15 نوفمبر، 2024 3:30 م
Search
Close this search box.

“نجيب محفوظ” .. صور صراعات الطبقة الوسطى وكانت الحارة لديه وطناً

“نجيب محفوظ” .. صور صراعات الطبقة الوسطى وكانت الحارة لديه وطناً

خاص : عرض – سماح عادل :

“نجيب محفوظ” استطاع أن يؤسس للرواية المصرية.. ويخرج بها من مرحلة البداية والنشأة إلى مرحلة الإحتراف، كان كاتباً بارعاً ومنظماً، غزير الإنتاج.. أرخ في رواياته لمصر في فترة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، كما كانت له رؤيته لفترة ما بعد ثورة (تموز) يوليو، وكان بطله الرئيس في معظم رواياته ذلك البرجوازي الصغير الذي يعاني من تناقضاته وتأرجحه.. قد يكون إنتهازياً أو ثورياً أو بطل متحرر، لكنه في كل الأحوال منقسم من الداخل تنهشه الصراعات النفسية والفكرية.

هو “نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا”.. ولد في منطقة “بيت القاضي” في الجمالية، في منطقة الحسين المعروفة.. كانت قراءاته تتركز في الشعر الصوفي، ويستمتع بالقراءات الدينية، يقول عن نفسه: “كوني ولدت في بيئة كبيئة الجمالية جعلت التعاطف الوجداني بيني وبين الأحياء الشعبية من الحقائق الثابتة في حياتي، كتبت عن الحارة كحارة وكوطن، وقد أخطأ البعض فظن أني أكرر نفسي، فكل كاتب يكتب من زاوية معينة عن تجارب مهما تعددت فهي محدودة برؤية واحدة، هي رؤيته الخاصة التي تتمدد من خلال أعماله المتباينة وتتكون منها حدود عالمه الفني”.

الإحساس الوطني..

يقول “نجيب محفوظ” عن حسه الوطني: “حين انتمي إلى الوطنية المصرية فإنني أدرك السلبيات والإيجابيات جيداً في الشخصية المصرية، ولكن لا معنى لأدبي خارج نطاق هذه الرؤية، هناك في حياتي بعض الثوابت مثل الوطنية، فمهما أختلفت قناعاتي السياسية وتبدلت إلا أن إحساسي الوطني هو حقيقة لا تتغير ولا تتبدل، فإني أنتمي لجيل كانت السياسة جزءاً من تكوينه، ففي بدايات القرن كانت قضية الاستقلال وجلاء القوات الإنكليزية هدف، وكان الزعيم سعد زغلول هو رمز هذه القضية؛ بل كان رمزاً للوطنية ذاتها ولذلك فقد نشأت على حب مصر”.

القراءة..

يشير “نجيب محفوظ” إلى قراءاته فيقول: “حصلت على ليسانس الآداب سنة 1934، وأعترف أنني وسائر جيلي من طلبة الجامعة لم نستفد من الجامعة نصف ما أستفدناه من إنتاج طه حسين والعقاد والمازني وحسين هيكل، في هذه الفترة بدأت حياتي الفكرية بقراءات هزيلة لم تكن لتخلق لي ثقافة أو تصنع مني أديباً لو واظبت على قراءتها ألف عام، بدأت قراءاتي بالروايات البوليسية سنكلير وجونسون وميلتون توب، وغيرها من الروايات التي كان يترجمها حافظ نجيب بتصرف، أما بالنسبة للأدب العربي فإن معرفتي بدأت بالتراث من القرآن الكريم والأحاديث إلى الشعر الجاهلي، أتت بعد ذلك مرحلة المنفلوطي وقرأت البيان والتبيين للجاحظ والأمالي لأبي علي القالي والعقد الفريد لابن عبد ربه، وبعد ذلك تأتي مرحلة اليقظة على أيدي طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازني وهيكل، وبعد فترة أسهم فيها تيمور وتوفيق الحكيم ويحيى حقي، وأنا أسمي هذه المرحلة مرحلة التحرر من طريقة التفكير السفلية وطريقة التذوق السلفية، والتنبه إلى الأدب العالمي والنظر في الأدب العربي الكلاسيكي نظرة جديدة، واستمرت القراءات في الأدب العربي القديم، ولكن بعقلية جديدة وأتجهت للشعر أكثر وبخاصة أبو العلاء المعري والمتنبي وابن الرومي، لقد قرأت كثيراً في الشعر والنثر، وكنت أحاول التعرف على الآداب الأجنبية، كذلك فإن هناك أدباً فرعونياً غاية في الجمال، وقد قرأته شعراً ونثراً وقصصاً واستخدمته في الكثير من أعمالي مثل (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة) وأخيراً (العائش في الحقيقة)، غير عشرات من القصص القصيرة”.

إختيار الأدب..

يوضح “نجيب محفوظ” عن إختياره للأدب كطريق حياة: “دخلت الآداب وأنا في نيتي أن أعمل لآخر نفس، عندما أخترت الآداب كان إختياراً حتمياً، ولم ألجأ إليه كشيء بديل عن أي شيء آخر، كان إختيار حياة، وكان لابد من الاستمرار والمثابرة مهما كانت النتائج، أحياناً يقولون أنني مهندس الرواية المصرية، وحبي للهندسة والعلوم الرياضية أكسبني ذهناً مرتباً ومنطقياً وساعدني على تنظيم حياتي، وهذا التنظيم كان ضرورة لأني كنت موظفاً ملتزماً بمواعيدي، وأريد أن أتفرغ لفني الذي أحبه، فحددت له وقتاً ثابتاً لا أتنازل عنه، ثم أني أحب الناس ومرتبط بأصدقائي، فخصصت لهم وقتاً محدداً وإذا لم أكن منظماً بهذه الصورة لما أنجزت أي شيء في حياتي، للأسف الأدب عندنا لا يعتبر مهنة، ولذلك لا يعيش الكاتب ملكاً كـ(وليام غولندغ) بعد حصوله على (نوبل) وطبع 3 ملايين نسخة من روايته (لورد الذباب) أو (ملك الذباب)، الأديب عندنا طفيلي، في وقت راحتي من عملي الحكومي كنت أمارس عملي الأساس وهو الرواية وقسمت الوقت قسمين 3 ساعات للكتابة و3 ساعات للقراءة، وكان هذا الإختيار حتمياً ليس له بديل لأني كنت في حاجة إلى مرتبي لأعيش وليس لي مورد آخر”.

وعن بداية الكتابة لديه يقول: “ولما أنتظمت حياتي واستقرت أموري بدأت أكتب الرواية، أكتب وأبيض وأعرض على الناشرين فيرفضون وأضعها في الدرج فوق سابقتها، وأسلي نفسي بكتابة القصة القصيرة، كنت أمضي العام كله وأنا أكتب رواية واحدة، ثم آخذها تحت إبطي في آخر العام وأركب الترام إلى الفجالة، أدخل حارة ميخائيل جاد وأدق باب أحد البيوت، فيخرج إلي سلامة موسى ويأخذ مني الرواية وأسبوع يمر وأروح لسلامة موسى في بيته فأفاجأ به يقول لي: مش بطال لكن حاول مرة ثانية، وكان الأديب الوحيد الذي قبل أن يقرأ رواياتي الأولى وهي مخطوطة، بل كان سلامة موسى هو أحد العوامل الكبرى التي ساعدتني في حسم إختياري الأدبي، وقد بدأت أكتب في (المجلة الجديدة) التي أنشأها 1929 ولم أزل طالباً بالباكلوريا، كنت أرسل مقالات في الاجتماع والفلسفة وغالباً ما كان ينشرها لي سلامة موسى، عشر سنوات كاملة بين 1929 و1939 كان سلامة موسى هو الراعي والمربي الأدبي لي، وفي سنة 1939 نشر لي سلامة موسى أول رواية وهي (عبث الأقدار)، أما الروايات السابقة فقد أعدمتها”.

رواية “أولاد حارتنا”..

عن روايته التي أثارت جدلاً، يقول “نجيب محفوظ”: “أولاد حارتنا في الأصل رواية دينية إيمانية تنتصر للدين وتؤكد ضرورته في الحياة إلى جانب العلم، لإن سيطرة أحدهما على الحياة خطر كبير وإذا كان العلم يحقق للإنسان التحرر والتقدم، فإنني أرى أن الدين الحق والتمسك بصحيح مبادئه أهداف نبيلة ويوفر لنا طمأنينة نفسية لا حدود لها، كما لا أجد تناقضاً بين الدين والعلم فهما معاً يحققان للإنسان الحضارة والتقدم، حتى أولاد حارتنا التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية، وقد كان المغزى الكبير الذي توجت به أحداثها، أن الناس حين تخلوا عن الدين مثلاً في (الجبلاوي) وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في (عرفه) أن يديروا حياتهم على أرضهم التي هي حارتنا، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمه إلى إستبداد الحاكم وسلبهم حريتهم فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي”.

ويوضح ملابسات كتابة الرواية: “والذي دفعني لكتابة هذه الرواية، وهي أول رواية أكتبها بعد قيام الثورة، هي تلك الأخبار المتناثرة والتي ظهرت في تلك الفترة، حوالي 1958، عن الطبقة الجديدة التي حصلت على إمتيازات كثيرة بعد الثورة وتضخمت قوتها، حتى بدأ المجتمع الإقطاعي، الذي كان سائداً في الفترة الملكية يعود مرة أخرى، مما ولد في نفسي خيبة أمل قوية وجعل فكرة العدالة تلح في ذهني بشكل مكثف، وكانت هذه هي الخميرة الأولى للرواية، ولو لم يكن فيها البعد الرمزي كان يصح أن تثير شيئاً آخر سياسي، وهي إثارته بضرر ولما وجدوا شيئاً أقوى (الدين) يكتمها سكتوا، مثلما تخاطب الرواية البشر كانت تخاطب رجال الحكم في فترة 1959، التي صدرت فيها بعد نشوة إنتصارات لا حصر لها، وبدأنا نسمع كلاماً سيئاً فكان الواحد يريد أن يقول لهم: هل أنتم من صنف الرسل والأنبياء وما يمثلونه من عدالة أم أنتم تقفون في صف الفتوات ؟.. أعتقد أن المعنى لم يغب عن خطتهم إلى أن وجدوا وقفة أكبر من الفتوات وهي الدين فأثاروها، وكان يصح أن تثير الرواية مشاكل سياسية”.

رأيه في الرواية..

يعبر “نجيب محفوظ” عن رأيه في الرواية كعمل أدبي، يقول: “الرواية شكل عجيب من حيث أنه يحتوي جميع الأشكال الأدبية بل الفنية، فهي قد تحوي المسرحية والشعر والموسيقى والفن التشكيلي، الرواية هي أفضل أداة للتعبير في أي عصر يسمح للأدب بحرية التنفس، عندما تشرع في كتابة رواية فإنك لا تشعر مقدماً بقيود يفرضها زمان أو مكان، فالمكان قد ينحصر في ربع متر وقد يشمل العالم والكون، أما بالنسبة إلى الزمان فبإستطاعتك أن تملكه بدءاً من ساعة وحتى الأبدية، ولكن الحرية لا تعني الفوضى أو السهولة بل على العكس فإنني أعتقد أنك بقدر ما تحظى من حرية بقدر ما تعاني من مسؤولية، فالرواية باب مفتوح كله إغراء ولكنه قد يقود إلى الهلاك إذا لم تعتصم بمسؤوليتك الذاتية”.

الثورة و”عبد الناصر”..

كان لـ”نجيب محفوظ” موقفاً من الثورة و”عبد الناصر”، يقول عنه: “لقد تصديت لنقد الزعيم الراحل من موقع الإنتماء إلى ثورته مقراً في الوقت ذاته بتراثه الثوري العظيم، وما تصورت فيه من نقص فهو النقص الذي يلحق لسوء الحظ بكبار الرجال لا النقص الذي يقع فيه ضعاف النفوس ممن تغريهم الحياة الدنيا، لم أنضم لحزب في حياتي وإن كنت دائماً منتمياً، قبل ثورة يوليو كنت منتمياً إلى الوفد. كان لي علاقة بالضباط الأحرار، بعضهم من العباسية ولكن ليسوا من ضباط القيادة كانوا من الصف الثاني، وكنت منتظراً من الضباط الأحرار أن يكونوا مع الديمقراطية، فقد كنا نريد الديمقراطية مع الإشتراكية، كنت مع الثورة بدون قيد أو شرط ولم تبدأ تحفظاتي عليها، إلا بعد مرور زمن، وذلك لا يمنع الإنتماء إلى ثورة يوليو بإعتبارها ثورة اجتماعية قامت لإعادة تركيب المجتمع المصري على أساس العدل ودفعه للتقدم نحو المعاصرة والعلم والتكنولوجيا والصناعة”.

ويؤكد رأيه في زعيم الثورة: “عبد الناصر غير الحياة من جذورها، لقد حرر هذا الشعب من الإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال المستغلين، والذين كانوا يحكمون من وراء الأحكام، ومن الاحتلال الإنكليزي ومن الملك، والإنتقالة التي حدثت للشعب المصري لم تحدث في تاريخه من قبل، وأنا أعترف أن أكبر نصير للفقراء في تاريخنا كله كان جمال عبد الناصر، وهذا المعيار كان في ذهني كنت أفرح وأؤيد كل حاجة يعملها وكنت متحمساً يعني ناصري غير معلن”.

جائزة نوبل..

عن فوزه بجائزة “نوبل”، وهو أول كاتب عربي يفوز بها في مجال الأدب، يقول: “أعتبر كل كاتب فيه صفات الجودة الأدبية، كاتباً عالمياً، حتى لو لم يكن معروفاً خارج وطنه، فهناك من الأدباء في الدول المتقدمة ذات السلطة الثقافية من قد تترجم أعمالهم إلى 20 لغة دون أن يحصل أحد منهم على أي جوائز، وحين يحصل عليها غيرهم فإن مكانتهم لا تهتز على الإطلاق، بيني وبين نفسي بعد إعلان فوزي بنوبل وجدت نفسي لفترة طويلة أعتقد أن اسماً يشبه اسمي، وعندما أفقت من الدهشة، كانت سعادتي بالغة لأن جائزة نوبل تعني بالنسبة لي وبالنسبة لوطني وبالنسبة لوطني الأكبر (الوطن العربي)، أنه قد فتح لنا جميعاً باب لم يكن أحد يعترف به لنا، حتى الآن شعرت بأني محظوظ وأن فوزي بالجائزة جزءاً من الحظ لا شك فيه لأنه سبقني أدباء تربيت في مدارسهم، وآخر عظيم منهم هو الشيخ توفيق الحكيم، وعدم فوزه يتطلب إيضاحات كثيرة لا أملكها، أضيف إلى مشاعر الفرح والدهشة مشاعر الأسى على من سبقونا إلى الدار الآخرة وكانوا أحق مني مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم”.

المصدر:

كتاب: “أنا نجيب محفوظ.. سيرة حياة كاملة” – إبراهيم عبد العزيز

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة