خاص: إعداد- سماح عادل
“مهاب نصر” شاعر مصري، وصدرت له دواوين “أن يسرق طائر عينيك” 1997، “يا رب أعطنا كتابا لنقرأ” 2012، “لا توقظ الشعب يا حبيبى” 2018. وقدم العديد من الإسهامات الثقافية، وكتب لمجلات “أمكنة” و”الكتابة” والعديد من المجلات الأدبية المصرية والكويتية.
المفاجأة الشعرية..
في مقالة بعد رحيله كتبت “بسنت جميل”: “وفى ديوان “بعربة تسوق أعبر عن امتناني للحب” يقول: “يبدأُ كالسلحفاةِ وينتهِي كالصقرِ، هذَا هو حال الشاعرِ “مهاب نصر”، وهو يبنِي نصوصَه الشعريةَ، يكتب المَأساةَ بمنتهى الرقةِ والبساطةِ والهدوءِ، لا يَجعَلنَا نصرخ، بل يجعلنا نبلع صرختنا وننظر مرتابينَ غير مصدقِين، لا يمنحنا فِي البدايةِ أي شعورٍ بوَهجِ الشعرِ، بل يتركنا ننتظر، ونَحن نشعر بثقلِ العِبَارَاتِ العَادية، لا يعدنا بشيءٍ، وفي النهايةِ يحط الشعر قويا كالصاعِقةِ، يفاجئنا الشاعر بالجمالِ، ويَجعلنا نرجِع ثانيةَ لننظرَ: كيفَ سَاهَمت كل جملةٍ عَاديةٍ فِي تَحقيقِ المفاجأةِ الشعريةِ”.
رثاء..
قال الشاعر” محمد المتيم” عبر حسابه علي “الفيسبوك”: “لم ألتقِ الشاعر السكندري مهاب نصر من قبل، لكن قرأت قبل ثلاث سنوات مجموعته الشعرية البديعة “لا تُوقِظ الشعب يا حبيبي”، فالتقيتُ شيئًا منه، ربما شجنه وأساه..
قبل أيام، استيقظ الشعب.
واليوم، أرخى، الأخُ الشاعرُ الكريمُ، جفنيه.
وكما علمنا الرجال الطيّبون والنساء الطيّبات
لا نقول وداعًا يا مهاب
بل وِدادا يا مهاب..
وكتب الشاعر “محمد توفيق”، عبر صفحته الشخصية على “فيسبوك”: “الشاعر مهاب نصر. وداعاً منذ قليل أُبلغت بوفاة الصديق الشاعر مهاب نصر.. ابن الإسكندرية وصاحب التجربة الشعرية المتفردة، والمثقف الموسوعي.
تزاملنا في القبس على مدى سنوات، وجمعتنا أعمال صحافية وحوارات ثقافية، وفعاليات شعرية، لكن ما لن أنساه أنه عند رحيله نهائياً من الكويت إلى مصر، كان متردداً وظل يؤجل السفر وإلغاء الإقامة، وقال لي: أريد البقاء في الكويت فهي تحقق لي العزلة التي أريدها للقراءة والتأمل والكتابة، لكنه غادر الحياة كلها بعد مرور أشهر على رحيله الاضطراري إلى وطنه.
رحم الله مهاب نصر وصبَّرنا الله على ما تبقى لنا من أيام في غبش الدنيا”.
وكتب الروائي “إبراهيم عبد المجيد” عبر حسابه: “خبر فاجع رحيل الشاعر مهاب نصر . ابن الإسكندرية وابن جماعة الاربعائيون في التسعينات التي كانت تطمح للتجديد الرائع في الشعر. ألف رحمة لك يا مهاب يا جميل . آخر لقاء لنا كان من سبع سنوات في الكويت وكنت أتمني أشوفك في مصر بعدها لكنها الأيام. خالص عزائي للعائلة وللكتاب وربنا يهون علينا الأيام. ألف رحمة يا حبيبي.
وقالت الكاتبة “منصورة عز الدين” عبر حسابها: “مفجع خبر رحيل الصديق العزيز والشاعر المبدع مهاب نصر. خالص عزائي لأهله ومحبيه. لا أتذكره إلا ضاحكا وقادرا على لفت الانتباه بذكاء متوقد إلى ما يغفل عنه الآخرون”.
الإسكندرية..
في مقالة له عن مدينته التي ولد فيها كتب “مهاب نصر”: “كانت لحظة انتقال الإسكندرية من آخر آثار مدينة كوزبوليتانة، وتحولها إلى مدينة للحنين في الأدبيات الرائجة: مدينة الشاطئ والحب والجمال، بالتناقض الصارخ ما مايدور فيها ومزاج أهلها حافزا على السؤال عن ما وراء المدينة؟ كيف تشكلت، وكيف أعيد إنتاجها عند مفاصل تاريخية بعينها، لترضي خيالا سياسيا أو أدبيا؟ هل المدينة مكان يرى في كليته كأيقونة، أم خلفية في لوحة الفعل الإنساني؟.
الخوف الغامض من التحولات التي كانت تمزق قماشة المدينة لم تؤد إلى تمسك مفتعل بها، بل رغبة دائمة في السفر، قوامها ثقة ما تحققت ذات يوم. مدن ما بعد الاستعمار بدت لها كحكاية بلسانين لا يفهم أحدهما الآخر. أبوه ابن “بحري” وخريج الفلسفة، حكى له عن مدينة سقراط والسفسطائيين، عن المشائين كما لو كانوا قد مروا من شارع قريب. إلى أي مدينة ينتمي؟ مدينة أبي العباس ومولد الإباصيري؟ مدينة جده الأكبر “محمد الشريف” الذي يرقد جثامنه ضمن مقام الـ”12 شيخ” جوار سيدي ياقوت.
أم مدينة باسترودس وأثينيوس؟ أم مدينة الطلبة الوافدين من الريف؟ سكنه كان قريبا من شوارع الدعارة، البقايا الممسوخة من العهد الاستعماري، حيث تحولت مراقص التانغو والفوكس تروت إلى ملاعب للقوادين. والآن وهو يعيش في الكويت بعد أن سافر إلى أماكن أخرى: اليونان، فرنسا، بلجيكا، تركيا، البوسنة، وحتى ليبيا وتونس والإمارات ربما يتساءل كيف أمكن له مفارقة الموكن الأصلي دون أن يشعر باغتراب؟ كيف تعلمنا المدينة أن نكون مواطنين عالميين. وكيف نفقد ذلك الآن؟ متى بدأ خراب المدن؟ هل ثمة إمكان لتجاوز المدينة دون تجاوز الرابط الإنساني؟”.
«عن الحب والمُلْك»..
في مقال له كتب “مهاب نصر” عن ثنائية الحب والملك: “مهاب نصر: “على أي قدر من الهشاشة كانت الدولة العربية في عهدها الخِراجي، شبه الإقطاعي في العصر الوسيط؟ لا أعني بالهشاشة ضعف قدرة هذه الدولة على إنفاذ أوامرها وإحكام سيطرتها وتنظيم شؤونها، بل كونها على الرغم من نفوذها فإن منطق سلطتها نفسه، وخيال هذه السلطة كان محوطًا بظلمة لم يُعبَر عنها بوصفها إشكالًا سياسيًا، بل بوصفها غموضًا يقتضي التسليم. هذا الغموض تمت إزاحته إلى مساحة أخرى مدهشة تمامًا، هي مساحة الحب؛ فكما الحب، بدا السلطان مطلقًا وقلقًا، شاملًا ومتقلِّبًا، موضوعيًّا ومُتوَّهمًا كالسراب.
في قصائد المديح العربية ذات المطالع الغزلية، كان بنيان هذه الدولة مكشوفًا في تناقضه المتغطرس الاحتفالي والزائل معًا، وهو ما أدخل التأريخَ القديم نفسه، من حيث أدبيات تدوينه لمراحل عِمارة تلك الدول وفنائها، في باب العبرة والاعتبار، أي الحكمة المتكررة والمُتحصَّلة من تكرار الشيء ذاته. وهو، بدوره، ما كان يلقي على مدونة التاريخ نفسها ظلًا من الأسى.
بقدر ما كان يبدو الحب في مطالع قصائد المديح الموجهة إلى سدة المُلْك، رقيقًا ومغناجًا، شاكًّا وسريع العطب، كانت الدول نفسها التي كُرس جوهر القصيد المدحي لتدعيم عمارتها المهيبة الفاتكة”.
الغزل..
ويضيف: “من المتعارف عليه أن استفتاح القصائد بالغزل كان إدامة لتقليد أدبي اتخذ طابعًا تأسيسيًّا في ما يعرف بـ«عمود الشعر»، والذي يعني طريقةَ بناء وتتابع الموضوعات في القصيدة العربية القديمة. لكن بإمكاننا إعادة النظر في هذه التقليد الإحيائي خارج الشرط الفني والجمالي الخالص، باعتباره نوعا من البروتوكول الملكي، ومن الأداء الرمزي المتفق عليه. ولم يكن من المتصوَّر أنه يمثِّل ثقافةً عامة، بل ثقافة فروسية البلاط. إنه منهج أعيد إحياؤه داخل البلاط في وضع جديد تمامًا لا يعبر عن الحب في إطار الخبرة البدوية، بل باعتباره مقابلًا للعالم الفروسي ونظيره المتهتك لبلاط المُلْك. كان الحب استفتاحًا وحَدًّا، أي أنه يقع عند أطراف القصيد نفسه مثل حدود دولة، تلاعبًا وهوى يكتسب قوة ماجنة هائلة من نقيضه الصارم الدموي.
يصح أن نسمِّي المُلْكَ العربي بأنه كان «مُلْك الضرورة»، فهو الذي لم يُؤسَّس على «الحقيقة»، ولم يُعنَ كثيرًا بتأسيس معنى حصري وكُلِّيٍّ للسلطة ومرجعيتها، بما في ذلك الحقيقة الدينية نفسها، ولم تكن له صلةً فعلية بتمثيلها إلا بقدرٍ واهن وشكلي، لم يعرف معنى السياسة إلا كآداب ذات رمزية مكثفة. مع هذا فإن عالم المُلْك العربي القروسطي هو عالم مُعقْلَن بدرجةٍ كبيرة، ومغلق أيضًا على ترتيباته الداخلية. وبسببٍ من هذه العقلنة بالذات، كانت الدول نفسها مُتقلِّبة المزاج كالهوى.
من اللافت أن عَقْلَنة المُلْك العربي كانت نتاجًا للانفصال عن الغاية، أي عن أيديولوجيا مُحكمة. فطابع الغلبة الذي وسم الصراع القَبَلي، قبل الإسلام، لم يتغيَّـر فعليًّا إلا بتكوين نخبة عسكرية عشائرية موطدة الأركان من خلال تحالفات براجماتية، أما النظم والترتيبات المدنية، بله العلوم والمعارف، دينية وغير دينية، فقد ابتعدت عن الأسطورة قدرَ نفورها من الغموض والنزعة الغنوصية. ومع هذا فنصرة الوضوح التي مثَّلها بالذات أهلُ السنة والجماعة كانت عصبية المزاج بقدر ما تقف على أرضٍ لا قرار لها، ولا تستطيع حتى النظر إليها. كان «الغامض» مُستبعَدًا، أي صاحب النص وقائله، وحين يأتي، يأتي مثل خراب المدن؛ عارمًا وشاملًا”.
استعارة..
ويواصل: “لا يعني ذلك أن الحب كان استعارة للمُلْك أو أن المقصود هو مقارنة بينهما من نوعٍ ما، بل أن كليهما كانا يتبادلان وضعًا استعاريًّا جذريًّا لحقيقةٍ غائبة ومستحيلة. وكانت الاستحالة هي ما تصبغ الشعر والمُلْك على السواء بروحٍ قدرية ما زالت تشيع فيها الحيوية والتجدد.
يمكننا أيضًا النظر ليس فقط إلى تأسيس الجندرية في واقع هذا الزمان وفقَ ترتيبات حقلي الحب والسياسة كما سبق، لكن باعتبار الحب والسياسة ينتميان إلى حقل واحد أُسِّسَ على ثنائيَّةٍ جندرية، كثنائية (حاكم/ رعية)، (الإنسان/ العالم)، باعتبار الثالث ليس مرفوعًا بل حاضرًا ومُستوحَشًا في الآن ذاته؛ إله يقف وحده في صورة الأَمر. هذا التوسُّط الذي مثَّله الوحيُ السماوي ربما بدا حاضرًا بصورةٍ استثنائية في شخصية الرسول. لا يجب أن ننسى أن الرسول نفسه قد استُبعِد من الوحي باعتباره رسولًا بالذات.
وتحت مظلة الوحي المنقطع والصلة المستحيلة، لم يكن التفكير في السياسة ممكنًا آنئذ إلا باعتبارها نزوة، ولا في الحب إلا باعتباره سلطانًا قاهرًا، لأن كلاهما ينتمي إلى فرديةٍ غريبة لا تطاق. يحوز الفردُ المتسلِّط بعضَ صفات الإله، لكن بانحرافٍ دائم بسبب اعتماده على موضوع التملُّك والحيازة الزائلة، فهو لا يصل أبدًا إلى الكفاية التي صُوِّرَ بها الإلهُ. إن ميزة الإسلام وغرابته ألا أمل فيه مطلقًا للتطابق، ومن هنا طابعه الدنيوي الحاسم، وعدم رفضه للغواية بشكل قطعي. إنه يعترف بها ويديمها ويهذبها من خلال فصلٍ جندري مُؤسَّس على أداء دورٍ أبدي، حتى في الجنة نفسها”.
وفاته..
توفي “مهاب نصر”، اليوم السبت 28 أكتوبر 2023، بعد تعرضه لأزمة صحية مفاجئة.