15 نوفمبر، 2024 4:00 م
Search
Close this search box.

نحو إعلام ثالث للجماهير (1) .. من يُعَلم من ؟

نحو إعلام ثالث للجماهير (1) .. من يُعَلم من ؟

خاص : كتب : محمد البسفي :

مقدمة..

من يعيش حاضر الأيام راصداً لشأن الإعلام الصحافي اليوم، وخاصة داخل دول العالم الثالث أو الدول النامية، وأحواله تحت “مظلة” الإعلام الكوني المعولم، يلحظ بأن ما جاء به الباحثان “هانس بيترمارتين” و”هارالد شومان” في دراستهما الهامة (فخ العولمة: الإعتداء على الديمقراطية والرفاهية)، أواخر القرن المنصرم، حينما أقرا بعدم نجاة الصحافة والصحافيين من التبعات الكارثية للعولمة الاقتصادية الرأسمالية من تقليص فرص العمل وتسريح الأيدي العاملة وتفاقم نسب البطالة و”العطالة” بين ممتهنيها، لم يكن رجماً للغيب. “حيثما تجري المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، تعصف بالعمال، بلا هوادة على ما يبدو، زوبعة هوجاء تتمثل في فقدان العمل البشري لقيمته وفي ترشيد يقضي على فرص العمل. ففي الشطر الغربي من ألمانيا ضاع في القطاع الصناعي في الفترة الواقعة بين عام 1991 وعام 1994، أي في ثلاث سنوات فقط، ما يزيد على مليون فرصة عمل. علماً بأن ألمانيا في وضع لا بأس به مقارنة بالعديد من الدول الأخرى. ففي البلدان الأخرى المنضوية تحت راية “منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي” (OECD)، هذه المنظمة التي تجمع بين 23 دولة صناعية غنية وخمسة بلدان جوار فقيرة، تقلص عدد فرص العمل ذات الأجر الجيد على نحو أسرع. في عام 1996 زاد عدد السكان الذين يبحثون عن فرصة عمل من غير جدوى في بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي على 40 مليون مواطن. ومن الولايات المتحدة الأميركية شمالاً وحتى أستراليا جنوباً ومن بريطانيا العظمى غرباً وحتى اليابان شرقاً، ينخفض على نحو سريع المستوى المعيشي الذي يتمتع به الجمهور العام في الأمم الرائدة في الاقتصادي العالمي”.

ولم يكن مجرد تنبؤ من “بيترمارتين” و”شومان”، عندما قالا: “حتى تلك الصناعة التي ينبغي بها أن تكتب وتصف هذا التدهور، والتي ترى في الـ “bad news”، (الأخبار السيئة)، دائماً “good news”، (أخبار جيدة)، [بالنظر لما تقدمه لها الأخبار السيئة من مادة للكتابة]، نعم حتى هذه الصناعة نفسها قد صارت تعاني من التغيرات التي طرأت: فالصحافيون والموثقون والمحررون، هؤلاء أيضاً باتوا يئنون تحت وطأة عالم الـ “Tittytainment”، [النظام الأميركي الذي يعني التسلية المخدرة والتغذية الكافية لتهدئة خواطر ضحايا العولمة الاقتصادية]، المتزايد الإنتشار.

“وإعلاميون يتناقص عددهم بإستمرار يكتبون مواضيع أكثر وعلى نحو أسرع، من ناحية أخرى لم يعد بوسع الجيل الصاعد من الصحافيين ولا حتى الحلم بعقود العمل الدائمة، وميزانية النثريات المعتبرة التي كانت سائدة في وسائل الإعلام المطبوعة وفي محطات التليفزيون الحكومية. فما كان مستوى دارجاً لدى مجلة الـ Spiege أو الـ Stern ولدى محطة إذاعة WDR أو محطة BR، أضحى اليوم إمتيازاً يتمتع به قدماء العاملين وقلة من النجوم الصاعدة. أما المستجدون في المهنة فإنه يتعين عليهم أن يكتفوا بعقود غير آمنة ومكافآت ترتكز على عدد ما يكتبون من سطور. وحتى ناشروا الكتب وصناع الأفلام التليفزيونية والسينمائية قد أخذوا يشغَلون أرخص العاملين أجراً. وصار عدد من دور النشر الرابحة يتردد في تشغيل أيد عاملة جديدة، وذلك خشية مما يضمره المستقبل لهذه الصناعة التي أخذت تئن من وطأة أسعار الورق المتزايدة وعدد القراء المتناقص”.

فلم تدلل على صدق تلك الحقيقة أكثر ما دللت عليه السنوات القليلة الماضية. ومازلنا نشاهد تفاقم أزمات الإعلام الصحافي إلى اليوم، ليس فقط على مستوياتها الاقتصادية والنوعية من حيث تآكل دور وتأثير الصحافة الورقية أمام المواقع والصحف الإلكترونية، وإنما لإمتداد الأزمات لتآكل المهنة ذاتها “خبرياً ومعلوماتياً” أمام جبروت وسائل الاتصال الجماهيرية الأكثر حداثة من “سوسيال ميديا” و”ديجيتال ميديا” وغيرها، وبروز ما يمكننا أن نطلق عليه بـ”صحافة المواطن” كخطوة أولية على طريق “الإعلام الشعبي” بمفهومة الحديث.

فإن كان يمثل هذا وضعاً صعباً للمنظومة الإعلامية العالمية، فبدون شك يمثل لإعلام دول العالم الثالث النامية وضعاً أكثر خطورة سواء كونها الطرف الأضعف داخل جبروت آلة “الإعلام المعولم” أو لوضعية أغلبيتها التي مازالت تعاني تحت سيطرة أنظمة حكم محلية بدرجة أو بأخرى.

من هنا أنبثقت الحاجة لدراسة التبعية داخل منظومات إعلام دول الجنوب أو دول العالم الثالث، بشقيه الجاثمين اليوم على مشهده، ممثلاً لتبعية النظم السياسية الحاكمة بتلاعباتها المباشرة أو غير المباشرة، وشقٍ ممثل لتبعية الشركات متعددة الجنسيات داخل منظومة الإعلام المعولم، بغية الوصول إلى بلورة “شخصية إعلامية وطنية” مستقلة تستمد وترتكز على مقومات شعوبها وثقافتها على تباين ظروفها الجغرافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة في ظل ذاك الزخم الشعبي الفائر بالانتفاضات الشعبية عالمياً منذ 2011، وحتى اليوم، على إثر انهيار أوهام وسياسات “النيوليبرالية” الاقتصادية الشمولية، مطالبة بالمساواة والديمقراطية.

ورغم قلة الأبحاث والدراسات العلمية التي تناولت موضوعات التبعية في علوم وفنون الاتصال الجماهيري، وخاصة داخل المكتبة العربية لأسباب متباينة كان من أهمها خروج أغلب الآراء النذيرة في إشكالية التبعية الإعلامية من عباءة أنصار العولمة والمبشرون بها، إلا وتفردت مؤلفات ودراسات الدكتورة “عواطف عبدالرحمن” بنصيب الأسد في التغطية العلمية لأغلب جوانب تلك الإشكالية؛ سواء بمباحثها النظرية لرصد تفاصيل التبعية الثقافية والإعلامية داخل دول العالم الثالث أو لدراساتها التطبيقية لمنظومات إعلام تلك الدول كل على حدا كاشفة بواطن قوتها وجوانب خللها.

لذا فقد حاولت تلك الدراسة الإسترشاد بكل تلك الأبحاث الثرية علمياً بجوانبها النظرية والتطبيقية، بجانب الإعتماد على غيرها من الدراسات والمباحث في علوم الاتصال الجماهيري داخل المكتبة العربية والأجنبية، خاصة في أبوابها وفصولها الأولى.. حيث حاول الباب الأول الإجابة على التساؤل الرئيس في كشف ظاهرة التبعية داخل منظومة العولمة الكونية الحالية وهو: “من يُعَلم من ؟”.. متلمساً التعريف العلمي الأدق للتبعية والعولمة الإعلامية من خلال إستكشاف جذورها التاريخية والفكرية وحركة سيطرة دول الشمال على دول الجنوب داخل تلك المسيرة التاريخية، لإيضاح ميكانيزمات أو آليات السيطرة على خريطة التبعية العالمية وأهدافها الوظيفية.

أما الباب الثاني فقد رصد الحركة الجدلية بين تطور الإعلام الصحافي لدول العالم الثالث ونسب سيطرة نظم الحكم المحلية عليه داخل ظاهرة العولمة الإعلامية والثقافية التي غزت العالم بشموليتها على أجنحة التقدم التكنولوجي وتعدد وسائل الاتصال الجماهيري، من خلال إستعراض المسيرة التاريخية الطويلة للصحافة الوطنية منذ نشأتها النضالية التي نشدت الاستقلال والديمقراطية وحتى تبعيتها الموضوعية تاريخياً للسلطة الوطنية ومعناتها لكافة أشكال الرقابة ومستوياتها وصولاً لعصر العولمة الإعلامية.

ليأتي الباب الثالث، محاولاً كشف مستويات تضليل وكذب حركة الإعلام المعولم وزيف ديمقراطيته، وإستكشاف ملامح الشخصية الإعلامية الوطنية المستقلة المرجوة وكيفية تنفيذها وتطويرها وتحديثها في مجابهة جبروت آليات العولمة الشمولية، لأداء أهدافها الوطنية في تنمية وتوعية وتطوير مجتمعاتها.

الباب الأول: (من يُعلَم من ؟)

الفصل الأول: في تعريف التبعية.. الإعلامية !

رغم تعدد وتباين المنظَرين والفلاسفة الذين تناولت دراساتهم ومداخلاتهم قضية التبعية الثقافية والإعلامية، إلا وأنه لا توجد نظرية مكتملة تفسر الاستعمار الثقافي أو التبعية الإعلامية الثقافية، وبالتالي عدم وجود مفهوم محدد للعولمة كأحدث نظرياتها التطبيقية، وإنما توجد مجموعة من الدراسات والكتابات الهامة التي تشكل في مجملها ما يمكن أن نطلق عليه “مدرسة التبعية” في مجال الإعلام والثقافة، في مواجهة المدرسة الغربية الرأسمالية في الإعلام ومن أبرزها من حيث الإنتشار المدرسة الأميركية.

الجذور التاريخية والفكرية لمدرسة التبعية:

وإن كانت المدرسة الغربية تعد أقدم المدارس الفكرية في مجال التنظير للإعلام الرأسمالي، فإن المدرسة الأميركية التي تعد أحدث فروعها، قد أغرقت المكتبة الإعلامية العالمية في السنوات الأخيرة بالكثير من الدراسات والبحوث عن علوم الإعلام والاتصال، وخاصة فيما يتعلق بالإعلان والعلاقات العامة ومسوح الرأي العام. إلا وأن المدرسة الفرنسية، قد ركزت على دراسات تاريخ الصحافة وعلاقة العلوم الاجتماعية بالصحافة. بينما خرجت من المدرسة البريطانية فئة من الباحثين الإعلاميين يقودهم البروفيسور “جيمي هالوران”، تخصصت في البحوث الإعلامية التي تتناول علاقة الإعلام بالقضايا العالمية والمحلية المعاصرة من منظور مجتمعي شامل، مهتمة بقضايا وإشكاليات الاتصال والإعلام في الدول النامية. أما المدرسة الإشتراكية في الإعلام فمن المعروف أنها تستند إلى النظرية الماركسية اللينينة في دراساتها ومعالجتها لقضايا الإعلام في الدول الإشتراكية وفي العالم الثالث.

ويرجع عدم تحديد مفهوم موحد للتبعية والعولمة، إلي طبيعة الظاهرة ذاتها وتعدد صورها وأشكالها وشمول تشعب جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

وتعتبر أميركا اللاتينية هي موطن الاجتهادات الأولى لكتاب مدرسة التبعية، مما أثقل تلك المدرسة بميزة أنها المدرسة الفكرية الوحيدة التي حاولت تقديم تفسيراً لظاهرة التخلف من وجهة نظر أبناء العالم الثالث أنفسهم، ودفعها بشدة نحو إنتشار أفكارها بسرعة بين صفوف العلماء الاجتماعيين في سائر أنحاء العالم الثالث. ويلاحظ تنوع وتباين الانتماءات الفكرية لكتاب مدرسة التبعية. ولكن هناك محاولات واضحة من جانبهم للاستفادة ببعض مقولات التراث الماركسي الكلاسيكي والحديث خصوصاً كتابات “لينين” عن الإستعمار، و”لوكسمبورغ” عن التراكم الرأسمالي، إلى “بول باران” و”بول سويزي” عن الفائض الاقتصادي. ولكنهم وظفوا نتائج هذه الدراسات لدراسة الواقع المعاصر للعالم الثالث بصورة ساعدتهم على إستخلاص مجموعة من الاستنتاجات التي تختلف عما إنتهت إليه المدرسة الماركسية وإن لم تتناقض معها (1).

كما أستخدمت مدرسة التبعية أيضاً, بعض مناهج “مدرسة فرانكفورت”، كأبرز المدارس النقدية، والتي تأسست في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين وأعتمدت مصطلح “النظرية النقدية” لوصف إتجاهها لدراسة الحياة الاجتماعية، ومن ثم رأى بعض الباحثين مثل (لازرسفيلد ولانغ وروغرز) أن يشخصوا الإتجاهات النقدية على أنها إما مرتبطة بمدرسة فرانكفورت أو تطورات عنها، ويُعزى هذا الخلط إلى العلاقة التاريخية الفريدة بين دراسات الاتصال وهذه المدرسة (2).

وربما تنوع وتعدد التعريفات التي طرحتها “مدرسة التبعية” وكتابها لمفهومها ولظاهرة العولمة، قد أثرى تلك المدرسة. إلا أنه يمكننا التمييز بين إتجاهين رئيسيين يحاول كل منهما الكشف عن بعض جوانب الظاهرة. ينظر الإتجاه الأول إلى التبعية على أنها علاقة بين اقتصادين أحدهما مسيطر والآخر تابع. ومن أبرز تعريفاته ما قدمه الاقتصادي البرازيلي “دوس سانتوس”، إذ رأى أن التبعية هي علاقة بين اقتصاد مسيطر يتوسع ويواصل نموه الذاتي، في حين لا يُمكَن الاقتصاد التابع من تحقيق ذلك إلا كإنعكاس لهذا التوسع، أي يتوقف نمو أحدهما (التابع) على توسع الآخر (المسيطر).

ويوضح هذا التعريف إنقسام الاقتصاد العالمي – دون تحديد ماهية ذاك الاقتصاد ونوعه – بين مجموعتين من الدول. مجموعة مسيطرة ومجموعة تابعة تعاني آثار توسع المجموعة الأولى في كافة الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ومن الواضح أن أنصار هذا الإتجاه الذين يولون أهمية كبرى للعوامل الخارجية.

وهم بذلك يختلفون إختلافاً بيناً مع أنصار الإتجاه الثاني الذي يعتبر التبعية، تعبيراً عن مجموعة من البناءات أو التكوينات الاقتصادية والاجتماعية التي تخدم أهداف السيطرة الرأسمالية. ويتزعمهم عالم الاجتماع البرازيلي “فرناندو كاردوشو”، الذي يرى أن ظاهرة التبعية لا يمكن إرجاعها إلى علاقات الإستغلال والقهر الخارجية فحسب. بل تنبع من التوافق بين صالح الطبقات المسيطرة المحلية والدولية كما يتحداها من الناحية الأخرى المجتمعات والطبقات الواقعة تحت السيطرة. إن ظاهرة التبعية في نظر “كاردوشو” هي علاقة تاريخية متغيرة؛ ولذلك فإن بناءاتها وتعبيراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حالة تحول دائم. لهذا يرفض “كاردوشو” وضع تعريف جامع مانع لظاهرة التبعية. ويرى أن القضية التي يجب أن تنال إهتمام الباحثين هي السعي من أجل اكتشاف الصلة بين العوامل الداخلية والخارجية التي تطرأ على العلاقة بينهما والتي تنتج غالباً عن تناقضات المصالح بين الطبقات الحاكمة المحلية وبين حلفائها من القوى الأجنبية.

أما الإسهامات العربية التي يمكن إضافتها إلى التراث الفكري لأطروحات “مدرسة التبعية”، فقد تضمنت نوعين من الجهد، تمثل أولهما في الكتابات والتعليقات النظرية ومن أبرزها كتابات “د. سمير أمين” التي تعد إسهاماً عربياً مرموقاً في هذه المدرسة بما قامت به، بعدد كبير من البحوث الهامة التي تناولت الدول العربية في شمال إفريقيا. ويؤسس “سمير أمين” تحليله للتبعية على الإضافات التفصيلية التي قدمها عن علاقة التبعية بالتبادل اللامتكافيء بين الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة وبين دول العالم الثالث. ويرى أن هناك مجموعتين متميزتين من قوانين النمو الرأسمالي؛ إحداهما خاصة بالمركز والأخرى خاصة بالهوامش. ويتجه النمو الرأسمالي بالمركز إلى القضاء بشكل نهائي على التشكيلات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية المتقدمة، إذاً فإن بنية السوق العالمي هي التي تفرض التطور اللامتكافيء على بلدان الهامش. ويرجع عدم التكافؤ الذي يتسم به التبادل بين المركز والهامش إلى أن السلع المتبادلة تحوي كميات غير متكافئة من العمل. كما أنها تعكس مستويات غير متكافئة من القدرات الإنتاجية. ويظل هذا اللامتكافيء باقياً بسبب ركود التشكيلات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية في بلدان الهامش، وبسبب إستحواذ المركز على الصناعات الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية. أما السبب الأخير فهو سيطرة الإحتكارات الرأسمالية الدولية على الأسعار.

كما قام “فوزي منصور” بتحليل تاريخ العلاقة بين دول المركز والبلدان التابعة، من خلال ثلاث مراحل تاريخية، تتميز كل منها بأسلوب خاص في إستخلاص الفائض الاقتصادي من هذه البلدان لصالح المركز. وكذلك أسهام “د. حسن الضيقة” الذي أهتم بدراسة أثر التبعية في تعميق التجزئة داخل الوطن العربي، و”د. إبراهيم سعد الدين” الذي قدم عرضاً نقدياً للإتجاهات المختلفة داخل “مدرسة التبعية”، وأوضح كيفية إستخدام مفهوم التبعية في دراسة الواقع العربي المعاصر، و”د. مصطفى كامل السيد” الذي قدم أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة جنيف عن ظاهرة العنف السياسي والإحتجاج في بعض دول العالم الثالث مستعيناً بالإطار التحليلي لمدرسة التبعية.

أما النوع الثاني من الإسهامات العربية في “مدرسة التبعية”، فتمثلت في الدراسات التطبيقية التي كان من أبرزها الدراستان اللتان قدم إحداهما “عادل حسن” عن مسيرة الاقتصاد المصري من الإستقلال إلى التبعية (1974 – 1979)، والدراسة الثانية أعدها “د. جلال أمين” عن أثر التطورات الرأسمالية العالمية على التنمية المستقلة في العالم العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى هزيمة 1967. ولا يطرح “جلال أمين” تعريفاً محدداً للتبعية. وإنما يذكر جوهر هذا التعريف في تحديده لمنهج الدراسة. فيرى وجوب إنطلاقنا في تفسير التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي بدول العالم الثالث التي تخضع للنفوذ الأجنبي من دراستنا للتطورات التي تحدث في الدولة المسيطرة “فدرجة الإستغلال وحلول نظام اقتصادي مفتوح محل نظام اقتصادي مغلق وإصابة النمو الاقتصادي بالشلل وتعرض ثقافة الدولة الخاضعة لتحولات مفاجئة من الإستقلال إلى التبعية؛ كل هذا لا يمكن تفسيره بدون العودة إلى العوامل الخارجية”. فهو يؤكد دائماً أن التبعية ترجع إلى سيطرة قوى خارجية هي الدول الرأسمالية في أغلب الأحيان. ويحاول أن يبرز ذلك مستشهداً بالنمط المتكرر في التاريخ العربي المعاصر. وذلك من خلال متابعة للتطورات الاقتصادية والسياسية التي تعرضت لها الدول الكبرى التي سيطرت على مصير الشرق العربي منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى اليوم وإنعكاس هذه التطورات على الواقع الاقتصادي والثقافي في العالم العربي.

