22 فبراير، 2025 11:55 ص

 ميسان.. مدينة تمشط شعرها الأنهار

 ميسان.. مدينة تمشط شعرها الأنهار

 

(جماليات مكان)

كتب: نصير الشيخ

هي أنثى سومرية تمشط شعرها قرب الأنهار، وتداف أحلامها مع وهج الشمس الذي يغمر أريافها، وتدلل حسنها مع تمايل سنابل الحنطة بانتظار الحصاد.. “ميسان “المدينة الجنوبية الموغلة في القدم، إذ تشير المدونات التاريخية إلى أنها كانت دولة مستقلة في القرن الثاني قبل الميلاد 125ق.م، تحدها من الشرق عيلام، ومن الغرب بابل، حكمها ملوك البحر.

العمارة .. هي مركز المحافظة، تقع بين تفرعات دجلة إلى المشرح والكحلاء، والتي أنشأها (محمد باشا الديار بكري عام 1861م)، عندما أراد أن يختار لحملته العسكرية قصراً، فلم تقع عيناه على أحسن المكان الواقع بين دجلة والكحلاء حيث توافر الهواء النقي من الجوانب الأربعة للمدينة. فنزل الجيش في هذه المنطقة التي أطلق عليها اسم “الأوردي” حسبما يشير إليه الدكتور كريم الكعبي، في كتابه (الحياة الشعبية في ميسان ــ دار الضياء/2010).

يشق مدينة العمارة نهر دجلة الرئيس، وبذا فهي تصبح (صوبين) تربط بينهما ثلاثة جسور ثابتة مع جسر صغير عائم للمشاة.هذا الامتداد التاريخي طبع الحياة الميسانية بطابع اجتماعي خاص تبعا للظروف الاقتصادية والجغرافية التي سيرت أبنائها. وشكلت ميسان باقضيتها ونواحيها وقصباتها نسيجاً اجتماعيا نادراً، عبر التعايش السلمي للطوائف، حيث عاش (الصابئة المندائيون) هنا قرب الأنهار واجتهدوا في صناعة المشاحيف بأنواعها ومنذ القدم في أمكنة مثل قلعة صالح والمشرح والكحلاء، وتتركز صناعة المصوغات الذهبية والفضية وبيعها  في سوق قائم بذاته يتوسط مدينة العمارة، مع احتفاظها بخصوصياتها الدينية وممارسة طقوسها في مركزها الديني المسمى (المندى).

السوق الكبير أبرز معالم المدينة، وخصيصته التراثية والفنية أنه معقود بالطابوق المبني مع الجص، تحف به النوافذ العالية المطلة على المارة، والتي كانت بمثابة خانات (فنادق) للمسافرين والمتبضعين في أزمنة مضت، السوق على شكل جناحين، جناحه الأيمن خصص لبائعي القماش وخانات التبضع، جناحه الأيسر محلات لبيع وتصليح الساعات وأجهزة الموبايل..

تستوفقك عند مدخلهِ (المكتبة العصرية) وهي تعتبر من أقدم المكتبات لبيع الكتب والصحف والقرطاسية، ونشرت عنها التحقيقات في أكثر الصحف والمجلات العراقية والتي يشير تاريخ تأسيسها إلى عام (1929). لتصبح محط مثقفي المدينة يوميا لشراء الصحف وآخر المطبوعات. يقفز المكان كتصريح وجودي تنتثر دلالاته، ويشكل (شارع المعارف) في مركز مدينة العمارة/ تحول اسمه إلى شارع التربية/ حاضنة تتوالد على مرّ العقود التي مرت،تنهض من أعطافها ذاكرة تبوح بخيط أسرارها وما قاله الرواة، وما مرّ به من أحداث…

شارع تتجدد صورهُ محتفظا بمخططه الجغرافي (عيادات أطباء، كماليات، متجرات، الخ) مكتسبا هويته (شارع المعارف) من كثرة المكتبات التي توالدت على جانبيه (كتب/قرطاسيه).. كل هذا يشكل بمجمله مركزا حضريا فيه انعكست حياة المدينة.. مظهرها الخلاق التنوع في الأزياء التي يرتديها المارة… عابرة أقصى موديلاتها في ارتداء بناته اللاتي يتسوقن أحدث مايستجد من عالم الموضة، محققا غرضهُ الجمالي عبر هذا الحضور اللافت.

شارع التربية، هو الشريان الأبهر للحياة هنا، فهو يضم عيادات الأطباء والصيدليات ومحلات الألبسة الفاخرة للرجال والنساء، وتتصدر المحلات الزجاجية والعمارات ذات الطوابق واجهة الشارع السوق والتي تخفي خلفها أبنية هُدمت ودرست أثارها، أبنية كانت تشكل طرزا في البناء كالشناشيل والمدرسة اليهودية والحمامات، لتستعمرها الأبنية الحديثة بواجهاتها المعدنية (الألكبوند)…!!

لتنعطف بنا الخطى نحو أثر فني وديني وإنساني ألا وهو (كنيسة أم الأحزان) التي يشير زمن بنائها إلى عام (1881م)، وخلفها بناء متهالك هو كنيسة (السريان) وأنقاض مهدمة كانت تشير إلى أن هذا هو (المعبد اليهودي).!!. وكنيسة أم الأحزان حظيت بترميم أعاد لها هيبتها، وكانت طيلة العقود التي مضت محجاً للعوائل المسيحية القاطنة في العمارة والتي تزيد النسيج الاجتماعي بهاءا وزينةً وحياة وهي تمارس طقوسها وتحيي مراسيمها  وأعيادها داخل قاعة الكنيسة، التي تحمل أرواحنا لها، الكثير من الذكريات ونحن نعيش كعائلة بالقرب منها.. وليس بمستغرب أن تجد وترى نساء وفتيات مسلمات يقدمن شمعاً وحناء لهذا المحفل الديني ليطلبن من السيدة العذراء الإيفاء بنذورهن.

/كانت أمي تحملُ شموعاً بيضاء تضاءُ عند

أقدامِ العذراءِ المنتصبةِ في (بيت لحم) حجريٍ

وسط الكنيسة.. كانت تقدم النذور لفتى منذورٌ دمهُ

لنصــــــالِ الحروبْ../

للحدائق حضورها اللافت والمتجذر وهي تحاذي شواطئ نهر دجلة، مما جعلها مركزا ترفيهيا (كازينوهات) تستطيب فيها الأنفس وهي تريق تعبها وساعات فراغها بلعب الدومينو واحتساء الشاي والعصائر وتبادل الأحاديث واجترار الذكريات على زمن آمن مضى كانت تسهر فيه حد الفجر..

ولأن الأمكنة بعضها يتجدد وبعضها الأخر يندثر، تتكشف واجهات جديدة، تقف الحداثة عند بواباتها ويغذُ الربح التجاري فعله في مفاصلها../ كان شارع دجلة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يطل على المارة ببنائيين يتقابلان، الأول يتوسط الحدائق هو بناية (البريد والبرق)، وبمعمار فني لا يخلو من هندسة تشغل المكان، واللافت فيه هو (الساعة الجدارية) التي تعلو المبنى، والتي سكتت عن عد دقائقها وانصهر زمنها وعقاربها في ظروف غامضة.

يقابلها بناء هُّد منتصف التسعينيات هو قصر (محمد العريبي أو قصر فتنة) الذي يعد علامة مائزة في طريقة بناءه، لاحتوائه على عشرات الغرف وبثلاثة طوابق مع حديقة تحيط بباحة القصر، والذي شغلت فيه المنظمات الثقافية الكثير من نشاطاتها الثقافية والفكرية أبا فترة الستينات والسبعينيات من القرن الماضي ليستقر قبل الهدم فرعا لنقابة المعلمين.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة