خاص: كتب- نصير الشيخ
ــ هل يمكن استثمارُ الزمن النفسي في الكتابة الروائية؟ ما دلالةُ هذا الزمن وهو يحفرُ ساعاته في المكان والنفس البشرية على حدٍ سواء؟ موائدٌ من رماد.. روايةٌ للقاص والأكاديمي (د.لطفي جميل محمد) والصادرة عن دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع 2017، ومنذ العنونةِ أمدتنا هذه الروايةُ بما ستؤول إليه الأحداثُ وتغايراتُ الزمان والمكان في بقعةٍ تمتدُ على شكل بلاد اسمها (العراق) الذي حضر باسمةِ الصريح داخل متنِ السرد.
ترى هل كل شيءٍ معدٌ لينتظمَ في دوامة الموت التي لا تخلف غير الرماد… من هنا نفهم أن الروايةَ هي روايةُ مصائر، ولا أقول تشبيها بالعنونة أو المتن لرواية (قلعة المصائر المتقاطعة) لأيتالو كالفينو.. روايةٌ حيث تحضرُ الحياة برمتها وهي تسيرُ على الحافات الخطرة، في بلدٍ تتوالدُ فيه الحروب، مصائرُ بشريةٌ تواجه حتفها وإن عاشت حياتها، لكن الموت ظلالٌ سودٌ تتخفى خلف البنايات والأشجار والظنون.
وللدخول إلى تفاصيل المتن السردي لروايةِ موائدٍ من رماد نجد أن ثمة جناحين تطير بهما الروايةٌ، يشكلُ (أحمد الناصر/ الضابط برتبة لواءٍ في الجيش العراقي السابق) الجناحَ الأول الذي تمهدُ به الروايةُ وتؤثثُ تفاصل المبنى الحكائي لسرديتها الكبرى، أحمدُ الناصر يعتقل على يد القوات الأمريكية إثر غزو العراق 2003. ثمةَ حكايةٌ أخرى تمثلُ الجناحَ الثاني لطيران الرواية، إلا وهي قصةُ العريف (عبد الله) الجندي العراقي الجريح والمختفي داخلَ أحدِ المغاراتِ بعد أن احتلت مواقعهم القوات الإيرانية… هذه الحكايةُ المولودةُ من الحكاية الأولى بدلالة كونها مخطوطة عثر عليها أو هكذا…. (السجل المحفوظ بحافظةٍ بلاستيكية شفافة الذي حصلوا عليه مع تلك الوثائق، وهو سجلٌ قديمٌ نوعا ما، وذلك بسبب ما تعرض له من ظروف الخزن).
ـــ إذا نحن أمام مخطوطةٍ تشي لنا بحيواتٍ أخرى لمشهدية تشيرُ إلى ثمانينيات القرن العشرين وتحديداً عند اندلاعِ حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية/ الإيرانية)..نقرأ (سأله ضابط التحقيق محاولا استيضاح الأمر بدقة)..
ــ بوضوحٍ دقيقٍ، هل تقصدُ أنها قصةُ لجنديٍ عراقي.
ــ هي تحت عنوان (عزلةُ عبد الله) كما تحملُ تاريخَ كتابتها على ما يبدو الذي هو عام 1988 .
تنفتحُ الروايةُ على سردية الجندي (عبد الله) المخابر الذي تنقطعُ به السبلُ بين وحدته والواجبِ المكلف به بإمداد خطوطِ الهاتف السلكي، صيغةُ (ضمير المتكلم) هي من قامت بهذه المهمة، وكأنّ بالروائي يزجُ بمتلقيه في عملية اشتباك لمعرفة سيرِ الأحداث، وملاحقةِ الفعل بمستوياته والذي يمثلهُ الجندي (عبد الله)، ومن ثم يؤثثُ المشهد من حوله في محاولة لإبقاء وهجِ الذكريات، أو الاستنارة بوهج التذكر كلما تضيقُ عليه المسافة وهو يُحشرُ شيئا فشيئا في المغارة.
(وجدتُ أن أقطع المسافةَ المتبقية، كانت تعني لي الكثير، إذ أن خلف هذه المسافةِ تكمنُ احتمالاتٌ عدة، أولها أنني سأحظى برؤيةِ وجه أمي من جديد، ستتيحُ لي عدَّ أعمدة شارع دجلة الجميل من جديد، سأواصل لعبة (الدومينو) لساعةٍ متأخرةٍ… هذه المسافةُ وما خلفها يمكنُ أن تعيدني إلى شارع التربية….).
ــ هنا يتبدى اشتغالُ الروائي على تقنية (الفلاش باك) لضخّ أكبر عددٍ من المشاعر والذكريات لرسم عوالمَ شعرية تلامسُ حيواتنا أينما نكون.. وتطعيمِ متنه السردي بمواقفَ حياتية ماضيةٍ لإضاءتها من جديدٍ في لحظة حرجة.
في مشهد للجندي (عبد الله) المحاصر في داخل المغارة، وعبر تهيوءاتهِ واشتدادِ سطوة الوحدة عليه أو هكذا.. ثمة أشباح ثلاثةٌ توجهَ بنادقها إليه، لكنه يستدرك ( على الرغم أنني على يقين بأن لا أحدَ سواي يعرفُ هذا المكان)….!!! لتقدحَ الذاكرة إلى وصفهم بالتتر…أي المغولِ واستباحتهم لبغدادَ دار السلام، ليعيدَ الروائي إنتاج خطابه إلى أن ثمة (احتلالاً) آخر يحمل الوحشية نفسها عاشته بغدادُ القرن الواحد والعشرين…(عادوا ليكملوا ما لم يُكمله زعماؤهم على مسرحِ الوحشية واللاحضارة).
ــ اتخذ الروائي شكلَ التداخلِ الحكائي، إذا هي فصولٌ سرديةٌ لكل جناحٍ ممثلا بشخصيتي الرواية، معتمدا قطع التسلسل المنطقي للأحداث وخاصةً فيما يتعلقُ بمصير الجندي المخابر المحاصر… وفي هذا الأمرُ لا يخلو من تشويقٍ والذي يعدُّ عنصرا فاعلاً في الكتابة الروائية. نقرأُ في صنعةِ السرد للدكتور سلمان كاصد ( إن في كل روايةٍ هناك نقصاً من جهةٍ يفترض فائضاً في الجهة الأخرى، وربما هناك تقابل متساوٍ في الجهتين، وإن ما يحرك هذا العمل هو هذا التضاد الذي لولاه لما استمر الصراعُ على مستوى الحكاية).
ــ اشتغالُ الروائي على وصفِ الأمكنة لتأثيثِ المشهد عبر استثمارِ السرد وبمنتهى الدقة، مثالا{ غرفةُ اعتقال الضابط العراقي}، ووصفُ {المغارة} للجندي المحاصر.. هذا الوصفُ الذي يوصلنا لملامسةِ الجانبِ النفسي لكلا الشخصيتين، في محاولةٍ لإبراز ثقلِ الزمن النفسي وإحاطته بمدياتِ حريتها، وصولا لتهديدِ وجودها كفعلٍ يتآكلُ دواخلها….(انتابتني رغبةٌ كبيرة بالخروج من هذا الجحرِ، رافعاً يدي وأنا أصرخُ وأقول {أوقفوا الحربَ…اقطعوا النار} حتى وان سقطتُ قتيلا، سأقولُ للمتحاربين انتم شلةٌ من المجانين، لا بل شلةٌ من مصاصي الدماء)) ص61 .
فصلٌ سرديٌ يتابعُ حركةَ الجندي المخابر المحاصر يبدأُ من الصفحة 59-88 يرصدُ تحولات الوضعِ الذي آل إليه داخل هذه البيئةِ الطبيعية (المغارة) وكيفيةَ التعاملِ مع مفرداتها للوصول إلى ابعد حدٍ لمعانقة الزمنِ النفسي ودفع اليأس إلى تخوم بعيدة…فكانت (الكتابةُ) هذه المرة فعلا ايجابيا ينتصرُ للذاتِ حتى وان كانت تواجه نزعا أخيرا… (شرعتُ بكتابة السطور الأولى لمذكراتِ عزلتي، مبتدئا باللحظات التي سبقت الهجومَ علينا، وأنا أتضور جوعا وعطشا، وقلقا من أن يجدوني قد غادرتُ العالم الخشنَ المخنوقَ بالحروب، والمطوق بالموت، من دون أن يستطيعوا حلَّ لغز عزلتي…كتبتُ وكتبت حتى حل المساء)… ص81.
ربما يستدركُ القارئ العادي، وهو يقفُ أمام هذا المشهد، هل يصحُ أن نكونَ ونحن في أقسى حالة يأسِ، وأقصى حالات حصارٍ..أن ننتجَ حياةً أخرى عبر الكتابة…؟ ولماذا الكتابة؟ وهل هي فعلٌ تحرريٌ لحظويٌ ربما (للجندي)…؟ وهل بما توافرَ عليه وبما بين يديه (سجل المواقف/ قلم الرصاص/ قلم الحبر الجاف/ أوراق فارغة)..أم أن ثمة تدخلاً للصنعة الروائيةِ لاجتراح فعل إنساني أكثر خلودا ربما، سيكوّن (ثيمةً) روائية تنتج أحداثا مضافةً، تخدمُ تحويل هذه الكتابة (المذكرات) إلى مخطوطةٍ باسم (مذكرات عبد الله) والتي سوف تخدمُ أيضا مبنىً حكائيا تتصاعدُ منه أحداث الرواية.
ــ حصارُ الجندي (عبد الله) على مدى سردية الرواية، وتضائلِ أمله في الحياة عبرَ تعطل وسائل الإنقاذ، وضمور الشعور النفسي لديه بأن كلَّ ما حوله يشي بموتٍ قادم، أقول له ما يشابهه في الأدب العالمي وتحديدا في رواية (العطر) لزوسكيند، حيث البطلُ (قاتل النساء الجميلات)، عندما يغادرُ باريس تاركا وراءه مختبرات صناعةِ العطور، تأخذهُ قدماه إلى الجبال لينحشرَ تلقائيا بين شقوقها، حد فقد آدميته وتحوله في لحظة زمنية إلى نوع من الطحالب….!!! إنه تشيؤُ الطبيعةِ البشرية بفعل ضغوطِ الداخل والخارج وبمختلف المسميات.
يبرزُ الخطابُ الروائي واضحا منتصرا لقيمٍ قارة، هي من عنديات الروائي وانحيازه الكامل لسمعةِ وتاريخ بلده، وكأن هناك طرفي صراع أبرزه الخطابُ الروائي ، وطنٌ /محتلٌ…هذا ما أبرزته أسئلة المحققين والحوارات المستمرةُ مع الضابط (أحمد الناصر)…( مهما ستؤول إليه التطوراتُ في العراق، فأنا لا اعتقدُ أن هناك واحدا يقبل بعرضِك هذا، لأنه يتعارضُ مع القوانين والأعراف، فضلا عن ثقافة العراقيين).ص96.
اللغةُ في رواية (موائد من رماد) خلقت مناخها العام، من السهل الممتنع، وبمستوى يكادُ يكون واحدا لجميع شخوصِ الرواية، تلك الشخوصُ المنتمية إلى هويةٍ تتوحدُ في تقرير مصيرها، لغةً خلقت عوالمها من متنها السردي الروائي، كادت أن تسمي الأشياءَ والأمكنة والوقائعَ بمسمياتها حدُّ تدوينِ الأماكنِ التي نشأ فيها الروائي.
وبهذا يكون (لطفي جميل) في روايته (موائد من رماد) قد وجه خطابَ إدانة واضحٍ للحروب أيا كانت مسبباتها، وانحاز إلى الإنسان كقيمةٍ عليا لابد أن تعيش هناءاتها، غير متخليةٍ عن ثوابتها الأصيلة..