ويعتبر “أمين” هو الاقتصادي العربي الوحيد الذي تعرض بإفاضة للآثار الثقافية المترتبة على التبعية الاقتصادية للغرب الرأسمالي. مشيراً إلى الدول العربية التي تتبع سياسة الإنفتاح الاقتصادي على السوق العالمي وإبراز الأخطار الثقافية المترتبة على هذا الإنفتاح. حيث تقترن به حملة نفسية لتغيير أنماط الإستهلاك في البلدان الفقيرة بما يحقق مصالح الدول الصناعية. ويوضح ما تؤدي إليه حملات ترويج هذه الأنماط الإستهلاكية من خلق حالة من التغريب الثقافي بسبب إختلاف هذه القيم الإستهلاكية عن التراث الثقافي السائد. ويرى “أمين” طريق الخلاص والإستقلال للدول التابعة بتأكيده على ضرورة رفض المفهوم الغربي الرأسمالي للتقدم “فالتقدم ليس زيادة الإنتاج وليس النمو مع إعادة التوزيع؛ بل هو التحقق المتزايد لقيم المجتمع وثقافته الخاصة”، ملحاً على ضرورة إضافة الهدف الحضاري إلى الهدف الاقتصادي، بل يعتبره شرطاً أساسياً لتحقيق الإستقلال بمفهومه الشامل (3).

أما “صادق جلال العظم” فقد أجمل رؤيته للعولمة: بـ “إنها وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن، إلى نقطة الإنتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها، أي أن ظاهرة العولمة هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله. العولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق؛ بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره”، ويمضي “العظم” ليقول أن العولمة هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافيء (4).

ويمكن في هذا التعريف ملاحظة تمركز العولمة عند حدود الاقتصاد، لكنه وفي إشارته إلى عبارات مثل: “نشر علاقات الإنتاج الرأسمالية”، “رسملة العالم على مستوى العمق”، “حقبة التحول الرأسمالي العميق..”، في هذه العبارات كان واضحاً أن “العظم” حاول ملامسة التجليات المتعددة للعولمة التي تجاوزت حدود الاقتصاد لتشمل بنى المجتمعات وثقافتها، حتى وصل الأمر حد التعرض لمفاهيم أساسية مثل “السيادة, الأمن القومي، القومية، الثقافات المحلية”، وصولاً إلى الأديان ذاتها، لكن الأساس في كل ذلك هو أن الدول المهيمنة متجسدة بالغرب، الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، تسعى إلى نشر وتعميم أنماط في سبيل تكريس هيمنتها وتفوقها وإدامة تبعية عشرات الدول الأخرى لها (5).

وإن كانت “مدرسة التبعية الاقتصادية” قد خرجت من قلب العالم الثالث، فإن “مدرسة التبعية الثقافية والإعلامية” قد خرجت من قلب المجتمع الأميركي ذاته. حيث يمكن أن نرمز لنشأتها بصدور الدراسة الرائدة التي قدمها البروفيسور “هربرت شيللر” بعنوان “الإعلام والإمبراطورية الأميركية”؛ والتي أوضح فيها الأبعاد الحقيقية للإمبراطورية الإعلامية في الولايات المتحدة الأميركية وأخطارها الاجتماعية والثقافية على الدول النامية. وتضم “مدرسة التبعية الإعلامية” نفراً من الأساتذة والباحثين الإعلاميين، لا ينتمون في أغلبهم إلى دول العالم الثالث، بل يمثلون الجناج الراديكالي في المدرسة الغربية. وقد أنبثق إهتمامهم، بقضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث إنطلاقاً من الدراسات الهامة التي قدمتها مدرسة التبعية الاقتصادية في أميركا اللاتينية، وبعض الدراسات التي قدمتها المدرسة الإشتراكية في الإعلام. فضلاً عن الدراسات الرائدة التي قدمها البروفيسور “شيللر” عن الإستعمار الثقافي والإعلامي؛ مستعيناً بوقائع وتطورات التجربة الأميركية في الإعلام، وقد كان حريصاً على إبراز تناقضاتها ومخاطرها على شعوب العالم الثالث.

ومن أبرز كتاب التبعية في المجال الإعلامي والثقافي البروفيسور الأميركي “هوربرت شيللر” و”كارل نورد تستريبم”، و”تابيوفاريس” (فنلندا)، و”كارل سوكانت” و”بالاس سميث” (كندا)، و”راكيل ساليناس” و”لينا بالدان” (فنلندا)، و”أرمان مائل أرت”، و”سميت سيبحلوب” (فرنسا)، و”تران فان دنا” (فيتنام). ومن أبرز الهيئات العلمية التي تهتم بدراسات التبعية الإعلامية والثقافية (معهد أميركا اللاتينية للدراسات العابرة القومية) بالمكسيك، ويضم مجموعة من الباحثين والباحثات الذين ينتمون إلى دول أميركا اللاتينية وبعض دول العالم الثالث، و(المركز الدولي للدراسات الإعلامية) بفرنسا وهو يضم نخبة من العلماء الاجتماعيين والباحثين الإعلاميين الذين ينتمون إلى الدول الغربية. ويضاف إليهم مركز البحوث والدراسات الإعلامية بجامعة “ليستر” البريطانية، ويمكن القول بوجه عام أنه لا توجد إختلافات حادة بين إتجاهات كتاب التبعية الإعلامية والثقافية رغم تباين أصولهم الفكرية. فهم خليط من التيارات الليبرالية والماركسية. وهناك شبه إجماع بين هؤلاء الكتاب على تشخيص جوهر التبعية الإعلامية الثقافية في العالم الثالث، وإرجاعها إلى عوامل تاريخية تتعلق بالسيطرة الإستعمارية الغربية، مضافاً إليها المحاولات الدائبة التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة المعاصرة للسيطرة على ثقافات العالم الثالث، وإخضاعها لصالح السوق الرأسمالي العالمي. وتستعين في تحقيق ذلك بقدراتها الإعلامية الضخمة من خلال وكالات الأنباء الغربية والأقمار الصناعية. علاوة على إمكانياتها الهائلة في مجال تكنولوجيا الاتصال والنشاط الاخطبوطي للشركات المتعددة الجنسيات ووكلات الإعلان الدولية (6).

في حين أرجع “رونالد روبرتسون” ظاهرة العولمة، إلى تواريخ أكثر قدماً، حيث يقسمها إلى خمسة مراحل ترجع إلى بواكير القرن الخامس عشر، حيث ظهرت حينها ما أسماه بـ “المرحلة الجنينية”، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة التي أسماها بـ “مرحلة عدم اليقين” التي تستمر منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى هذا اليوم، والتي شهدت إدماج العالم الثالث في المجتمع العالمي ونهاية الحرب الباردة، وشيوع الأسلحة الذرية، وزيادة المؤسسات الدولية، وبدء مشكلة تعدد الثقافات وتعدد السلالات داخل المجتمع الواحد وظهور ما يعرف بالمجتمع المدني العالمي والمواطنية العالمية وتدعيم نظام الإعلام الدولي (7).

الفصل الثاني: تاريخية حركة سيطرة الشمال على الجنوب..

ربما من الهام قبل استعراض الآليات التنفيذية أو ميكانيزمات السيطرة الإعلامية لدول الشمال المتقدم على دول الجنوب، تأمل الحركة التاريخية لهذه السيطرة التي نعتت منذ عهود الإستعمار العسكري المباشر لدول العالم الثالث، “آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية”، بالعديد من التوصيفات والمسميات مثل الغزو الثقافي والتغريب وصولاً للعولمة الثقافية/الإعلامية، التي نجحت في يومنا الحاضر أن تصبح ظاهرة كاملة متجسدة في أتم صور الهيمنة الإعلامية، على أجنحة “التحديث” الذي أعتبره كثير من الباحثين في علوم الاتصال الجماهيري – داخل كافة المدارس الفكرية – مجرد نظرية تصدير المجتمعات الغربية الصناعية المتقدمة لشبكاتها المالية ونشاطاتها الاقتصادية وأنماطها الإستهلاكية وبناءاتها التكنولوجية إلى الدول النامية كنموذج وحيد يجب الإحتذاء به. كما أكدت إحدى الباحثات على “تركز الحملات الإعلامية والإعلانية الخاصة بترويج مفهوم التحديث على أهمية التكنولوجيا الحديثة وملحقاتها. ويشيع التفكير الذي يرى أن التكنولوجيا وسيلة طبيعية يمكن إستخدامها في كل المجتمعات وفي ظل كل الأنظمة ولخدمة أهداف مختلفة، ويكمل هذه الفكرة على المستوى الإعلامي فكرة التدفق الحر للأنباء والمعلومات التي تروج لنفس المضمون وهو حق كل إمريء في أن يشارك في هذا التدفق. ولكن من الناحية الواقعية فإن التدفق يمارس في إتجاه رأسي أحادي الجانب ويتجه من الشمال إلى الجنوب لصالح الدول الصناعية المتقدمة. كذلك تبرز مشكلة الدول النامية في عدم إختيار التكنولوجيا الملائمة لإحتياجاتها ومواردها وخلفيتها الحضارية” (8).

فبإستعراض الأرقام والإحصائيات التي ساقتها العديد من الدراسات لتوضيح الخرائط الإعلامية لدول العالم الثالث، التي تضم أكثر من ثلاثة أرباع تعداد سكان العالم، نتلمس التوزيع غير العادل أو المتوازن، سواء لظاهرة تدفق الأنباء والمعلومات أو لإنتاج المحتوى. وسوف نكتفي بدراستين أعدهما باحثين عربيين، أولهما أُعدت في العقد الثامن من القرن العشرين وثانيهما أنتجت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واللاتي يوضحان البون والفرق الشاسع بين دول الشمال المتقدم ودول الجنوب في وسائل الاتصال والإعلام، والذي أحتفظ بنسبه البينية على مدار أكثر من ثلاثة عقود من تطور وتمحور التبعية إلى العولمة.

فقد رصدت “د. عواطف عبدالرحمن”، في دراستها التي صدرت في ثمانينيات القرن الماضي، أن دول العالم الثالث، “آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية”، المأهولة بثلاثة أرباع سكان العالم، لا تملك سوى نصف مجموع الصحف، “وربع مجموع التوزيع في العالم. ويبلغ متوسط التوزيع نسخة واحدة لكل 95 شخصاً في إفريقيا، ولكل 15 شخصاً في آسيا. وعلى الرغم من أن الهند بها 835 صحيفة مختلفة فإن توزيعها يكاد يكون مقصوراً على المدن، ويبلغ متوسط التوزيع 16 نسخة لكل ألف من السكان. وهناك 7 دول إفريقية وثلاث دول عربية لا توجد بها صحف يومية ما عدا بعض النشرات الحكومية المطبوعة على الرونيو. وفي 13 دولة إفريقية صحيفة واحدة غير يومية لكل دولة، وذلك على عكس أميركا اللاتينية، حيث تنتشر الصحف في المدن الكبرى والصغرى على السواء، ويبلغ متوسط توزيع الصحف 70 نسخة لكل ألف من السكان”.

أما على مستوى الإذاعة، فقد لاحظت الباحثة، أن نسبة نموها “قد تجاوزت الحد الأدنى الذي حددته اليونسكو، (5 أجهزة راديو لكل مئة شخص)، في كل من أميركا اللاتينية وآسيا، وتوشك إفريقيا أن تحقق الحد الأدنى في السنوات القليلة القادمة. ويتميز الراديو بأهمية خاصة في دول العالم الثالث بسبب قلة وصول الصحف إلى المناطق الريفية، وأيضاً بسبب إنتشار الأمية على نطاق واسع. ومع ذلك تبلغ أوجه التفاوت في مجال الإذاعة حداً صارخاً، إذ يبلغ نصيب دول العالم الثالث 21% من مجموع أجهزة الراديو في العالم موزعة كالتالي: آسيا 12%، أميركا اللاتينية 6% ثم إفريقيا 3%. هذا في حين يبلغ نصيب أميركا الشمالية وحدها 48%”.

“أما التليفزيون فإن ظهوره كوسيلة إتصال جماهيري يعد تجسيداً لخلاصة التقدم الذي أحرزته وسائل الإتصال في السنوات الخمس والعشرين الماضية. وتعد فرنسا وإنجلترا أول الدول التي بدأت في إرسال برامج تليفزيونية منتظمة منذ عام 1936 ولم يأت عام 1975 حتى أصبحت توجد خدمات تليفزيونية في 138 دولة في العالم. كذلك فإن إنتاج البرامج التليفزيونية مقارنة بالبرامج الإذاعية يعد عملاً باهظ التكاليف. كما أن للدول النامية أولويات أخرى أشد إلحاحاً ولهذا تمتليء شاشات التليفزيون لعدة ساعات ببرامج مستوردة صنعت أساساً لمشاهدين في الدول المتقدمة. وتشغل هذه البرامج المستوردة أكثر من نصف الإرسال في كثير من الدول النامية” (9).

والملاحظ هنا أنه برغم شيوع النزعات القومية والروح الوطنية التي سادت جميع دول العالم الثالث في تلك الحقبة التاريخية نتيجة الإستقلال الوطني عن دول الإستعمار الغربي “المباشر” القديم، ونجاح الحركات التحررية في حكم بلدانها، إلا وقد أحتفظت الصحافة الوطنية – خلال تلك العقود – بنفس إتجاه الإستعمار القديم في تدفق الأنباء وإنتاج وسائل الإتصال الجماهيري، من أعلى إلى أسفل، أي من العواصم الكبرى إلى الأقاليم والأرياف. فقد حذرت منظمة “اليونسكو” في إجتماعاتها المتعددة خلال فترة السبعينيات، من إزدياد إتساع وقوة الصحف التي تصدر في العواصم بأغلب دول العالم الثالث على حساب الصحف الصغيرة، وخصوصاً الريفية التي يجب أن تمنح فرصة الإستمرار في الصدور، دون عوائق نظراً لأهميتها البالغة في هذا الجزء من العالم.

وقد حاولت بعضً نذير من دول العالم الثالث معالجة هذه الإشكالية بتجربة “المشروعات التعاونية” داخل منظوماتها الإعلامية الوطنية؛ من خلال إنشاء شركات وصحف قليلة التكاليف والنفقات، تتمتع بتسهيلات سلطوية أكثر داعمة للصحف الصغيرة، وكذا تمتعت بخاصية أهم وهي توجيه النقد الحاد بل ومهاجمة الحكومات القائمة على رعايتها وتمويلها. مثلما حدث في “إندونيسيا” خلال الستينيات، وتجربة “ليبيريا” المميزة في بداية الستينيات عندما زودت حكومتها 25 منطقة ريفية بأجهزة الطباعة وزودتها بالتدريبات الفنية اللازمة لكيفية تحرير وطباعة الصحف الصغيرة، ثم إنسحبت لكي تمنحها فرصة العمل المستقل تحت إشراف أهل الريف أنفسهم.

“ولا يمكننا تجاهل المظاهر السلبية الناتجة عن المنافسة الضارة بين الصحف الصغيرة في الدول النامية. ففي عام 1965 كان يوجد في مدينة “دافاو” بالفلبين 9 مجلات أسبوعية، ولا توجد صحيفة واحدة يومية. في حين أن تكاليف الإنتاج كانت سوف تنخفض كثيراً لو فكرت هذه الصحف التسع في تكوين شركة تعاونية تتولى إصدار هذه الصحف وفقاً لبرنامج زمني، مما كان سيوفر للمدينة صحيفة يومية على الأقل. لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف في ظل التنافس الأناني الذي يحكم أصحاب هذه الصحف.” (10).

أما “د. لقاء العزاوي”، في دراسته الحديثة لظاهرة العولمة، فقد دلل على إكتساح تلك الظاهرة لأرجاء العالم في يومنا الحاضر، بأنه حتى مع وجود حكومات تمنع إمتلاك أطباق إستلام بث الأقمار الصناعية، فإن التقنية الحديثة أتاحت تجاوز كل ذلك، “حيث أتفقت خمسة عشر شركة أميركية وأوروبية ويابانية على مشروع يؤدي إلى تطويق الكرة الأرضية بكوكبة من الأقمار الصناعية، تساعد أي فرد في العالم على الإتصال بأي شخص وإلتقاط البث الفضائي مباشرة دون الحاجة إلى الأطباق أو أي خدمات أرضية لتصبح هذه الأطباق تكنولوجيا قديمة تجاوزها الزمن، بل أن إحدى الشركات الأميركية صرحت بأنها ستطلق خلال العام 2002 قمراً صناعياً يبث ألف وخمسمائة قناة تليفزيونية في آن واحد، وأن كفاءته ستعادل مجموع الأقمار الصناعية الحالية، وقد أطلقت الولايات المتحدة على هذه المشاريع أسم الشبكة الكونية للشبكات، (Global Network of Networks)، لتكون البنية التحتية الكونية للمعلومات في عصر العولمة”.

كما تسارعت وتيرة تطور تقنيات الإرسال الفضائي بعد “رقمنته” لزيادة وضوحه وسرعته، منذ سنوات، مما أتاح إمكانيات أفضل وأكبر للإتصال الجماهيري التفاعلي. ويقول الباحث: “غير أن التطور اللافت يتمثل بدمج شاشة التليفزيون بالحاسوب والإنترنت لنحصل على جهاز جديد متكامل يوفر للإنسان كل ما يحتاجه من معلومات وأخبار وترفيه، وسياحة، وإعلانات، والتحادث مع آخرين في أماكن قصية، والتبضع من أسواق تقع في قارات آخرى، وعقد صفقات تجارية، وإجراء مفاوضات سياسية، أو إلقاء محاضرات على طلبة في عدة جامعات حول العالم.. وغير ذلك من مظاهر الحضارة الجديدة التي وفرتها تقنيات الإتصال وألغت بها الحواجز والحدود والمسافات وكل القيود والمحرمات المعروفة” (11).

الأمر الذي مهد لدخول “شبكة الإنترنت”، التي أحدثت فورة عظيمة زكت مصطلح “إطلاق عصر ثورة المعلومات” لدى الكثير من الباحثين، لما حققته من متغيرات حادة في شكل ونمط الإتصال وسرعته، وفي حجم ونوع المعلومات المتداولة، وفي نسفها لكل ما هو معروف من قيود وحدود تقنية أو قانونية، ولسرعة إنتشارها خلال سنوات معدودة خارج نطاق الإستخدام النخبوي إلى النطاق الجماهيري الواسع، ولا سيما في الولايات المتحدة ودول الغرب، حتى بلغ عدد مستخدمي الإنترنت أكثر من 200 مليون شخص يتعرضون لنسبة نمو تبلغ واحد في المئة كل يوم حسب التقديرات النظرية.

وبرغم هذا الكم الهائل من الإنتشار العالمي، ظلت منظومة تكنولوجيا الإتصال المتقدمة حكراً على الدول المتقدمة في الشمال الغني والمهيمن، وأن معظم بلدان العالم الثالث لم تتمكن من مواكبة هذا التطور أو التفاعل الإيجابي معه، كما أكدت الإحصائيات التي ساقها “لقاء العزاوي”، موضحاً: “أن 60% من إجمالي عدد مستخدمي الإنترنت في العالم يقيمون في أميركا الشمالية، رغم أن سكانها يمثلون 5% فقط من سكان الأرض، في حين أن إفريقيا، وهي قارة كاملة، ليس فيها سوى 14 مليون خط هاتفي – مع ملاحظة أن خطوط الهاتف تمثل البنية الأساسية لإقامة شبكة الإنترنت – أي أقل مما يوجد في مدينة طوكيو، والهند رغم شهرتها كسوق ناشيء في مجال البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، إلا أن نحو ربع مليون قرية من قراها ليس فيها خط هاتفي واحد”. وقد دفع هذا الواقع أحد الباحثين – وهو الدكتور “عبدالجليل كاظم” في دراسته: (جدلية العولمة بين الإختيار والرفض) – إلى القول بوصف الشبكة العالمية للمعلومات “الإنترنت” بأنها ليست عالمية على الإطلاق”.

وطبقاً لإحصائيات “منظمة اليونسكو” المنشورة في سنة 2000، “تؤشر الإحصاءات الدولية إلى أن 3% فقط من مجمل الإستخدام العالمي للإنترنت يوجد في قارات آسيا (بإستثناء دول المحيط الباسيفيكي) وإفريقيا وأميركا اللاتينية، كما تسيطر على صناعة تقنيات المعلومات والإتصالات 88 شركة، 39 منها أميركية و19 أوروبية غربية و7 يابانية. وحتى مع وجود صناعات للحاسوب وبعض التقنيات المتطورة في دول نامية مثل الهند، فإن هذه الصناعات تنحصر اليوم فيما يسمى بـ (القوى الصلبة)، بعد أن تخلت معظم الدول المتقدمة عن صناعتها، وأصبحت بدلاً من ذلك تسيطر على صناعة البرمجيات المسماة بالقوة المعرفية اللينة (Soft Power)، وهي التي تضم إمكانيات تشغيل أجهزة الحاسوب، والإفادة من إمكانياته” (12).

وكما يتجسد التفوق المالي الأميركي بقدرات اقتصادية ضخمة داخل أميركا وخارجها، وبدخل قومي بلغ خلال عام 2000 أكثر من 6.3 تريليون دولار، مقابل 3.2 تريليون دولار لمجموع دول الإتحاد الأوروبي، و3 تريليون في اليابان، يتطابق نفس هذا المستوى من التفوق على القدرات الإعلامية والإتصالية الأميركية، حيث “أن أربع مجاميع من الكارتلات الإعلامية الكبرى، (شركات الوسائل والمحتوى)، من أصل ست مجاميع في العالم هي أميركية ومجموعة واحدة أوروبية ومجموعة سادسة أسترالية أميركية، كما أن إحصاءات اليونسكو تتحدث عن 300 شركة إعلامية هي الأولى في العالم، 144 منها أميركية”.

وكذا تمتلك الولايات المتحدة وحدها 65% من المادة الإعلامية العالمية، بكل تفرعاتها من أخبار ومواد للترفيه وبرامجيات للحواسيب, وألعاب إلكترونية، وأفلام سينمائية… إلخ، في حين تسيطر دول الشمال الآخرى على غالبية النسبة المتبقية. وقد شهدت سنوات التسعينيات من القرن الماضي, تركيزاً كبيراً لرأس المال في شركات ومؤسسات الإعلام والإتصال الغربية، وهناك الآن ما لا يقل عن أثنى عشر عملاقاً صناعياً أميركياً في مجالات الإتصالات والإعلام والمعلومات من منتجي للبرامج والمواد التي تغرق السوق الأميركية والعالمية.

وحتى مع نظم التلفزة، فالإحصائيات التي كشف عنها الباحث في العقد الأول من القرن الحالي، أكدت على أن المليار جهاز المنتشرة في العالم، تتوزع بطريقة غير متوازنة، “ففي حين تتوفر خدمات إرسال تليفزيونية في معظم دول العالم، ومع حقيقة القدرات الهائلة التي يوفرها البث الفضائي، إلا أن نصف عدد الأسر في نصف دول العالم تمتلك جهاز تليفزيون، بل أن هناك 40 دولة لا يتوفر فيها هذا الجهاز لغير 10% فقط من عدد الأسر، ففي حين أن عدد الأجهزة في الدول المتقدمة يتساوى تقريباً مع عدد الأسر أو يفوق ذلك، طبقاً لتقرير اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الإتصال المنبثقة عن اليونسكو، والتي أشتهرت عالمياً بأسم رئيس اللجنة “شون ماكبرايد”.

وبالطبع تمثل هذه الأرقام واقعاً يفيد إلى حقيقة أن التقدم التقني الهائل في مجال الإتصالات والمعلومات الذي يشهده العالم اليوم، لم يلغي واقع التوزيع غير المتوازن لهذا النوع من التقنيات، وهو إختلال يصعب جداً تغييره أو زواله على المدى القريب، نتيجة إستمرار مسببات وعوامل وجوده بل وتفاقمها، سيما مع ما هو معروف من التوزيع غير المتكافيء للثروة في العالم، إذ أن 20% من الدول فقط تستحوذ على 84.7% من الناتج الإجمالي للعالم، وعلى 84.2% من التجارة الدولية، ويمتلك سكانها 85.5% من المدخرات العالمية (13).

ومازلنا للحظتنا الراهنة، نشهد تسارع وتائر إستغلال الدول الثرية أموالها لتعميق سيطرتها على وسائل الإعلام التي من المقدر لها أن تكون أكبر قطاع اقتصادي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. خاصة بعد إستغلال حكومات دول الغرب والشمال وحلفائها من أنظمة دول النفط والجنوب في التصارعات السياسية والاجتماعية التي خلقتها إنتفاضات شعوب بعض دول العالم الثالث منذ بدايات العقد الثاني من القرن الحالي.

الفصل الثالث: آليات السيطرة في إخضاع التابع للمتبوع..

ميكانيزمات السيطرة على خريطة التبعية العالمية:

على تعدد واختلاف المشارب والإتجاهات الاقتصادية والاجتماعية لكتاب ومفكري “مدرسة التبعية الإعلامية”، تنوعت تصوراتهم وتحديداتهم لميكانيزمات السيطرة أو الآليات التنفيذية للهيمنة الإعلامية والثقافية لدول الشمال المتقدم صناعياً على دول الجنوب أو دول العالم الثالث، ولكن يمكن تمحورها في أربعة مصادر للهيمنة رصدها أغلب منظري “مدرسة التبعية”، وهي: “وكالات الأنباء أو بنوك المعلومات العالمية، والشركات متعددة الجنسية، والإعلانات التجارية، والبحوث العلمية أو التبعية الأكاديمية الإعلامية”. تلك المصادر التي تضافرت أنشطتها وتشابكت آليات عملها بشكل إعتمادي على كل مكون لها فيما يشبه كتلة موحدة تطورت في مراحلها لتصل إلى ظاهرة العولمة الإعلامية المعاصرة.

1 – وكالات الأنباء:

ولرصد الخط التاريخي لمسيرة وكالات الأنباء الدولية، نجد وكالتا “رويتر” البريطانية و”هافاس” الفرنسية كانتا تحتكران أخبار العالم، وقنعت الوكالتان الأميركيتان (أ. ب)، “أسوشيتد برس”، و(ي. ب)، “يونيتد برس”، بالمقعد الخلفي حتى سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث أصرتا على كسر الإحتكار الأوروبي للأنباء العالمية، وخاصة الإحتكار البريطاني الذي كانت تتزعمه وكالة “رويتر” خلال الأربعينيات. وبدأت الوكالات الأميركية نشاطها في الكويت والعربية السعودية منذ 1952، وقد شنت الأجهزة الأميركية هجوماً شديداً تمثل في كتاب أصدره “كنت كوبر” المدير التنفيذي لوكالة (أ. ب) الأميركية والسناتور “بنتوت” مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، نظم حملة دعائية في الكونغرس ضد ما أسماه الإحتكار الأوروبي للأخبار، شارك فيها الناشرون والصحافيون الأميركيون من خلال الكتابات والمؤتمرات. وقامت الصحافة الأميركية بدور بارز في تعبئة الرأي العام حول هذه القضية. وكانت تشكل جزءاً هاماً من حمى الحرب الباردة، فيما بعد، وخصوصاً عندما أثيرت قضية حرية الإعلام والنضال ضد الأنظمة الشمولية، وقد أستغلتها الوكالات الأميركية لمد نفوذها إلى مختلف أنحاء العالم.

ونظراً لعدم توافر شبكة مراسلين كافية، خاصة بالدول النامية في ذلك الوقت، كانت تضطر دول العالم الثالث إلى الإشتراك في وكالات الأنباء العالمية، بل والإعتماد عليها، سعياً منها للحصول على المعلومات والأنباء التي تجري في أنحاء العالم. وبالتالي باتت وسائل الإعلام الجماهيرية لهذه الدول في أسفل الهرم الذي تنشر الوكالات الغربية للأنباء الدولية من قمته. “ولنأخذ على سبيل المثال وكالة “يونيتد برس”، فأكثر من 70% من أنبائها مكرس للأحداث الجارية في شمال العالم، وتخصص 3,2% من أنبائها لأميركا اللاتينية، و1,8% لأحداث إفريقيا، و1,5% للإتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية”.

وقد كشفت دراسة أجريت في “فنزويلا” عام 1977، “أنه في يوم واحد تلقى هذا البلد 365 خبراً صحافياً من مصادر خارجية كان من بينها 278 خبراً من أميركا الشمالية. بينما أرسلت فنزويلا عن طريق مراسلي عشر وكالات أنباء 71 خبراً، من بينها 20 خبراً عن طريق وكالتي يونايتيد برس وأسوشيتد برس الأميركيتين. ومعنى ذلك أنه مقابل كل مئة خبر صحافي تتلقاه فنزويلا من الولايات المتحدة، يتم إرسال سبعة أخبار من فنزويلا عن طريق وكالتي (أ. ب)، و(ي. ب)، وقد حددت هذه الدراسة الخلل في التوازن بين الأنباء المحلية والأنباء الدولية بنسبة 5 : 100” (14).

أما على مستوى العالم العربي، فقد بدأ نشاط وكالات الأنباء الغربية داخله في عام 1860؛ عندما أنشأت بريطانيا شبكة برقية من إنكلترا إلى القاهرة والخرطوم وعدن ومسقط والعراق وفلسطين لخدمة مصالحها، وقيام وكالة “رويتر” بإحتكار جمع وتوزيع الأنباء في تلك المناطق، كمناطق نفوذ بريطاني علي إمتداد الطريق البرقي، وفي نهاية الحرب العالمية الأولى أحتكرت وكالة “هافاس” الفرنسية جمع وتوزيع الأنباء الخارجية التي تدخل سوريا ولبنان ومنطقة المغرب العربي، لينتقل كامل نشاطها إلي وكالة الأنباء الفرنسية في 1945، وقد ساعدت أزمة قناة السويس 1956، على كسر الإحتكار البريطاني الفرنسي للأنباء لصالح الوكالات الأميركية. كما ساعدت على تشجيع وكالات الأنباء السوفياتية “تاس” لتوسيع نطاق نشاطها في العالم العربي. خصوصاً بعد إزدياد الشعور المناهض للإمبريالية، وبسبب موقف الإتحاد السوفياتي من العدوان الثلاثي على مصر. وقد أنشأ السوفييت في 1961 وكالة “نوفوستي” التي قدمت خدماتها مجاناً للصحف العربية من خلال مكاتبها الملحقة بمكاتب “تاس”، لتتعامل الوكالتان مع جميع الدول العربية بإستثناء السعودية. وتحتل وكالة الأنباء الفرنسية مركزاً قوياً في شمال إفريقيا ولبنان لأن نشرتها تصدر بالفرنسية؛ كما تقدم نشرتها مترجمة إلى الإنكليزية في منطقة المشرق العربي.

ذلك الوضع الإحتكاري لوكالات الأنباء الغربية على عمليات تداول الأنباء ونشرها دولياً أسس بالتالي الوضع التفوقي المهيمن لها، وكان من الطبيعي أن جميع دول العالم الثالث تتلقى 80% من الأنباء العالمية من لندن وباريس ونيويورك، وهذا الإختلال في تداول الأنباء يمثل الفرق بين كمية الأنباء المرسلة من جانب العالم الصناعي إلى العالم النامي؛ وبين كمية الأنباء المتدفقة في الإتجاه العكسي. ويمكن القول أن وكالات الأنباء الغربية لا تخصص إلا حوالي ما يتراوح بين 20 و30% من أنبائها للعالم الثالث كله، يتراوح نصيب الدول الإفريقية منها ما بين 5 و8% وهناك 35 دولة في العالم ليست فيها أية وكالات أنباء. منها 18 دولة إفريقية. وتتأكد التبعية الإعلامية في العالم العربي بنوع التغطية الإخبارية للأحداث الدولية، فقد أوضحت الدراسات العديدة في هذا المجال أن الأحداث التي تقع في الدول الغربية المتقدمة هي المستهدف الأول في التغطية الإخبارية في صحف العالم الثالث عكس ما يحدث في الإعلام الغربي (14).

وتوضح إحصائيات 1974 للتوزيع العالمي لمراسلي وكالات الأنباء العالمية، أن إفريقيا هي أقل مناطق العالم نصيباً من المراسلين العالميين، إذ يبلغ 4% في مقابل 34% للولايات المتحدة و28% لأوروبا. علاوة على إستحالة خلق نظام مستقل بإفريقيا للمراسلين في الخارج بسبب إرتفاع نفقات تخصيص مندوبين دائمين في باريس أو لندن أو واشنطن. وقد أدى ذلك إلى قبول معظم الصحف التي تصدر في إفريقيا، الناطقة بالفرنسية، للمساعدات التي قدمتها المؤسسة الصناعية الفرنسية للطباعة والنشر، وتتضمن هذه المساعدات أجهزة طباعة حديثة مع تسهيلات في الحصول على الأنباء عن طريق الوكالة الفرنسية. ولا تخفى المخاطر التي تنطوي عليها هذه العلاقة غير المتكافئة بين المؤسسة الفرنسية والصحف الإفريقية السالفة الذكر. إذ تحولت هذه الصحف إلى ملحقات للصحافة الفرنسية بدلاً من أن تكون أدوات مستقلة للفكر والمصالح الإفريقية.

أما عن دول أميركا اللاتينية، فإن وكالات الأنباء المتعددة الجنسية، وخصوصاً (ي. ب. أ) و(أ. ب)، لا تزال تقوم بتشكيل إتجاهات الرأي العام في هذه القارة. علاوة على أنه توجد بعض المناطق، والدول والشخصيات تمارس أدواراً مسيطرة تهدف إلى تعميم الأطر الإعلامية التي ترسخ رأي ذهنية معينة عن العالم الخارجي لدى شعوب أميركا اللاتينية.

وإن كانت تلك النسب والأرقام تمثل واقعاً يرجع لأكثر من ثلاث عقود، إلا وأن النتائج النهائية من عمليات التبعية لم تختلف في ظل منظومة العولمة الحالية.

2 – الشركات متعددة الجنسية:

أما عن رصد تاريخية حركة تلك الشركات عابرة القومية، هناك حقيقة يجب الإشارة إليها، وهي تواجد مقارها الرئيسة في كل من الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا واليابان وإنكلترا وفرنسا، ومنها ثلاث دول هي الولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا، تعتبر موطن وكالات الأنباء العالمية الأربعة: “رويتر” و”أ. ف. ب”، (أجانس فرانس برس) الفرنسية، و”أ. ب” و”ي. ب” الأميركيتان. ولا تخفى العلاقة الوثيقة التي تربط هذه الوكالات بالشركات العملاقة؛ من حيث التمويل من المصادر الاقتصادية والسياسية المشتركة والدور الإعلامي الخطير الذي تقوم به هذه الوكالات للترويج لأخبار هذه الشركات وأنشطتها في العالم الثالث.

ويكفي لمحة بسيطة على الأرقام التي حققتها تلك الشركات اقتصادياً لتجسيد مدى احتياجها للهيمنة الإعلامية الحادثة الآن في ظل زمن العولمة. فقد بلغ حجم إنتاجها الكلي، (خارج بلدانها الأصلية)، في عام 1974 (635) مليار دولار، فيما بلغ في العام 1983، (1536) مليار دولار، أما حجم التدفق السنوي للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم فقد تضاعف ثلاث مرات فيما بين العامين 1970 و1980(15).

كما أشار التقرير النهائي للجنة الدولية لدراسة مشكلات الإتصال في المجتمع الحديث، والتي عرفت بأسم “لجنة ماكبرايد”، إلى ظاهرة أسماها بـ “الممارسة عبر الوطنية” أو المتعددة الجنسية في مجال الإعلام والإتصال الدولي، مبرزاً الدور الذي تقوم به الشركات متعددة الجنسية كآداة للتغلغل الاقتصادي للسيطرة الإيديولوجية والثقافية في دول العالم الثالث، بممارسة نفس المهام التي كانت تقوم بها في الماضي الحكومات الإستعمارية. ولا تكتفي هذه التجمعات الهائلة بتعبئة رأس المال والتكنولوجيا وتحويلهما إلى سوق الإتصال بل إنها تسوق أيضاً سلعاً إستهلاكية ثقافية واجتماعية لا حصر لها. كذلك تمارس هذه الشركات تأثيراً مباشراً في أجهزة الإنتاج الاقتصادي للدول التي تعمل بها وتلعب دوراً رئيساً في تسويق ثقافتها بواسطة السيطرة على عدد كبير من وسائل الإعلام في دول العالم الثالث، وإضطلاع الشركات بهذا الدور تزداد أهميته بإطراد في إقامة البنى الأساسية للإتصال وتداول الأنباء والمنتجات الثقافية والمواد التعليمية والكتب والأفلام والمعدات والتدريب. وتحت ستار نشر الثقافة العالمية تقوم هذه الشركات بإخضاع أو إستبعاد الثقافات الوطنية (16).

وتقدم لنا الصحافية التركية “مين سولينيه” Mine Saulnier، شهادتها الدالة على مدى تشعب وسيطرة الشركات متعددة الجنسية على الصحف، خاصة، والمنظومة الإعلامية التركية عامة، قائلة: “تشهد الصحافة التركية حالياً إزدهاراً وتوسعاً غريباً وفريداً من نوعه. ففي بلد غارق في أزمة اقتصادية متفشية؛ قامت أربعة من كبار الصحف اليومية بتأسيس أربعة تكتلات مالية كبرى. وتضم كلاً من هذه التكتلات العديد من الشركات المساهمة التي تقوم بأنشطة متنوعة ومتعددة من الفندقة إلى المجالات الصناعية مروراً بالصحافة المرئية والبصرية والمكتوبة أيضاً، إذ تمتلك كل صحيفة يومية من هذه الأربع قنواتها التليفزيونية الخاصة” (17).

وهناك 15 مؤسسة عبر وطنية تسيطر بطرق مختلفة على الجزء الأكبر من عمليات الإتصال والإعلام الدولي، وتتخذ مقارها في خمس دول هي: “بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان”، وهي على التوالي: “أ. ب. إم”، و”جنرال إلكتريك”، و”آى. تي. تي”، و”فيليبس” (الولايات المتحدة)، و”سيمنس” (ألمانيا)، و”وستون إلكتريك”، “ج. ت. آي”، و”ستنغهاوس” (الولايات المتحدة)، “أي. ج. تليفونكن” (ألمانيا)، “شورت أميركان روكوبل أر. سي. أيه” (الولايات المتحدة)، “ماتسوشينا” (اليابان)، “أي. تي. تي”، “أيروكس” (الولايات المتحدة)، “سي. جي. إيه” (فرنسا)….. (18).

3 – الإعلانات:

ومما سبق يتضح خيط التشابك والترابط الحادث في بنية ميكانيزمات السيطرة الإعلامية والتي يمكننا تحديدها في الشركات عابرة القومية وأساليبها أو آلياتها الممثلة في وكالات الإعلان الدولية ومؤسسات قياس الرأي العام. وينتج عن هذه الأنشطة المتشابكة والمتداخلة نوع من الثقافة التجارية. التي تضع المجتمعات المحلية في العالم الثالث تحت خدمة مصالح الشركات المتعددة الجنسيات. كما تمهد هذه المجتمعات لتقبل الغزو الثقافي والاقتصادي. وما إن تبدأ الثقافة في الغلغل داخل المجتمعات النامية حتى يتم إنتشارها وسريانها سريعاً في كافة المؤسسات المجتمعية الثقافية والتعليمية والإعلامية وتصبح مفرداتها ورموزها وقيمها هي السائدة في ثقافة المجتمعات.

ولقد لعبت الإعلانات دوراً تاريخياً في ترويج المقولة الغربية الخاصة بحرية الصحافة، إذ مكنت فكرة الموضوعية من النفاذ إلى الصحف الغربية، وهي موضوعية نسبية في كل الأحوال.

ويقدر حجم ما ينفق على الإعلانات سنوياً حوالي 64 بليون دولار، ينفق أكثر من نصفه في الولايات المتحدة وحدها. وتنفق كل من إنكلترا وفرنسا وألمانيا الغربية واليابان وكندا ما يربو علي بليون دولار سنوياً. وتشكل إعلانات العالم الثالث شريحة بارزة في السوق العالمية للإعلانات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، إذ بلغت إعلانات الهند 93 بليون دولار وإيران 94 مليون دولار ومصر 32 مليون دولار، والمغرب 6,6 مليون دولار، والسعودية 5 مليون دولار وذلك في عام 1971.

وبالطبع سيطرة الولايات المتحدة على صناعة الإعلانات وأسواقها في العالم أمر لا ينكر. ولكن الأهم هو عدم إقتصار دور الوكالات الإعلانية الحديثة على النشاط الإعلاني المباشر فحسب، بل تماديها لإنتاج خدمات إعلامية عديدة تقوم بترويجها من خلال مؤسسات خاصة، ممثلاً في بحوث الإعلان والتسويق والعلاقات العامة والمسوح الإستهلاكية. وتقوم كل الوكالات الإعلانية الأميركية، وفروعها في العالم الثالث، بهذه الأنشطة جميعها أو أغلبها من خلال مؤسسات يضفى عليها طابع الإستقلال الظاهري تقوم بنشر وتسويق الأبحاث وإعداد الكتيبات وإنتاج أجهزة الفيديو وإجراء الدراسات الميدانية الخاصة بقياس إتجاهات المستهلكين إزاء السلع وإزاء الإعلانات.

4 – البحوث الأكاديمية الإعلامية:

يجمع أغلب فلاسفة وكتاب الدراسات الإعلامية والسوسيوثقافية على تسخير نظم التعليم والبحوث العلمية في مجال الإعلام لتلبية احتياجات ومطالب الشركات متعددة الجنسية. فالتعليم في الدول الرأسمالية المتقدمة يقوم بتزويد جهاز الدولة والشركات المتعددة الجنسية بالمديرين والموظفين والعمال المهرة وتقوم أجهزة التعليم في الدول التابعة بنفس المهمة.

فمن أولى المهام التي تقوم بها “وكالة التنمية الدولية” هي إنشاء وإعداد المدارس والمعاهد في دول العالم الثالث على نفس النسق الأميركي. وأحياناً تقوم بعض الجامعات الأميركية بنفس الدور، فتساهم في إنشاء مراكز علمية خارج الولايات المتحدة، مثل مدارس الصحافة المنتشرة في دول أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، (بيروت والقاهرة)، إذ أقيم معظمها بتمويل أميركي ساعدت فيه عدة جهات أميركية، كما تساهم بعض الجامعات الأميركية في إعداد برامج تدريبية على أعلى مستوى للمديرين وبعض القيادات التنفيذية في الشركات المتعددة الجنسية، مثل مدرسة “منارفارد” لشؤون المال والأعمال، والفرع الخاص لمدرسة الإدارة في “لوزان” بسويسرا، وكذلك “جامعة نيويورك”. وقد أعدت برامج مشتركة مع كل من “مدرسة لندن لإدارة الأعمال”، وهي فرع من جامعة لندن، و”مدرسة الدراسات العليا في التجارة” في “غوس أن غورا” بالغرب من باريس. ومما يجدر ذكره أن خريجيها يجدون الوظيفة في إنتظارهم، وخصوصاً في البنوك وفروع الشركات العابرة القومية. وهكذا تتكون طبقة من المديرين الذين يضعون مصالحهم الخاصة فوق أية إعتبارات وطنية أو قومية؛ وهم مؤهلون للإنسلاخ تدريجياً من إطارهم الوطني، كما يعكسون إنتماءهم لصالح رأس المال المتعدد الجنسية.

ولا تقتصر المسألة على إعداد وتدريب القادة الإداريين اللازمين لإشباع احتياجات الشركات المتعددة الجنسية، بل يتم نقل نفس التعاليم الإدارية والهياكل التنظيمية من دول المركز إلى الإطارات، وتنتقل معها فلسفة العمل وأساليبه دون أدنى تغيير يذكر. ولقد أشارت الباحثة المعروفة “ريتا كروز أوبريان” في دراستها عن نظم الإذاعة في دول أميركا اللاتينية، فقالت: “إن إذاعات العالم الرأسمالي المتقدم مثل (BBC، صوت أميركا)، لم تصَدر نظمها فحسب، بل وفلسفتها في العمل والإدارة، وقد كان لذلك آثاره الشيقة بدرجات متفاوتة في كل من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تلك الآثار التي إنعكست في أشكال التدريب والبرامج المستوردة ومضامين هذه البرامج”. ومن خلال أعداد هؤلاء الذين يقبلون للعمل بالمؤسسات التابعة للشركات المتعددة الجنسية يتم التركيز على التأهيل المهني الرفيع، وتزودهم بأعلى مستويات الكفاءة الحرفية حتى يصبحوا معارضين للتغيير بأشكاله المختلفة التنظيمية أو الموضوعية مهما إستلزمته الضرورة المحلية التي تختلف جذرياً عن واقع الحال في دول المركز. ومن هنا ينشأ ما يمكن تسميته بـ “السوق الدولية للعلم”، التي تحدد البحوث والمهارات والتخصصات الأولى بالرعاية والتركيز عن سواها, وذلك طبقاً لاحتياجات السوق الرأسمالية وأذواقها من الشركات المتعددة الجنسية.

وتقوم أحياناً بعض هذه المؤسسات بتقديم خدمات إعلامية غير متوقعة؛ مثل إعداد برامج تدريب وعروض في التليفزيون وبرامج للعلاقات العامة وتقوم ببيعها لمكاتب المعلومات الأميركية والغربية والشركات المتعددة الجنسية ووكالات الإعلان التابعة لها، مما يساعد على التزود بمعلومات إضافية عن الأسواق والمستهلكين ووسائل الإعلام والأنشطة الأخرى المرتبطة بهذا المجال.

ويلاحظ وجود تداخل بين أنشطة هذه المؤسسات في مجال إعداد البحوث ودراسات السوق والمستهلكين وإعداد الدورات التدريبية عن العلاقات العامة والإدارة، إذ تقوم أيضاً بمهام إستشارية لحكومات الدول النامية، وخصوصاً في مجال التنمية. ولا يخفى حقيقة الإستشارات التي تقدمها هذه المؤسسات، فهي مرتبطة أساساً بمصالح الشركات الأم ولا يمكن أن تقدم استثمارات للدول النامية تتعارض مع صالح هذه الشركات، التي هي أميركية في أغلب الأحيان. ويستلزم نشاط هذه المؤسسات الإعلانية ضرورة خلق علاقات وثيقة مع وسائل الإعلام المحلية، (الصحف والإذاعات والتليفزيون)، من أجل تطويعها لخدمة أهداف هذه المؤسسات، وقد نجحت شركات الإعلان في إضفاء الطابع التجاري على محطات التليفزيون في أوروبا الغربية. ففي عام 1954 كان التليفزيون في معظم دول أوروبا الغربية يخضع لملكية وإدارة الدولة. أما الآن فقد أصبح يعتمد، إلى حد كبير، على الإعلانات التجارية، ما عدا بلجيكا والدانمرك والسويد والنرويج.

وإذا كانت الشركات المتعددة الجنسية تحاول السيطرة على النشاط الثقافي والإعلامي في العالم الثالث؛ من خلال إستخدام نظم الإعلام الحديثة وتكنولوجيا الإتصال في بث الرسائل الإعلانية والبرامج التي تخدم أهدافها، فإنها بذلك تسهم في خلق أنماط عالية للإستهلاك تؤدي إلي ترسيخ الأشكال العديدة لإنعدام المساواة بين الدول الرأسمالية المتقدمة ودول العالم الثالث النامية.

أما عن التبعية الأكاديمية العربية لمعاهد وكليات الإعلام الغربية، والأميركية منها تحديداً، والتي تُرجع “عواطف عبدالرحمن”، سببها الرئيس “للقصور النظري الذي تعاني منه الدراسات الإعلامية في العالم العربي، فضلاً عن استمرار خضوعها لمنهج التجربة والخطأ الذي لا يزال يسود الواقع الإعلامي العربي، سواء على المستوى الأكاديمي أو التطبيقي”. وتعاني معاهد وأقسام الإعلام العربية من جملة مشكلات تنحصر في نقص الكوادر الأكاديمية المتخصصة وإنفصام العلاقة أو ضعفها بين هذه المعاهد والمؤسسات الإعلامية والصحافية بأنحاء العالم العربي وضآلة الإمكانيات الخاصة بالتدريب أو وجود مكتبات أكاديمية عصرية. غير أن أخطر هذه المشكلات، على الإطلاق، هو خضوع البرامج الدراسية بهذه المعاهد للمؤثرات الغربية وذلك بنسب متفاوتة.

ويتضح ذلك بإنشاء عدة أمور أبرزها مضامين المناهج والمواد التي تدرس بالمعاهد الإعلامية العربية والمنح الدراسية والبعثات، وفي تصميم النظم الدراسية بهذه المعاهد. ومن الملاحظ أن هناك مدرستين تسيطران على الدراسات الإعلامية العربية: أولهما المدرسة الأميركية، ويتضح نفوذها بشكل متزايد بإنشاء دول الشرق العربي، “لبنان والسعودية ودول الخليج والسودان”، وتمارس نفوذاً سافراً بإنشاء كل من لبنان ومصر، من خلال أقسام الإعلام بالجامعة الأميركية بإنشاء كل من بيروت والقاهرة. أما المدرسة الثانية فهي المدرسة الفرنسية بإنشاء الإعلام، ويبدو نفوذها واضحاً بإنشاء معاهد الإعلام بالمغرب العربي، “تونس، الجزائر، المغرب”. وتفتقد المناهج الإعلامية بالمعاهد العربية الرؤية القومية الشاملة لمتطلبات واحتياجات الوطن العربي إعلامياً، مما يترك آثاره السلبية على تكوين الكوادر الإعلامية المتخصصة وعلى نوع البحوث التي تقوم بها هذه الكوادر، وخصوصاً رسائل الماجستير والدكتوراه. حيث يلاحظ أنها تفتقر إلى وجود فلسفة عامة تحدد أولوياتها على المستوى القطري أو القومي. كما تبرز تبعيتها المنهجية بإنشاء أساليب تصميمها وإجرائها مما يؤثر على عائدها الأكاديمي (19).

أما على مستوى الدراسات والبحوث الإعلامية بالعالم العربي، فهو أكثر قدرة على توضيح أبعاد التبعية الأكاديمية، إذ يلاحظ عموماً فقر المكتبة العربية فيما تتضمنه من دراسات ميدانية أو مؤلفة عن الإعلام العربي. هذا من ناحية حجم البحوث، أما من ناحية أنواعها، “تأليف، ترجمة، دراسات ميدانية”، فيلاحظ أن الكتب المؤلفة قليل منها ما يتسم بالأصالة والإرتباط بقضايا الإعلام العربي المعاصر، مثل: “تاريخ الصحافة العربية والتشريعات الإعلامية في العالم العربي، أنماط الملكية في الصحافة العربية، والصحافة العربية والصراع الإسرائيلي، وعلاقة الصحافة العربية بالسلطة السياسية، وموقف ودور الصحافة العربية في التنمية القومية، ومشكلات التوزيع والطباعة، ودور الإعلانات في الصحافة اليومية المعاصر” (20).

بينما يرى “محمود عبدالرؤوف كامل”، في دراسته المقارنة بين دوريتي الصحافة والإعلام الأميركية والمجلة المصرية لبحوث الإعلام التي تصدر عن جامعة القاهرة، بأن مادامت المناهج والبحوث العلمية لدول الشمال المتقدمة “صالحة للتطبيق في الدول النامية، حتى مع شيء من التطويع والتعديل لكي تناسب ظروف هذه الدول، فلا بأس إلى أن يوجد البديل الذي يمكنها من الإعتماد على نفسها، كما أن لا بد من التواصل والتلاقح الفكري والعلمي والثقافي بين دول العالم المتقدم منها والنامي، ويضاف إلى ذلك أن الدول المتقدمة أو دول الشمال التي تتهمها التيارات النقدية بالإحتكار والسيطرة والإستغلال والإستعمار، لن تتردد في الأخذ بأية نظريات ومناهج بحث، بل ونتائج، تصيغها الدول النامية إذا وجدت فيها جديداً يصلح لها أو يناسبها” (21).

أهداف ووظائف ميكانيزمات السيطرة:

مما سبق من إستعراض لآليات تبعية دول الأطراف لمنظومات الإتصال وإعلام دول المركز، يسهل إستبيان أهدافها الوظيفية، والتي تجلت في أنضج صورها خلال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في مفهوم العولمة مع التصاعد الحاد في حجم التبادل التجاري وصادرات البلدان المتقدمة إلى الدول النامية، وكذلك التنامي الواسع لقدرات وأرباح الشركات عابرة القومية، بمعنى تمثل هذه العولمة بمعاهدة “الجات” التي تحولت في عام 1995 إلى “منظمة التجارة العالمية”. وقد ساهم في تكريسها وإنتشارها بسهولة وسرعة، كما رصد “د. لقاء العزاوي”، عاملان أساسيان:

  1. إنهيار الإتحاد السوفياتي السابق وضمور عصر الأنظمة الشمولية مع نهاية ثمانينيات القرن العشرين، حيث أدى ذلك إلى خلو الساحة الدولية للغرب الرأسمالي كي يتصرف في إطار نظام الهيمنة من غير أن يواجه مقاومة تذكر، إلى جانب أن التحولات الدراماتيكية العنيفة التي حدثت في النظام الدولي آنذاك نشرت إحساساً بإنتصار الغرب النهائي والحاسم، وهزيمة الإشتراكية أمام الرأسمالية، الأمر الذي أرغم دول العالم الثالث على الإنقياد بسرعة نحو خيار العولمة دون تأمل أو حساب للخسائر والأرباح، لأن تجد أمامها خياراً آخر، سيما وأن أكبر دولة إشتراكية، وهي الصين، دخلت أيضاً في إطار العولمة واللعبة الرأسمالية، وإن كانت مغلفة بالنمط الإشتراكي الخاص.
  2. بدء الظاهرة الإتصالية الحديثة وثورة المعلومات وتطور تقنية الإنترنت وإنتشارها في نفس الفترة تقريباً، مع تصاعد أهمية وحجم الفضائيات التليفزيونية التي كانت قد بدأت قبل ذلك (22).

لينتج عن هذه الظاهرة وسائل إتصال مازالت تحاوط العالم في قوة وإزدهار تسمى بإعلام العولمة، تستهدف حزمة من الأهداف الوظيفية لآلياتها التسلطية حتى اليوم، وهي:

  1. دمج الثقافات الوطنية وإلغاء خصوصية المجتمعات والدول.. والهدف الأساس للعولمة الثقافية هو بالطبع ذاته الذي دأبت عليه الدعاية الأميركية لعقود خلت، والمتمثل بتعميم ونشر النموذج الأميركي عبر العالم، والأمر هنا لا يقتصر على أفلام هوليوود أو إمكانيات الإعلام الدولي، لكنه بات يتعلق برموز خلقتها الدعاية الأميركية مثل “الجينز” و”مكدونالد”.
  2. تعمل العولمة الإعلامية على دعم وإسناد العولمة الاقتصادية، فنشر النزعات الإستهلاكية أصبح واحداً من الوظائف الأساسية لإعلام العولمة، ففي خمس دول هي: “الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وبريطانيا” توجد 172 شركة من أصل 200، هي أكبر الشركات التي تسيطر علي الاقتصاد العالمي، وهذه الشركات تحتاج إلي ترويج بضائعها وفتح أسواق جديدة ومستمرة لها، فتعمد دولها إلى الإفادة من إمكانياتها الإتصالية في تحقيق هذا الهدف ليتشكل ثالوث العولمة الذي يتضمن:

نظام اقتصادي: يستخدم آلية السوق العالمية كمجال للمنافسة.

نظام إعلامي: يعتمد على توظيف تكنولوجيا الإتصال ووسائله في عملية الإختراق الثقافي بالدعوة والترويج لثقافة الإستهلاك ولمنتجات السوق العالمية.

  1. تعمل العولمة الإعلامية على ربط السياسات الدولية بالمزاج الأميركي بشكل خاص، وتستخدم الولايات المتحدة في سبيل هذا الهدف؛ إمكاناتها الإتصالية وقدرات إنتاج المحتوى، لإحداث الخلل في نظم سياسية محددة وتعميم الفوضي داخل المجتمعات المحلية، وذلك عبر إطلاق شعارات مثل “حقوق الإنسان” و”حقوق الأقليات” و”مكافحة الإرهاب”…. إلخ. وتستخدم الولايات المتحدة هذا الأسلوب في إطار الحرب النفسية المسلطة على الدول والحكومات غير المتوافقة مع سياساتها، ولذلك فإن الإعلام الأميركي عادة ما يتجاهل أنظمة سياسية معينة معروفة بسياساتها القمعية لمجرد أنها تخدم المصالح الأميركية. ومما يمكن ملاحظته أن أسوأ الإضطرابات العرقية والآثنية والطائفية في العالم قد حدثت في عصر تصاعد خطاب العولمة وإنطلاق ثورة المعلومات خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهذا الواقع هو إحدى نتائج أسلوب التحريض والإثارة الذي إعتمده إعلام العولمة ومازال بغرض إعادة تشكيل الواقع الدولي وطبيعة النظم السياسية، بل وحتى القوانين الدولية لخدمة مصالح قوى عظمى بعينها.
  2. من أهداف إعلام العولمة إستخدام القدرات الضخمة والمؤثرة، لإضعاف نظم المؤسسات الإخبارية أو الثقافية، التي كان من نتائج إحتكارها الطويل لسوق المعلومات ومن ثم تقنياتها أن جرى تهميش وسائل الإعلام الوطنية وتحويلها إلى مجرد وسيط لنقل مضامين المؤسسات الإعلامية الكبرى إلى الجماهير المحلية.

المصادر :

  1. (قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث) – د. عواطف عبدالرحمن – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت “سلسلة عالم المعرفة” – 1984.
  2. (إتجاهات بحوث الصحافة والإعلام في أميركا ومصر) – دراسة تحليلية مقارنة إستبصارية لدوريتي الصحافة والإعلام الأميركية والمجلة المصرية لبحوث الإعلام – إعداد: الدكتور محمود عبدالرؤوف كامل مدرس الإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا – بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الرابع لأكاديمية أخبار اليوم 23 – 25 تشرين أول/أكتوبر 2007.
  3. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق – صـ31 إلى 34.
  4. صادق جلال العظم – (ما هي العولمة) – ورقة بحثية – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – تونس 1991.
  5. (تكنولوجيا الاتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة) – د. لقاء مكي العزاوي – قسم الإعلام / كلية الآداب جامعة بغداد.
  6. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق – صـ34، 45.
  7. د. لقاء مكي العزاوي – تكنولوجيا الاتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة – مرجع سابق.
  8. د.عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق، صـ 6.
  9. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق، صـ 12 : 14.
  10. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق، صـ 22، 23.
  11. د. لقاء مكي العزاوي – تكنولوجيا الإتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة – مرجع سابق.
  12. د. لقاء مكي العزاوي – تكنولوجيا الإتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة – مرجع سابق.
  13. (فخ العولمة: الإعتداء على الديمقراطية والرفاهية) – هانس بيتر مارتن، وهارالد شومان – ترجمة: عدنان عباس علي – سلسلة عالم المعرفة – الكويت – أكتوبر 1998.
  14. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق، صـ 63 :65.
  15. Phil Harris: International news Madia authority and dependence. in introduction to mass media in Nigeria Lagos 1976. P. H. 10. وطالع أيضا (دراسات في الصحافة المصرية المعاصرة) – د. عواطف عبدالرحمن – دار الفكر العربي – 1985.
  16. للمزيد، راجع: محمد السيد سعيد – (الشركات عابرة القومية ومستقبل الظاهرة القومية) – عالم المعرفة – الكويت – العدد 107 – نوفمبر 1986. ص 13- 21.
  17. شون ماكبرايد وآخرون – (أصوات متعددة وعالم واحد) – تقرير اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الإتصال – الشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر 1981.
  18. (مهنة الصحافة في بلاد البحر المتوسط) – كينيث براون وحنا ديفيس طيب ود. أسامة الغزالي حرب وكارلوس غابيتا – مجلة “السياسة الدولية” مؤسسة الأهرام – القاهرة، 1995، صـ 49 : 57.
  19. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق صـ 66، 67.
  20. د. عواطف عبدالرحمن – قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث – مرجع سابق.
  21. (معاهد وكليات الإعلام بالوطن العربي) – أحمد الصاوي وحمدي قنديل – جامعة الرياض – 1979.

وكذلك: حمدي قنديل – (التدريب الإعلامي في الوطن العربي) – ندوة الدرسات الإعلامية – الرياض – 1979.

  1. (إتجاهات بحوث الصحافة والإعلام في أميركا ومصر) – دراسة تحليلية مقارنة إستبصارية لدوريتي الصحافة والإعلام الأميركية والمجلة المصرية لبحوث الإعلام – إعداد: الدكتور محمود عبدالرؤوف كامل، مدرس الإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا – بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الرابع لأكاديمية أخبار اليوم 23 – 25 أكتوبر 2007.
  2. د. لقاء مكي العزاوي – تكنولوجيا الإتصال وظاهرة العولمة.. التطور من أجل الهيمنة – مرجع سابق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة