة ومتواصلة، وإذا كانت الحال هكذا بالنسبة إلى شعوب الشمال المتقدم فما بال شعوب الجنوب وسائر شعوب العالم ؟!. وتصنف القنوات العربية بأنها خليط من مجموعة إتجاهات:

  1. قنوات تلعب على المكبوت الجنسي، أي تركز على الموضوعات المشبعة بالإغراء من أفلام ومسلسلات مدبلجة حية؛ تتولى أجمل مذيعات المحطة تقديمها لخلق الإثارة لدى الجمهور.
  2. قنوات تلعب على المكبوت السياسي، وتمثل هذا الإتجاه بعض القنوات الفضائية العربية الخاصة التي يوجد لديها هامش من الحرية يتفوق على ما يوجد في القنوات الرسمية الفضائية العربية الأخرى (3).

كما وصف “إغناسيور رامونيه” في مؤلفه (طغيان الإعلام)، ثقافة القرن العشرين بأنها ولادة ثقافة إلكترونية مرشحة لأن تكون هي الثقافة المسيطرة في الألفية الثالثة. محذراً من “شرطة الفكر الجديدة، التي يمكن أن تمارس من خلال الإمكانات الهائلة التي تنتجها تكنولوجيا الإعلام الجديدة، تحكماً لا منظوراً بالعقليات على مستوى الكرة الأرضية قاطبة. وأما أن الإيديولوجية الإلكترونية الجديدة يمكن أن يكون لها مفعول تخديري لا إيقاظي للوعي، وبالتالي معاكسة للغائبة المفترضة للإعلام في إغناء المداولة الديمقراطية”. لذا فقد ضرب “جورج طرابيشي” مثالين على طريقة التغطية الإعلامية لـ”مقتل ديانا” و”فضيحة الرئيس الأميركي بيل كلينتون” مع المتدربة مونيكا لوينسكي، مدللاً على التركز على الإثارة والبعد الفضائحي لرفع نسبة التوزيع الذي تجاوز ثلاثة ملايين نسخة وزعتها صحيفة (ذي صن) البريطانية في الأيام التالية لمصرع ديانا (4).

بل برهن “د. سليمان صالح”، على تأثير عولمة المنظومة الإعلامية لدول الجنوب، والدول العربية منها خاصة، بالسلب على مبدأ حرية الصحافة والإعلام ذاته في أربعة أركان هامة:

  1. التعددية والتنوع من حيث الكم: أما المضمون فالشركات متعددة الجنسيات تعمل تحت مظلة الثقافة الغربية الرأسمالية.
  2. الرقابة: من غير المنطقي فرض أي نوع من الرقابة على وسائل الإعلام، أما الرقابة الذاتية ستتزايد لدى الصحافيين في المستقبل نتيجة خوف الصحافيين من فقدان وظائفهم، ويكون التكيف مع الثقافة الغربية والإيديولوجية الرأسمالية وسيلة للحصول على العمل في الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها الشركات المتعددة الجنسيات.
  3. القيود على حرية الصحافة: إن ثورة المعلومات والاتصال سوف تجعل الكثير من القيود المفروضة في دول العالم بلا معنى. لكنها مع ذلك ستفرض أخطاراً على الشعوب سوف تجعل من الضروري البحث عن نوع ما من التقييد لحماية الأمن القومي والسيادة الوطنية.
  4. حق الحصول على المعلومات: إن وسائل الإعلام الجديدة قد جعلت الحفاظ على السرية أمراً مستحيلاً، لكن مع ذلك فإن التحدي الذي يواجه كل دول العالم هو كيف يمكن تحقيق التوازن بين حماية الأمن وحق الحصول على المعلومات (5).

ومع ذلك، مازال هناك العديد من الصحافيين ومنظري الإعلام المعولم، من يهلل مبالغاً في دور النقلة النوعية التي أحدثتها الفضائيات العربية فيما يخص حرية التعبير والفكر وسلاسة حركة تداول المعلومات، بل وفضلها في إدخال مفاهيم ثقافية مغايرة، فيقول أحد الصحافيين المصريين الكبار: “حين أطلت علينا بعض الفضائيات العربية بوجه جديد وعقل جديد وثقة غير تلك التي سئمناها حتى نفرتنا من مفردات الضاد، كان ذلك بمثابة ميلاد مهم” (6).

ويقطع باحث آخر يسبح في نفس الموجة، بضرب مثال لتلك الفضائيات الخلاقة في صكها لمفهوم جديد للقومية العربية، قائلاً: “قناة الجزيرة الفضائية، تعتبر من أكثر القنوات الفضائية تلويحاً بالخطاب القومي العربي، فهي تشكل واقعاً إعلامياً ومعلوماتياً لم يسبق له مثيل في تاريخ الإعلام العربي وأصبحت قناة يشهد المعارض والموالي لتميزها وحرفيتها في نقل الخبر” (7). غير مكتفياً بذلك المثال الوحيد، بل أكد على وجود بعض القنوات العربية الفضائية التي أصبح لها برامج ذات بعد قومي عربي يركز على تنوع الشخصيات العربية المستضافة في تلك البرامج، مثل برنامج “من سيربح المليون” وبرنامج “على مسئوليتي” من قناة (MBC)، “حيث تركز أجندة موضوعاتها على أدبيات من التراث العربي بشكل عام وموضوعات وقضايا ذات صبغة عربية آنية، وذلك على حساب الموضوعات القطرية مما أدى إلى وجود قاعدة جماهيرية في أغلب البلاد العربية. وكإمتداد لهذا البعد كان لإسهام قناة أبو ظبي وقناة (ANN) من لندن وقناة المستقلة، برامج متنوعة تغذي الطرح والمد القومي العربي في شتى الأقطار العربية ومتجاوزة جميع الحدود السياسية التي تعترض الوسيلة الإعلامية الأخرى (الصحافة)”.

ولكن، يرجع ذات الباحث يناقض نفسه، ليس فيما يختص بقناة (الجزيرة) القطرية فحسب، بل وفيما يخص بمدى إستقلالية تلك القنوات ومدى حرياتها في علاقتها بنظم الحكم المحلية، سارداً تجربة له من داخل أروقة القناة، تعكس شهادة مغايرة. مشيراً إلى أن قناة (الجزيرة) قد أعلنت عن “حث الشباب العربي على عمل دراسات عن القناة في هذه الفترة – أواخر العقد الأول من القرن الحالي – دون أن تطرح علناً أنها لا تريد أن ترى دراسات حالية بأدمغة قديمة تمثل مرحلة من مراحل (الجزيرة) سابقاً، وهذه طريقة غير مرغوب فيها أكاديمياً لأن المسابقة ليست في مجال المواهب، فالأبحاث العلمية لا تعترف بالسن للباحثين على الإطلاق، وكأن ذلك يقصد منه إبعاد الفئة التي عاصرت قيام قناة (الجزيرة) وعملت أبحاثاً سابقة عن القناة وعاصرت القناة في فترتها السابقة، لأنها مسحت من ذاكرتها تاريخ فترتها السابقة القومية، وتريد قومية بثياب جديدة، نقشها شباب الساحات العربية بمفردات جديدة، وقد تكون محقة في جزئية الإبداعات التكنولوجية الحديثة المتزامنة مع الإنترنت، وهذا ينطبق على الرموز السابقة التي كان يتم إستضافتها بكثرة، أمثال د. عبد النفيسي، ليث شبيلات، مشعان الجبوري، مصطفي بكري، العفيف الأخضر، علي عرسان، نوال السعداوي، شفيق الغبراء، عبدالإله بلعزيز، محمد المسفر… وغيرهم، هذه الأسماء كانت تستضاف وبشكل كبير في فترة مسار القناة القومي الذي قام عليه وجودها، فكانت تسير بشكل متوازٍ تماماً مع السياسة الخارجية لدولة قطر، فسوريا ولبنان “حزب الله” وإيران دول تعبر عن شكل من أشكال الصمود والتصدي في وجه الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ولا ننسى أيضاً موقف القناة أو بالأصح موقف الحكومة القطرية من الزعيم العراقي صدام حسين إبان حكمه، وصراعه الطويل مع الولايات المتحدة الأميركية”. قبل أن تنقلب السياسات التحريرية والمهنية للقناة رأساً على عقب، على يد هؤلاء الشباب وتعدل مفاهيمها القومية والثقافية والتحررية عموماً نحو البوصلات الغربية والأميركية، وبمنهج شمولي ديكتاتوري يماثل مناهج العولمة الإعلامية، التي عربتها قناة (الجزيرة) وغيرها للدول العربية، بتصدير مفاهيمها عن الحرية الأميركية الغربية الطراز للدول الأخرى دون تطبيقها داخل دولة البث، الأمر الذي أعترف به “سليمان الشمري” مكملاً شهادته عن قناة الجزيرة: “فتحقيق الحرية هو هاجس النظام على أن لا يكون في داخل قطر، إن من يتصفح سير الحرية داخل الدولة التواقة إليها في الخارج يجد أن الشعب القطري خارج مدار وتجاذبات الصراعات من أجل الحرية وأن ثلاث أسر تسيطر على المناصب والمصالح في قطر، أسرة الحاكم آل ثاني وآل عطية وآل محمود، إن حالة قطر فريدة من نوعها، نظام يحب ويعشق الحرية، ويريد تطبيقها خارجياً ويرفضها أو يتجاهلها داخلياً، لا يشابه وضع قطر إلا في الحالة الأسرية التي يقع فيها بعضنا عندما يكون طيباً ورائعاً في تعاملاته مع أصدقائه ومحيطه الخارجي، ويحب الأسلوب والطريقة الديمقراطية، وتجده في منزله ديكتاتورياً لا يجيد فن الإصغاء ويحابي البعض. …. إن فهم مهنية (الجزيرة) هو فهم للسياسة الخارجية لدولة قطر. كانت المملكة العربية السعودية تحت المجهر في كل صغيرة وكبيرة مع بداية القناة إلى بداية تولي الملك عبدالله الحكم، عندها تغير المسار تماماً ولم تقم القناة بأي تغطية ذات توجه سلبي للمملكة كعادتها، ووضعتها في نفس خانة دولة قطر في طبيعة التغطية” (8).

وبالطبع أصحاب هذه الآراء وأنصارها لا يرون كل تلك الموجة العارمة من البرامج الخبرية والترفيهية المتنوعة التي أغدقتها – وبكرم شديد – الشركات متعددة الجنسية على الفضائيات العربية خلال العقود المنصرمة، ونشطت خاصة بعد موجات الإنتفاضات الشعبية منذ 2011 وحتى اليوم، مثلما أغرقت شاشات أغلب الدول النامية، فأنتشرت البرامج الحوارية “التوك شو” محاكية النمط الغربي والأميركي منه تحديداً في الشكل والمضمون، ومازالت تنتهجه إلى اليوم في إصرار تعميمي غريب على كافة مواد التناول، فنية كانت أو سياسية أو اقتصادية، حتى بعد هجر القنوات الغربية الأم لها أو تحديده في أطر تناول محدده، بل تم جلب برامج ترفيهية أميركية كاملة شكلاً ومضموناً لتعريبها بنسخ يشترك فيها أغلب الدول العربية من مصرية ولبنانية وأردنية وإماراتية… إلخ، على غرار برنامج مسابقات المواهب “The Voice”، وكذلك محاكاة أفلام ومسلسلات درامية وأغاني موسيقية. بتمويلات الشركات متعددة الجنسيات عبر دول البترول العربية لأغراض سياسية تباينت بين نشر تفسيرات حكومات تلك الدول للإنتفاضات الشعبية والأحداث الدولية الجارية، أو لإلهاء وتضليل شعوب تلك الدول وتوجيهها نحو تفسيرات حكوماتها بالذات دون غيرها لجميع الأحداث السياسية الدائرة. فبالتالي خلف ذلك الوضع الإعلامي العربي الآني، توسع أفقي في إنتشار وإنشاء القنوات الفضائية لمجموعات وشبكات فضائية ضخمة مواكباً لتقلص دور الخبر والمعلومة المجردة نتيجة لشيوع الآراء وتباينها وتوظيفها للأخبار والمعلومات لخدمة وجهات نظر معينة.

يحاول “مايكل آيزنر” (Michael Eisner)، عملاق صناعة الإعلام ورئيس مجلس إدارة شركة “والت دزني”، تقديم تفسيراً يجاهد ليكون قاطعاً لظاهرة سيادة نمط الترفيه والتسلية الأميركية عالمياً، قائلاً: “تتميز وسائل التسلية الأميركية بالتنوع، وهي بهذا تتلاءم مع الإمكانات والخيارات وطرق التعبير الفردية المختلفة. وهذا هو في الواقع ما يرغب به الأفراد في كل مكان”. ويضيف تاجر هوليوود دونما إكتراث؛ قائلاً: “وكنتيجة للحرية الواسعة المتاحة أمام كل من يريد الإبتكار، تتصف صناعة التسلية الأميركية بأصالة لا مثيل لها في العالم أبداً”.

ويرفض “بنغامين. ر. باربير” (Banjam R. Barber)، مدير مركز “والت وايتمان” (Walt Whitman Center) في جامعة روتغيرز (Rutgers University) في ولاية نيوغيرسي تفسير “آيزنر”، ويصف نظريته بتنوع ما تقدمه وسائل التسلية الأميركية بـ”الكذب والبهتان”. فهذه الأسطورة تتناسى أمرين حاسمين: طريقة الإختيار وحرية الإنسان في تحديد ما هو بحاجة إليه فعلاً. “… كيف يستطيع المرء أن يأخذ مأخذ الجد المقولة القائلة بأن السوق لا تقدم إلا ما يرغب به الأفراد، إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن ميزانية صناعة الدعاية والإعلان قد بلغت 250 مليار دولار ؟.. وهل محطة البث التليفزيوني (MTV) أكثر من وسيلة دعاية وإعلان على مستوى العالم، وعلى مدار السنة للصناعة المهيمنة على سوق الموسيقى ؟” (9).

أما الباحثان “هانس بيترمارتين” و”هارالد شومان”، فيقدما من جانبهما صورة عن إندماجات واتحادات المجموعات الإعلامية الأميركية لخلق تلك الكيانات الضخمة المهيمنة: “إن الشمس لا تغيب عن إمبراطوريات شركات الإعلام العظيمة. وتقدم هوليوود بصفتها المركز العالمي أهم مادة أولية لمادية العصر المتأخر (Postmaterialismus). وتسعى مؤسسة تايم وورنر (Time Warener) للإندماج بمؤسسة تيد تيرنير (Ted Turner) المسماة Brodcasting Corporation، وبمؤسسة CNN لتكون معها أكبر مؤسسة مهيمنة في السوق العالمية، ولو نجحت دزني في شراء محطة التليفزيون ABC فستكون عملية الشراء هذه ثانية أكبر صفقة شراء في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الاقتصادي. هذا وقد أشترت سوني (Sony) مؤسسة Columbia Pictures، وباعت مؤسسة ماتسوشيتا (Matsushita) في عام 1995 عملاق صناعة التسلية MCA إلى عملاق صناعة المشروبات Seagram. ويسيطر في المنطقة الواقعة بين الخليج العربي  وكوريا، الأسترالي روبرت موردوخ (Rupert Murdoch). فمحطة إرساله بواسطة الأقمار الصناعية Star TV الموجودة في هونغ كونغ تغطي، من حيث التوقيت الزمني، أربع مناطق مختلفة يسكنها نصف سكان المعمورة. وبالنظر للإختلاف الزمني وبعد المسافة الجغرافية، لذا فإنها تبث على ست قنوات، تقدم برامجها حسناوات صينيات وهنديات وماليزيات أو عربيات يتكلمن مرة باللغة الصينية الشمالية ومرة بالإنكليزية. ويسعى موردوخ جاهداً للحصول على موطيء قدم واسع في سوق الصين الشعبية، وذلك من خلال المشاركة المالية في قنوات البث التليفزيوني عبر الكابلات (Kabelkanaele). وهذا أمر مهم بالنسبة له، إذ لم يزد عدد أولئك الذين يستطيعون مشاهدة برامجه بصورة شرعية ومن دون تشويش في الصين الشعبية على 30 مليوناً. إلا أن القائمين على شؤون الحكم في بكين لا يزالون مترددين. وقد نوهوا أمام بعض المؤسسات المختصة بالصيغة التي يمكن للإسترالي القبول بها والتي مفادها: “لا جنس ولا عنف ولا أخبار”.

“ومن هنا فإن مؤسسات الإعلام العملاقة، والتي تضم أيضاً العملاق الألماني برتلزمان (Bertelsmann)، ومنافسه العنيد ليو كيرش (Leo Kirsch) وآخرين، يعملون بمفردهم كمالك محطات التليفزيون سلفيو برليسكزني (Silvio Berlusconi)، نعم فإن مؤسسات الإعلام العملاقة قد صارت مجهزة على أفضل نحو للنهوض بأعباء الـTittytainment، التي أمعن التفكير فيها موجهو العالم الذين جمعت شملهم مؤسسة غرباتشوف الخيرية في سان فرانسيسكو. فما تبثه هذه المؤسسات من صور هو الذي يدغدغ الأحلام، والأحلام هي التي تحدد الأفعال” (10).

وبعد إستعراضهما لخريطة الإندماجات بين الكيانات الإعلامية الأميركية الكبرى المهيمنة عالمياً، مع بدايات القرن الحالي، يؤكد الباحثان جانب السيطرة الإحتكارية لتلك الكيانات موضحين: “أما الوعد بأن القنوات التليفزيونية الخمسمائة التي ستتوافر عليها كل عائلة ستحقق في المستقبل التنوع المطلوب، فإنه وعد كاذب. ففي الواقع هناك قلة تهيمن على السوق، وتكتفي في الكثير من مناطق البث بصياغة برامجها وإعادة صياغة ما أستهلك منها، بطريقة تضمن تغطية أكبر عدد من الفئات المستهدفة. إلى جانب هذا تؤدي عملية إقتناص أكبر عدد من المشاهدين إلى تعميق عملية تركيز هذه الصناعة في أيد أقل فأقل”.

تلك السيطرة الإحتكارية التي تنتج بالطبع هيمنة وتسويق النمط الأميركي على محتوى المضامين الإعلامية، مشيرين إلى استثمار “وكالات الدعاية والإعلان صوراً من وطن الأحلام الذي يمني به الزبائن أنفسهم. فالجمهور الألماني العريض قد صار شغوفاً بنيويورك وبقصص رعاة البقر في غرب الولايات المتحدة الأميركية، على نحو دفع محطة البث التليفزيوني (RTL) لأن تجعل منها مادة لما يزيد على نصف الإعلانات التي بثتها، عندما نقلت وقائع دورة تصفيات بطولة كرة القدم في عام 1996”. وهنا تتحقق نبؤة أبن نيويورك الفنان “كورت روي ستون” (Curt Royston)؛ “إن ثمة جهوداً خارقة تبذل لكي يتخذ العالم صورة واحدة”. أو “سيادة الصراخ والزعيق الأميركي (Screen) بمفرده في العالم أجمع”.

ويستمرا “هانس بيترمارتين” و”هارالد شومان” في توضيح العلاقة الحقيقية بين الإعلام المعولم واقتصاد العولمة، موضحين بأن العالم قد صار سوقاً واحدة، وصارت التجارة السلمية تبدو وكأنها في نمو مطرد، “أليس في هذا تحقيق لذلك الحلم الذي طالما حلمت به الإنسانية ؟.. وألا ينبغي بنا، نحن أبناء الدول الصناعية الثرية، أن نهلل فرحاً لما حققته الدول النامية من تقدم ؟.. وألم يصبح تحقق السلام الشامل قاب قوسين أو أدنى ؟.. كلا بكل تأكيد. فتصور المفكر الكندي مارشال ماك لوهان (Marshall Mc Luhan)، من أن العالم سيغدو “قرية كونية متشابهة” (Global Village)، لم يتحقق. ففي حين يردد المعلقون والسياسيون هذه الصورة المجازية دونما إنقطاع، توضح لنا الدراسة المتأنية أن العالم لا ينمو نمواً يفرز التلاحم والإلتئام. … فإن صور الملاكمة والمسابقات الرياضية، لا تخلق، وإن نقلتها كل شاشات تليفزيون المعمورة في وقت واحد، تبادلاً ثقافياً وتفاهماً دولياً، وإذا هي كانت تعجز عن هذا، فإنها ستعجز بكل تأكيد عن تقريب المستويات المعيشية. … إن 358 مليارديراً يمتلكون معاً ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة، أي أنها تضاهي مجموع ما يملكه نصف سكان العالم (11). من ناحية أخرى ينخفض باستمرار ما تقدمه الدول الصناعية من معونة إلى الدول النامية. ففي عام 1994 قدمت ألمانيا، على سبيل المثال، ما يساوي 0.34 بالمئة من مجموع ناتجها القومي الإجمالي، أما في عام 1995 فلم يزد ما قدمته على 0.31 بالمئة، أي أنه أنخفض بمقدار 10 بالمئة (بالمقارنة قدمت النمسا في عام 1995 ما قيمته 0.34 بالمئة). إنها لحقيقة لا تقبل الشك، أن الاستثمارات الخاصة القادمة من البلدان الغنية قد فاقت في هذه الفترة مجموع المساعدات المالية الحكومية، إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه أيضاً هو أن المنتفع الأول من هذه الاستثمارات هو مناطق محدودة من العالم لا غير. ولما كان المجتمع يزداد من الناحية الاقتصادية تفككاً، لذا يعتقد أولئك السكان المرعوبون بأن الخلاص السياسي يكمن في العزلة والإنفصال. ومن هنا فقد تعين في السنوات الماضية إضافة العشرات من الدول الجديدة إلى خارطة العالم، وكان عدد الدول المشاركة في دورة أتلانتا الأولمبية قد بلغ 197 دولة. وها هي إيطاليا، لا بل حتى سويسرا نفسها، قد صارت تخشى من تفكك وحدة ترابها الوطني. فبعد خمسين عاماً من تأسيس الجمهورية الإيطالية صوت خمسون بالمئة من سكان مقاطعتين Ventimiglia و Triest لمصلحة حركة الاحتجاج المسماة “Lega Nord”، والتي يدعو زعيمها “أمبرتو بوسي” (Umberto Bossi) لنسف المحطات التي تبث عبرها مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الوطنية (RAI). لا بل إنه دعا إلى ما هو أكثر من هذا. فقد كان قد أدعى بأنه سيعلن في 15 كانون أول/سبتمبر من عام 1996 عن تأسيس دولة منفصلة عن إيطاليا. وفي مناطق أخرى من العالم تتفكك دول تتمتع بالرخاء. فعلى سبيل المثال تسعى الجزيرتان الكاريبيتان سانت كتس (St. Kitts) ونيفس (Nevis)، إلى الإنفصال وفك عرى الاتحاد الذي جمع بينهما حتى الآن وإن كانا قد عاشا بسلام ووئام” (12).

وفي شهادة دالة، حاول خلالها الصحافي اللبناني المخضرم “سمير قصير” تصوير إنعكاس تأثيرات العولمة الإعلامية على صحافة بلاده مهنياً، في بداية الغزو العولمي للمنظومة الإعلامية اللبنانية أواخر الثمانينيات ومنتصف التسعينيات مواكبة لإنتهاء الحرب الأهلية، ومعاناة الصحافة المكتوبة من منافستها للصحافة التليفزيونية، قائلاً: “فقد أصبحت المنافسة التي تلعبها الوسائل السمعية والبصرية ملحوظة خلال السنوات الثلاث الأخيرة مع إنتشار “الموجات الهرتزية” عن طريق ما لا يقل عن 30 قناة تليفزيونية، مما أضفى على لبنان دون شك ثقلاً هاماً في هذا المجال لا يتساوى معه أي مكان آخر بإستثناء إيطاليا. وفي ظل إطلاق الحريات الاقتصادية فإن هذا الإزدهار التليفزيوني، الذي تغذيه العديد من برامج المنوعات والمسلسلات الأميركية والمكسيكية، قد أمكنه أن يجذب إليه ما يقرب من ثلاث أرباع الميزانيات المخصصة للإعلان، وإن كانت لصالح إثنتين أو ثلاث قنوات، مما أدى بصفة خاصة إلى الحد من حماس القراء تجاه شراء الصحيفة. أما حول موضوع تراجع التسييس أي الأهتمام بالسياسة فإنه يمكن أن نلمس أثره في أن أزمة الصحافة لم تمنع ظهور كتابات لا تمت للسياسة: من برامج موجهة تليفزيونية ومقال عن الديكور وشؤون المرأة. فهذا هو الإتجاه الذي يسير فيه رؤساء تحرير الصحف عندما يريدون زيادة عدد التوزيع أو إسترجاع قرائهم. وقد نتج تدهور الحماس السياسي أساساً عما قامت به الحرب من إزالة الأوهام، وعن فشل الصحافة نفسها، إذ لم تعرف – ولم تقدر على – أن تتناول المشاكل الحقيقية لفترة ما بعد الحرب. ويجب هنا الأخذ في الاعتبار تراجع ظاهرة “المهنية” بما تعنيه من عدم إجادة الإحتراف الصحافي وبما ينعكس على المادة المقدمة وتراجع مستواها” (13).

الفصل الثاني: في التضليل الموظف.. التوجيه في ظل العولمة

في الوقت الذي لا يرى دعاة العولمة الإعلامية، داخل الدول النامية، من آلياتها ونتائجها سوى بريق “حرية الصحافة” الآخاذ لدرجة تحوله على أيديهم وأيدي أغلب نظم حكم تلك الدول الإستبدادي، من مجرد “آلية تنفيذ” داخل منظومة إعلامية متكاملة إلى هدف يتم من أجله تغيير أهداف ومفاهيم الصحافة ورسالتها داخل مجتمعاتها وتطويع وتمييع آلياتها وأدواتها الحرفية من أجل أثباته وتحقيقه فحسب، لدرجة نجد معها كاتب صحافي مصري يوضح سر خلافه على الرؤية التي ينتظرها النظام المصري الحاكم حالياً من الصحافة والإعلام المحلي بأنها نفس الرؤية التي أرادها حكم “جماعة الإخوان المسلمين” اللاحق عليه، وهو دور “يريدونه تنموياً توعوياً، (بالضبط كما أسمع الآن)، وكنت أذكرهم أن دور الإعلام هو الإخبار بالحقيقة، أياً ما كانت هذه الحقيقة. وأن الإعلام الحقيقي هو الذي «يفضح» الحقيقة، وليس الذي يخفيها. هذا بالضبط ما فعله سيمور هيرش عندما فضح جرائم الجيش الأميركي في فيتنام، فكان أحد أسباب نهاية الحرب الفيتنامية. وهكذا فعل بوب وودوارد عندما فضح ما فعله الحزب الحاكم بأسس الديموقراطية الأميركية «فضيحة ووترغيت». فأرغم الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون على الاستقالة.. أكرر: لا دولة قوية بلا ديموقراطية وشفافية، ولا شفافية وديموقراطية دون إعلام حقيقي وحرية تعبير.. لسنا بصدد اختراع العجلة” (1).

وفي مقال مطول، غير ممهور بتوقيع، نشرته منظمة “صحفيون ضد التعذيب” JATO.EGY، حاولت خلاله تصوير وضع المنظومة الصحافية داخل مصر قائلة: “المعضلة ليست فقط في بيئة اجتماعية ونظام لا يحترم الصحافي، المشكلة أكبر من ذلك، ولتبسيطها يمكن عقد مقارنة بسيطة بين القوانين التي تتحدث عن حرية الصحافة والإعلام عمومًا في مصر، وبين نظيرتها في الدول المتقدمة على سبيل المثال أميركا. لو كنت صحافيًا في الولايات المتحدة الأميركية، فبخلاف الميزات المتعلقة بالراتب الذي يتجاوز عشرة أضعاف ما يحصل عليه الصحافي في مصر، فإن هناك قانونًا حقيقيًا ورغبة صادقة من أجهزة الدولة في أحترام حرية الصحافة، التي بالمناسبة تتجاوز كثيرًا. على النقيض في الدول المتقدمة، فبينما تتحرك دبابات الجيش العراقي لتطوق مدينة بغداد عام 2003، كانت أصواتًا في الصحافة الأميركية تنتقد جيش بلادها إنتقادًا لاذعًا، طبعًا بخلاف الرسوم الكاركاترية التي تسخر من المسؤولين عندما يخطئوا دون خوف، لتكون النتيجة فوز الإعلام الغربي بثقة جمهوره، فيما تظل وسائل الإعلام المصرية تجبر محرريها على السعي وراء “الترافيك”، بل وصلت مصداقية الصحف ووكالات الأنباء، أنها أصبحت تستطيع الوصول إلى معلومات حول حادثة وقعت في مصر قبل وسائل الإعلام المصرية، التي باتت تعتمد بنسبة كبيرة على البيانات الرسمية، تجلى ذلك في حادث سقوط الطائرة الروسية، فالخبر الأول والصورة الأولى والفيديو الأول، كان أصحابه هم الوكالات الأجنبية” (2).

وهكذا، يتم خلط جميع الأوراق وتمييع كافة مباديء ومفاهيم المنظومة الإعلامية على أيدي دعاة “حرية الصحافة” بمفهومها العولمي، والأميركي منه تحديداً، لكي يكيفونها ويصبونها في صالح مبدأ عادل كحرية الصحافة، يتم إستغلاله زوراً، وهو يمثل آلية لا يمكن الإستغناء عنها لعمل منظومة كاملة تستهدف الإستقلال عن كافة المؤثرات والضغوطات السلطوية من نظم حكم سياسية محلية أو رأس مال ممول، لكي تؤدي دورها التنموي في مجتمعها وتثري وعيه وثقافته. آلية الحرية للعمل الصحافي يتم إنتزاعها نزعاً عبر كفاح نقابي حقيقي مستقل وحر عن أي سلطة غير العاملين بالمهنة.

تأتي تلك الآراء والمفاهيم المغلوطة حول الرسالة المجتمعية للصحافة، على أرضية العولمة الإعلامية التي شرعنت وسهلت بآلياتها وفلسفتها الشمولية توظيف أدوات ومهارات صحافة دول العالم – ودول العالم الثالث منه خاصة – لصالح سياسات الدول الغربية المتقدمة والولايات المتحدة الأميركية، فتم إغتيال الحقيقة وأستُمريء التلاعب بالعقول وتغيب الوعي المجتمعي بالمصالح الحقيقية لشعوبها، بمغالطة وخلط المفاهيم والمباديء الفلسفية لمهنة الصحافة لتصبح بيئة خصبة لتوليد السيولة الإعلامية السلبية عبر الدمج، الممنهج في حقيقته والتلقائي في ظاهره، بين المعلومة والرأي بهدف التضليل أو التعمية وتغييب الرأي العام، تلك المنهجية التي تنشط وتظهر تحركاتها جلية أثناء الأزمات المجتمعية الكبرى من ثورات أو حروب أهلية أو صراعات عرقية … إلخ.

التوظيف الممنهج للأدوات الإعلامية:

بعد مرور أكثر من أحدى عشر عاماً، على الثورة الإعلامية والثقافية العارمة التي إهتاج بها العالم أثر أزمة “الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد” التي أصدرتها وتصدرتها صحيفة (الغيلاندز بوستن) الدنماركية، قام “د. تييري ميسان” المفكر الفرنسي رئيس ومؤسس شبكة “Réseau Voltaire” ومؤتمر محور للسلام، بنشر تحقيق مدعم بالوثائق والمعلومات يرصد القضية ويكشف جوانب أخرى خافية لجميع أطراف الأزمة، حتى بعد دخول صحيفة (شارلي إبدو) الفرنسية على خطها في أزمتها الأولى عام 2007. يقول ميسان: “أن القضية في مجملها ركّبت بعناية فائقة حتى يثار بعضنا على البعض الآخر بطريقة إصطناعية”، مؤكداً على أن يومية (غيلاندز بوستن) كانت أكثر الجرائد توزيعاً في الدانمارك. وسبق لها قيادة حملة عنيفة ضد المهاجرين قبل ثلاث سنوات من أزمة الرسوم، إستهدفت خلالها الإسلام مدعية بأنه لا يتماشى والديموقراطية وأن المسلمين ليسوا قابلين للإندماج داخل المجتمع الدانماركي. ولقد كان الهدف الأساس من كل ذلك هو إعادة إنتخاب التحالف الحكومي الذي يقوده “أندرياس فوغ راسموسن”. لقد أطاح التحالف الليبرالي – المحافظ بالإشتراكيين الدوليين الديموقراطيين الذين أحتكروا الساحة السياسية على مدى 80 سنة. التحالف تبنّى سياسة جامحة مبنيّة على الخصخصة والإنفتاح الليبرالي المتوحش. معتمداً على تقنية إنتخابية كلاسيكية, ولتهدئة المواطنين الذين لم يستحلّوا فظاعة التغييرات تلك, حاول “أندرياس” تغيير وجهة الحوار في الشؤون الاجتماعية إلى تسميّة أكبشة الفداء: “الأجانب”.

ويمضي “ميسان”، موضحاً التحالفات والمصالح الحقيقية لأطراف الأزمة: “لقد أنيطت مهمة تنظيم مباراة الرسومات الكاريكاتورية إلى المسؤول عن الملحق الثفافي للجريدة “فليمنغ روز”. والرجل يعرّف نفسه كـ”يهودي صهيوني”، فضل الفرار إلى الولايات المتحدة عوض الإستغاثة بشرطة بلاده حين تلقى تهديدات بالقتل جراء نشر الرسوم الكاريكاتورية موضوع النقاش. وهو أحد الأصدقاء المقربين لمنظّر المعاداة للإسلام “دانييل بايبس”، صاحب المقولة الشهيرة: “ليس كل المسلمين بإرهابيين, لكن كل الإرهابيين مسلمون”. وبناءاً على القاعدة هذه, فإنه ينادي برقابة بوليسية منهجية على جميع المسلمين في الولايات المتحدة وأوربا. غير أن آخر منشورات “روز” تذهب أبعد من ذلك بكثير, إذ توحي بأن كل المسلمين إرهابيين بالقوة. “ميريت إلدروب”, مديرة جريدة الـ (غيلاندز بوستن), هي زوجة “آندرز إلدروب” مدير الشركة الوطنية للهيدروكربون، “دانيش أويل أند ناتشرل غاز”. ولقد دأب السيد “إلدروب” ومعه الوزير الأول الدانماركي, منذ خمس سنوات, أي مباشرة بعد وصول التحالف الليبرالي – المحافظ إلى الحكم, دأبا على المشاركة في الاجتماعات السنوية لمجموعة “بيلدربورغ”. وهو ناد خاص منبثق من حلف الشمال الأطلسي, الذي يدعو إليه ويسلّح فيه رسل أميركا في القارة الأوروبية”.

“أيضاً “أندرياس فوغ راسموسن”، (الوزير الأول)، كان ولوقت طويل رجل واشنطن في البلاد. ولقد بلور, كوزير للخارجية ونائباً للوزير الأول ما بين 1982 و1993, مذهباً أطلق عليه إسمه والذي بموجبه يستطيع بلد صغير كالدانمارك لعب دور كبير على الساحة الدولية عبر فتح المنافذ أمام الولايات المتحدة. كما أن كتاباً أصدره الصحافي “توغر سيدنفادن” (هو نفسه عضو في مجموعة “بيلدربورغ”) والمؤرخ “رون إنغلبرت لارسن”, بناءاً على 400 وثيقة رسمية, يبرز بأن الوزير الأول استثمر كل جهوده لأجل إختلاق الأزمة. هكذا كذب على الرأي العام الدانماركي مقنعاً إياه بأن سفراء الجامعة العربية يطالبون بفرض رقابة دينية حين سعوا إلى لقائه. أما الهيئة الأوروبية ضد الميز العنصري، (تابعة للمجلس الأوروبي وليس للاتحاد الاوروبي)، فلقد عبرت في تقريرها السنوي حول الدانمارك عن “قلقها الكبير” حيال إنتشار “جوّ من عدم التسامح وكره الأجانب بخصوص اللاجئين السياسيين وطلبة اللجوء السياسي, ثم الأقليات بشكل عام والمسلمين بشكل خاص”. وهي تحمّل مسؤولية الوضع ذلك للوزير الأول والحزب الشعبي الدانماركي, الموالي للتحالف الحكومي. كما أدانت الهيئة الأوروبية التساهليّة في تطبيق القوانين الكفيلة بردع الميز العنصري. والحال أن الوزير الأول لم يكن يرغب في وضع حدّ لأزمة الرسومات الكاريكاتورية لأنها تخدم مصالحه السياسية عبر تعميق الهوة بين الحضارات”.

أما عن الجانب الآخر من الأزمة فكان ممثلاً في المنظمات الإسلامية في الدنمارك، وقد أكد الباحث على اجتماعها لبلورة ردّ فعل مشترك حيال الأزمة مباشرة، وكان من ضمن فاعلياته مبادرة “عدد من المشاركين في هذا التجمّع إلى تنظيم مظاهرات أمام سفارات الدول الإسلامية في كوبنهاغن, بقيادة إمام الجمعية الإسلامية في الدانمارك “أحمد أبولبن”, وزميله “أحمد عكاري”, الذين عيّنا أنفسهما متحدثين باسم هيئة أوروبية للدفاع عن النبي. الهيئة التي تم تأسيسها لهذه المناسبة. فكان هدف الإمامين توسيع الحوار ليشمل كلّ جوانب الميز العنصري التي يعاني منها المسلمون في الدانمارك. ولبلوغ هدفهما, قاما بتحضير ملف من 43 صفحة مرفق برسومات كاريكاتورية تضمنت تلك التي نشرتها الـ (غيلاندز بوستن)، بالإضافة إلى رسوماً أكثر إهانة من تلك التي نشرتها الـ (غيلاندز بوستن). كان كافياً لتعبأة العديد من السلطات العربية والإسلامية, مدنية كانت أو دينية. خاصة وأن مضامينه هي التي أقنعت الرأي العام المسلم بأن الرسوم الكاريكاتورية تجسد الرسول محمد. كما باشر “أبولبن” و”عكاري” جولة دولية إلتقيا خلالها بالأمين العام للجامعة العربية والمفتي الكبير للقاهرة ومدير جامعة الأزهر ومفتي بيروت والشيخ “فضل الله” عن “حزب الله” والكاردينال “سفير” ثم مفتي دمشق. الرحلة التجوالية تلك كان فيها ما يدعو إلى الدهشة, إذ من المفروض أن “أبولبن” ممنوع من ولوج الإمارات العربية المتحدة والأراضي المصرية. فالرجل هو واحد من قادة حركة “حزب التحرير”، الذي ليس له مكان في قلوب القوميين العرب. نظراً لإيديولوجيتها الأصولية الرامية لهدم كافة نظم الحكم العربية لصالح إقامة وإعادة الخلافة العثمانية، وتتخذ من لندن مقراً رئيساً لها منعمة بحماية بوليسية هائلة. والأدهى من ذلك هو أن أهم قادة الحزب، المتواجدون في لندن، يتقاضون راتباً يضاهي ما يتقاضاه كوادر الشركات الأنغلو سكسونية العابرة للقارات. ولها صلات واسعة بالمخابرات المركزية الأميركية.

ويختتم “تييري ميسان” تحقيقه البحثي، بفقرة تقريرية أجمل فيها أزمة شغلت الرأي العام الدولي على مستواه الإعلامي والثقافي، قائلاً: “يتضح ممّا سبق أن جميع أبطال القضية التي أمامنا تعمّدوا الكذب بشكل أو بآخر (الـ”غيلاندز بوستن” بخصوص مقاصدها, والوزير الاول الدانماركي فيما تعلّق بمطالب السفراء العرب, والجمعية الإسلامية في الدانمارك حول طبيعة الرسوم الكاريكاتورية, ثم “أبولبن” بصدد إلتزامه السياسي). كما رفع الحجاب عن حقيقة مفادها أن روابط وثيقة تجمع بين أولئك الأبطال أنفسهم والإدارة الأميركية, أي المشجّع والدّاع الأول إلى “صراع الحضارات” (3).

كما أكد، على جانب آخر، “مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، في أحدث دراساته، على أنه: “في ظل تصاعد حدة الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات عديدة، تم إستدعاء نموذج “الإعلام الحربي” مرة أخرى ليظهر في واجهة أنماط الإعلام المتنوعة في المنطقة، نظرًا لحاجة الأطراف الرئيسة في تلك الصراعات إلى تأكيد قوتها ونفوذها في مناطق الصراع، وحشد مؤيدين لمواقفها وسياساتها. لكن على الرغم من تزايد دور “الإعلام الحربي” في التأثير على الصراعات من خلال قدرته على توجيهها وإستقطاب تأييد الرأي العام؛ إلا أنه ساهم، إلى حدٍّ كبير، في تفاقم حالة الإنقسام التي تُعاني منها مجتمعات كثيرة من دول الإقليم، كونه في الأساس أحد أنواع الإعلام “الموجه” الذي غالبًا ما يتسم بالتحيز وإتخاذ مواقف مسبقة، والدفاع عن إيديولوجيا معينة، فضلاً عن أنه يُعد أحد أدوات الحروب النفسية، نظرًا للدور الذي يقوم به في حشد القوى المؤيدة، وإستمالة الأطراف المحايدة، أو تلك التي لم تحسم ‏مواقفها بعد من أزمةٍ أو صراعٍ ما”.

وتوضح الدراسة نماذج متعددة للإعلام الحربي، الذي تزايدت الإستعانة به خلال الفترة الماضية، عبر إطلاق قنوات جديدة ومواقع إليكترونية وحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحويل مسارات بعض القنوات العامة والخاصة لخدمة هذا الهدف. وذلك في ظل الأزمة السورية التي أبدت أطراف الصراع فيها إهتمامًا حريصاً عليه. “فقد جند النظام السوري القنوات الرسمية في التليفزيون لهذا الهدف، وهو الأمر ذاته الذي إنتهجته المعارضة الداخلية والخارجية من خلال الإستعانة بقنوات تليفزيونية مثل قناتي (سوريا الشعب) و(سوريا 18 آذار)، بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي. ولتحقيق الهدف ذاته، قام تنظيم “داعش” بتوظيف عدة مؤسسات إعلامية تقع في مناطق سيطرته في العراق وسوريا مثل (أجناد)، و(الفرقان)، و(الإعتصام)، و(قناة الحياة)، و(إذاعة البيان)، ومجلة وموقع (دابق)، وعدد كبير من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي”.

“ويُلاحظ أن تجربة العراق مع “الإعلام الحربي” قد تبلورت مع ظهور ميليشيا “الحشد الشعبي”، التي حرصت على الإستعانة بمنصات إعلامية موالية لإيران، وإطلاق أخرى، فاستخدمت قنوات مثل (الأنوار)، و(العهد)، وغيرها، إلى جانب مواقع إلكترونية مثل (كتائب الإعلام الحربي)، وصفحة (كتائب الإعلام الحربي الداعم لنداء المرجعية الدينية) على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك). وفي ليبيا، يلاحظ أن ثمة نشاطًاً ملحوظًاً لـ “الإعلام الحربي”، الذي لا يقتصر فقط على وسائل الإعلام المرئية؛ حيث تبرز مجلة (المسلح) التي تتصدر المشهد الإعلامي العسكري الليبي، وتركز على التعريف بالمؤسسة العسكرية الليبية محليًّا ‏وعالميًّا، وكذلك مجلتا (الأفق) و(التدريب)، إلى جانب البرنامج الإذاعي (‏نسور الجو)، فضلاً عن عدد من المواقع ‏الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي. وفي اليمن، تقوم القنوات التي يُسيطر عليها الحوثيون بالدور ذاته، لا سيما قناة (المسيرة)، إلى جانب مواقع إلكترونية كثيرة تعمل في هذا الإطار. بينما يظل إعلام المنظمات الفلسطينية، بقنواتها التليفزيونية ومواقعها الإلكترونية وحساباتها على صفحات التواصل الاجتماعي، النموذج التقليدي الدائم لـ”الإعلام الحربي” الساعي إلى حشد الرأي العام وحضه على تبني مواقفها، على غرار موقع (الإعلام الحربي لسرايا القدس)، التي تمثل الجناح العسكري لحركة “الجهاد الإسلامي”.

ويرصد المركز البحثي، التطور الكبير الذي طريء على شكل وأسلوب “الإعلام الحربي” خلال السنوات الماضية، من خلال عدة مؤشرات:

1-      آليات مختلفة: مثلت تطورًا واضحًا في الأسلوب والآليات المستخدمة في إيصال رسائل محددة للمتلقي؛ إذ لم تعد تقتصر على تصوير العمليات العسكرية، والتركيز على الإنتصارات وتضخيمها. على خلاف إعتماد “الإعلام الحربي” التقليدي قديماً؛ على تقزيم العدو أو الطرف الآخر المنافس. وفي هذا السياق، ظهرت مقاطع الفيديو الخاصة بعمليات القتل التي يقوم بها تنظيم “داعش” في القنوات السورية الموالية للنظام، وكذلك في القنوات التابعة لميليشيا “الحشد الشعبي” في العراق، إلى جانب وسائل الإعلام الإيرانية. لتبرير إنخراطها المستمر والمباشر في الصراعات المسلحة العابرة للحدود.

2-      قضايا جديدة: إمتد تناول “الإعلام الحربي” للحديث عن مهددات الأمن القومي للدول، وهو ما كان محظورًا في السابق أيضًا، حيث ظهرت العديد من البرامج الحوارية التي تناقش قضايا الأمن القومي وما يتعرض له من تهديدات، لا سيما الإرهاب، الذي لم يعد يتم التعتيم على عدد ضحاياه وقدرته على إختراق الداخل، بل الكشف عن ملابسات العمليات الإرهابية بات أحد أهداف هذا النمط من الإعلام، وذلك من أجل تهيئة الرأي العام لتأييد جهود محاربته، والمساهمة في تحجيم قدراته، إعتمادًا على فكرة مفادها أن إستقرار الدول والشعوب يتوقف على مدى إدراك حجم المخاطر ‏والتهديدات التي تستهدفه أمنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

3-      تكنولوجيا متطورة: إستفاد “الإعلام الحربي” من التطور الذي شهده قطاع الاتصالات في العالم، فلم يعد يقتصر على تغطية أخبار الحرب في الصحف، والقنوات الفضائية، حيث إنتشرت صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بوسائل “الإعلام الحربي”، فنشطت صفحات مثل (فريق الإعلام الحربي) التابعة لميليشيا “الحشد الشعبي” على موقع (تويتر)، والتي تحظى بمتابعة 104 آلاف متابع نشط، وكذلك (الإعلام الحربي للجيش اليمني واللجان الشعبية) على موقع (فيس بوك)، والتي حملت شعار “معًا نحو ساحات التعبئة والجهاد” ويتابعها 44.499 متابع.

4-      مجال واسع: على الرغم من أن وسائل “الإعلام الحربي” عادةً ما تكون تابعة إما لدولة أو طرف واحد، فإنه يُلاحظ أن بعض المواقع الإلكترونية قد تخصصت في تقديم نمط “الإعلام الحربي” بتوسع لا يقتصر على دولة واحدة، أو على مواجهة عدو واحد، وهو ما يبدو واضحًا في وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية التي تهتم بنشر أخبار وتقارير عن الصراعات المسلحة في دول الأزمات في المنطقة.

5-      مهام عديدة: إتسعت مهام “الإعلام الحربي” لتشمل تعزيز “الأمن الثقافي” للمجتمعات، من خلال نشر ثقافة الوعي بإجراءات السلامة والوقاية، ومحاولة إزالة ‏الرهبة من النفوس بالتهيئة والإعداد لإحتمالات الصراع المسلح، وهو ما ظهر جليًّا – على سبيل المثال – من خلال تغطية وسائل الإعلام الروسي بشكل مكثف لإحتمالات إندلاع حرب عالمية ثالثة؛ حيث نشرت قناة (روسيا 24) الإخبارية تقريرًا حول تحضير ملاجيء للحماية من ضربات نووية في موسكو وسان بطرسبرغ، كما تناول موقع مجلة (فونتانكا) الروسية أخبارًا عن إمكانية قيام حاكم المدينة بتقنين الخبز إستعدادًا لحرب مقبلة” (4).

إذاً فإستدعاء الأحداث المتصاعدة التي تلتهب بها المنطقة ودول العالم خلال السنوات الماضية وحتى الآن، لهذا النمط من “الإعلام الحربي”، لكي يعمل على فرض قضايا بعينها على الساحة الإقليمية والدولية من شأنها التأثير على مجريات الأحداث وتطوراتها، لا ينتج سوى تضليل للرأي العام.

وهنا يظهر “د. تييري ميسان”، أيضاً، ليدلي بدلوه في كشف التضليل الإعلامي الذي مارسه “الإعلام الحربي” من خلال بعض القضايا الحدثية، وخاصة ما يتعلق بالأزمة السورية، حيث أكد على أن البريطانيون قد تكفلوا في نهاية عام 2013 بملف الدعاية للحرب على سورية، “نظراً لباعهم الطويل في هذا المجال. فهم يٌعتبرون أهم المخترعين لطرق الدعاية الحديثة إبان الحرب العالمية الأولى، من خلال مكتب بروباغندا الحرب. لعل أحد أهم سمات أساليبهم، هي إعتمادهم بشكل خاص على الفنانين، لأن عنصر الجمال يٌلغي النزعة إلى النقد. عندما أعتمدت الولايات المتحدة عام 1917 أسلوب البريطانيين عبر لجنة الإعلام الرسمي، قامت بإجراء دراسة أكثر دقة على آليات الإقناع، بمساعدة النجم الصحافي “والتر ليبمان”، إضافة إلى مخترع الدعاية الحديثة، “إدوارد بارنيز”، (أبن شقيقة سيغموند فرويد). ونظراً لقناعتهم المطلقة بسطوة العلم، أهملوا العنصر الجمالي في التعاطي مع الصورة. في بداية عام 2014، أنشأ جهاز الإستخبارات البريطانية (أم 16)، “شركة الاتصالات والاستراتيجيات المبتكرة”، والتي تدين لها كل المجموعات المسلحة، من أكثرها “إعتدالاً” إلى أكثرها “تطرفاً”، بشعاراتها البراقة على سبيل المثال. نظمت هذه الشركة، التي تتمتع بمكاتب في كل من واشنطن وأسطنبول، حملة الدعاية لإقناع الأوروبيين بإستقبال وإيواء مليون لاجيء. وهي التي صممت صورة الطفل “أيلان” الكردي، الذي عٌثر عليه غريقاً فوق أحد شواطيء تركيا، وتمكنت في غضون يومين من جعل الصورة تحتل صدر وسائل الاعلام الكبرى لدول حلف شمال الأطلسي، ومجلس التعاون الخليجي، على حد سواء. صورة “أيلان”، كانت تنطق بكثير من عناصر الجمال. تم الإعتماد على تقنيات الفوتوشوب، تلبية لإحتياجات جمالية الصورة”.

“أما صورة الطفل “عمران دقنيش”، ابن الخمس سنوات، من داخل سيارة إسعاف في شرق حلب، فقد ترافقت مع شريط فيديو، يسمح هو والصورة بدغدغة مشاعر وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية على حد سواء، لدرجة أن مذيعة محطة (سي. إن. إن) لم تستطع حبس دموعها على الهواء من شدة مأساوية المشهد. غير أن التفكير هنيهة بالصورة يجعلنا نلاحظ أن الطفل “عمران”، لم يكن بين أيدي طاقم طبي، من المفترض أن يقدموا له الإسعافات الأولية، بل ممثلون من رجال “الوايت هيلمز”، (القبعات البيضاء)، الذين يؤدون دور المسعفين الطبيين، أمام عدسات التلفزة. هذا ما يؤكد أن الطفل لا يعني للمخرجين البريطانيين شيئاً، سوى أنه مادة لإنتاج صور جمالية. وفقاً لوكالة (أسوشيوتد برس)، صاحب اللقطة الصحافية هو المصور “محمود رسلان”، الذي يظهر في شريط الفيديو. لذلك، ووفقاً لصفحته على الـ (فيس بوك)، يتضح أن المصور “رسلان” عضو في حركة “نور الدين زنكي”، المدعومة من وكالة الإستخبارات المركزية، التي زودت الحركة الإرهابية بصواريخ (تاو) الأميركية الصنع، المضادة للدبابات والمروحيات. ووفقاً لشريط فيديو منشور في صفحته على الـ (فيس بوك) أيضاً، يتبين لنا أنه هو الذي نفًذ في 19 تموز الماضي، (2016)، جريمة ذبح الطفل الفلسطيني “عبدالله تيسير العيسى”، أبن الأثني عشر ربيعاً في شرق حلب. القوانين الأوروبية تنظم بشكل صارم دور الأطفال في الإعلانات، لكنها على ما يبدو غير معنية بدورهم في بروباغندا الحرب” (5).

في دراسته الأخيرة المعنونة “الألعاب الإلكترونية، الإرهاب، والجهاد الداعشي 0.3″، يجيب “أحمد الراوي”، الأستاذ المساعد بقسم دراسات الاتصالات في جامعة “كونكورديا” بكندا، على تساؤل هام: “كيف ينجح تنظيم الدولة الإسلامية في تجنيد كل هؤلاء الشباب الغربي ؟.. وما هي الأدوات الإعلامية المستخدمة في ذلك ؟”؛ من خلال بحث الإستراتيجيات الإعلامية المختلفة التي يتبعها تنظيم “داعش”، بالتركيز على الألعاب الإلكترونية التي أطلقها التنظيم ومحاولة فهم كيف أستقبل الجمهور العربي من مستخدمي الإنترنت لعبة مثل “صليل الصوارم”؛ وإلى أي مدى ساهمت في إجتذاب جمهور الشباب ؟.

يشير الباحث إلى أن الإستراتيجيات الاتصالية التي يستخدمها تنظيم “داعش” تعتمد على “إستخدام نهج متعدد الأبعاد والمنصات، بما يستهدف “الأصدقاء والأعداء” في وقت واحد لتعزيز نطاق وأهمية وصدى رسائل التنظيم، والعمل على تحقيق التزامن بين القول والعمل لتعظيم الآثار التشغيلية والإستراتيجية في هذا الإطار؛ مع الإحتفاظ بمركزية الدولة الإسلامية “كعلامة تجارية” في إطار حملتها الإعلامية”.

وتؤشر أعداد المقاتلين الذين ينضمون لـ”داعش” على نجاح تلك الإستراتيجية بشكل فعَّال، نظرًا لكون التنظيم يعتمد النسخة المتشددة من الإسلام لتسويق أفكاره ومعتقداته؛ بدايةً من العلم الأسود رمز التنظيم، وكذلك اسم التنظيم نفسه، وأيضًا حكم التنظيم في المناطق التي تقع تحت سيطرته بواجبات وإلتزامات الإسلام المحافظ، ومن أبرز ملامح الإستراتيجية الاتصالية لتنظيم “داعش” ما يلي:

1-      نصير المضطهدين: يُنصِّب التنظيم نفسه مدافعًا عن المسلمين السنَّة في العالم، معتمداً خطاباً إعلامياً يدعي دومًا إضطهاد السُنَّة من جانب القوى العالمية، بالإضافة إلى أنه يسعى لإظهار صورته بكونه جماعة متوحشة تدافع عن الإسلام ضد الكفار والذين يمثلون أي أحد يحارب الإسلام في وجهة نظرهم.

2-      دعم الأعمال الخيرية: لا يكتفي التنظيم بإظهار الجانب الحربي والوحشي من عقيدته، بل يسعى لإظهار الجانب الخيري من خلال نشر الصور التي تُظهر أفراد التنظيم وهم يساعدون كبار السن أو تنظيم الحياة في المدن التي تقع تحت سيطرتهم. مستهدفاً توصيل رسالة أنه يسعى لتحقيق رفاهية المواطنين لا قتلهم.

3-      منصات دعائية متنوعة: يستخدم التنظيم الدعاية والتضليل لنشر أفكاره لأكبر عدد من الناس  بلغات مختلفة، فضلاً عن أنه يوِّظف مراكز إعلامية متعددة، فضلاً على أن بعض التقديرات تشير إلى أن التنظيم يمتلك حوالي 46 ألف حساب على موقع (تويتر) لنشر أخباره؛ يتركز أغلبهم في سوريا والعراق والسعودية.

ويستخدم “داعش” منصات دعائية أخرى؛ حيث أصدر في عام 2014 تطبيق على نظام “أندرويد” يسمى (فجر البشائر) تستخدمه حسابات (تويتر) لنشر التغريدات الخاصة بالتنظيم، فضلاً عن إستخدام شبكات محلية أخرى مثل: “Diaspora Friendica, Quitter, Justpaste, Ask.fm, Soundcloud, and Mixlr” بعد أن تم غلق حسابات التنظيم على (تويتر) بقرار من وكالة إنفاذ القانون الأوروبي “Europol”.

“لا يعد إستخدام الألعاب الإلكترونية في الدعاية النفسية وترويج الأفكار والإستقطاب أمراً جديداً، فعلى سبيل المثال قامت أحد الشركات الأميركية بإنتاج لعبة تسمى “الخلية المنشقة” (Splinter (Cell، وتدور حول هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، كما تم إنتاج لعبة تسمى الضربة المضادة (Counter Strike)، وتسمح للاعب بممارسة دور مكافح الإرهاب ودور الإرهابي أيضاً، وقد تم إعداد هذه اللعبة بهذه الطريقة بناءاً على دراسات نفسية متعمقة. بينما قام تنظيم “القاعدة”، في عام 2006، بإنتاج لعبة تسمى “البحث عن بوش” (Quest for Bush)، ويقوم فيها اللاعب بقتل الجنود الأميركيين والقبض على “جورج بوش” وقتله، كما قام “حزب الله” بنشر بعض معتقداته عن طريق ألعاب الفيديو مثل: “لعبة قريش” (Quraish)، و”تحت الحصار” (Under Siege)”.

ويسلط الباحث الضوء في هذه الدراسة على لعبة “صليل الصوارم”، التي يُزعم أنها من إنتاج تنظيم “داعش”، إلا أن الكاتب أشار إبتداءاً أنه من غير الواضح أيضًا من الذي طوَّرها خاصة في ظل وجود العديد من الروابط لنفس اللعبة.

“بيد أنه من المؤكد أن الفيديو التوضيحي التقديمي للعبة لم يتم إنتاجه بواسطة المراكز الإعلامية للتنظيم، لأنه يحتوي على موسيقى دعائية، وهو ما يتنافى مع العقيدة الداعشية التي تحرِّم الموسيقى والألعاب لكونها تشتت إنتباه المؤمنين عن الصلاة والإيمان، ويعني ذلك أن اللعبة تم صنعها بواسطة أنصار داعش، وفي الغالب خارج نطاق أقاليم السيطرة الداعشية”.

إعتمدت الدراسة منهج تحليل المضمون في قراءتها التفصيلية لمقاطع الفيديو حول اللعبة والتعليقات الواردة عليها على موقع (يوتيوب)، خارجة ببعض النتائج الهامة:

1-      بلغ إجمالي عدد المشاهدات للفيديوهات العشرة (286.688 مشاهدة)، وكان أعلى الفيديوهات مشاهدةً فيديو ساخر من “داعش” واللعبة؛ أعدَّهُ فنان عراقي كوميدي على غرار “جون ستيوارت” و”باسم يوسف”؛ حيث وصل إجمالي عدد مشاهداته إلى (119.861 مشاهدة).

2-      فيما يتعلق بالفيديوهات التي تتناول التنظيم واللعبة؛ كان عدد الفيديوهات الإيجابية تجاه التنظيم أعلى من نظيرتها السلبية والمحايدة؛ حيث وصفت تلك الفيديوهات الإيجابية التنظيم بأنه: “الدولة التي يجب أن تستمر إلى الأبد” أو”الدولة التي تتبع الطريق الصحيح للنبي محمد”.

3-      بلغ إجمالي عدد التعليقات الواردة على جميع الفيديوهات (397 تعليق) شاملة الردود على التعليقات، وبعد إستبعاد الردود الشخصية، التي ليس لها علاقة بالموضوع، تم، فعليًا، تحليل (199 تعليق)؛ وقد غلب الإتجاه السلبي بين المتصفحين بنسبة 57.2% تجاه “داعش” واللعبة؛ حيث تركزت معظم الإنتقادات في كون “داعش” لا يعبر عن الإسلام، كما أشار بعض المتصفحين إلى أن تلك اللعبة هي لعبة أميركية مشهورة ويمكن لأي شخص لديه خبرة محدودة في البرمجة إجراء تعديلات على اللعبة وحتى شكل الشخصيات الواردة بها. فيما جاءت نسبة 33.6% من التعليقات إيجابية تجاه التنظيم واللعبة، ونسبة 9% محايدة؛ لا تؤيد أي الإتجاهين.

بلغت معدلات الإعجاب بالفيديوهات نسبة 31.5% من إجمالي المشاهدات، فيما جاءت معدلات عدم الإعجاب نسبة 86.5%. وبرغم غلبة التعليقات السلبية ضد “داعش”؛ إلا أنه ظهر إتجاه بين المتصفحين المؤيدين والمناصرين للتنظيم يؤمنون بضرورة تأييد “داعش” إلكترونيًا للتعبير عن إخلاصهم للإسلام السُنِّي بزعم أنه يتعرض لهجوم من الشيعة” (6).

كما نشر “مكتب الصحافة الإستقصائية” البريطاني تقريراً في الثاني من تشرين أول/أكتوبر 2016، أوضح فيه أن وزارة الدفاع الأميركية، “البنتاغون”، قد أنفقت نحو 540 مليون دولار بين عامي 2001 و2006 على أنشطة دعائية في إطار حملتها العسكرية ضد الجهاديين في العراق. مضيفاً أن “البنتاغون  كلف وكالة الإعلان والعلاقات العامة البريطانية (بيل بوتينغر) لإنتاج برامج دعائية بتكلفة 120 مليون دولار سنوياً بهدف ملاحقة الجهاديين في العراق. وتم تصنيف تلك العملية كملف “سري للغاية”.

وأفصح “مارتن ويلز”، أحد موظفي الوكالة البريطانية السابقين، عن تفاصيل تلك الصفقة في مقابلة مع “مكتب التحقيقات الصحافية”، بأن شركة الدعاية البريطانية أنتجت أفلاماً لدعم “الانتخابات الديمقراطية في العراق”؛ بتمويل وإشراف مباشر من عسكريين أميركيين. وأخطر ما في هذه الصفقة هو لجوء الشركة البريطانية، بطلب من البنتاغون، إلى تصوير شرائط جهادية مزيفة وإظهارها على أنها تابعة لتنظيم “القاعدة”، وذلك بهدف “صيد الجهاديين” (7).

كما لم يقتصر دور توظيف الأدوات الإعلامية في الصراعات المسلحة أو الحروب الأهلية فقط، وإنما امتد إستغلال وسائل التواصل الجماهيري، “تليفزيون، إذاعة، إنترنت، مواقع تواصل اجتماعي”، في الصراعات السياسية والاجتماعية. يقر “سمير حمدي”، الباحث في الشأن السياسي بتونس، بأنه “مثلما كان للصورة التي روجها الإعلام البديل (فيس بوك) و(إنترنت) دوراً مركزياً في خلخلة منظومات إستبدادية والإطاحة بها أحياناً، فقد لعبت أدوات الاتصال الجماهيري دوراً مركزياً في خدمة القوى الاجتماعية والمالية المهيمنة من أجل إعادة السيطرة على العقول وإستعادة السيطرة على البلد في لحظة موالية”.

“يؤكد “ريغيس دوبراي” أننا نعيش عصر الشاشة، (videosphere)، حيث أصبحت الصورة متداولة، فضلاً عن إكتسابها لسمة جديدة هي الحركة بإختراع التليفزيون والحاسوب والأقمار الصناعية، وأصبح تأثيرها أعمق وأشد، فهي تفرض إيماناً مطلقاً بحقيقة خطابها، فقد تحولت الصورة إلى كيان مرجعي قائم الذات يستمد قيمته من ذاته ولا يحيل إلى شيء آخر. “لذا فقد تفطن أصحاب المصالح ممن تضرر من الثورات العربية الحاصلة، إلى أهمية الصورة وسلطة الشاشات، فالأزمنة المعاصرة هي زمن حكم الصورة أو سلطة الشاشة, ومن هنا كانت الحملات المنظمة للتهيئة للإطاحة بالأوضاع الناشئة أثر التحولات السياسية الجزئية في بعض الدول العربية تعتمد القنوات التليفزيونية أداة لتزييف الوعي وقولبة العقول, فهناك نسبة هامة من الأفراد ممن لا يقرؤون الصحف, أولئك الذين وهبوا أنفسهم جسداً وروحاً للتليفزيون كمصدر وحيد للمعلومات؛ كانوا هم الهدف المركزي لعملية إعادة تشكيل الوعي، وكما يقول “بيار بورديو”: “إن التليفزيون يمارس نوعاً من العنف الرمزي، وهو عنف يمارس بتواطؤ ضمني من قبل هؤلاء الذين يخضعون له وأولئك الذين يمارسونه بالقدر الذي يكون فيه أولئك كما هؤلاء غير واعين بممارسة هذا العنف أو الخضوع له”(8).

وأمتد كذلك التوظيف التضليلي لأدوات ووسائل الاتصال، لأبعد من ذلك لدرجة التوجيه الدعائي على مستوى النشر الثقافي والمعرفي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ثارت خلال شهر أيلول/سبتمبر من عام 2016، بالعاصمة المصرية، ضجة كبيرة على مستوى الأوساط الإعلامية والثقافية، بسبب كتاب لم يكن قد صدر. وذلك بعد أن قامت الفنانة التشكيلية “ياسمين الخطيب” بنشر غلاف كتابها المعنون (ولاد المرة) على شبكة (فيس بوك) فكانت الشرارة لإثارة “قضية” بين أوساط إفتراضية وثقافية، رغم أنه كان عنوان مقال لنفس الكاتبة على الموقع الإلكتروني لصحيفة (التحرير) القاهرية بعنوان: “كل الرجال أبناء مرة”، طرحت فيه سؤالين: “لماذا يعتبر المصريون النداء باسم الأم تحقيرًا ؟”، و”لماذا يعتبر اسم المرأة – أمًا أو زوجة عورة ؟”. من هنا، قرّرت “ياسمين” جمع مقالات من النوع ذاته في كتاب يحمل عنوان (ولاد المرة)، ووضعت إحدى صورها على الغلاف. “أعترض المتابعون على عنوان الكتاب، الذي يعدّ وفقًا للعادات والتقاليد في القاهرة، عيبًا، فمفردة “مرة” المشتقة من “امرأة” محظورة اجتماعيًا. فيما أعترض فصيل آخر، أغلبه من النسويات، على وضع صورة “ياسمين الخطيب” غلافًا للكتاب، خاصة أن محتواه وعنوانه لا يمتّان للغلاف بصلة. اعتبرت النسويات وضع صورة “ياسمين” على الغلاف تسليعًا لجسدها، وأستغلالًا له في الدعاية والترويج، وهي القضية التي يحاربن ضدها طوال الفترة الماضية في إعلانات تجاريّة.. أشهرها حملة دعائية لمنتج غذائي أشتهرت بـ”الداندو”. كان ردّ “ياسمين الخطيب” عبر حسابها الشخصي بموقع (فيس بوك): “الذين هاجموني من خارج الوسط الثقافي بدعوى خدش الحياء، لا لوم عليهم، فهؤلاء يعدّون كتابًا مثل (نواضر الآيك في معرفة النيك) للإمام السيوطي، واحدًا من أقيم كتب التراث، وتخدش حياءهم كلمة “مرة”، وقد رفع القلم عن المجنون حتى يعقل، والذين أستغلوا أزمة الكتاب للخوض في عرضي، لا يستحقون الإلتفات، أما المهاجمون من داخل الوسط الثقافي، أولئك الذين غضوا الطرف عن كتاب لبلال فضل، عنوانه “ما فعله العيان بالميت”، وفيلم لتامر حبيب باسم “واحد صحيح”، ودافعوا بأستماتة عن رواية أحمد ناجي التي أحتوت عبارات جنسية صريحة – وبالعامية المصرية – لنصرة حرية التعبير التي لا يعرفون منها إلا نطقها، بينما أستحلوا عرضي، وأتهموني بضعف الموهبة، لا لشيء سوى أني “مرة”، لهؤلاء أقول، كل كلمة كتبتموها عني، هي بصقة على وجوهكم أنتم، ونقطة نور في صحيفتي.. عار عليكم”.

ظاهرة الشطط الدعائي لمنتجات ثقافية أو إعلامية ضعيفة القيمة وعديمة المحتوى، التي لا تمثل هذه الواقعة سوى مثالاً أحادياً عليها، يتناولها الباحث والكاتب الصحافي، “د. ياسر ثابت”، محللاً جوانبها المهنية ودوافعها النفسية، حاصراً الأمر برمته في حجمه الطبيعي وهو “شهوة الشهرة”. قائلاً: “شهوة الشهرة تستحق.. ومبرر “العنوان بياع” جاهزة في وجه كل من يعترض على الإسفاف وتدهور الذوق العام. فبعد “عندما يتحرك النطع”، وهي مجموعة قصصية للكاتبة هند فتحي، و”وكسة حكايات عايشينها”، للكاتبة مروة الجمل، و”الغطا والحلة” لرحاب هاني، و”عشان السنارة تغمز” لأمل محمود، و”أي كلام بس تمام” للشاعر ولاء الدين فاروق، ها هي عصا ياسمين الخطيب التي ستلتهم أفاعي سحرة فرعون: “ولاد المرة”. الكتاب الموعود، مثالٌ آخر على تحوّل الكتابة إلى وجاهة ورفاهية، ما دام اللغو مقبولًا في حضرة التفاهة. ويؤصل ظاهرة العناوين المبتذلة بغض النظر عن المحتوى ومدى جودته، فإن قضيتنا الآن هي عناوين الكتب وغرائبها التي لا تنتهي، ومحاولات البعض لفت الإنتباه بأي ثمن، فللأسم بريق على الغلاف، والصورة الشخصية خدّاعة.. وبيّاعة. فكرة الزواج كانت محور عدد لا بأس به من تلك العناوين الغريبة. بدأت الظاهرة بـ”المدام مرفوعة مؤقتـًا من الخدمة” لهالة سرحان، إلى “عايزة أتجوز” لغادة عبدالعال، مرورًا بـ”أول سنة جواز” لمنى عمر، وصولًا إلى “أبو الجواز وأيامه السودا” لأميرة بهي الدين، و”اللي خلف ما نمش” تأليف مي أشرف حمدي، و”ستات ورجالة طالع حبابي عينيهم” لريم مراد، وإنتهاء طبعـًا بـ”مبروك المدام حامل” لمنى الكيال” (9).

الفصل الثالث: كيف تكتشف ذاتك وسط المحيط ؟

الإعلام الرقمي وتحريك المفاهيم المهنية:

رغم البداية العسكرية والمناورات السياسية التي أتسم بها تاريخ بداية الأقمار الصناعية والبث غزير الإشعاع – ممتد الموجات لمساكن المواطنين – والذي بدأ تجربته منذ عام 1974 بأوروبا والدول الغربية، وحالت الولايات المتحدة الأميركية دون تعميمه في خضم حربها الباردة مع الاتحاد السوفياتي وقتها، وكذلك شبكة تداول المعلومات العنكبوتية، “الإنترنت”، التي بدأت كشبكة تجريبية للأغراض العسكرية في أوائل الستينيات، ثم تحولت للأغراض العلمية في منتصف الستينيات تقريباً، وتم ربط الجامعات الأميركية على مستوى العالم بشبكة موحدة كانوا يطلقون عليها وقتها “أنترا نيت”، وعند محاولة شركة “آى. بي” لأطلاق الشبكة بشكل تجاري لخدمة الأغراض الاقتصادية الأوروبية والغربية، وقفت المخابرات الأميركية بشدة ضد المشروع حتى أوائل التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ليبقى النفوذ الأوسع للولايات المتحدة على الشبكة حتى اليوم. رغم هذه البداية فانتشار تلك المنظومة الإعلامية والمعلوماتية العالمية بشكلها الكوني حالياً بلا شك قد أدخل الكثير من المفاهيم والأدوات الحرفية وحرك ومازال يحرك العديد من قواعد وآليات مهنة الصحافة الإعلامية.

خلال النصف الثاني من عام 2016، طالبت المفوضية الأوروبية بنصيب عادل لشركات النشر من منصات “الإنترنت” العملاقة. تلك المقترحات التي أستقبلها “ماتياس دوبفنر”، الرئيس التنفيذي لشركة النشر الألمانية “أكسيل سبرينغز”، بإرتياح وترحاب شديدين، مشيراً إلى أن الواقع الراهن يرسم مستقبلاً قاتماً للإعلام التقليدي في ظل السيطرة المتصاعدة لعمالقة الإنترنت. مبدياً تفائله من القواعد الجديدة للمفوضية الأوروبية في ما يتعلّق بحقوق النشر، لأنه سيمنح شركات النشر الحق في المطالبة بعائدات من شركات الإنترنت مثل (غوغل) و(فيس بوك) عندما تستخدم محتواها. مؤكداً على ضرورة أن يتوافق السعي الأوروبي لحل أزمة الإعلام التقليدي والمقترحات التي قدمها، مع مجموعة الشركات التي تسيطر على “وادي السيليكون”، فمن دون هذا التوافق يمكن أن تسير شركات النشر إلى نهايتها المحتومة بالإندثار، والتي تهدد بدورها الديمقراطيات الغربية. شارحاً: “سيكون لدينا إحتكار لتوزيع المحتوى المدفوع بشكل أساسي من المحتوى المُقدّم من مستخدمي الإنترنت، ومن المحتوى المهني من قِبل المعلنين التجاريين. هذا يؤدي إلى إختلاط الشائعات والمعلومات غير المؤكدة مع الحقائق، وهذا الإفتراض في حال تحققه سيكون مؤلماً جداً للديمقراطيات. هذا السيناريو يبدو مقلقاً جداً للمؤسسات الإعلامية الغربية التي توزع أكثر من مليون نسخة يومياً، فكيف سيكون حال المطبوعات العربية التي لا توزع بالأساس سوى بضعة آلاف منها”.

ترجع شراسة دفاع “دوبفنر”، في سبيل حماية شركات النشر، إلى كونه رئيس أكبر شركة نشر في أوروبا، فمنذ أن أستلم منصبه على قمة “أكسيل سبرينغر” في عام 2002، كانت إستراتيجيته إستخدام إيرادات الصحف المطبوعة، لتمويل التوسّع الدولي وعمليات الإستحواذ الرقمية. حيث تعتمد مجموعة “أكسل سبرينغر” على الصحف المطبوعة لتحقيق نحو ثُلث أرباحها. رغم قيامها بترويج الإشتراكات الرقمية.

ويلخص خبراء في الإعلام، على هامش أصداء المعركة، بأن مشكلة الصحف الغربية الأساسية تتمحور في تراجع التوزيع، لذلك فإن مستقبل الصحف العربية يبدو أكثر ضبابية, أزمة المنافسة في العصر الرقمي ستضاعف مشكلات الصحف العربية التي تعاني أساساً من إنعدام ثقة القراء، لذلك لا بديل لديها عن تطوير المحتوى وإبتكار أساليب جديدة لجذب الجمهور. شركة “أكسيل سبرينغر” لا تزال مدعومة من صحيفتيها (بيلد) و(دي فيلت)، الصحيفتان الأكثر مبيعاً في أوروبا. وعلى الرغم من أن التوزيع وإيرادات الإعلانات المطبوعة تتناقص بشكل كبير، إلا أن الصحيفتين لا تزالان تُمثّلان ثلث أرباح شركة “أكسيل” تقريباً، والتي تبلغ 1.5 مليار يورو.

ولا تنسى (غوغل) أن شركة “أكسيل سبرينغر” سبق أن شنت حملات ضغط ضدها في بروكسل، بشكل مباشر وعن طريق رابطة الناشرين الأوروبيين، إلا أن “دوبفنر” ينفي أي حديث عن سيطرته على قرارات المفوضية الأوروبية، وما يجري الترويج له بأن المفوضية الأوروبية تستهدف شركة “آبل” بالقضايا الضريبية كأجندة مناهضة ضد الولايات المتحدة. يقول “ماتياس دوبفنر”: “نحن لا نملك قدرة المبادرة، غوغل ليست في حاجة إلينا، أما نحن ففي حاجة إلى غوغل، كما أن الإشتراكات على الإنترنت لصحيفة بيلد ودي فيلت تنمو تدريجياً، حيث وصلت إلى 400 ألف مشترك للصحيفتين” (1).

ويتحدث “ديفيد بوند” و”غاي شازان”، في تقريرهما لـ (فاينانشيال تايمز)، أن “دوبفنر” سبق أن عبر عن مخاوفه لـ”إريك شميدت”، رئيس مجلس إدارة (غوغل)، في رسالة مفتوحة وجهها له عام 2014. وعندما فرضت الحكومة الألمانية قانوناً يجبر (غوغل) على دفع مقابل من إستخدام محتوى شركات النشر الألمانية، عمد العملاق الأميركي إلى شطب عناوين تلك الشركات من محرك البحث، مما أدى إلى نتائج صادمة، وأكد “دوبفنر” أن حركة المرور على الأعمال التي تنشرها “أكسيل” على الإنترنت، إنخفضت بنسبة 85 في المئة. ويوضح “دوبفنر”: “نحن لا نملك قدرة المبادرة تجاه غوغل، وليست أمامنا محركات بحث أخرى من أجل الحفاظ على حضورنا على شبكة الإنترنت أو تطوير هذا الحضور. إن غوغل ليست بحاجة إلينا، أما نحن فبحاجة إلى غوغل”. مؤكداً على أنه لا يمكن الحديث عن “ضغوط أوروبية من قبل الشركات الألمانية ولا حتى من قبل رابطة الناشرين، فغوغل تملك من القوة ما يمكنها من مواجهة “الضعفاء”.

ومن المؤكد أن مخاوف الأوروبيين من المنصات الإلكترونية لا تقتصر على (غوغل)، إذ أن (فيس بوك) واحد من بين كبار المسيطرين في هذا المجال، وعلى الرغم من التوتر بين المسؤولين الألمان و(فيس بوك) في العديد من الأحيان، إلا أن “مارك زوكيربرغ”، رئيس (فيس بوك)، زار برلين في شباط/فبراير 2016، لتسلم جائزة شركة “أكسيل سبرينغر” للإبتكار، وأكد “دوبفنر”: “أنه يحرص على التفاهم مع مجموعات التكنولوجيا الأميركية”.

ويرجح محرري (الفاينانشيال تايمز) قلق “دوبفنر” من المستقبل، فهو من كبار المهتمين بالاستثمار في الشركات الرقمية الناشئة، ويسعى من خلال “أكسيل سبرينغر” للإستحواذ على وسائل إعلام جديدة في الولايات المتحدة، بينما يقلص من إعتماده على الصحف التقليدية والسوق الأوروبية. كما أشترت “إكسل سبرينغر”، العام 2015، 88 بالمئة من أسهم موقع “بيزنس إنسايدر” في صفقة بلغت قيمتها 343 مليون دولار أميركي.

وعلقت “سارة سايمون”، المحللة في وكالة “بيرنبيرغ”، على الصفقة بقولها: “إن المستثمرين كانوا متشككين من إستراتيجية شركة أكسيل سبرينغر الرقمية. والكثير من الناس يترقبون ما سيبدو عليه النموذج الاقتصادي للإعلان على الإنترنت. لكن مع بيزنس إنسايدر، الكثير من المحتوى يبدو أنه لا يحمل علامة تجارية، ولست متأكدة من أن الناس سيدفعون مقابل ذلك”.

ورغم إهتمامه الكبير بالتركيز على المستقبل الرقمي، يقول “دوبفنر”: “أنا مؤمن قوي بمستقبل الصحافة الرقمية، أعتقد أن الصحافة الرقمية ستكون أفضل من حيث النوعية وربما من حيث نموذج أعمالها، لكن هذا يعتمد كثيراً على قواعد معينة تسمح بالمنافسة العادلة”.

وإن أردنا إلتماس مدى تأثير وانتشار الصحافة الرقمية المعولمة اليوم، وخاصة في مجتمعات الدول النامية، فنجد كمثال هامشي بسيط، كاتب صحافي مصري من ضمن الصحافيين الكثر المناصرين لها، يستشهد، متفاخراً، على هامش “مشادة صحافية” نشبت بين أحدي رؤساء تحرير إحدى الجرائد المصرية الخاصة، بالإضافة إلى تقديمه لبرنامج حواري على إحدى الفضائيات المصرية، ومقدم برامج ترفيهية مصري يستنسخ برنامج “جون إستيوارت” الأميركي الشهير، في تشرين ثان/نوفمبر 2016، قائلاً: “توقفت أمام مفارقة المواجهة بين شخص يمتلك إطلالة تليفزيونية باهظة التكلفة، ومؤسسة إعلامية متعددة الأذرع، وبين شخص آخر لا يمتلك أكثر من اسمه، وحساب على موقع (فيس بوك) لنشر عبارات قصيرة، لكن الفائز في المواجهة لم يكن صاحب الإمكانيات الضخمة، الذي يوظف عشرات الصحافيين…. عبر أخبار وتقارير وتحليلات سردية طويلة تجاوزت آلاف الحروف والكلمات، بل كان الفائز والمؤثر هو الفرد الأعزل إلا من هاتفه الشخصي والجماهير التي ارتبطت بتعليقاته السريعة” (2). كل هذه الثقة في آراء مناصري الإعلام المعولم ودعاته داخل مجتمعاتهم النامية، لا تلتفت بالطبع إلى تأثيراته السلبية بكافة آلياته، سواء على مستوى الصناعة أو مستوى القواعد والمفاهيم المهنية.

في تقرير حديث مفصل نشرته “شبكة الصحافيين الدوليين” ijnet، أكد على أن “الأرقام الكبيرة للقراءات والقَراء الفريدين التي يصرح عنها الناشرون هي مضللة في أفضل الأحوال، فهم يبالغون في حجم القرّاء وتأثير المنشورات، وتعتبر واحدة من أكثر الأسرار الصغيرة القذرة في عالم الإعلام الإلكتروني. معظم زوار المنشورات هم طيارون: يبقون لثوانٍ معدودة. وحتى لو بقيوا لمدة أطول فإن الغالبية العظمى من القراء يزورون الموقع مرة واحدة أو مرتين على الأكثر خلال الشهر. هؤلاء الزوار ليسوا زواراً أوفياء مكرسين لموقع معيّن أو علامة محددة. ما هو أكثر إثارة ودلالة خاصة لناشري الأخبار والمعلومات الجدية، هو العدد الأقل من الزوار الأوفياء – الذين يزورون الموقع بكثافة ويستمهلون ويقرأون  صفحات عدّة – هؤلاء يمكن أن يدفعوا لشراء المحتوى وغير إصدارات. ويتعلقون بشكل قوي بموقع معيّن”.

ويسوق التقرير تصاريح بعض خبراء الرقمنة الإعلامية، مثل “كينسي ويلسون”، وهو محرر قسم التطوير والإستراتيجية في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية، الذي أعاد المسألة إلى أصلها في الندوة الدولية حول الصحافة الإلكترونية، حين ذكر أن 90 بالمئة من أرباحه من منشوراته الإلكترونية تأتي من 10 بالمئة من الزوار. “إنه لمعطى دال أن الصحيفة  لديها مليون مشترك على الشبكة العنكبوتية فقط، في زيادة 20 بالمئة منذ سنة، بينما إنخفض عدد المشتركين بالنسخة الورقية”.

مضيفاً: “العديد من الناشرين أصحاب القيمة الصحافية – صحافة الإستقصاء أو المراقبة – يحصلون على عائدات مهمة من العلاقات القوية مع قارئيهم. الناشرون في الولايات المتحدة مثل “تكساس تريبيون” و”مين بوبوست” لا يبيعون نقاطاً للرعاة والمعلنين، ولكن يعملون ضمن مؤسسة تشارك المصلحة في الصالح العام ويتحدثون عن القراء الذين يساهمون بالمال كأعضاء أو شركاء مع إعطائهم إمتيازات وليس كمشتركين”.

ويقول “جيمس برينير”: “تعليقات ويلسون عن (نيويورك تايمز) تؤكد بعض أبحاثي، وما قدمته في الندوة أن مواقع الصحافة الإستقصائية يمكنها أن تجني عائدات مهمة من أعداد صغيرة من المستخدمين ويبقى لديها التأثير”.

منصة الصحافة الهولندية De Correspondent أطلقت عام 2013، مع وعد بأن تكون موقعاً خالياً من الإعلانات ومستقلاً بتحليلاته وبتقاريره الإستقصائية ويعتمد على الإشتراك السنوي بمبلغ 66 $US للإشتراك الواحد. حوالى 20000 شخص استجابوا لحملة التمويل من الجمهور وأنتج ذلك 1700000 $US مليون ما يكفي فريق عمل من 24 شخصاً. ثم أرتفع عدد المشتركين إلى 40000 يدفع كل منهم 66 $US سنوياً، ما يصل إلى 2.6 مليون دولار بالسنة، ما حذا بالناشر والشريك المؤسس “إرنست جان بوث” للقول بإن “الصحافة يمكن أن تعطي قيمة لنفسها وتكسب ثقة الجمهور عبر الإستغناء عن الإعلانات”. يلاحظ هنا أن خبراء صناعة الإعلام الرقمي، كأحدث منتجات الإعلام المعولم، يقرون بأن “جودة” المنتج الإعلامي المقدم ومدى إبتكاريته بما يناسب ثقافة واحتياجات مجتمعه يثري المنظومة الإعلامية ويصبح منفذاً قوياً لإستقلاليتها المادية والتمويليه عبر مشاركات وإشتراكات القراء.

أما في إسبانيا، حيث مصالح السياسة والأعمال تؤثر بشكل كبير على تغطية الأخبار, فقد روجت Eldiario.es لنفسها أيضاً على أنها مصدر إخباري مستقل. وأسس الرئيس التنفيذي “إيغناسيو إسكولار” الإصدار الإلكتروني عام 2012، وملكها الصحافيون أنفسهم. وأعلن “إسكولار” مؤخراً أن الإصدار أنهى عام 2015 بعائدات تبلغ 2600000 $US، أي بزيادة 33 بالمئة في السنة وأرباح، ما بعد الضرائب، تبلغ 235000$US. ومع أنها تصدر مجاناً لكن نحو 14500 مشترك يدفع كل منهم 66 $US سنوياً على الأقل للوصول إلى الخبر قبل ساعات من أن يصبح متاحاً للعامة، فضلاً عن دخول صفحات خالية من الإعلانات بالإضافة إلى خصومات ودعوات إلى المناسبات. هؤلاء الشركاء ينتجون نحو ثلث العائدات. لا يعني شيئا أن الشركاء يشكلون أقل من واحد بالمئة، 6 مليون قارئ شهرياً، ما يشير إلى أن العائدات المهمة يمكن أن تنتجها أعداد قليلة من القراء الأوفياء من جمهور الشبكة العنكبوتية وباقي العائدات أتت من الإعلانات.

نجمة رائدة أخرى في عالم الصحافة الإلكترونية هي Malaysiakini ومقرها ماليزيا, والتي عرض “تيم كارينغتون” لمحة عنها لمركز المساعدة الدولية للصحافة عام 2015. منذ تأسيسها عام 1999 عبر الصحافيين المبتكرين “ستيفين غان” و”بريميش كاندران”، مرت بالكثير من الطلعات والإنتكاسات المالية, واجهت محاولات حكومية لفرض رقابة على المحتوى، وفي 2014 وصل جمهورها إلى ما يقارب 9 مليون زائر بالشهر. ومع أنها تصدر بأربع لغات – التاميلية، الصينية، الماليزية والإنكليزية – فإن النسخة الإنكليزية فقط هي وراء حظر الإشتراك غير المدفوع لأن جمهورها هو الوحيد الذي لديه الرغبة بالدفع. وقد وصلت الإشتراكات لأكثر من 16000 مشترك يدفع كل منهم 40 $US سنوياً.

ويضيف التقرير مؤكداً: “بالإضافة إلى دعم المستخدم، يحصل ناشرو الصحافة النوعية على عائدات من حظر الإشتراك غير المدفوع، الدفع مقابل المقال المساهمات الحكومية (“بي. بي. سي” مثال بارز) ودعم مؤسسات. هذه الإصدارات الإلكترونية تستفيد أيضاً من واقع أن ليس لديها تكاليف طباعة وتوزيع ولا حتى أعباء الديون الثقيلة التي تتكبدها وسائل الإعلام التقليدية. الجمهور, الناشرون, المؤسسات والحكومات ينخرطون الآن في مفاوضات حول سعر هذا النوع من الصحافة بما أن نموذج الإعلان الذي كان يدعم الصحافة سابقاً قد انهار. لكن من الواضح أن بعض الناس سيدفعون. الناشرون بحاجة لتحديد هؤلاء الأشخاص وجذبهم لعالمهم إذا كان لديهم الأمل بالبقاء والتقدم” (3).

أيضاً, وعلى مستوى آخر، من القضايا الهامة التي أعتبرت مؤخراً داخل الأوساط الإعلامية العالمية من التأثيرات الحيوية لظاهرة الإعلام المعولم، بما تميزت به من جوانب سلبية وإيجابية على مهنة الصحافة، وهي ممارسة الآليات الحرفية للعمل الصحافي من قبل نشطاء حقوقيون وسياسيون؛ مما ألغى الخطوط الفاصلة بين العمل في مجال الصحافة والناشط الذي يدافع عن حقوق الإنسان، الأمر الذي سهله تنوع وسائل الإعلام الإلكتروني والتصفح عبر الهواتف الذكية.

القضية التي تناولتها مؤخراً، حلقة نقاشية دولية موسعة عن الصحافة الإلكترونية “isoj” نظمها “مركز نايت للصحافة” في الأميركيتين في “جامعة تكساس” في أوستن. والتي تعرض خلالها “غويل سايمون”، المدير التنفيذي للجنة حماية الصحافيين، إلى حالة مؤسس (ويكيليكس)، “غوليان أسانغ”، وأشار إلى الجدل الكبير حول ما إذا كان يجب إعتبار “أسانغ” صحافيًا أم لا. فقال: “هذا النقاش مهم لكن في الحقيقة هذه مسألة ثانوية، والأهم هو أنّه إذا تمّت محاكمة “أسانغ” لنشره وثائق مسرّبة، فسيكون جميع الصحافيين في خطر”، معتبرًا أنّ الصحافيين سيكونون أكثر حرية وأمنًا وأمانًا عندما يكون الخط الفاصل بينهم وبين الناشطين مبهمًا”.

بينما كان “غاك هورويتز”، مؤسس موقع (Mic.com) الإلكتروني، أكثر وضوحاً حينما قال إنّ المراسلين في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، الأكثر عرضة لتآكل الفاصل بين حياتهم الشخصية والمهنية، مقارنةً مع الصحافيين الذين كانوا يعملون في الماضي، حين كان، (على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية)، من الممنوع الإعراب علنًا عن رأي في أي موضوع كان. ولفت إلى أنّ التركيز في الصحافة اليوم على “إمكانية المشاركة”، والأشخاص بإمكانهم تشارك الأشياء والأفكار وما يشعرون به، سواء كان حماسًا أو غضبًا. وشدّد على أنّه ليس صحيحًا بل خرافة أنّ متلقي المعلومات من الشباب لا يهمهم مصدر المعلومة إن كان منحازًا لطرف معيّن أم لا، قائلاً: “إنّ القراء الشباب ضجروا من وسائل الإعلام الحزبية، لا يريدون أن يُقال لهم ويملي عليهم ما يجب أن يعتقدوا به ويصدّقوه”. ونوه عن إنّ الصحافيين في غرفة الأخبار لديه يتحدثون بإنتظام حول قضايا مثل تغيّر المناخ، حركة Black Lives Matter الأميركية، التي تطالب بالعدالة والحرية لذوي البشرة السمراء. ومن الصعب أن يبقوا على حياد في مسائل تثير حماستهم.

كما أعطى رئيس (ASNE)، “بام فاين”، مثلاً عن محرر شاب في الموقع، بعد أن أسقطت محكمة أميركية عليا الحظر عن زواج المثليين، حيث نشر الصحافي قصة شهدت ردود فعل إيجابية على الحسابات الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي للمنظمة. وطلب منه مديره أن يحرص على إظهار رأي الطرف الآخر من القصة، بحسب “فاين”، وعندما إبتعد مديره عنه، قال بصوت مرتفع: “يعتقد جميع الصحافيين أنّ العبودية كانت سيئة، متى ستوافقون على أنّ زواج المثلي هو حق ؟”.

أمّا “دانييلا غيرسون”، محررة الشؤون الاجتماعية في (لوس أنغلوس تايمز)، فقد أظهرت عددًا من الأمثلة لقصص نشرتها الصحيفة إلكترونياً، وقالت: “سمعنا كيف يشعر الأطفال المهاجرون عن كيفية تصوير ذوييهم، فأعدينا فيديو مقابلات مع الأطفال تحت عنوان “عزيزي السيد ترامب”، وفيه تكلّم أطفال المهاجرين ودحضوا النقاط التي قالها ترامب عن أهاليهم، من دون محاولة إظهار لآراء الذين يدعمون وجهات نظر ترامب بشأن الهجرة”.

وترى “إيما دالي”، مديرة الاتصالات في “Human rights watch” أنّ المحققين في المنظمة، على الأرض، لا يختلفون كثيرًا عن الصحافيين، فهم يجرون مقابلات مع كل الأطراف، حتى إذا كان بالإمكان يجرون مقابلة مع منتهكي حقوق الإنسان، لافتةً إلى أنّهم يتبعون قواعد سلوك محددة، خصوصًا عند إجراء مقابلات عن قضايا حساسة ويعدّون تقارير معمّقة، يجب أن تكون مستندة إلى حقيقة، لا رأي، وتضيف: “لكن لا نتوقف عند القصّة، ندفع بتوصيات لمعالجة المشكلة. حتى الصحافة تسير بهذا الإتجاه، أي مع حركة نحو “صحافة الحلول” وليس طرح المشكلة فقط، بل طرح طرق لجعل الأمور أفضل”.

وتدخّل “سايمون”, مشيرًا إلى الدول حيث تعمل لجنة حماية الصحافيين، حيث في كثير من الأحيان من المناسب أن يعدّ الصحافيون محامين، خصوصًا في حريتهم لإعداد تقرير من دول تدخل حكومة، فوافقت “دالي”، وقالت: “عندما تتمكّن من طرح مواضيع لا تريد الحكومة أن تسمعها، تكون بمثابة محامٍ أو مدافع عن حقوق الإنسان” (4).

ويلاحظ من مستخلص تلك الآراء التي تداولها العاملين في كبريات الصحف الإلكترونية العالمية خلال تلك الندوة، نفس المغالطات المهنية التي تتعمد منظومة الإعلام المعولم إصباغ ومعالجة الآليات والقواعد الصحافية عموماً، وذلك عبر خلط المفاهيم بين المحرر الصحافي وبين الناشط الحقوقي الذي يمارس “بعض” التقنيات الصحافية في جمع معلوماته، سواء عن إنتهاكات حقوقية أو حول قضية فساد ما، والتي تعد في الأصل منتجاته – من تقارير رصدية أو مستندات توثيقية – “أحد” المصادر المعلوماتية للمحرر الصحافي العامل بمهنة ذات رسالة كاملة ومحددة في تنمية وتوعية مجتمعها حسب معطيات ذلك المجتمع الجغرافية والثقافية والتاريخية والاقتصادية المتباينة، تلك الرسالة التي لا تعترف بها منظومة الإعلام المعولم بالطبع، بل وتعمل علي تحطيمها بنظرتها الشمولية للإعلام العالمي وصبغه بقواعد تلفيقية وترقيعية – من كافة النظريات العلمية لفلسفة الإعلام – بتناول جميع المجتمعات ككتلة واحدة صماء تعاني نفس المشكلات والاحتياجات وتطمح إلى مطالب أوحادية النمط والطابع. فظهرت في تلك الحلقة النقاشية لفظة “إعلام الحلول” كتوصيف تبريري لإعتبار الممارسة الحقوقية عمل صحافي “كامل”، دون الإلتفات إلى أن الناشط الحقوقي إن كانت كل مهمته جمع معلومات حول قضية معينة بغية تقديم حلول محددة لها – في تناقض صريح لما تروج له العولمة الإعلامية من عدم التحزب ومكافحة الكتابة الإيديولوجية ككابح هام من كوابح الرقابة الذاتية – فهي بالتالي أحد المهام الجوهرية للصحافة التنموية التي تتبنى وتطالب بالحلول المتوافقة والمرجوة من مجموع المواطنين الممثلين لطبقات الأغلبية داخله.

ولعله من أشهر الوقائع الدالة وأحدثها، على تضليل مفهوم مكافحة الكتابة الإيديولوجية للمحرر الصحافي من منطلق الرقابة الذاتية، التي تروجها العولمة الإعلامية من منطلق ليبرالي ظاهرياً وحقيقة شمولية قحة، بتغاضيها الطرف عن حقيقة طبيعية وهي أن الصحافي العامل هو في النهاية مواطن يتفاعل بقضايا وأزمات مجتمعه خاصة، ومهنة الصحافة ذاتها من مهن الشأن العام، لذا جسدت واقعة المصورة المجرية “بترا لازلو” – رغم جرمها المهني الذي لا ينكر – حينما قامت بركل أحد اللاجئين السوريين وطفلته وعرقلتهم عن الهرب من قوات الأمن قرب الحدود الجنوبية مع “صربيا” في أيلول/سبتمبر 2015، عدم واقعية بل إستحالة تحييد المشاعر الإنسانية والمعتقدات السياسية للصحافي في ممارسة عمله، حتى ولو أقترف جرماً مهنياً مثلما فعلت “بترا”، والتي رغم طردها من وظيفتها بالمحطة التلفزيونية (ن1 تي. في) ومطاردتها بعدة دعاوي قضائية، إلا وأنها حازت مؤخراً على جائزة محلية لكتابتها فيلماً وثائقياً من 32 دقيقة، وأخرجه زوجها، ويعالج قضية ثورة 1956 المجرية ضد الروس (5).

ومع إحتفاله عام 2016 بمرور عشر سنوات على تأسيسه، بات موقع (ويكيليكس) رائداً لظاهرة “مطلقي الإنذار” الذين يسربون وثائق للفت الإنتباه إلى ممارسات حكومية، وقد عمم نمط المنصات التي تنشر معلومات سرية على الإنترنت في العالم. غير أن الموقع الذي أطلقه “غوليان أسانغ” بأسم (ويكيليكس. أورغ) على الإنترنت، عن منظمة “ويكيليكس” غير الحكومية، التي تستمد اسمها من “ويكي”، شعار الانفتاح والإدارة الذاتية لمستخدمي موقع “ويكيبيديا”، و”ليكس” أي تسريب بالإنكليزية، بنشر أكثر من عشرة ملايين وثيقة سرية مسربة خلال عقد، أصبح يعاني بشكل متزايد من تراجع صورته بفعل الإتهامات الموجهة إليه بأنه دمية بأيدي حكومات وأحزاب سياسية، وبأنه يفتقر إلى القدرة على التمييز في تسريبه الوثائق والمعلومات.

مع إنتشار نموذجه، خسر موقع (ويكيليكس) ما بقى لفترة ميزة حصرية له. هكذا فضل “إدوارد سنودن”، اللاجيء حالياً في روسيا، التوجه مباشرة إلى صحف. كما أن عدداً من المقربين سابقاً من “أسانغ” أبتعدوا عنه في السنوات الأخيرة. من بينهم خبير المعلوماتية الألماني “دانيال دومشايت-برغ”، الذي كان متحدثاً باسم (ويكيليكس)، قبل أن يغادر الموقع في نهاية 2010، متهماً مرشده السابق الأسترالي بأنه “مهووس بالسلطة”. قائلاً: “ساهمنا في إحداث تغيير ثقافي من خلال تطبيع وظيفة مطلق الإنذار”. لكنه رأى أن موقع (ويكيليكس) “يدفع حالياً ثمن رفضه الفرز بين الوثائق وإصراره على نشرها كلها بدون تمييز”.

وتابع: أن “إدوارد سنودن يحمل قيماً قوية جداً، وهو لم يتوجه إلى ويكيليكس، وكذلك الذين سربوا وثائق لوكسمبورغ ليكس، وأعتقد بالتالي أن الذين يتصلون اليوم بويكيليكس يفعلون ذلك لأنهم يعتبرونه أداة يمكن التلاعب بها”. أما “إدوارد سنودن” فيعرب عن إنتقادات مماثلة، في تموز/يوليو 2016، حين كشف (ويكيليكس) آلاف الرسائل الإلكترونية لمسؤولين في “الحزب الديمقراطي” الأميركي، من ضمنها البيانات الشخصية الخاصة للعديد من منتسبي الحزب، في خضم حملة الانتخابات الرئاسية.

وبات “غوليان أسانغ” متهماً بخدمة مصالح روسيا، بل أكثر من ذلك، بتسريب وثائق تمدها به موسكو، أو بخدمة مصالح المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية “دونالد ترامب”. ورد “أسانغ” في صحيفة (دير شبيغل)، قائلاً: “لن نبدأ بممارسة الرقابة الذاتية لمجرد أن هناك انتخابات في الولايات المتحدة”، مؤكداً على أنه سبق أن نشر في الماضي وثائق تتضمن انتقادات للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”. وحذَّر بأن “الهجمات تزيدنا قوة” (6).

نحو إعلام ثالث للجماهير:

إن كان المفكر المصري، “محمد سيد أحمد”، على حق حينما قرر بلهجة تشبه النعي والرثاء: “لقد فات الأوان”، وراح يصف الحال، إبان هجمة العولمة بدايات الثمانينيات، قائلاً: “لقد قضى حوار الشمال والجنوب نحبه كما قضى صراع الشرق والغرب. كذلك، أسلمت فكرة التطور (الاقتصادي) الروح. فلم تعد هناك لغة مشتركة، لا، بل لم يعد هناك قاموس مشترك لتسمية المشكلات، فمصطلحات من قبيل “الجنوب والشمال” و”العالم الثالث” و”التحرر” و”التقدم” لم يبق لها معنى” (7). فإن نجحت العولمة الاقتصادية والثقافية بآلياتها الشمولية في القضاء على الحوار واللغة، فلم تقض بالطبع على حقيقة وضعية العالم النامي وحركة الصراع بينه وبين دول الغرب المتقدم المهيمنة، التي مازالت تتأكد حتى اليوم في الميادين السياسية والعسكرية. لذا تأتي ضرورة استثمار إيجابيات آلة الإعلام المعولم لخلق شخصية إعلامية تنسجم متوافقة مع الطبائع وتاريخية شعوب الدول النامية أو دول الجنوب المتباينة.

فبقصد أو بدون قصد، أنتج موقع إتصالي عبر الإنترنت لشركة “Roc by Monstey”، فيديو قصير، مدته لا تزيد عن 3 دقائق، ونشره خلال عام 2015 على شبكة التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، لنجم كرة القدم العالمي “كريستيانو رونالدو”، من أغلى لاعبي كرة القدم ثمناً عالمياً، يتنكر في شخصية أحد متشردي شوارع مدينة مدريد ويلعب كرة القدم بمنتهى الإحترافية مؤدياً لنفس الألعاب وإستعراضات المهارة الكروية التي يؤديها داخل الملاعب الدولية، ولكن هذه المرة من وراء قناع المتشرد البسيط؛ فلا يلتفت إليه غير القليل جداً بل النذير من الناس التي تعاني الملل والفراغ، ليمر الوقت ويكشف “رونالدو” شخصيته الحقيقية في نفس الميدان ليجد طوفان بشري يتحلقون حوله بغية صورة أو سلام عابر. فيلم قصير يعكس تأثير “صناعة النجم” داخل آلة الإعلام المعولم، كما كشف بالتالي عن تأثير تلك الآليات وإنتشارها بين الشعوب حتى وصل بها الحال إلى التأثير في صناعة القرارات السياسية، وبالتالي حركة التايخ ذاته.

نشرت صحيفة (واشنطن بوست)، في أواخر عام 2016، تحليلاً إستقصائياً قالت فيه: “أصبحت ثورة كانون ثان/يناير 2011 في مصر نموذجًا لنجاح إستخدام الشبكات الاجتماعية لإسقاط نظام إستبدادي راسخ. الأدب الشعبي، والأكاديمي نظر إليها بإعتبارها نموذجًا لتأثيرات الشبكات الاجتماعية على السياسة المثيرة للجدل”. مشيراً إلى أن نشطاءً من “البحرين وتركيا وأوكرانيا وسانت لويس”, تعلموا وطبقوا أساليب الاحتجاج المصرية، مثل إقامة المخيمات في الأماكن العامة وإعداد وسائل لمقاومة هجمات الشرطة وتنظيم مواقع الاحتجاج وتوقيتاته على مجموعات (فيس بوك), وسرعة نشر أشرطة الفيديو وصور الاحتجاجات على وسائل الإعلام. لكن عادت الصحيفة الأميركية لتسجل ملاحظة تحليلها، الذي أستخدمت خلاله سلسلة المدونات “PeaceTech Lab”، مؤكدة على أن محاولة مصر للتحول إلى الديمقراطية بعد الإطاحة بالرئيس “حسني مبارك”، أنتهت بإستقطابٍ سياسي عنيف وإنتشار للخوف، وتساءل التقرير: “هل تسهم الشبكات الاجتماعية أيضًا في فشل تعزيز الديمقراطية ؟” (8).

وتظهر أيضاً أهمية “السوشيال ميديا” أو مواقع التواصل الاجتماعي في مستوى آخر، وهو التدوين والرصد الحدثي بغية التوثيق والتأريخ خارج الروايات والتأريخات الرسمية المفروضة فوقياً من النظام السياسي. في الربع الأخير من عام 2016، أثناء ذكرى واقعة إشتباكات دامية – وهي حادث “مذبحة ماسبيرو”، الذي وقع بمدينة القاهرة في تشرين أول/أكتوبر 2011 – دعى إحدى المواقع الإلكترونية المصرية قراءه إلى حملة تدوين شهادات حية وعينية عن وقائع وتفاصيل الحادث بالكامل، لأن “بعد خمس سنوات، ما زال المتسبب في أحداث ماسبيرو مجهولًا في الأوراق الرسمية. هذا العام التدوين يتكرر لرابع عام، لرابع مرة. وسيبقى يتكرر لسنوات أخرى. إذ يجب ألا تهيمن الرواية الرسمية على ما حدث”.

كذلك كشفت تفاصيل محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة على الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان”، في منتصف تموز/يوليو 2016، مدى تأثير “السوشيال ميديا” و”الديجيتال ميديا” والإعلام الإلكتروني بكافة آلياته المستحدثة المتوفرة عبر التليفونات الذكية، على قراءها ومتابعيها من الجماهير، والذين خرجوا إلى الشوارع والميادين الرئيسة للعاصمة التركية نصرة للرئيس المخلوع، والذي نجح بمهارة في إستخدام تلك الآليات الإعلامية في الوصول إلى جماهيره بعد إستيلاء قوى الإنقلاب على محطات وشاشات الإعلام التليفزيوني وبعض المواقع الإلكترونية.

كل تلك الحوادث والوقائع وغيرها تدلل على أهمية تلك الأدوات الاتصالية، سواء من جوانبها الجماهيرية في التوصل إلى قواعد كبيرة العدد من القراء أو في مستوياتها الإعلامية، رغم رسالتها المعولمة الخاضعة للتضليل والتعمية وهيمنة التوجه الأوحادي.

وكما رأى “د. لقاء مكي العزاوي”، للتقنيات الحديثة في ميدان الاتصال مظاهرها الإيجابية أيضاً، والتي لخصها في:

  1. حققت للإنسان، ولأول مرة في تاريخه، قدرة التواصل الحضاري المباشر مع الآخرين دون إعتبار لحواجز المكان.
  2. وفرت فرص الحصول على كم هائل من المعلومات بأسرع وقت وأقل كلفة، وهذا التطور عزز بالتأكيد من فرص تطوير البنى العلمية والثقافية للدول النامية.
  3. شكلت مصدراً جديداً وشبه مجاني للمعلومات والأخبار لوسائل الإعلام الوطنية، التي أصبحت لديها خيارات أفضل لإنتقاء المعلومات بعد متابعتها في شتى المصادر، ومنها مصادر الحدث الأصلية. (9).

إذاً، من السهل خلق “الشخصية” الإعلامية المميزة لمجتمعات الدول النامية رغم هذا الجبروت الحادث لآليات الإعلام المعولم، بما يتناسب إمكانيات تلك المجتمعات الاقتصادية والتاريخية والفكرية عبر بناء المنظومة الإعلامية المستقلة المستهدفة تنمية وتوعية شعوبها ومجتمعاتها. فإن كان الهدف النهائي – الذي تصدره لنا دائماً – للعولمة الإعلامية هو إرساء دعائم الحرية المطلقة ثقافياً واجتماعياً، فهي بالتالي قد حصرت الرسالة الأشمل والأعمق للإعلام فيما يخدم مصالحها الاقتصادية الرأسمالية المهيمنة. فالحرية مجرد “أداة” داخل منظومة متكاملة هدفها الأسمى أداء رسالتها في إستقلالية تامة عن جميع المؤثرات، سواء أكان حكومياً أو رأسمال ممول، فإن إنعدمت “أداة الحرية” في ديناميكية عمل الصحافة ينعدم بالتالي وجود الصحافة الإعلامية، وتصبح مجرد “دعاية وإعلان”. أما الإستقلال هنا مختلف تطبيقياً ونظرياً عن الحرية، لذا فبرغم كل الدعاوى التي تملأ العالم عن حرية الرأي والصحافة، فإن الواقع الفعلي لأكثر من 99% من وسائل إتصال العالم تقع تحت السيطرة، إما سيطرة حكومية أو سيطرة رأس المال الممول، تتم تعاطي نسب الحرية داخلها كيفما يشاء المسيطرين وفق مصالحهما المتواترة. أما إستقلال الصحافة الإعلامية فهي ببساطة تفكك هذا الإرتباط المتناقض وتحل الاشكالية عندما يمنح الصحافي كامل إستقلاليته داخل مؤسسات مستقلة عبر كيانات وتنظيمات مستقلة مدافعة عن هذا الهدف وهو “الإستقلال”.

ويأتي تحقيق هدف بناء إعلام إنمائي توعوي مستقل، عبر وسائل وآليات متعددة ومتجددة تنسجم مع منسوب التقدم التكنولوجي، ربما من أبرزها:

1-      استثمار حركة القفزات التكنولوجية للإعلام الإلكتروني، بجمبع آلياته المتجددة، في تكوين مؤسسات إعلامية تعاونية التمويل والإدارة، تستقل بها من سطوة التمويل الإعلاني معتمدة على قاعدة جمهور قراءها تمويلياً وخبرياً، عبر أداء رسالتها في أن تكون صوتاً لهم يعكس إحتياجاتهم ويبحث في مشكلاتهم.

2-      الإهتمام بالإبتكار والإيجادة في تقديم المحتوى والمنتج الإعلامي الذي يعبر عن المجتمع بمكوناته الثقافية والتاريخية والاقتصادية.

3-      تحرر الإعلام المتخصص أو الصحافة النوعية، مثل الاقتصادية أو الزراعية أو السياحية .. إلخ، من سطوة رأس المال، سواء أكان محلياً أو متعدد الجنسيات، لخلق إعلام نوعي يعكس بيئته الزراعية أو الصناعية الوطنية ويعمل على تنميتها.

4-      تكوين تكتلات وتجمعات نقابية حقيقية مستقلة تماماً عن أي سلطة خارجية، إلا من سلطة أعضائها، تعمل على حمايتهم عبر حماية مهنتهم بالتدريب وتنمية المهارات والقدرات الإحترافية، والدفاع عن حريتهم وإستقلالهم في مواجهة أي سلطة سياسية أو اقتصادية أو تشريعية.

الخـــــــــاتـــمـــــــــــة

إذا كانت رؤية الصحافي الأميركي المخضرم، “روبرت فيسك” Robrt Fisk، لإستقلالية الصحافة المكتوبة، مع مستهل القرن الحالي، للخروج بها من ما أسماه بـ”نفاق” الصحافة التليفزيونية المعولمة، قد أجملها في قوله: “يبدو لي أن الدور الحقيقي الذي ينبغي أن تلعبه الصحف في عصر التليفزيون هو أن تهتم بالمجالات التي لا يمكن للتليفزيون أن يغطيها أو تلك التي يخشى التليفزيون تغطيتها. فمع تصاعد نفاق التقارير التليفزيونية وجبنها، يتحتم على الصحف أن تفحص وتحلل وتدقق وتثبت عدم صحة الرؤية التي تقدمها تقارير القنوات الفضائية إذا لزم الأمر”.

ويحاول أن يكون أكثر صراحة حيال وضع صحافة العالم الثالث، والصحافة العربية تحديداً، إبان عصرها العولمي الجديد، مضيفاً: “ولا ينبغي لنا أيضاً أن ننسى المشكلات المتزايدة للصحافة العربية الدولية، التي تنتقل ملكيتها بشكل مطرد لأيدي الخليجيين وبالذات السعوديين، وهي الصحف التي تحدد القنوات الفضائية العربية أيضاً أجندتها الإخبارية. تلك القنوات الفضائية التي أصبحت تقاريرها المقدمة على إستحياء ودون تحليل نقدي سمة معروفة في كل بيت عربي. وقد يحسن بالصحافيين العرب الذين يثير ذلك مشاعرهم أن يتذكروا الأكاذيب والمغالطات التي حفلت بها الصحافة العربية في تلك العقود التي كان الاتحاد السوفياتي فيها يعتبر المنقذ للقومية العربية. أين كانت الصحافة العربية حين حاصرت إسرائيل بيروت في 1982 ؟.. فبإستثناء الصحافيين اللبنانيين لم تقع عيني على صحافي عربي واحد في المدينة في تلك الأيام الرهيبة. كانت الصحف العربية تعتمد على تقارير المراسلين الغربيين. وحين إختطف أربعة في لبنان بعد ذلك بأربع سنوات لم تبد الصحف العربية تعاطفاً يذكر. وحتى في الوقت الراهن أنضم الصحافيون المصريون إلى حملة وزارة الداخلية ضد المراسلين الأجانب الذين يحاولون الكتابة عن التحركات المناوئة لنظام حكم مبارك في مصر” (1).

فقد وضع “فيسك” يده على أكثر من عامل سلبي للإعلام المعولم، منذ بداية عصره وحتى يومنا هذا، كان من أهمها فضح أكذوبة التدفق الحر للمعلومات وعدم إمكانية توجيهها في إتجاه مغاير للإتجاه الأوحادي من الشمال إلى الجنوب، نفس الإتجاه الإستعماري القديم، وتطويع أحدث الإبتكارات في تكنولوجيا الاتصال الجماهيري لمصَدرات ومنتجات ذلك الإتجاه الشمولي الذي لا يخدم سوى مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. بما يتفق وتعليق “رياض بن فاضل”، الصحافي التونسي الذي عمل لصالح (ليموند ديبلوماتيك) العربية، حينما أقر بأن: “حرب الخليج قد أتاحت لصحيفة (ليبراسيون)، ولصحف أخرى، ولمدة ستة شهور بأن تفرض التصوير الإعلامي على حساب التحليل الصحافي. وهنا يتضح أن الأداة التكنولوجية يمكنها – بسهولة – النيل من البحث العلمي والتحليل. وللأسف فإن الصحف الأكثر مبيعاً اليوم هي التي تحابي التصوير الإعلامي على حساب التحليل، وقد أصبح لدينا الشعور بأن موضوعاً مليئاً بالصور الإعلامية كفيل بتوضيح حقيقة وضع معقد جداً” (2). مضيفاً سلبية أخرى – تمثل في رأينا – من أخطر سلبيات العولمة الإعلامية، وهي قدرتها على مسخ وتغيير المفاهيم والقواعد الإعلامية الوطنية ذاتها على المستوى العالمي، وبالتالي تغيير أهدافه.

الخـــــلاصــــــــــة:

من هذه المعطيات، وواقع تدني الإعلام الصحافي لدول الجنوب – والعربي خاصة – بفعل تبعيته المزدوجة، سواء لأنظمة حكم محلية تابعة للعولمة الاقتصادية والسياسية وتمارس إستبدادها للحفاظ على مناصبها وأدوارها الهامشية عالمياً أو لشركات عابرة القارات والقوميات، أنبثقت الحاجة الملحة حالياً لإيجاد مخرجات جديدة من دائرة التبعية للإعلام المعولم العنكبوتية، خاصة بعد تلك الإنتفاضات الشعبية التي مازالت تثار حتى الآن، وقد بدأت من قلب الدول العربية عام 2011، لتعم مختلف بلدان الجنوب والشمال أيضاً، مطالبة بقضاياها الاجتماعية واقتسام الطبقات الحاكمة فرص العدالة والمساواة في مواجهة سياسات النيوليبرالية الاقتصادية المأزومة، وذلك بمحاولة خلق “شخصية” إعلامية وطنية مستقلة جديدة تستمد إحداثياتها من المبتكارات الحديثة للعلوم التكنولوجية؛ بغية إستغلالها في ممارسة إعلام التنمية الوطنية التوعوي المدرك بمقدرات مجتمعه وقضاياه التقدمية وإحتياجات أغلبية طبقاته الكادحة معبراً عنها وعاملاً على تطوير قدراتها.

وإن كان الطريق إلى خلق تلك “الشخصية الإعلامية” المستقلة حالياً صعباً للغاية..

أولاً: تحت جبروت ذلك الإستبداد السياسي الممثل للأنظمة الحاكمة محلياً، والصانع لمتاريس قانونية وتشريعية تحافظ على وضعيته الطبقية الحاكمة لتكبلة وتوجيه الإعلام بما يخدم مصالحه الشخصية من خلال عولمته.

وثانياً: وسط ذلك الجبروت المهيمن للشركات عابرة الجنسيات، صاحبة الإحتكار الطاغي لصنع التكنولوجية الإتصالية عالمياً وصياغة إحداثياتها اليومية وفق مصالحها الاقتصادية المستغلة فحسب.

وثالثاً: لوضع المنظومات الإعلامية لدول الهامش، المستهلك لتلك التكنولوجيا والمستقبل “قصراً” لمستحدثاتها.

ورابعاً: للترابط العضوي والنوعي لمستوى إستقلالية الإعلام الصحافي الوطني بمدى إستقلالية وتجديد الوعي القومي وتقدميته نحو قضاياه وبلوة إحتياجاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

فكل تلك الأسباب المعيقة، لا تنفي وجود إمكانيات – ولو كانت صغيرة أو فردية بطيئة – لإيجاد تلك الشخصية الإعلامية الوطنية المستقلة، ومحاولة إبتكار “إستراتيجية” متكاملة لإستغلال أحدث ظواهر تكنولوجيا الاتصال نحو تحقيق هدفها التنموي.. وهو طريق طويل بلا شك يحتاج الكثير من المثابرة والجهد والإبتكار في أساليب الكفاح.

وإذا أحدث الإحصائيات لعام 2009، قد رصدت، على سبيل المثال، أن “عدد مستخدمي شبكة “الإنترنت” من العرب قد وصلوا إلى 58 مليون مستخدم. وعدد التليفونات المحمولة في العالم العربي نحو 176 مليون. وعدد خطوط الهاتف الأرضي بالعالم العربي نحو 34 مليون خط. وعدد مستخدمي (الفيس بوك) يبلغ في العالم العربي نحو 12 مليون. وعدد المدونات العربية نحو 600 ألف مدونة عربية، الناشط منها 150 ألف تقريباً. وأن “الجزائر” بها أكبر عدد لمقاهي “الإنترنت”، 16 ألف مقهى ونادي للإنترنت. وأكثر عدد لمستخدمي “الإنترنت” في “مصر” 15 مليون مستخدم. وأقل عدد لمستخدمي “الإنترنت” “موريتانيا”، 60 ألف مستخدم. وأكثر الدول إستخداماً لموقع (فيس بوك)، “مصر ولبنان والجزائر”. وأكبر عدد لخطوط الهاتف المحمول في “الإمارات” 7.5 مليون خط. وأعلى نسبة لعدد مستخدمي الإنترنت مقارنة بعدد السكان “الإمارات” 2.86 مليون مستخدم بنسبة تزيد على 50% من إجمالي السكان. وأكثر الدول إستخداماً لموقع (يوتيوب) مصر” (3). فبالطبع هذه الإحصائيات والأرقام قد أختلفت بزيادة تقارب مضاعفة مثيلاتها خلال السنوات الأخيرة بالنسبة للدول العربية أو للدول النامية.

وهو وضع يجب إستغلاله لتحويل إستهلاكات إعلام الدول النامية لآليات التكنولوجيا الاتصالية المعولمة وتناقضاتها، تجاه خدمة مصالحها المجتمعية الوطنية من خلال أساليب ووسائل متعددة، سبق وأوضحنا أبرزها إجمالاً في الفصل السابق، وكان على رأسها: “استثمار حركة القفزات التكنولوجية للإعلام الإلكتروني بجمبع آلياته المتجددة في تكوين مؤسسات إعلامية تعاونية التمويل والإدارة، تستقل بها من سطوة التمويل الإعلاني معتمدة على قاعدة جمهور قراءها تمويلياً وخبرياً، عبر أداء رسالتها في أن تكون صوتاً لهم يعكس إحتياجاتهم ويبحث في مشكلاتهم”. وذلك من خلال دراسة وتقييم التجارب التعاونية في تاريخ الصحافة المكتوبة والإعلام التقليدي للدول النامية، حينما أعتمدت بعضها تجربة “المشروعات التعاونية” داخل منظوماتها الإعلامية الوطنية بغية الوصول إلى الريف ومناطقها النائية من خلال إنشاء شركات وصحف قليلة التكاليف والنفقات محررة ومدارة من قبل أهل تلك المناطق ذاتهم، كما حدث في دولتي “إندونيسيا” و”ليبيريا” خلال الستينيات على سبيل المثال. فمع التقدم التكنولوجي للإعلام الرقمي ونوافذه المستحدثة دوماً من “سوسيال ميديا” و”الديجيتال ميديا” وغيرها، سهل على المدن والمناطق الريفية والنائية إنشاء وسائلها الإعلامية الخاصة بها المعبرة عن إحتياجاتها وتنمية مقدراتها وتوعية بحقيقة واقعها، بشركات تعاونية مستقلة صغيرة، تكون بمثابة آلية أيضاً لتحرر الصحافة المتخصصة والنوعية من صحافة “زراعية وسياحية واقتصادية… إلخ” من سطوة رأس المال، سواء أكان محلياً أو متعدد الجنسيات، لخلق إعلام نوعي يعكس بيئته الزراعية أو الصناعية الوطنية ويعمل على تنميتها وتقدمها.

كما يجب “الإهتمام بالإبتكار والإيجادة في تقديم المحتوى والمنتج الإعلامي، الذي يعبر عن المجتمع بمكوناته الثقافية والتاريخية والاقتصادية”. فصنع محتوى إعلامي جيد ومتميز الصنع والإنتاج يعكس المطالب والاحتياجات الاجتماعية الحقيقية للأغلبية من الشرائح الطبقية مجتمعياً، يخلق الترابط والتواصل الجماهيري المساند لإعلام نوعي تعاوني يعتمد على قراءه تمويلاً وإدارة، خاصة في عصر إنهيار التمويل الإعلاني للإعلام الصحافي.

شهد بذلك كبار صناع الإعلام الرقمي داخل معقل رائدة ومحتكرة آليات الإعلام المعولم ذاتها، الولايات المتحدة الأميركية، حينما أقر “كينسي ويلسون”، محرر قسم التطوير والإستراتيجية في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية، بأن “العديد من الناشرين أصحاب القيمة الصحافية – صحافة الإستقصاء أو المراقبة – يحصلون على عائدات مهمة من العلاقات القوية مع قارئيهم. الناشرون في الولايات المتحدة مثل “تكساس تريبيون” و”مين بوبوست” لا يبيعون نقاطاً للرعاة والمعلنين ولكن يعملون ضمن مؤسسة تشارك المصلحة في الصالح العام ويتحدثون عن القراء الذين يساهمون بالمال كأعضاء أو شركاء مع إعطائهم إمتيازات وليس كمشتركين”. وكما حدث مع منصة الصحافة الهولندية “De Correspondent”، التي أطلقت عام 2013، بوعد صريح أن تكون موقعاً خالياً من الإعلانات ومستقلاً بتحليلاته وبتقاريره الإستقصائية ويعتمد على الإشتراك السنوي. وفي إسبانيا روجت (Eldiario.es) لنفسها أيضاً على أنها مصدر أخباري مستقل، وأسس الرئيس التنفيذي “إيغناسيو إسكولار” الإصدار الإلكتروني لها عام 2012، وملكها الصحافيون أنفسهم.

ولم يعدم تاريخ الصحافة العربية القريب، التجارب النوعية ذاتية التمويل ومستقلة الإدارة. تسرد الصحافية المغربية “زكية داوود”, تجربة غاية في التميز وجديرة بالإحتزاء والإقتداء، وهي تجربة مجلة (لام – ألف)، المغربية، التي بقيت لمدة 22 عاماً وصدر لها 200 عدد، ثم أختفت في 1985 ولأسباب خارجة تماماً عن إرادتها. فقد ولدت هذه المجلة في 15 آذار/مارس 1966، بقرار أتخذته مجموعة من الصحافيين قاموا بتمويلها من مالهم الخاص. لهذا كان التمويل متواضعاً، وكان الهدف منه بناء مؤسسة صحافية تجارية ومستقلة لخدمة فكر سياسي معين، “كنا نريد أن نؤكد بأن كل شيء لم يذهب هباء، وبالتالي كان القرار أشبه بشهادة إيمان، وذلك في مواجهة أولى مشاعر خيبة الأمل، وأيضاً نهاية مرحلة الذروة التي عاشتها الحركة الوطنية المغربية. كنا نريد أيضاً في مواجهة التأزم الذي أفرزه التسابق من أجل المشاركة في الحكم الذي جرى بين مختلف الأحزاب المعارضة؛ أن نعيد إحياء الحد الأدنى من الأسس اللازمة لمشروع تقدمي”. كانت المجلة حريصة على أن تصف نفسها بأنها اقتصادية واجتماعية وثقافية. “وكان الإجراء في حد ذاته ذا صبغة صحافية ويتوافق مع تقاليد الصحافة المغربية، التي تستهدف خلق مجال للتوعية وبث الثقافة والحوار الفكري لتشكل مركزاً لإيقاظ الوعي الممكن ولإعادة إكتشاف النفس، وأخيراً للبحث عن مركز للتأثير. ولكي يتم ذلك كنا نريد أن نحلل الأمور، ونثير التساؤلات وأن نضفي معنى على القضايا. وهذا يفسر المكانة الخاصة التي كانت لمجلة (لام – ألف) في محيط الوسائل الإعلامية المغربية، وهي مكانة أحتفظت بها دائماً”.

مضيفة: “فيما يتعلق بالإستمرارية، فقد كان الأمر يختص بمؤسسة تجارية تدار وفقاً لمباديء تجارية بحتة وبدقة متناهية ووفقاً لوسائل حرفية مرنة. كان علينا أن نهتم بالمبيعات وبالإشتراكات وبالإعلانات، وهذا ما حدث بالفعل. كان من الضروري أيضاً أن ندعم دخلنا بعدة أنشطة فرعية مثل اليافطات للاتصال والإعلام وأصدارات أخرى متخصصة من أجل دعم الإستقلال المالي للمجلة. وعند الحصول على كل فائض مالي كنا نستثمره بصفة خاصة في الأعمال الفكرية. في باديء الأمر كان جميع المتعاونين في المجلة يعملون دون أجر، كما كانوا غير دائمين. ثم شيئاً فشيئاً أصبحوا مستقرين ولهم مرتبات. كذلك تم تحسين الوسائل التجارية ولكن دائماً دون تحمل تكاليف زائدة أكثر من اللازم، وتم تنمية المجلة. في 1966 كانت تصدر في حجم 40 صفحة ذات صبغة جديدة والغلاف بالبيلرومات، ولكن في 1988 أصبحت تصدر في 90 صفحة مع التوسع في إستعمال الطباعة الرباعية؛ وخاصة الغلاف الذي كان مخصصاً للوحات الرسامين المغاربة. وذلك بهدف وطني ولكنه جمالي أيضاً. بهذه الطريقة تمكنت المجلة من الحفاظ على إستقلاليتها، ويبدو أن ذلك كان أمراً نادراً. فلم تواجه المجلة في لحظة مشاكل مالية”.

“على الصعيد السياسي، يمكن أن نستخلص بعض العوامل التي دعمت إستمرارية هذه المجلة، ومنها الإحترام الدقيق لعرف غير مكتوب ينظم القواعد الأساسية للبقاء داخل مجال سياسي خاضع لرقابة شديدة وله تدرجات خاصة به، والإكثار من إستعمال الألفاظ المشروطة والمجازية والحرص في إستعمال اللفظ، ولكن على نحو مقبول وواضح إلى حد أن الجميع كانوا يفهمون ما يريدون فهمه دون مشاكل. وأيضاً إحترام المباديء الدولية. هكذا شاركنا في مجال الجدلية ومارسنا النقد الحازم، ولكن بشيء من الكياسة والكرامة. لم نقم أبداً بالتشهير بأحد، كنا نوضح ونقول ونحاول وضع الأشياء في إطارها الحقيقي.

“كان معنا الحظ أيضاً في متابعة إنبثاق الصفوة المغربية، فلازمنا صعود أوائل رجال الاقتصاد وأوائل علماء الاجتماع وأوائل رجال السياسة وأوائل الفنانين والمؤلفين.

“هكذا نجحنا في أن نصنع فريقاً من الناخبين، ليس لديهم فقط الوعي والشعور بالمسؤولية، ولكنهم أيضاً يتسمون بالإخلاص والولاء. فإن القراء من التلامذة قد بقوا مخلصين للمجلة عندما أصبحوا طلبة في الجامعات، وبعد ذلك عندما تولوا مسؤوليات سياسية واقتصادية، وقد كنا من جيل واحد. كنا شبابهم كما كانوا هم أيضاً شبابنا. وإنطلاقاً من هؤلاء كانت تتشكل أجيال جديدة. لم يكن الجميع متفقين معنا كما لم نكن نحن أيضاً متفقين مع الجميع. ولكن نحن قررنا أعطاء الكلمة لكافة الكفاءات العاملة وفي أي مكان توجد فيه فقد أستطعنا أن نجمع حولنا نخبة مثقفة، وأيضاً نواكب جزءاً من طريق سير بعض المسؤولين الذين كانوا ينتمون إلى إتجاهات تتعارض مع إتجاهنا، هكذا تمكن العديد من الوزراء في الحكومة الحالية من الكتابة على صفحات (لام – ألف).

“ولأذكر من العوامل الأخرى: التواضع. فقد كنا صحافيين لا أكثر ولا أقل، فلم نكن نطمع في أن نصبح شئياً آخر. وحيث كنا ندعو دائماً المجتمع إلى مراجعة نفسه فقد بدأنا بأنفسنا ! هكذا تمكنا من التغلب على الصعوبات وعلى مخاطر الحياة السياسية الغنية بالمشاكل وبالمآسي. وتمكنا من البقاء، وهو ما كان يوصف بأنه عمل باهر، إلى حد أن طبقات عريضة من المجتمع المغربي كانت تنظر إلى (لام – ألف) على أنها إحدى مؤسسات البلاد” (4).

المصــــادر:

مصادر الفصل الأول:

(1)     “دراسات في الحرية الإعلامية” – د. سليمان الشمري – مكتبة مدبولي – القاهرة 2011 – صـ 201 : 202.

(2)     “حرية الإعلام وتحديات العولمة” – د. عواطف عبدالرحمن – مجلة الدراسات الإعلامية – العدد 93 أكتوبر 1998 – صـ 62.

(3)     د. عواطف عبدالرحمن – “حرية الإعلام وتحديات العولمة” – مرجع سابق، صـ 72.

(4)     “هل نعيش حقاً طغياناً إعلامياً.. أم حرية في الإعلام ؟” – جورج طرابيشي – صحيفة الحياة – العدد 13406 – في 21/11/1999.

(5)     “الإتجاهات العلمية الحديثة لمفهوم حرية الصحافة” – د. سليمان صالح – مجلة الدراسات الإعلامية – العدد 93 أكتوبر 1998 – صـ 108.

(6)     “دعوة للرفق والتسامح مع شطط بعض القنوات الفضائية العربية” – فهمي هويدي – صحيفة الشرق الأوسط – 21/3/1999.

(7)     “البعد القومي في قناة الجزيرة: دراسة في حالة برنامج الإتجاه المعاكس” – د. سليمان جازع الشمري – قطر – مطابع دار الشرق 1999 – صـ 42-57.

(8)     د. سليمان الشمري – “دراسات في الحرية الإعلامية” – مرجع سابق، صـ 11 : 14.

(9)     مجلة New Perspectives Quarterly عدد 1995، صفحة 9.

(10)   “فخ العولمة.. الإعتداء على الديمقراطية والرفاهية” – هانس بيترمارتين وهارالد شومان وترجمة د. عدنان عباس علي – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت “سلسلة عالم المعرفة” – 1998 – صـ 45 : 47.

(11)   UNDP Human Development Report 1996، نيويورك، يوليو 1996. وراجع أيضاً، هانس بيترمارتين وهارالد شومان – “فخ العولمة.. الإعتداء على الديمقراطية والرفاهية” – مرجع سابق، صـ 57 : 62.

(12)   ORF-Teletext بتاريخ 10/8/1996. وكذلك صحيفةFrankfurter Rundschau بتاريخ 26/6/1996. وراجع أيضاً، هانس بيترمارتين وهارالد شومان – “فخ العولمة.. الإعتداء على الديمقراطية والرفاهية” – مرجع سابق، صـ 57 : 62.

(13)   “مهنة الصحافة في بلاد البحر المتوسط” – كينيث براون وحنا ديفيس طيب ود. أسامة الغزالي حرب وكارلوس غابيتا – مجلة “السياسة الدولية” مؤسسة الأهرام – القاهرة، 1995.

مصادر الفصل الثاني:

(1)     “أيمن الصياد عن جلسة «تأثير وسائل الإعلام» بمؤتمر شرم الشيخ: ما يريدونه الآن بالضبط كان صلب خلافي مع الإخوان” – جريدة “البداية” الإلكترونية القاهرية – 26 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(2)     “صحافة مصر بأقلام أبنائها.. أن تكون صحافيًا في مصر” – صحفيون ضد التعذيب – الموقع الإلكتروني في: 19 أيلول/سبتمبر 2016.

(3)     لمراجعة التحقيق كاملاً: “الجوانب المخفية من قضية “الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد” – بقلم تييري ميسان – شبكة فولتير – باريس (فرنسا) – الموقع الإلكتروني في: 15 شباط/فبراير 2007.

(4)     “دلالات عودة الإهتمام بـ”الإعلام الحربي” في المنطقة” – مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة – الموقع الإلكتروني في: 27 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(5)     “جمالية الصورة في دعاية الحرب” – د. تييري ميسان – شبكة فولتير – دمشق (سوريا) – الموقع الإلكتروني في: 23 آب/أغسطس 2016.

(6)     Ahmed Al-Rawi , Video games, terrorism, and ISIS’s Jihad 3.0, Terrorism and Political Violence Journal, Routledge, Aug 05. 2016.

(7)     ” تقرير بريطاني: البنتاغون أنفق أكثر من نصف مليار دولار “لفبركة” أفلام جهادية” – فرانس 24 العربية – الموقع الإلكتروني في: 4 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(8)     “المتلاعبون بالعقول.. دور الإعلام في الثورة المضادة” – سمير حمدي – نون بوست – الموقع الإلكتروني في: 29 آب/أغسطس 2013.

(9)     “ولاد المرة.. آخر تجليات شهوة الشهرة في الكتب” – تحقيق: مهدي مبارك – صوت altra – الموقع الإلكتروني في: 25 أيلول/سبتمبر 2016.

مصادر الفصل الثالث:

(1)     “لا مستقبل للصحافة المطبوعة دون تنازل عمالقة الإنترنت” – شبكة الصحافيين العرب – الموقع الإلكتروني في: 6 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(2)     “المهرج و”الشرموراطور” العاري” – جمال الجمل – جريدة مصر العربية – الموقع الإلكتروني في: 12 تشرين ثان/نوفمبر 2016.

(3)     “المواقع الإخبارية الإستقصائية تعيد التعريف بنموذج العمل الصحافي” – شبكة الصحافيين الدوليين ijnet – بترخيص موافقة من “News Entrepreneurs” – في 3 آب/أغسطس 2016.

(4)     “صحافي أو ناشط حقوقي: في العصر الرقمي، هذا لا يهم !” – شبكة الصحافيين الدوليين ijnet – في 10 آيار/مايو 2016.

(5)     “راكلة اللاجيء السوري.. تفوز بجائزة !” – المدن – ميديا – الموقع الإلكتروني في: 21 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(6)     “هل تعرف معنى “ويكيليكس” – (THE HUFFINGTON POST) عربي هافينغتون بوست عربي، أ. ف. ب – في: 2 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(7)     New Perspectives Quarterly عدد 1994، صفحة 2.

(8)     “واشنطن بوست: هل كانت السوشيال ميديا عبئًا على الثورة المصرية وتحولها الديمقراطي ؟” – ساسة بوست: مترجم عنHow social media undermined Egypt’s democratic transition – الموقع الإلكتروني في: 10 تشرين أول/أكتوبر 2016.

(9)     “تكنولوجيا الاتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة” – د. لقاء مكي العزاوي – قسم الإعلام / كلية الآداب جامعة بغداد.

مصادر “الخاتمة”:

(1)     “مهنة الصحافة في بلاد البحر المتوسط” – كينيث براون وحنا ديفيس طيب وآخرون – مجلة “السياسة الدولية” مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1995 – صـ 123 : 133.

(2)     كينيث براون وحنا ديفيس طيب وآخرون – “مهنة الصحافة في بلاد البحر المتوسط” – مصدر سابق – صـ 150.

(3)     “شبكة اجتماعية واحدة ذات رسالة متمردة: الإنترنت في العالم العربي” – جمال عيد وآخرون – الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان – 2009.

(4)     كينيث براون وحنا ديفيس طيب وآخرون – “مهنة الصحافة في بلاد البحر المتوسط” – مصدر سابق – 189 : 194.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب