15 نوفمبر، 2024 5:21 م
Search
Close this search box.

ناظم الغزالي.. طور المقام العراقي بصوته العذب وخبرته

ناظم الغزالي.. طور المقام العراقي بصوته العذب وخبرته

خاص: إعداد- سماح عادل

“ناظم الغزالي” مغني عراقي، اسمه “محمد ناظم بن غزال الجبوري”، ولد في منطقة الحيدر خانة في بغداد في ١٩٢١ يتيمًا، بمنتهى الصعوبة استطاع أن يكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة المأمونية، و التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، ليحتضنه فيه فنان العراق الكبير “حقي الشبلي” نجم المسرح وقتها، حين رأى فيه ممثلاً واعداً يمتلك القدرة على أن يكون نجماً مسرحياً، لكن الظروف المادية القاسية التي جعلته يتردد كثيرًا في الالتحاق بالمعهد نجحت في إبعاده عنه، ليعمل مراقبًا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة.

واكتشف المحيطون به أنَّ هناك موهبة غنائية لن تكرر في حنجرة مراقب مشروع الطحين. هذه الفترة، أكسبته طموحاً غير محدود وعنادًا وإصرارًا على إكمال الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية، التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد يبذل قصارى جهده ليحصل على أعلى الدرجات. أمّا قراءاته فجعلته يمتاز عن زملائه بثقافته، تلك الثقافة التي ظهرت عام 1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة “النديم” تحت عنوان “أشهر المغنين العرب”، وظهرت أيضاً في كتابه “طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962″، كما ميزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، وجعلته طوال حياته حتى في أحلك الظروف لا يتخلى عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في الأيام التي كان يعاني فيها من الفقر المدقع.

عاد “ناظم الغزالي” إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، ليأخذ “حقي الشبلي” بيده ثانية ويضمه إلى فرقة “الزبانية” ويشركه في مسرحية “مجنون ليلى” لأحمد شوقي في عام 1942، ولُحِّن له فيها أول أغنية شدا بها صوته وسمعها جمهور عريض، أغنية “هلا هلا” التي دخل بها إلى الإذاعة، والتي حول على إثرها ناظم اتجاهه، تاركاً التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وسط دهشة المحيطين به الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خاصة أنَّ “ناظم” كان يغني في أدواره المسرحية، إلّا أنَّ وجهة نظره كانت أنَّهُ لكي يثبت وجوده كمطرب فإنَّهُ لابدَّ أنْ يتفرغ تماماً للغناء.

تقدّم إلى اختبار الإذاعة والتلفزيون، وبين عامي 1947 و1948 انضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار “الشيخ علي الدرويش” والتي كان بها عدد كبير من المطربات والمطربين.

كان صوته يعتبر من الأصوات الرجولية الحادة (التينور) الدرامي وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية، أمَّا مجاله الصوتي فيراوح بين أوكتاف ونصف إلى أوكتافين، والأوكتاف أو “الديوان” بالعربية يتضمن ثماني نوتات أو درجات، وتنحصر حلاوة الأماكن في صوت الغزالي بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين. بهذا الشكل تكون مساحة صوت “ناظم” قد زادت على أربع عشرة درجة في السلم الموسيقي، ومع انفتاح حنجرته كانت قدرته غير العادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها، وإضافة إلى ذلك كله فقد ساعدته دراسته للتمثيل على إجادة فن الشهيق والزفير في الأوقات الملائمة. لقد أجاد “ناظم الغزالي” الموال باعتراف النقاد وكبار الموسيقيين الذين عاصروه، وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها إضافة إلى ذلك انفتاح حنجرته وصفائها، وكذلك جوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها.

ومنذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات “ناظم الغزالي” تعبر الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيراً للأغنية العراقية. وبداية الخمسينيات هي الفترة التي شهدت تطوراً وربما انقلاباً ملحوظاً في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات ناظم التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تعدد فيه الآلات الغربية والشرقية، لقد قلب الغزالي غالبية مقاييس الغناء في العراق.

غنى “ناظم حكمت” لأشهر الشعراء العرب مثل “إيليا أبو ماضي”، “أحمد شوقي”، “أبو فراس الحمداني”، وللمتنبي: “يا أعدل الناس”، وللعباس بن الأحنف “يا أيها الرجل المعذب نفسه”، ولغيرهم من كبار شعراء العربية.

مسار غير مسبوق..

في مقالة بعنوان (مجدد المقام العراقي ناظم الغزالي) يقول الفنان “نصير شمة”: “ناظم الغزالي سيبقى حالة عالية المقام في سجل الغناء العراقي والعربي كلما مرَّ الزمان عليه زاده جمالاً وتقديرًا لفنه، حيث قدم الراحل للأغنية والمقام العراقي، مسارًا غير مسبوق مع جمال وعذوبة صوت وحنجرة تستقبلها الأسماع بجاذبية لا تقاوم. استعان ناظم، بأهم الملحنين والشعراء والعازفين، مع أن صوته وقدرته على التلوين في المقامات والانتقال من مقام إلى آخر ببراعة كانت أسبابًا كافية للنجاح، إلا أنه لم يتكئ على هذا فقط، بل تعداه إلى العناية بجميع التفاصيل، وكان معنيًا بكل ما يتعلق بالأغنية منذ لحظة ولادتها حتى غنائها على المسرح. لم يكن ناظم الغزالي فنانًا عراقيًا وحسب، بل تجاوز المحلية بسرعة إلى الأفق العربي، فقد كان ذكيًا في خياراته ويعرف تمامًا كيف يرضى جمهورًا مختلف الأذواق، دون أن يتخلى عن خياراته الأولى في الجودة والأهمية. حقق للمقام العراقي انتشاراً واسعاً داخل وخارج العراق، وأصبحت كلمة «مقام عراقي» تدلّ عليه حتى من قبل جمهور غير متخصص، هكذا التصق اسمه بالمقام كما التصق المقام به. استطاع الغزالي اللعب على مساحات صوتية محببة للأذن، واعتمد على صيغ غنائية قد تبدو في سطحها سهلة السماع، ولكن العارفين بالموسيقى يعلمون تمامًا أن هذا السطح البسيط يحتاج إلى قدرة عالية في الأداء والتلوي، وكونها سهلة الحفظ، سّهل ذلك انتشارها بسرعة بين الجمهور العربي. سلاسة الغزالي في الأداء ارتبطت أيضًا بخياراته الشعرية، لدرجة أن كلمات بعض أغانيه أصبحت كالأمثال متداولة بين فئات مختلفة، وحفرت أغنياته لنفسها أمكنة خاصة، وغنى لمناسبات متنوعة ولم يعتمد الغزالي على الشعر المتوارث لأكثر من ألف عام من عمر المقامات العراقية، بل فور ظهوره كان قد حسم أمر تجديد مفاصل المقام وأخذ منه خلاصته وأظهره رشيقًا قريباً من المستمع في الوطن العربي، ولم يأبه لكل منتقديه المحافظين على شكل المقام التقليدي، والمطالبين بعدم المساس به، واختصر كثيراً في المقام، واختار قصائد عربية جميلة لأهم الشعراء الكبار، فرقة موسيقية جديدة، ملحنين كبار، شعراء معاصرين أيضاً لكتابة الأغاني، التي تغنى بعد المقام وتسمى (بسته) ولأول مرة أيضاً تصاحب مغنى المقام مجموعة كورال وكانت جيدة جداً، واهتم بصورة الفرقة وديكور الأستوديو والمسرح الذي يظهر عليه وكان يدفع تكاليف كل ذلك لحرصه الشديد وحبه لعمله”.

ويواصل “نصير شمة”: “في منتصف الخمسينيات بدأت الأسطوانات الحجرية تنتشر في العراق ومنطقة الخليج العربي، وقامت إحدى الشركات بتسجيل أغاني الفنانين العراقيين وفى مقدمتهم  ناظم الغزالي، وظهرت الأغاني في أسطوانات  مثل «طالعة من بيت أبوها وماريده الغلوبى ويم العيون السود وعيرتنى بالشيب وهو وقارُ» وغيرها من الأعمال الرائعة من ألحان ملحن عظيم اسمه ناظم نعيم ويشرف على توزيعها الموسيقى الفنان الراحل جميل بشير، وبهذا بلغت شهرته ذروتها وبدأت تتوالى الشهادات بقدرته الغنائية من قبل عمالقة الغناء.. ولم يتأخر الموسيقار محمد عبد الوهاب عن إظهار رغبته في التلحين لناظم الغزالي..  وتم الاتفاق على ذلك فعلاً في صيف 1961 غير أن رحيل الغزالي كان أسرع ولم تكتمل فرحته  في تحقيق هذا الحلم”.

ويضيف عن تعامل “ناظم الغزالي” مع التراث: “استطاع ناظم الغزالي أن يشكل أسلوبه من خلال شخصيته وحنجرته وطريقة تعامله مع التراث برؤية رصينة وكلاسيكية مع محاولاته لوضع لمسات من الحداثة وتجسيد صورة جديدة بمجملها تختلف عن  قرّاء المقام الذين تمسكوا بالشكل التقليدي بمصاحبة نفس الآلات “السنطور والجوزة والطبلة والرق” وطريقة جلوسهم، بالإضافة لتناولهم المقام بطريقة تعتمد الحفظ الشفاهي المتوارث يغلب عليها التكرار والمألوفية، ولم يظهر الغزالى  بمثل هذه الحالة، بل كان مختلفا باستمرار، شكل لنفسه في أول ظهوره إطلالة جديدة، فرقة موسيقية عربية تشبه الفرقة المعاصرة ترافق الفنانين العرب مع هوية عراقية، واستخدم التوزيع الهارموني لأول مرة في أغاني تلي المقام، وحذف أجزاء كثيرة يعتقد أنها داخلية على المقام فيها مصطلحات غير عربية، وحبب النساء والشباب بالمقام الذي كان حكرا على الرجال الكبار، وبسرعة البرق ذاع صيته وحب الناس له. من سمات أسلوبه أيضا، تعامله مع الموروث بحب واحترام كبيرين، لكنه لم يكرر شيئًا مما كان سائدًا، بل غناه بإحساس صادق وجديد، لَم يؤده كشكل مقدس لا يمكن المساس به، بل طوعه للزمن الذي كان يعيشه و«عصرنه» وخلصه من الإضافات الدخيلة (المقام العراقي شكل وليس سلمًا موسيقيًا له قانون صارم على المغنى والعازفين، ويعتمد على قانون في تناول الشعر، أما القصيدة العمودية أو الشعبي العراقي، فهو متوارث منذٌ أكثر من ألف عام، وهناك أكثر من 50 مقامًا)”.

وفاته..

قبل وفاته سافر إلى بيروت، وأقام فيها 35 حفلاً، وسجل العديد من الأغاني للتلفزيون اللبناني، ثم إلى الكويت، وسجّل قرابة عشرين حفلة بين التلفزيون والحفلات الرسمية. وفي العام نفسه أجتهدَ وبذلَ جهداً كبيراً ليتمكن بسرعة أنْ ينتهي من تصوير دوره في فيلم “مرحبا أيها الحب” مع المطربة “نجاح سلام”، وغنّى فيه أغنية “يا أم العيون السود”. هناك رواية أنّهُ أفاق في صباح 23 أكتوبر 1963 وطلب قدحاً من الماء الساخن لحلاقة ذقنه، لكنَّه سقط مغشياً، وبعدها فارق الحياة، في الساعة الثالثة ظهراً. كسرت إذاعة بغداد القاعدة، وقطعت إرسالها لتعلن الخبر الذي امتدَّ تأثيرهُ ليصيب العالم العربي كلّه بحزن بالغ، كان قطع البث الإذاعي يلازمه دائماً إعلان “البيان الأول” لأحد الانقلابات العسكرية، ولم يكن قد مرَّ سوى 7 أشهر على انقلاب فبراير، لكن هذه المرة اختلف الوضع واستمع من تعلقت آذانهم بجهاز الراديو إلى الخبر الذي أحدث انقلابا في نفوسهم، وأبكاهم طويلاً، “مات ناظم الغزالي”.

https://www.youtube.com/watch?v=wZ7yYWsJUJg

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة