خاص : بقلم – محمد البسفي :
مقدمة
في مطلع الألفية الحالية؛ وتحديدًا في العام 2000، أنتج التلفزيون المصري – عبر إحدى شركاته الرسمية – مسلسل باسم: (سامحوني ماكنش قصدي).. وبرغم عنوانه البسيط الذي استعمل العامية المصرية دون تكلف؛ إلا وأنه تصدى لقضية كانت من الحساسية الفنية لدرجة أنها من فرط تعقدها وتشعبها في المجال العام العالمي أسرفت العشرات بل مئات الكتب والدراسات العلمية المتخصصة الشارحة لظواهرها وتطوراتها والراصدة لتداعياتها على مجتمعاتنا النامية التي كانت في حينها مازالت حديثة العهد بها نسبيًا، وهي قضية “العولمة”..
فقد اختار الكاتب المبدع الراحل؛ “يسري الجندي” – بمعاونة قيادة إخراجية للراحل؛ “إسماعيل عبدالحافظ” – مناقشة قضية بثِقل “العولمة” وسياسات النيوليبرالية، التي كانت قد بدأت تكوي كواهل مجتمعات منطقتنا النامية من دول العالم الثالث حينها؛ دون أن تعرف عنها القاعدة الأعرض من جماهيرنا شيئًا، وربما ذلك ما حفز “الجندي” إلى التصدي لتلك القضية الفنية المتشابكة التعقيد عبر عمل درامي اعتمد قصة رمزية مبسطة راسمة مثلث تكتلي؛ تُمثل أولى وأقوى أضلاعه سيدة أعمال متسلطة تُعاني عذابات الهيمنة والتملك وهواجس الاضطراب المستمر؛ والضلع الثاني شاب يتمتع بالذكاء والنبوغ العلمي لدرجة العبقرية في علوم السياسات الاقتصادية والتخطيط؛ يُمثل طموحه الجامح سر عذاباته الداخلية التي تتغلب عليه بعد قطعه لشوطٍ واسع في مستقبله العلمي والعملي ونجاحاته على المستويين ويُصبح العالم الاقتصادي الذي تتلقف الأكاديميات العالمية كتاباته كمراجع علمية في آليات السوق وحركة رؤوس الأموال؛ وذلك بالطبع ما تم ترجمته عمليًا كأرباح طائلة مضافة إلى ثروة زوجته سيد الأعمال وسيطرة مجموعتها الاستثمارية عالميًا حتى تُفاجأه عذاباته الداخلية تحت ضغوط تناقضات العالم الرأسمالي المعولم؛ الذي أطلع على أسراره وخباياه ومدى وحشيته من الداخل وبإحساس شمشوني عاطفي ساذج يُقرر تحطيم تلك المنظومة بالكامل وهدم عالمها على رأسه ورأس الجميع، وكأنه هو المُسيّطر وناسج ذلك العالم الوحشي؛ فيقوم بحرق مؤلفاته ويفضح الأسرار فتسقط البورصات وتضطرب الأسواق، ويهرب إلى أحضان الضلع الثالث والأدنى في بناء “الجندي”، وهم شعب التكية من الفقراء والفئات المهمشة المنسية يحتمي بهم ويأمل في بناء مجتمع اقتصادي عادل لهم وبهم، ويبدأ الصراع الشرس بين الضلع الأعلى والأقوى ضد الضلعين؛ الدكتور الشمشوني وشعب التكية، الذي ينتظر معجزة خادم المصباح السحري لتحقيق آماله، لتنتصر سيدة الأعمال في النهاية بعد اليسير من الإهتزازات والاضطرابات الغير مؤثرة؛ لتسحق الدكتور العبقري وتهدم التكية وترعى إنسانيًا شعبها المشرد عبر منظومة خيرية تُدر عليها أرباحًا أكثر من أي مشاريع استثمارية أخرى.. في ظل حقبة اقتصادات النيوليبرالية التي لا تستهدف سوى الربح وتراكم فائض الثروات؛ فكل شيء سلعة تجارية، ولكل سلعة ثمن.. حتى مأسي الفقراء وضحايا المنظومة ذاتها؛ تقديم الخدمات التي تبقيهم على قيد الحياة وعلى هامش المجتمعات له ثمن وأرباح.
وقبل ظهور ذلك العمل الإبداعي لـ”الجندي” بسنوات؛ كان الكاتب والسيناريست الراحل؛ “أسامة أنور عكاشة”، مستمرًا في تقديم إنتاجه الدرامي الغزير للتليفزيون المصري أيضًا، مواصلاً مشروعه الفني/الإبداعي برصد أحوال الحارة المصرية ومناطق القاهرة الشعبية في أواخر القرن العشرين ليكون بمثابة استكمالاً لمشروع “نجيب محفوظ” الأدبي برصد الحارة المصرية في بدايات نفس القرن؛ ولكن في صيغة درامية تليفزيونية، كما صرح “عكاشة” بذلك أكثر من مرة.. وظهر مسلسل (أرابيسك) في ظرف تاريخي ذو شجون للمجتمع المصري، فتم إذاعته لأول مرة خلال شهر رمضان الذي أعقب زلزال 12 تشرين أول/أكتوبر 1992، الشهير الذي يُعتبر أكبر الزلازل شدة تمر بـ”مصر” وخّلف ضحايا وخسائر كبيرة؛ بخلاف انتشار لظاهرة الإرهاب التي تبنتها الجماعات الإسلامية وفصائل الإسلام السياسي وقتها وارتفاع صوتها بالشارع المصري في تمدد سلطوي ملحوظ.. واعتمد “عكاشة” خط أساس لعمله (أرابيسك) أنشغل بسؤال الهوية المصرية وماهيتها سواءً على المستوى الثقافي أو التاريخي؛ هل المصريون راسخون بجذور فرعونية نقية عن أي شائبة أجنبية.. أم ينتمون لشعوب البحر المتوسط وجنوب أوروبا ؟.. أم هم عرب عليهم الذوبان في جسد وطن عربي وثقافة إسلامية عربية ؟.. “وبطله هو المواطن المصري بعيوبه قبل مميزاته: حسن النعماني؛ الصنايعي الماهر والكسول أيضًا.. الذي قاتل في حرب أكتوبر (تشرين أول)؛ وعبّر ثم استكان إلى اللا فعل.. “حسن”؛ الذي يُنافسه قريبه الرخيص؛ “رمضان الخضري”، ويُحقق أرباحًا أكثر منه مئات المرات، والذي يخطف ابنه منه سوقي آخر؛ هو: “رمضان الدكش”، الذي يرتدي جلبابًا أبيض ويعيش في دولة عربية، وكأنه يرمز لشيء ما.. ثم يطارده (الموساد) حين يُشرع في بناء قاعة على الطراز العربي في فيلا عالم مصري عائد من الغرب. هؤلاء هم أعداء “حسن النعماني”؛ الذي اختطف “سليم الأول”؛ جده، وحبسه في الآستانة.. “الخضري” الفاسد، و”الدكش” المتطرف، و(الموساد) المتربص.. أما الفيلا كلها فتنهار لأن الجمع بين الغربي والشرقي لن ينجح.. “حسن النعماني”؛ هو المواطن المصري”؛ بحسب عرض الزميل “وائل لطفي” (1).
وبطبيعة الحال حّمل “عكاشة” منتجه الدرامي رؤيته للمشكلات والاحتياجات الاجتماعية المُلحة على الحارة المصرية في بدايات التسعينيات، والتي كان على رأسها مشكلة انتشار التأسلم كرافد لإشكالية “التهوس الديني”؛ التي باتت تتمخض عن انفجارات نضجها مجتمعيًا بفرض سطوتها قسرًا وغصبًا باستخدام العنف والترهيب.. وهنا يأتي “عكاشة” بحلٍ أو بمعنى أدق “آلية مجتمعية” يمكن من خلالها التخفيف من وطئة انتشار ظاهرة الإرهاب وربما تُسهم في تنقية ما علق بالمجتمع المصري من ركام “التهوس الديني”؛ عبر تنميته وتطوير طبقته العاملة المُنتجة ومدها برافد غني من أجيال جديدة متعطلة عن العمل.. وذلك حينما يلجأ بطل “عكاشة” في (أرابيسك) إلى فكرة فتح ورشته كمدرسة تعليم الشباب المثقف الذي يُعاني البطالة والتعطل؛ فنون الأرابيسك وأسرار حرفة تشكيل الخشب والنحاس والفضة..
نحن هنا بصدد عمل يُناقش سؤال تأريخي/فلسفي شديد الخصوصية والنخبوية بثقل؛ “حقيقة الهوية المصرية”، كخطٍ رئيس وأساس لمنتج درامي يتم عرضه على الجماهير يحمل كافة شروط العمل القصصي التليفزيوني الفنية، وخلال سياقه يُصّدر ما يراه كاتبه من حلول لمشاكل وطنه ومجتمعه بحرفية متقنة.
.. و(سامحوني ما كنش قصدي) و(أرابيسك) ليس إلا عملين فنيين أردنا مجرد الإشار إليهما لكشف مدى ما كان يحرص أو على الأقل يعمل على إنتاجه التليفزيون المصري؛ كمؤسسة تابعة لدولة عربية، لم تكن قد انساقت بالكامل وراء سياسات اقتصاديات النيوليبرالية المعولمة ولم يتشبع مجتمعها؛ وقتها، برسائلها الثقافية والاجتماعية وتترسخ في وعيه الجمعي عبر وسائط الاتصال الجماهيرية المتعددة الآن بشكل عنكبوتي معقد، فكان منتج “يسري الجندي” و”أسامة أنور عكاشة”، المُشار إليهما، يُمثلان مرحلة من “البث” الفني حرصت على تنمية الوعي الجمعي بأفكار وقيم تُلبي احتياجات واقعه المعاش وتعمل على توسعة مداركه حوله عبر رسائل تثقيفية ربما تصل في بعض الأحيان لدرجة الثورية والتحريض.
هدف الورقة البحثية ..
في عقدي التسعينيات من نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الواحد والعشرين؛ كانت مجتمعات المنطقة العربية – وفي القلب منها المجتمع المصري بطبيعة الحال – كحال مجتمعات الدول النامية، مازال يستغرق طبقاتها البورجوازية المتوسطة والصغرى انقسام متردد مدفوعًا بصراع داخلي رهيب تمثل على مستويين: الأول صراع نفسي قاس تمحور حول قدرتها على الاحتفاظ بمشروع جمعي حمل من الطنطنة بالشعارات الإيقونية أكثر مما عمل على اكتساب خطط علمية وتطبيقات عملية راسخة بوجهيه سواء السياسي منه أو الاجتماعي؛ فضلاً عن تحمله بهزائم تاريخية ساحقة (نكسة 1967؛ وإنهيار الحلم القومي العروبي؛ وعقد اتفاق كامب ديفيد للسلام “المصري-الإسرائيلي”، كمثال)، فما كان من الطبقة المتوسطة المصرية من أبناء هذا المشروع؛ إلا لملمة جراح “شعاراتها” المنهزمة في معركتها التي اختارت أن تُكملها مقاومة الضغوط السياسية العالمية والاجتماعية الداخلية بتوجيه بوصلتها الفكرية نحو التنمية الوطنية (في قومية أضيق)، وبرغم حمل تلك الطبقة المتوسطة لكافة أمراض وأدران الطبقات المتوسطة لمجتمعات المستعمرات القديمة المتوارثة حتى اليوم؛ إلا وإنها لم تجرؤ على إعلان حقيقة تبعيتها وتغريبها اجتماعيًا وثقافيًا داخل مجتمعاتها على الأشهاد مدفوعًا بإعتقادها الذاتي بدور “بطولي” تقوم به بمقاومة التأمرك، ولكن زاد من معاناتها انقسام عدد كبير من أبناء تلك الطبقة المتوسطة وجنوحهم نحو رفض ذلك الدور “الموهوم” واختيارهم إعلان الطاعة “العمياء” لسيدهم الجديد القابع في “واشنطن”.. وفي حين اختار القائمون على أداء الدور المقاوم من القسم القليل العدد والأضعف قوة داخل الطبقة المتوسطة البورجوازية الاستمرار في الاحتفاظ ببقايا منتجهم الفكري المُّسوق لصالح الطبقات الدنيا والفقيرة؛ ولو بنسب متفاوتة وضعيفة استمرارًا لسياسات الرياء والنفاق الاجتماعي الزائف، كان القسم الأقوى والأكبر منها على الشاطيء الآخر يوغل أكثر في ثقافة الأمركة مستمتعًا بتلوكه علكة “أميركا” والغرب في كل مناحي حياته.
ويبرز المستوى الثاني في صراع المجتمعات البورجوازية الداخلي موضوعيًا؛ في تلك الضغوط العالمية التي تُمارسها قائمة طويلة لسياسات النيوليبرالية المعولمة وقد أصبحت لتوها ناضجة تلهفًا على اختراق جسد مجتمعات الدول النامية الطري، والغني بثروات موارده الطبيعية ومقوماته البشرية؛ سواء من أيدي عاملة رخيصة أو جمهور استهلاك، عبر الطبقة البورجوازية المتوسطة المنوط بها تنفيذ مطالب تلك القائمة النيوليبرالية على كافة المستويات؛ بداية من المستوى السياسي وتكملة الأجندة الاقتصادية بالكامل أو على المستوى الاجتماعي/الفكري بالترحيب بأبواق الديمقراطية الأميركية وأصوات الحرية الغربية والكف عن تملق الطبقات الأضعف (اقتصاديًا واجتماعيًا) بشعارات زائفة ومكلفة لأنهم ببساطة مازالوا لا يرقون إلى مستوى “المستهلكين”.. ومن هنا تلقفت الطبقة المتوسطة البورجوازية بغيتها التاريخية في إتباع قِبلة سيدها الأميركي دون مواربة أو تحرج، مستمتعة بتغذيتها على وجباته الفكيرية/الثقافية المتنوعة بين الطائفية تارة والما بعد حداثية تارات أخرى.. فكما تماهت الحدود الجغرافية للدول تحت مبدأ: “القرية الكونية الواحدة”، انتهكت السيادة الوطنية للدولة المستقلة تحت سنابك التدخل المباشر والصريح لقوة عالمية متفردة ووحيدة بحجج حماية حقوق الإنسان وحماية الأقليات.. فكلا جناحي الثقافة المعولمة عملتا على تفكيك المجتمعات من الداخل إلى طوائف مذهبية أو جهوية تُشعل لهيبها العنصرية اليمينية باستمرار وتُمّحورها داخل قومية شوفينية ضيقة الإطار؛ ليأتي الدور على ثقافات ما بعد حداثية لكي تُشرعنها وتُنّظر لها ترسيخًا لتناقضها العنصري داخل مجتمعات تُصبح غارقة ومنشغلة طوال الوقت بصراعها الطائفي/المذهبي لكي يسهل استيلابها العام ونهب مقدراتها بكل يُسر وطوعية..
لكل تلك الخلفية السياسية لمشهد بلداننا الاجتماعي؛ اختارت تلك الدراسة المختصرة مسلسل (جزيرة غمام) لرصده كعمل درامي يُعتبر نموذجًا دالاً؛ سواء على مستوى ما تُريد وتعمل الطبقة البورجوازية المحلية الحاكمة على تصديره إلى قواعد جماهيرها وتهيئتها لتلقي ما يُطلب منها والسيطرة عليها لصالح تنفيذ أجندات وقوائم سياسات النيوليبرالية، أو على مستوى خطط سياسات النيوليبرالية المعولمة في حكم الجماهير وإبعادها تمامًا عن أي صراعات “مُقلقة” لهيمنتها ومصالحها المباشرة؛ وقيادة المجتمعات نحو تناقضاتها الجهوية والمذهبية والطائفية وفقط.
…………………………………………………..
(1) أسبوع صاحب الليالي – ملف صحافي نشرته صحيفة (الدستور) المصرية على حلقات متتالية؛ بداية من الأول من شهر حزيران/يونيو 2022.