إعداد/ إبراهيم نوار
من القاعدة إلى داعش:
منذ أصبح الإرهاب ظاهرة عالمية عابرة للحدود زادت أهمية التعاون الدولي من أجل تنسيق مكافحة الإرهاب على مستوى العالم. وفي الوقت نفسه فقد طورت الدول المعرضة لخطر الإرهاب إستراتيجيات وطنية وقائية وعلاجية وقتالية للحد من مخاطر الإرهاب. وهناك ما يشبه الإجماع في العالم كله على أن القضاء على الإرهاب نهائياً يكاد يكون نتيجة مستحيلة لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب المعمول بها حتى الآن. ولذلك فقد استقر اليقين في الوقت الحالي على أن “الإرهاب” أصبح جزءاً لا يتجزأ من مكونات الحياة اليومية التي يجب التحوط من أخطارها بكل الطرق. وعلى الرغم من نجاح الإجراءات الأمنية ضد الإرهاب إلى حد كبير، فإن استراتيجيات مكافحة الإرهاب يجب أن تقوم على مفهوم شامل أوسع من مجرد المفهوم الأمني، يستند إلى قواعد تربوية وسيكولوجية وفكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية. وفي هذا السياق فقد استقر اليقين أيضاً بين المفكرين وصناع القرار المعنيين بمكافحة الإرهاب على أن تحقيق نجاحات في نطاق تلك القواعد التي أشرنا إليها، يمثل المدخل الحقيقي لتحقيق انتصارات أمنية ضد الإرهاب، لا يندثر أثرها بسرعة، وإنما يظل مفعولها مستداما لفترة طويلة من الوقت.
وعلى أساس هذا اليقين، تقوم استراتيجيات مكافحة الإرهاب على المستوى الوطني، ويقوم أيضاً تنسيق الجهود بين الحكومات والأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب على المستوى الدولي. وفي هذا السياق فإننا سنعرض هنا كيف تطورت استراتيجيات مكافحة الإرهاب من الناحية المالية، سواء على نطاق الدولة أو على المستوى الدولي. ويعتبر حصار المنظمات الإرهابية والأنشطة التي تقوم بها مالياً أحد المقومات الرئيسية لتجفيف منابع الإرهاب ولإرباك الجماعات والمنظمات الإرهابية ولشل أو لإضعاف قدرتها على الحركة والفعل. كما تعتبر استراتيجيات مكافحة تمويل الإرهاب ركنا أساسيا من أركان الحرب على الإرهاب، نظراً لأهميتها في قطع أحد أهم شرايين الإمدادات التي تمكن المنظمات الإرهابية من تنفيذ أغراضها.
ولا شك أن موضوع مكافحة تمويل الإرهاب يحظى بأهمية كبيرة على مستوى العالم، وهناك كتابات كثيرة في هذا المجال. وقد شارك كاتب هذه السطور بدراسة مهمة عن تمويل تنظيم داعش وكيفية التصدي له، ونشرت هذه الدراسة ضمن كتاب أصدره المركز العربي للبحوث والدراسات بعنوان “داعش: دراسة في بنية التنظيم”. ومع تطور أدوات ووسائل وأساليب التمويل تتجدد الحاجة إلى زيارة الموضوع مرة أخرى، وإعادة النظر في بعض جوانبه، بما يستجيب للمستجدات التي تطرأ من آن إلى آخر، خصوصاً مع التطور في الفنون المصرفية، وفي أدوات ووسائل إيداع الأموال ونقلها واستعمالها في أغراض إرهابية. وسوف نعتمد في الدراسة التالية بالأساس على وثائق وتقارير رسمية، أصدرتها هيئات دولية مستقلة أو حكومية معنية بمكافحة الإرهاب، كما سنعتمد أيضاً على نصوص قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن مكافحة تمويل الإرهاب، وكذلك على توضيح الجهود الدولية التي تبذل في هذا النطاق ومحفزات نجاحها والعوامل التي قد تحبطها أو تؤثر سلبا عليها.
وتشمل الحرب على تمويل الإرهاب مطارة ومحاصرة وقطع تمويل الأفراد والجماعات والمنظمات الإرهابية، وكذلك قطع الطريق على نقل واستخدام الأموال في تنفيذ عمليات إرهابية. ولغرض تحقيق هذه الأهداف تستخدم الوحدات والتنظيمات المكلفة بمحاربة الإرهاب ماليا وسائل شتى، منها الرقابة المصرفية، وفرض نظام دقيق للرصد والتتبع لحركة أموال الأفراد والجماعات والمنظمات المشتبه في قيامهم بأنشطة إرهابية أو المشاركة فيها أو تأييدها. ولا تتوقف وسائل مكافحة تمويل الإرهاب على الرصد والتتبع لحركة الأموال واستخدامها داخل النظام المصرفي الرسمي، وإنما هي تتجاوز ذلك إلى التحويلات المالية التي تتم خارج النظام الرسمي، مثل تلك التي تتم عن طريق الحوالات المالية عن طريق شركات الصرافة ومكاتب نقل الأموال، وكذذلك تلك التي تتم عبر أطراف ثالثة مثل الجمعيات الخيرية، وغير ذلك.
ويجب أن نؤكد هنا على الحقيقة التي توصلت إليها كل لجان التحقيق الوطنية والدولية بشأن مكافحة أموال الإرهاب، وتتمثل هذه الحقيقة في إنه مهما كانت درجة إحكام الرقابة وترتيبات مطاردة أموال المنظمات الإرهابية والشبكات المتعاونة معها، فإن نتيجة هذه الرقابة لن تكون أبداً القضاء تماماً على عمليات تمويل الإرهاب. ولذلك فإن الهدف الرئيسي لجهود مكافحة تمويل الإرهاب يتمثل الآن في الحد إلى أقصى درجة ممكنة من تمرير تمويلات تسمح بشن هجمات واسعة النطاق تسفر عن أعداد كبيرة من الضحايا على غرار الهجمات التي تعرضت لها السفارات الأمريكية في أفريقيا، أو أحداث 11 سبتمبر، أو أحداث شبكات السكك الحديد وقطارات الأنفاق التي تعرضت لها مدريد أو لندن. ويمكن القول بأن تلك الاستراتيجية نجحت حتى الآن في تحقيق هذا الهدف.
لكن تلك الاستراتيجية ما تزال تواجه بعض التحديات السابقة (مثل تسريب مساعدات مالية أو عينية بواسطة حكومات أو جهات حكومية إلى الإرهابيين) أو تحديات جديدة مثل اتساع نطاق التعبئة المالية عبر شبكات التواصل الإجتماعي، وتحول المنظمات الإرهابية وأنصارها إلى اعتماد أساليب جديدة في تنفيذ عملياتها مثل تكتيك ما يسمى “الذئاب المنفردة”. وقد أدى اتساع نطاق استخدام هذا التكتيك في العامين الأخيرين إلى نشوء حالة جديدة من الخوف بسبب اعتماد بعض هؤلاء “الذئاب” على أدوات أو معدات عادية ذات استخدامات مدنية في الأعمال الإرهابية؛ فتحولت نتيجة ذلك الشاحنة العادية إلى سلاح لدهس المواطنين الإبرياء وقتلهم، كما تحولت أدوات المطبخ العادية إلى أدوات للطعن والقتل. ويجب أن نلاحظ أن استخدام مثل هذه التكتيكات الجديدة يقلل الحاجة إلى التمويل إلى حد كبير للقيام بعمل إرهابي منفرد.
مطاردة عمليات تمويل الإرهاب
الهدف من مطاردة أموال الإرهاب هو تقليل قدرة الجماعات الإرهابية على تنفيذ عمليات واسعة النطاق ينتج عنها الكثير من الضحايا. ومن الناحية العملية فإن قطع الطريق تماماً على عمليات تمويل الجماعات الإرهابية هو من قبيل المستحيل. ومع ذلك، فإن الفائدة من رصد ومطاردة أموال الإرهاب تفيد في نواحي كثيرة، فعمليات الرصد المالي والتتبع لمسار أموال وتحويلات الإرهابيين تساعد على التعرف على المجموعات الإرهابية النشطة، والكشف مبكراً عن عمليات إرهابية مستهدفة، وإجهاضها في المهد. (تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة بدراسة الإعتداءات الإرهابية على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر- 2004)
ولاحظ التقرير أن منفذي عمليات 11 سبتمبر إستخدموا مؤسسات مالية أمريكية وأجنبية في إيداع أموال وتحريكها واستعادتها لأغراض تنفيذ العمليات الإرهابية. وقد حصلت المجموعات المنفذة للعمليات على الأموال المستخدمة من أفراد أو مؤسسات تولت مهمة تسهيل تحويل الأموال في ألمانيا والإمارات العربية المتحدة أو تم الحصول عليها بشكل مباشر من خالد شيخ محمد، حيث مروا بباكستان قبل أن يتوجهوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بلغت تكلفة العملية بالنسبة للقاعدة ما يترواح بين 400 ألف إلى 500 ألف دولار أمريكي، منها ما يقرب من 300 ألف دولار تم تمريرها عبر حسابات مصرفية في الولايات المتحدة بأسماء الخاطفين. وتقدر السلطات النقدية الأمريكية أن الخاطفين أعادوا إلى الإمارات العربية المتحدة ما يقرب من 26 ألف دولار، قبل ايام قليلة من وقوع أحداث 11 سبتمبر. وأثناء وجودهم في الولايات المتحدة فإن إنفاق الخاطفين تركز على تمويل تكاليف التدريب على قيادة الطائرات، والسفر، والسكن، والسيارات والتأمين وما إلى ذلك، ولكنهم لم يحصلوا على تمويل محلي رئيسي يكفي لتغطية أي من هذه النفقات.
وذكر التقرير أن شبكة التمويل التي أنشاتها مجموعة الخاطفين والمتعاونين معهم لم تكن بمستوى يذكر من التقدم والتعقيد، لكن أجهزة الرقابة المصرفية في ذلك الوقت كانت مهتمة أساساً بفرض رقابة مصرفية على عمليات غسيل الأموال وعمليات التهريب والغش المالي على نطاق واسع، ولذلك فإنه لم يكن من الممكن رصد شبكة تمويل عمليات 11 سبتمبر، حيث مرت الإيداعات والتحويلات المصرفية بصورة عادية وبدون أي شك يذكر. كذلك نفى التقرير وجود عمليات تداول في الأسواق المالية ترجح فرضية قيام أفراد أو مؤسسات بعمليات مالية قبل 11 سبتمبر تستفيد من معلومات مسبقة عن العمليات الإرهابية بقصد تحقيق مكاسب استثنائية من هذه المعاملات في الأسواق.
كيف تحصل القاعدة على التمويل
يقدر خبراء اللجنة الأمريكية المختصة بدراسة أحداث 11 سبتمبر أن تمويل القاعدة لم يعتمد، كما كان يعتقد الكثيرون، على الثروة الشخصية المملوكة لزعيم القاعدة أسامة بن لادن، لا في السعودية، ولا في السودان حيث كان يقيم قبل انتقاله إلى أفغانستان (1996)، وإنما اعتمد تمويل القاعدة على تحويلات من منظمات خيرية إسلامية ومن تبرعات أشخاص متعاونين ذوي نفوذ خصوصاً في الخليج. وتقدر هذه الأموال من التحويلات والتبرعات بما يقرب من 30 مليون دولار سنويا. واستبعد التقرير أن تكون القاعدة قبل أحداث 11 سبتمبر قد استخدمت موارد للتمويل من تجارة المخدرات أو غيرها من التجارة غير المشروعة، كما استبعد أن تكون قد حصلت على أموال ذات أهمية تذكر من تبرعات تم جمعها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد انتقال بن لادن إلى أفغانستان عام 1996 قللت القاعدة من استخدامها للنظام المصرفي، واعتمدت بشكل أساسي على نقل الأموال النقدية بواسطة الأعوان، أو على المتعاونين عبر حسابات مصرفية لخدمة القاعدة، خصوصا في دول الخليج. وحتى ذلك الوقت فإن البند الأكبر في مصروفات القاعدة كان يتمثل في الأموال التي تذهب لدعم تنظيم طالبان في أفغانستان والتي كانت تقدر بنحو 20 مليون دولار سنوياً. أما عملية خطف الطائرات ومهاجمة أهداف في الولايات المتحدة في 11 سبتمبر فإنها تكلفت ما يترواح بين 400 ألف إلى 500 ألف دولار فقط. وتعتقد المخابرات المركزية الأمريكية أن تمويل تنظيم القاعدة وفروعه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 كان مستقراً وأمناً.
مكافحة الإرهاب مالياً بعد 11 سبتمبر 2001
نظراً لغياب الأطر القانونية والمؤسسية، ونقص التعاون الدولي فيما يتعلق برصد مصادر تمويل القاعدة والمنظمات المرتبطة بها وتتبع عميات التمويل بما في ذلك الأموال المتجهة إلى أفغانستان، فإن الولايات المتحدة كاتت عاجزة إلى حد كبير عن محاصرة تنظيم القاعدة ماليا والقيام بجهود منظمة ضد الإرهاب في المجال المالي. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها مكتب الرقابة على الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة Office of Foreign Assets Control – (OFAC)، الذي كان تابعاً للخزانة الأمريكية، فإن قدرة هذا المكتب على تتبع ثروة بن لادن كانت محدودة داخل الولايات المتحدة الأمريكية لاعتبارات قانونية وفنية، كما أن إمكانية قيام هذا المكتب بنشاط خارج الولايات المتحدة كانت أيضاً مقيدة باعتبارات قانونية وبمرونة التعاون مع المؤسسات الوطنية خارج الولايات المتحدة خصوصاً في السعودية والإمارات.
ومن هنا، فقد أدركت السلطات الأمريكية أهمية وجود جهود دولية منظمة لمكافحة الإرهاب ومالياً. وفي هذا السياق فقد نجحت الإدارة الأمريكية في إقناع الأمم المتحدة بفرض عقوبات مالية على أسامة بن لادن. ولكن حتى في هذا السياق، فإن نجاح مثل هذه العقوبات كان يتوقف على تعاون السعودية والإمارات وغيرهما من الدول التي كانت تمثل ممرات لعبور الأموال إلى تنظيم القاعدة وجماعاته الفرعية.
وقد طرأت تغيرات كبيرة بعد 11 سبتمبر على جهود مكافحة الإرهاب مالياً. وبعد أن سقط الإعتقاد بأن بن لادن يمول تنظيم القاعدة اعتماداً على ثروته الشخصية، فقد نشطت المؤسسات الأمريكية المعنية بمكافحة الإرهاب في مجالات تحديد مصادر تمويل القاعدة، ومعرفة طرق جمع التبرعات، وإيداع الأموال، وتحويلها أو نقلها إلى التنظيم وجماعاته الفرعية. وبسبب هذا التطور فقد نشأت وحدات جديدة داخل مكتب المباحث الفيدرالية الأمريكية (FBI) والمخابرات المركزية (CIA)، وكذلك في وزارة العدل ووزارة الخزانة ومؤسسات أخرى للعمل مع بعضها البعض في جمع المعلومات وفي تنسيق السياسات والعمليات لضمان النجاح في مكافحة الإرهاب، كما تم تطوير منظومة التشريعات القائمة لضمان تحقيق أكبر قدر من الفاعلية في العمل المشترك.
ومع تطوير المنظومة القانونية والإدارية والإجرائية لمكافحة تمويل الإرهاب في داخل الولايات المتحدة إستطاعت الإدارة، رغم بعض الصعوبات والإعتراضات المتعلقة بحماية الحريات الفردية والسرية المصرفية، أن تفرض قيوداً شديدة على أنشطة جمع التبرعات لصالح الأعمال الجهادية أو تلك التي يشتبه في أن إيراداتها تستخدم في تمويل الإرهاب بواسطة منظمات أو أفراد في داخل الولايات المتحدة. واعتمدت الإدارة من الناحية القانونية على فرض قانون الإجراءات الاقتصادية الطارئة International Emergency Economic Powers Act (IEEPA) على المؤسسات أو الجمعيات أو الأشخاص الذين يشتبه في وجود صلات لهم بتمويل المنظمات الإرهابية. وبعد أحداث 11 سبتمبر وصدور القانون الوطني (PATRIOT Act) فإن جهود مكافحة الإرهاب بشكل عام، وإجراءات مكافحة تمويل الإرهاب إتخذت منحى جديدا أكثر شمولا وأوسع نطاقا من الناحية القانونية والمؤسسية.
وعلى المستوى الدولي بذلت الولايات المتحدة جهوداً ناجحة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يتيح تجميد الأصول المالية والإقتصادية للمنظمات الإرهابية والمتعاونين معها. وعلى هذا فقد صدر القرار رقم (1373) في 28 سبتمبر 2001 الذي يجيز تجميد الأصول المملوكة لمنظمات إرهابية أو للمتعونين معها أو مؤيدين لها أو الضالعين في أنشطة لها علاقة بالإرهاب. لكن تطبيق هذا القرار على المستوى الدولي إحتاج إلى جهود ضخمة لضمان تعاون دول العالم خصوصا في منطقة الخليج، من أجل تنفيذه بجدية. ومع ذلك فقد ظل التعاون محدوداً مع السعودية على وجه الخصوص حتى ربيع العام 2003، وعندما نفذت القاعدة عمليات تفجيرية في السعودية في مايو ونوفمبر 2003، فإن هذه العمليات كانت بمثابة نقطة تحول إيجابي في التعاون مع السعودية، والأهم من ذلك أن تلك التفجيرات تركت أثرها السلبي على التعاطف مع القاعدة في المجتمع السعودي، وهو ما قلل من جاذبية التبرع بأموال لها.
وفي مواجهة هذا الوضع الجديد، فإن قيادة القاعدة قللت إلى حد كبير الإعتماد على القنوات الرسمية في تحويل الأموال، واتجهت لتكثيف الإعتماد على النقل المباشر للأموال عن طريق الأفراد أو من خلال وسائل أخرى وهو ما طرح تحدياً جديداً على جهود مكافحة الإرهاب على الصعيد المالي.
وخلال الفترة الزمنية القصيرة التالية لنشأة تنظيم القاعدة وقبل اللجوء لتطبيق قانون الإجراءات المالية الطارئة (IEEPA) Iستطاعت الإدارة الأمريكية تحقيق نجاحات مهمة في الكشف عن مؤسسات وجمعيات وأفراد كانوا ضالعين في عمليات تمويل الإرهاب. ومن أهم من تم الكشف عنهم:
1- مؤسسة البركات (Al-Barakaat) وهي مؤسسة لإيداع ونقل وتحويل الأموال مقرها الصومال وتعمل على نطاق دولي في كل أنحاء العالم. وقد تأسست هذه المؤسسة بعد انهيار النظام في الصومال، وشارك أسامة بن لادن في تمويل تأسيسها، وكانت تديرها جمعية إسلامية أخرى تسمى جمعية (Al-Itihaad Al-Islamiya). وإلى جانب قيام مؤسسة البركات بأعمال التحويلات المالية في الخارج، فإن جزءاً مهماً من عمليات تمويل القاعدة وجمعية الإتحاد الإسلامية كان يتم من داخل “البركات”. وقد فتحت المباحث الفيدرالية الأمريكية تحقيقات في أنشطة “البركات” وجمعية “الإتحاد الإسلامية” في العام 1999 اعتماداً على قانون الرقابة على الأصول الأجنبية في الولايات المتحدة، وبعد أحداث 11 سبتمبر تم اقتحام مكاتب وفروع “البركات” في الولايات المتحدة وتجميد أصولها في الولايات المتحدة والعالم. وعلى الرغم من ذلك فإن التحقيقات في داخل الولايات المتحدة وخارجها لم تتوصل إلى أدلة قاطعة بشأن علاقة “البركات” بكل من تنظيم القاعدة أو جمعية “الإتحاد الإسلامية”. واضطرت الولايات المتحدة إلى فك تجميد أصول البركات، وحصل أصحاب الإيداعات على حكم بإعادة الأصول واسترداد الأموال المجمدة.
2- جمعيات خيرية إسلامية في ولاية إلينوي. رصدت الإدارة الأمريكية جمعيتين تم الإشتباه في قيامهما بجمع تبرعات لصالح منظمات إرهابية. وهما مؤسسة الإغاثة العالمية Global Relief Foundation, Inc. ومؤسسة الإحسان الدولية Benevolence International Foundation (BIF),
ووجهت السلطات الأمريكية اتهامات إلى كل من المنظمتين بجمع وتقديم أموال في الولايات المتحدة لمساعدة تنظيم القاعدة وتنظيمات إرهابية أخرى. وبعد التحقيقات التي أجريت، لم تثبت تهمة تمويل الإرهاب على أي من المسؤولين عن الجمعيتين، لكن بعضهم تمت إدانته على خلفية اتهامات جنائية أخرى، إلى جانب رصد مخالفات لقوانين الهجرة. لكن تجميد أصول الجمعيتين والقبض على مسؤولين فيهما أدى في نهاية الأمر إلى توقف نشاطهما. وفي أعقاب هذه القضية أولت السلطات المعنية بمكافحة الإرهاب مالياً اهتماماً أكبر باختراق المنظمات المشتبه فيها، واتخاذ إجراءات لتعطيل وعرقلة عملها.
3- مؤسسة الحرمين الإسلامية السعودية، وهي مؤسسة خيرية إسلامية تهتم بنشر الإسلام، وتعمل في أكثر من 50 دولة، وتحصل على مساندة من الأفراد ومن المؤسسات ومن الحكومة السعودية، وتقدر ميزانيتها السنوية بما يتراوح بين 50 مليوناً إلى 80 مليون دولار. وذكر تقرير اللجنة الأمريكية المكلفة بالتحقيق في احداث 11 سبتمبر أن اثنين على الأقل من المسؤولين في الحكومة السعودية تقلدوا مناصب استشارية في مؤسسة الحرمين قبل أحداث 11 سبتمبر. وقد احتلت مؤسسة الحرمين الإسلامية حيزاً مهماً من الاتصالات بين الولايات المتحدة والسعودية بشأن محاربة تمويل الإرهاب منذ العام 1998. وقد تم على مدار الفترة حتى يونيو 2004 إتخاذ العديد من الإجراءات التي تضمنت غلق فروع تلك المؤسسة في العديد من دول العالم بما في ذلك فرع الصومال وفرع البوسنة، ثم تجميد كل أصول المؤسسة ووقف أنشطتها، وتغيير قانون المؤسسات الخيرية في السعودية من أجل ضمان عدم تورط الجمعيات الخيرية الإسلامية في تمويل أنشطة إرهابية. وقد تضمنت المعلومات التي قدمتها الإدارة الأمريكية إلى السلطات السعودية قائمة بأسماء 20 شخصاً من مسؤولي مؤسسة الحرمين تم رصدهم يشاركون مباشرة في اجتماعات لتنظيم القاعدة. وعلى الرغم من الإجراءات التي قاامت بها الحكومة السعودية أو تعدت القيام بها، فإن الأشخاص الضالعين في أنشطة المؤسسة، ظلوا خاضعين للرقابة من جانب السلطات الأمريكية المعنية بمكافحة الإرهاب.
داعش: نمط جديد في تمويل الإرهاب
منذ تم احتلال العراق بواسطة القوات الأمريكية والحليفة في عام 2003 وما تبع ذلك من انهيار مؤسسات الدولة العراقية التقليدية، تحول العراق إلى ساحة للمواجهات العرقية والطائفية والدينية، وانتشرت ظاهرة الجماعات المسلحة التي تعمل في فراغ تام يخلو من سلطة الدولة. وفي هذا المناخ السياسي والعسكري نشطت الجماعات الإرهابية من كل اتجاه، وقويت الميليشيات المسلحة المرتبطة بأقسام وفئات مختلفة من مكونات الشعب العراقي. وكان من ضمن التحديات التي فرضها الوضع الجديد تحدي التوسع المستمر في نفوذ الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في المحافظات ذات الأغلبية السنية (الأنبار، صلاح الدين، الموصل). وقد تطورت وتحورت هذه الجماعات أييولوجيا وتنظيمياً وعسكرياً خلال السنوات التالية للاحتلال حتى وصلت إلى أكثر أشكالها تنظيماً متمثلا في تنظيم “الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام” وعرفت اختصارا باسم “داعش”.
وقد خضع تنظيم الدولة الإسلامية مثل غيره من التنظيمات الإرهابية للرقابة والمتابعة من الناحية المالية من جانب السلطات والمؤسسات المعنية بمكافحة الإرهاب على مستوى العالم. وقد كشفت عمليات مراقبة وتتبع تمويل التنظيم عن تغيرات هائلة في بنية التمويل ومصادره وآلياته المختلفة. ومن أجل التعرف على تلك التغيرات فإننا سنعتمد هنا على تقرير إدارة العمليات المالية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (FINANCIAL ACTION TASK FORCE) وهي تعرف اختصارا بالحروف التالية (FATF)، وهي هيئة دولية مستقلة تعمل من خلالها حكومات الدول المختلفة على تطوير وتعزيز سياساتها لحماية النظام المالي العالمي من عمليات غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب، وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل. وتقدم إدارة العمليات الدولية لمكافحة توصياتها إلى المنظمات الدولية المعنية وإلى الحكومات، وتحظى تلك التوصيات باحترام كبير في الأوساط الدولية. وفيما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب، فإن نشاط تلك الإدارة يتركز داخل نطاقين أساسيين، الأول يتعلق بتمويل المنظمات والجماعات الإرهابية، والثاني يتعلق بتمويل العمليات الإرهابية.
وفيما يتعلق بداعش، فإن تقرير إدارة العمليات المالية لمكافحة الإرهاب (فبراير 2015) لاحظ منذ البداية أن داعش هو تنظيم إرهابي يختلف كثيراً عما سبقه، وأن عمليات تمويل التنظيم تنطوي على أهمية خاصة، إضافة إلى أنها ذات طابع مركزي. وكان تنظيم داعش منذ نشأته يعتمد على قدرة كبيرة على الإحتفاظ بالأرض (كما هو الحال في الفلوجة وتكريت) وكذلك على الإحتفاظ بولاء القبائل بشكل عام، حتى وإن كان هذا الولاء هو “ولاء الخوف” الناتج عن الممارسات الوحشية التي قام بها التنظيم ضد القبائل التي رفضت الخضوع لسلطته مثل قبائل البونمر في الأنبار. وبسبب قدرة التنظيم على الإحتفاظ بالأرض وعلى الحصول على ولاء السكان، فقد توفرت له مصادر تمويل لم تتوفر لتنظيم إرهابي من قبل. وساعد انتظام تدفق التمويل والحصول على السلحة والقدرة على تشغيل معسكرات التدريب وتوسيع نطاق العمليات على تمدد التنظيم في العراق، ثم في سورية حتى أصبح يسيطر على ما يقرب من ثلث مساحة العراق بعد السيطرة على محافظة الموصل.
وتضمنت مصادر تمويل داعش طبقا للتقرير مايلي:
– متحصلات غير شرعية يحصل عليها التنظيم بسبب احتلاله للأرض. وتتضمن هذه المتحصلات: إيرادات وأصول فروع البنوك في المناطق الخاضعة للسيطرة، السيطرة على آبار النفط والغاز ومصافي تكرير النفط، والسيطرة على أصول مالية واقتصادية مختلفة تتضمن مزارع ومصانع ومساكن وغير ذلك. وتمثل هذه النسبة الأكبر من إيرادات التنظيم.
– تبرعات يحصل عليها التنظيم منظمات أو مؤسسات غير هادفة للربح، تقوم باستغلال شرعيتها في جمع تبرعات داخل أو خارج المناطق الخاضعة وتحويل هذه التبرعات أو جزء منها إلى الإدارة المالية لتنظيم داعش.
– خطف الأفراد والمطالبة بفدية مقابل الإفراج عنهم. وعادة ما يتعرض غير المسلمين أو أفراد العائلات الميسورة لمثل هذه الممارسات.
– التهريب، بما في ذلك تهريب الأموال والذهب ومسروقات المقتنيات الأثرية والفنية.
– فرض ضرائب ورسوم وأتاوات غير مشروعة على المرتبات وعلى المتاجر وغيرها من مؤسسات الأعمال.
وقد برع تنظيم الدولة الإسلامية في تنويع وتطوير أشكال ومصادر التمويل وآلياته بمرور الوقت مستفيداً من التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الانترنت وعبر الهواتف المحمولة. ونظرا لتوسع داعش في السيطرة على مساحات كبيرة من العراق وسورية، فإن الإحتفاظ بهذه المساحات، وضمان السيطرة على السكان، يحتاج دائماً المزيد من الموارد، فالتوسع لابد أن يتبعه توسع جديد لغرض الحصول على موارد إضافية تمكن التنظيم من تطوير بنيته الأساسية التنظيمية والعسكرية، وكذلك زيادة القدرة على السيطرة والتوسع من جديد. وهذه الخاصية في طبيعة تنظيم داعش وعملياته تمثل خطورة شديدة في المنطقة، ولكنها في الوقت نفسه تقدم فرصة عظيمة لضرب التنظيم عن طريق ضرب مصادر التمويل، وهو ما من شأنه أن يحد قدرة داعش على التوسع. ومع انكماش قدرة داعش على التوسع، تضعف أيضاً قدرة التنظيم على الإحتفاظ بالمناطق التي يسيطر عليها. وربما تبرهن عملية الموصل الأخيرة التي انطلقت في منتصف فبراير 2017 على صحة هذا الإفتراض. وقد سجل المقاتلون في ساحات المواجهة أنهم لاحظوا هذه المرة إنهيارات سريعة في خطوط دفاع داعش بالمقارنة بالمواجهات السابقة.
وسوف نعرض في الجزء الثاني من هذه الدراسة ملامح التغيرات في بنية التمويل لتنظيم الدولة الإسلامية، وما ترافق مع ذلك من إجراءات لمحاربة التنظيم مالياً. كما سنعرض أيضاً التحديات الراهنة فيما يتعلق بمطاردة ومحاصرة تمويل العمليات الإرهابية لاتي ينفذها أفراد منفردون، وتطور جهود التنسيق بين الحكومات المختلفة بشأن الحرب على تمويل الإرهاب.
المصدر/ المركز العربي للدراسات الاستراتيجية