خاص : بقلم – محمد البسفي :
المثقف الحائر ولعبة التقافز للخلف !
( 1 )
بينما تُظهر أغلب الدراسات النقدية والتاريخية مدى حيرة المثقف العربي – والمصري في القلب منه – بحثًا عن كينونته وماهية دوره داخل مجتمعه منذ بداية العقود الأولى من القرن العشرين، حتى نجح أخيرًا بالكاد في العثور على موطأ قدم أتاحته له “قضية الاستقلال”.. فالمشهد التاريخي يزخر بجرائم الآلة العسكرية الغربية التي تستعمر وطنه بشكلٍ مباشر وتُمارس أسوأ أنواع التسّلط على حياة مجتمعه وأقسى الانتهاكات لسّيادته – كمواطن – وسّيادة وطنه المسّتلب، تلك الضغوط الخارجية والذاتية التي دفعته إلى المقاومة أو المهادنة مع سلطة المحتل؛ والنتيجة النهائية له أو هدفه الأساس هو توسعة هامشه المجتمعي وإكساب دوره أكبر قدر من الزخم المنشود.. حتى شهد المثقف العربي عصر الاستقلال والتحرر وانشغل مجتمعه المحيط بمنجزيهما متعمقًا في البحث عن ماهية التحرر ومعنى الاستقلال، متفرعًا المجتمع السياسي/الفكري العربي في الإجابة على تلك الأسئلة مستجيبًا لإيديولوجيات ومذاهب متعددة ومتنوعة، كان المثقف العربي وسط تلك الدوائر مهندسًا ومعّربًا وفي أحيانٍ ليست بالقصيرة منّظرًا.. منشغّلاً داخلها طوال الوقت بتوسعة هامشه الاجتماعي/الثقافي أمام السلطة المحلية؛ التي أجبرها الظرف التاريخي على “التمركز” بغية إعادة بناء “الدولة المحررة” بعيدًا عن المستعمر السابق.. هكذا كانت رغبتها وبهذا ظنت في تنفيذها لخطط تنميتها وبناء دولتها، ومن هنا تبلورت من جديد الجبهات داخل الدولة “المُحّررة” من النظام الحاكم المتمركز على ضفة من النهر تقابله جبهة أخرى من المثقفين تعتبر نفسها خارجة عليه في الضفة المقابلة، وعلى مدار سنوات طوال لم يهدأ خلالها المثقف العربي – والمصري نموذجًا – عن ممارسة لعبته في القفز عبر الشواطيء المقابلة مراوحًا بين مواقعه الجبهوية مع أو ضد النظام الحاكم حسّب الطلب والحاجة مهمومًا بتوسعة مساحته من مجرد هامش إلى مساحة معتبرة ليس في المتن الاجتماعي فحسّب بل على رأس قمته؛ فهو القائد والمرشد والحامي والرقيب، حتى مع تغييّر مواقعه من النظام في “لعبة” التقافز الأثيرة لديه.. فالمثقف العربي انبثق من طبقة متوسطة “مضغوطة” في بداية تكوينها تحت ثقل طبقات شبه إقطاعية ونسخة باهتة من ارستقراطية تتغذى على فتات المستعمر وحليب حماية موضعها على الخريطة الاجتماعية في صفقة متزنة؛ يُحافظ المحتل فيها ويمول ويحمي وهي ترشده على الخيرات وتُسلم له المقدرات وتروج لدعواه وتُشّرعن أدواته وأفكاره.. وبنفس مميزات تلك الصفقة شجع المستعمر وغذى طبقة وسطى تقوم بلعب ذات الدور المستهلك لصناعاته وأفكاره، فتزاوج المستعمر والطبقة الوسطى داخل المجتمعات المستعمرة – بشكلٍ مباشر أو غير مباشر – هو تزاوج العُملة الواحدة حتى اليوم؛ مع اختلاف الآلة الاستعمارية وأساليبها ورغم تغير الظرف التاريخي ونمط الإنتاج للرأسمالية العالمية.
( 2 )
وإن كانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 تُمثل انهيارًا لكثير من الأفكار أو “التوهمات” – وهو التعبير الأدق – لدى المثقف البرجوازي، ومن ضمنها معادلة عصر النهضة التي تمزج بين التراث والعصر أو بين الأصالة والتحديث، كما يحلو لذاك المثقف تسّميتها في توفيقّاته التنظيرية غير الجذرية.. فإن الهزيمة العسكرية هي في الحقيقة هزيمة مباشرة لمجمل الصيغة الفكرية للطبقة الوسطى ذاتها وأطروحاتها البراغماتية وبالتالي هزيمة للطبقة الوسطى نفسها؛ كما يذهب “غالي شكري” في تحليله لكامل فكر ومنتوج “توفيق الحكيم” الإبداعي والفكري، كنموذج لمثقف من أبناء ثورة 1919 ليبرالية الهوى والهدف والتأثير وسطية الجغرافيا الاجتماعية، (كما أراد المثقف الليبرالي/الوسطي تصنيف انتفاضة عارمة كانت قاعدتها المؤثرة والمحركة طبقة متسّعة من أبناء الفلاحين وصغار الأجراء؛ تم إهمال دورها وطمس بطولاتها الدموية، سواء في مواجهة المحتل الإنجليزي أو في وجه كبار الملاك والارستقراطيين، في تأريخ المدونات الكلاسيكية التلفيقية للمثقف الليبرالي/الوسطي).
الطبقة الوسطى التي يستعين وعيها بالتاريخ للخروج على التاريخ – كما يرى شكري – وبالتالي اللجوء إلى النسّبي التماسًا للمطلق في تحليل وضعها المتردي في أوقات الأزمات والمحِن؛ سواء تأزمها التأريخي من مستعمر مباشر أو غير مباشر أو تأزمها الطبقي في عدم توافر شروط ترقيها وتقاسمها شروط الحكم وامتيازاته.. فنجد الحكيم – كمثال للمفكر النخبوي – يكتب في تشرين ثان/نوفمبر من العام 1948: “إن هذا الشعب الذي نحسّبه جاهلاً يعلم أشياء كثيرة، ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العُليا في دمه ولا يعلم، والقوة في نفسه ولا يعلم.. هذا شعب قديم.. جّيء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه، تجد فيه رواسّب عشرة آلاف سنة، من تجارب ومعرفة رُسّب بعضها فوق بعضٍ وهو لا يدري.. نعم، هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتُسّعفه وهو لا يعلم من أين جاءته.. هذا يُفسر لنا تلك اللحظات من التاريخ التي فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت وتأتي بالأعاجيب في طرفة عين ؟ كيف تستطيع ذلك إن لم تكن هي تجاريب الماضي قد صارت في نفسها مصير الغريزة ؟” (1).
فالثورة هنا، لدى المثقف الليبرالي/الوسطي مجرد انفجار تاريخي مكبوت ينطلق من مصر كلها أو يتفجر من أعماق الجماهير كافة دون تميّيز فئوي أو طبقي وبلا محرك؛ نفس التوصيفات التي تُطلقها الآلة الدعائية للطبقة الوسطى لأي حراك جماهيري يصل لحد الانتفاض والثورة حتى اليوم. ويحاول شكري فرز المطلق من النسّبي داخل تلك الرؤية فيقول: أمامنا روح مصر وقلبها الواحد والقدر من المطلقات. ولكن هناك الزعماء والظروف والأحداث والنوم والتبّدد والحيرة من النسّبيات. وهي نسّبيات تُشير إلى “حركة” اجتماعية سياسية داخل التاريخ وبفضله. ولكن الحكيم لا يرى من هذا التاريخ سوى الماضي المستمر الثابت: الهرم الذي يقاوم الزمن كأنه خارج التاريخ. وكان الحاضر الوحيد الذي رأه الكاتب (ثورة 1919) يجد شرعيته الوحيدة في المطلق، ومن ثم فهي ثورة لم تمُت لأن مصر لا تموت. وهو يضمر “الطبقة الوسطى” التي أصبحت من الآن فصاعدًا هي مصر (2).
وربما اختيار شكري لشخصية توفيق الحكيم ممثلاً للمثقف الليبرالي/الوسطي؛ الابن المباشر لثورة 1919 الذي عاصر انفجار ثورة 23 تموز/يوليو 1952؛ بل وأظهر تحمسًا لخطابها الاشتراكي (القشري) وتحفظ على أفكارها العروبية، ولكنه حافظ على حدٍ من التوازن أسماه شكري بـ”الصفقة” مع نظامها “العسكريتاري” لكي يستمر في الدوران داخل فُلكها حتى جاءت هزيمة حزيران/يونيو 1967 لتُنهي تلك الصفقة، ويُصبح الحكيم أول من يُسّارع بإعلان انهياره وهزيمة طبقته الوسطى ونخبويتها في بيانه الشهير (عودة الوعي) في بداية السبعينيات؛ حقبة الثورة المضادة على ثورة تصورات الطبقة الوسطى وإنطلاقة النسخة الجديدة لتوصيفاتها وأطروحاتها. إلا وشكري يضم إلى الحكيم؛ “لويس عوض” و”حسين فوزي”، ضمن من صاغوا تلك الأطروحة الفرعونية عن روح مصر في بحث الطبقة الوسطى المزمن عن هويتها: فـ”كانت هذه الصياغة لشخصية مصر هي أكمل وأنضج صياغة فكرية أبدعتها الطبقة الوسطى المصرية بشرائحها المختلفة منذ بداية صعودها في العشرينيات وحتى هزيمتها بين أواخر الستينيات وبداية السبعينيات” (3). كما يرى شكري الذي غاب عليه أن غزو الكويت في بداية عقد التسعينيات يُعّد بيان علنّي لسقوط المثالية القومية العروبية التي تشترك مع الناصرية في خلل بنيوي بين خطابها الإيديولوجي والممارسة السياسية/الاستراتيجية التي حاولت لعب البراغماتية بين قوتي السوفييت والأميركان، حتى انهارت بكل قسوة مع الغزو الأميركي للعراق، الذي لم يُمثل انهيارًا لبراغماتية الطبقة الوسطى العروبية الحاكمة في نسختها البعثية – بعد توهمها القدرة على ما لم تستطيعه النسخة الناصرية – فحسب؛ بل تعمد المحتل الأميركي فضيحة ذلك النموذج العروبي الوحدوي وكسره على الهواء مباشرة عبر تفاصيل الغزو الدامية والمخزية أخلاقيًا سحقًا للشخصية “العروبية” وقبله لفكرة التطاول على الهيبة الأميركية كإعلان للرأي العام العالمي ببدء مرحلة هيمنة القطب الواحد وفرض النموذج والشخصية الأميركية كسيدة وحيدة على المجتمع الدولي وما تمخض عنها من ثقافات ما بعد حداثية.
كان توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض وغيرهم ممن حملوا لواء الثنائية النهضوية في إطار “شخصية مصر” المرتبطة بالماضي التاريخي والجغرافيا المتوسطية، أي بمصر القديمة والحضارة الغربية، قد ارتبطوا مع نظام تموز/يوليو في صفقة غير معلنة بالسكوت عن “البُعد العربي” و”الصيغة الديموقراطية”. هذا السكوت هو الذي دعاه توفيق الحكيم عام 1973 بغيبة الوعي.
كانت مصر المصرية المرتبطة بالتحديث الغربي هي مشروع الطبقة الوسطى وحلمها الذي لم تُحققه الثورة الناصرية. ولكنها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي كانت تُحقق ذاتها للمرة الأولى تحقيقًا استراتيجيًا. وغابت الصيغة الليبرالية لأن طلائع الثورة قدموا من المؤسسة العسكرية، ولأن وثوب شرائح الطبقة الوسطى إلى مؤسسات الدولة كان يستدعي أشكالاً متعددة من الجراحة الإدارية والسياسية.
( 3 )
وكما يحصر دائمًا صاحب أطروحة شخصية مصر القديمة ضمن ثنائية النهضة من مثقفي الطبقة الوسطى؛ “الثورة” في فعل هلامي يُسّقط الوقت والدافع المحدّدين يقوم به “الجميع” دون تمييز، وليس حراك تفاعلي تحركه متناقضات تاريخية يصنعها صراع طبقي دائم يعتمد على حقائق ووقائع علمية ملموسة، يحصر شكري في تحليله (ضمن مؤلفه شديد التطرف لليبرالية) أسباب هزيمة المعادلة الاجتماعية داخل الرؤية الناصرية في غياب الصيغة الليبرالية وليس افتقارها لعدة مقومات أهمها غياب الوعي العلمي لتناقضات الصراع الطبقي والابتعاد عمدًا عن الحلول الجذرية لمسّبباته بغية “التمكين” لحكم شرائح الطبقة الوسطى البازغة من تحت رُكام بقايا طبقة ارستقراطية هجينة؛ مبتدعة إيديولوجية توفيقية اختزلت الاشتراكية في شعارات “معلبة” دون أي ممارسة علمية قد تقود أبناء الطبقات العاملة والفقيرة المهمشة إلى القيادة والحكم مع الحفاظ على استقلاليتهم وتنظيمهم الديمقراطي الاجتماعي الحقيقي، حتى جاءت حقبة السبعينيات مكملة رسم خارطة “التمكين الوسطي” تلك ولكن بدوافع ورؤى مغايرة بدت متناقضة – ولكن ليس لحد الانقلاب – مانحة لبعض فئات الارستقراطية القديمة فرصة العودة وسط جموع شرائح الطبقة الوسطى المتوسطة والصغرى المترقية حديثًا؛ في فسيفساء هجينة ستُشكل القاعدة للطبقة الوسطى في العقود اللاحقة.
أو كما يستعيد “أنور عبدالملك” لحظات حريق العاصمة المصرية في السادس والعشرين من كانون ثان/يناير العام 1952، ملتقطًا تفاعل الشعب المصري القاهري مع مشاهد احتراق منطقة القاهرة الوسطى “التي التهمتها النيران، دون أن يهب شعب القاهرة لنصرة القاهرة وحمايتها من الدمار”، عازيًا ذلك بأن قاهرة 26 كانون ثان/يناير 1952 كانت قاهرة الأجانب و”الناس اللي فوق” رجال الاستعمار والسراي. كان شعب القاهرة آنذاك ملفوظًا من قلب عاصمته، ويوم احترقت العاصمة لم يتّعرف شعب القاهرة على المباني الفاخرة والمتاجر والمنتديات، أو بالأحرى لم يعترف بها ملكًا له. سكت شعب القاهرة، وتفرج، مدركًا أن حريق القاهرة هو إعلان بنهاية عهد سياسي، ومرحلة تاريخية أطلق عليها الدكتور “صبحي وحيدة” مصطلح: “الموجة الغربية” (4). وإن كان عبدالملك قد اعتبر لحظة حريق القاهرة هي نفسها لحظة احتراق “الموجة الغربية”؛ في بداية العقد الخامس من القرن العشرين، فما سرعان ما هبت تلك “الموجة الغربية” عائدة بكامل ثقلها بعد نحو عشرين عامًا فقط مستمرة في مراحلها وأطرها الممتدة.
وما حدث في حقب السبعينيات والثمانينيات ما هو إلا تمهيدات مسرحية تُهيّيء شعوب مجتمعات العالم الثالث لبداية العرض الحقيقي لمنظومة سياسات النيوليبرالية والتحول المفاجيء لآليات أنماط الإنتاج إلى نمط الإنتاج المالي وإعادة توزيع خارطة إدارة الثروة العالمية بسيطرة دول المركز الغربي على نصيب الأسد من الصناعة والتكنولوجيا وتحويل دول الجنوب النامية إلى مجرد مزارع للمواد الأولية وأسواق استهلاكية لمنتجات الغرب الأوروأميركي المركزي؛ ولا تستقيم حياة العولمة الاقتصادية/السياسية دون عولمة ثقافية تُرسّخ لمبادئها ومفاهيمها وتكون ضامنًا لأرباحها وارتفاع أسّهمها المستمر على طول طريق تعميمها. وهنا لم يتحول مثقفنا الليبرالي/الوسطي إلى مجرد مستهلك للألعاب الفكرية للعولمة الثقافية الوافدة عليه من ثقافات ما بعد حداثية فحسّب؛ بل طاب له لعب دور المُبّشر “الببغائي” لها ظننًا منه حصد ثمار ومكاسب التحرر والعتق الفكري خلال كفاحه المعرفي عبر منظومة معقدة من الفلسفات العدمية والفوضوية والتفكيكية والانحلال عن أي مبدأ أو “قيمة” بإسقاطها وسحقها في سرمدية العدم.. ومع الظهور والانتشار القوي لنظريات “موت السلطة” وإسقاط قيمتها بداية من موت الإله والأب وحتى المؤلف والقاريء والنص؛ وقبلها وأهمها نظريات وتنظيرات “موت الإيديولوجيا”، تبلورت أزمة جديدة للمثقف الليبرالي ابن شرائح الطبقة الوسطى الهجينة في مجتمعات الأطراف التابعة التي تتبّدل معايير ومحددات طبقته الاجتماعية بحسّب الخارطة المركزية لتوزيع الثروة، فأضيفت إلى أزمته السابقة بحثًا عن ذاته المستقلة عن السلطة والنظام السياسي في ثنائيته التوافقية بين التراث والمعاصرة في “معادلة النهضة”، أزمة جديدة تبلورت في تعميق هوة اغترابه ليس عن ذاته الوطنية/القومية فحسّب بل فصلته عن ذاته الفكرية/المعرفية كليةً بالانسحاق المطلق للمنظومة المعرفية المعولمة والاستسلام التام لكل ما تُمّليه عليه تنظيرات ما بعد الحداثية المركزية من ألعاب ثقافية جعلته مجردًا تمامًا في النهاية من أي مبدأ وكل قيمة إنسانية كانت أو فكرية، كما أشاع المنظر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في غمرة احتفاءه بانتصار الرأسمالية الأميركية بعد سقوط جدار برلين ضمن سلسلة من “الحكايات التي تنتمي إلى ما بعد الحداثة” لفكرته القائلة أن من الأفضل أن يعيش المرء بلا اقتناعات، وأن القضايا النبيلة خطيرة، وأن الثقافة الاستهلاكية تؤدي إلى الشعور بالحرية. هذه الأفكار التي أشاعها سقوط الشيوعية؛ دعاها ليوتار فيما بعد بـ”حالة ما بعد الحداثة” (5).
تلك “الحالة” من ثقافة الاستهلاك التي نحياها اليوم؛ ربما أبلغ تعبير لها ما قاله الروائي “نجيب محفوظ”؛ أثناء حديثه مع “د. غالي شكري”، ردًا عليه: “الأجيال الجديدة في الأدب لم تتبّن رؤى عامة جديدة كهذه التي تشير إليها أو غيرها. إنهم أكثر اهتمامًا بذواتهم وهمومهم الشخصية، لذلك فهم يتوغلون في عالمهم الداخلي أكثر مما يُعالجون رؤية عامة… لست أشعر لديهم بتجاوب مع الأفكار الكبرى. لقد أصابهم القرف من هذا كله فلم يعودوا متحمسين لأي من القضايا التي نتفق أو نختلف حولها. وإنما هم منشغلون بتجربة حب، تجربة جنس، تجربة قرف، تجربة زبالة، هكذا” (6).
وهكذا.. وجدت أجيال متعاقبة نفسها منغمسة كلية في بؤر نفسية منكبة على ذواتها مستسلمة لألعاب وشعوذة التفسيرات والمدارس السيكولوجية الزائفة في تفسيراتها لحقائق التناقضات المجتمعية خالقة دوائر صراع وهمية تزيد من “الغمام” وتُغيّب الوعي الجمعي في هوة الاغتراب والأمراض النفسية المعقدة.
وكما جاهد مثقفنا الليبرالي/الوسطي نفسه بحثًا عن ذاته وهويته بإطروحته عن شخصية مصر القديمة داخل ثنائيته النهضوية بين الأصالة والمعاصرة – كما توهمها – بالقفز إلى الوراء مستدعيًا ماضيه الحضاري؛ ولكن الآن تحت ستار التنظيرات الما بعد الحداثية الكثيف الذي وفر له آليات النبش عن الأصول العرقية لتضخيم الذات الشوفينية والخروج بها من دائرة الوطنية/القومية الجامعة إلى دوائر العنصرية والجهوية؛ كان ذلك بالتزامن مع مجاهدة المثقف السّلفي/الوسطي داخل نفس الثنائية النهضوية بين التراث والتحديث بحثًا عن هويته وذاته العقائدية – وكذا أوهامه – بالقفز أيضًا إلى الوراء مستدعيًا شرعية (منتهية الصلاحية) دولة دينية الهوى والهوية خالصة في حب الإله سّالبة منه ظله على الأرض، وبالمثل يتحرك المثقف السّلفي/الوسطي داخل عباءة ما بعد الحداثية مستمتعًا بما وفرته له فلسفاتها وألعابها الروحية من أساطير واستغراق في الغيبيات ودجل الماورائيات واستغلالها في تعلية “النعرة” الدينية وتصّعيدها مجتمعيًا لحد “الهوس الديني” فاقع اللون يتم بموجبه التمييز البشري على الهوية الدينية والطائفية.. وعلى قضيبي المثقفين الليبرالي والسلفي من أبناء الطبقة الوسطى الهجينة يسّير قطار ثقافات ما بعد الحداثة مستقرًا مطمئنًا في نشر فلسفاته وتنظيراته التي أجبرت المجتمعات البشرية – والعالم الثالث تحديدًا – للرجوع إلى المربعات الأولى في التكوين المعرفي والدوائر القديمة للحوار والمناقشة حول تجريدات الهوية والفناء ونهاية العالم والتاريخ وما لا نهاية من جدالات مفارقة للتاريخ والواقع والوعي العلمي لطبيعة الصراع؛ وللمفارقة أن يتم على قاعدة تلك الجدالات المفارقة للعلم استقبال أحدث المنتوجات التكنولوجية والعلمية.. صناعة كبرى في حجم الذكاء الاصطناعي كمثال؛ التي لا يتردد المركز الأوروأميركي في خوض حربًا عالمية شرسة حفاظًا على هيمنته عليها واحتكار كافة شفراتها ومقوماتها؛ يتم تسّويقها من قبل كارتيلاته الصناعية/التكنولوجية وشركاته متعددة الجنسيات داخل مجتمعاتنا اليوم باللغة التي نفهمها ورسّختها داخلنا ثقافات ما بعد الحداثة؛ فتستغرقنا حوارات من مثل كيفية نهاية العالم وتوقيت “يوم القيامة” وغيرها من الأسئلة التي تغدغ مشاعرنا الدينية المجردة وتفتح الباب واسعًا لتغييّب وعينا عن مشاهد استغلال الآلة الرأسمالية المتوحشة للإنسان التي وصل بها الشراسة لاستعماله كحيوان تجارب لمدى فاعلية الفيروسات والأمراض التخليقية في حربها البيولوجية أو لغّرس أحدث رقائقها التكنولوجية في دماغه وجسده لقياس كيفية السّيطرة عليه.. فلا نرى كل ذلك وغيره الكثير والأكثر من جرائم الرأسمالية في حق الإنسان كل لحظة ونحن ننعم بسُّبات لذيذ تحت غلالة ثقافة الاستهلاك الثقيلة التي أبعدتنا عن أي فعل ثوري “منظم” كان أو منتج لفكر تقدمي نحو مجتمع متقدم.
.. وإن كانت أغلب الدراسات النقدية قد صّنفت المثقف العربي – ضمن مصفوفة مثقفو مجتمعات دول الأطراف النامية – حيال “السلطة” تحت تبويبات: المثقف التقني/الخبير أو المثقف الداعية أو المثقف الهامشي/الثوري.. فالسؤال الآن: في عصر ثقافات الاستهلاك المعولمة عن أي مثقف نتحدث ؟.. ما هي ملامحه الفكرية المنعكسة على منتوجه الإبداعي في محيط مجتمعه الذي يُريد التأثير فيه ؟.. وما شكل وماهية السلطة التي يواجهها ؟
…………………………………………………………..
( 1 ) الاقتباس من مقال لتوفيق الحكيم نشر في 13 تشرين ثان/نوفمبر 1948، أورده د. غالي شكري في مؤلفه (المثقفون والسلطة في مصر) – دار أخبار اليوم 1991.
( 2 ) د. غالي شكري – مرجع سابق.
(3 ) د. غالي شكري – مرجع سابق.
( 4 ) د. أنور عبدالملك – (الشارع المصري والفكر) – ص 07 – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1997 ضمن مشروع “مكتبة الأسرة”.
( 5 ) تمثي برنن – (إدورد سعيد: أماكن الفكر) – ص 329 – ترجمة محمد عصفور – سلسلة “عالم المعرفة” – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت آذار/مارس 2022.
( 6 ) د. غالي شكري – (نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مشروع “مكتبة الأسرة” 2020 – ص 92.