خاص : شعر – مؤمن سمير
مصر
تنسى مثل القلوب وتنسى
منذ عدة شهور لم أرفع بصري للسماء، أخرجُ من كهفي وأندسُّ وسط الهاربين فينسحب نَظَري ويطير سمعي تحت زفرةٍ أو كَوْمَةِ ذكرياتٍ مرتعشة. توقفتُ لألهثَ فنادتني السماء وقالت نسيتَنْي … ساعتها كانت الغيومُ ترسم جبلاً يحلم بساقيه المقطوعتين ونسرًا يحُوِّمُ بقلادة ديكتاتور … كان الأزرقُ باهتًا وحزينًا، أقلَعَت الغابةُ عن مسح جسدها به قبل النومِ وسقطت الجَنَاحات من محفظة القاتل ثم ذابت …
لهذه السماء لا أنظر.. لأني حتى اليوم أخاف من صورتي في المرآة أو على صفحة المياه أو حتى هناكَ، وسط الغيوم… أما هي، فأُقسمُ ما نادت عليَّ إلا لأن طيفها قال وقت التمشيةِ “صرتِ عجوزًا يا سيدتي بعد الحربِ…” فتشاءَمَت وخَشِيَتْ أن يكون لقائنا هو الأخير…
أيتها القصيرة النظر أنا أيضًا عجوزٌ وأسناني وقعت في المذبحة وجِلْدي تنهشهُ الفئران كلما اقترَبَ الحصاد…
ألم تدركي أيتها البعيدةُ أنني لم أعد أحتمل ؟!
أنا الآن أنتظر شروق الظُلْمَةِ بشغفٍ…
لتنكشفَ الساقُ التي لم تعد ملساء وتسقط على الرمال شعيراتكِ البيض …
أنا الآن أدرِّبُ ذراعي أن توقف هجرات الطيور
وعيْني أن تحرقَ الطغاةَ وتنسى السَيْلَ الأخير…
سأوقعها في الحفرة المخفية في الحكايات القديمة …
سأغلق عليها النوافذ كي تدق الباب وهي تبكي وتقول خَدَعني ولدي..
هو عاقٌ كالآخرين
لكني مثل قلوبهم
أنسى وأنسى ….
كأنهُ سؤالٌ كبير
فتحتُ عيني فوجدتُ في إصبعي ثقبًا، غائرًا في اللحم خلف الأظافر. يبدو أنه ابن الليلة الموعودة التي مررتهُ فيها على صورتكِ: كانت ليلةً ليلاء، أحرقتِ فيها ساقي وظلِّي وحَوَّلْتِ الغرفةَ بحرًا وحروبًا خاضها القراصنةُ بمدافعهم القديمة. كانت كل قنبلة تَجُرُّ أختها حتى يصحوَ التنين الذي يجعلني أطأطئُ رأسي وأعترفُ بآثامي أمام الجحيم …
أهربُ وأُنادي مرةً باسمكِ ومرةً بخوفي
لكنكِ هناكَ، تغتسلينَ بالدخانِ وبالفحيحِ
وأفوتُ برعشتي على ذراعكِ
فتلوِّحُ للسالكينَ في الغاباتِ
والناجينَ من المذابح كأنهم أنبياء …
أمرُّ بالثقب على الخريطةِ، فتصحو الصحاري بغير حنينٍ ولا يقين
وألمحُ ذئبًا وحيدًا يترنَّحُ، فأقبضُ على رقبتهِ
وأقول أوحشتني يا أبي …
سأشفط نَفَسَاً طويلاً وأسُدُّ الثقبَ بالطينِ، بالخوفِ والنار و العَمَى …
سأنساهُ كلما عدتِ أو عدوتِ قربَ الحفرةِ
ثم أحيا في الليل حرًا،
كطائرٍ لا يصدقُ أن بقلبهِ ظِل…
ألعاب الظلام
كان الظِلُّ يشبهُ طائرًا أو شيخًا جالسًا أو فيلاً وكنتُ أنظرُ فيتحرك، يتيهُ بقتلهِ أبي كل صباحٍ ويَثْمُلُ فيحفر حفرةً للهائمينَ ليرتاحوا من عناء الحقيقة.
كانت الرياحُ تدورُ خائفةً والبناتُ يقلن لأمهاتهن سينفلت الجمال من أجسادنا كلما حاصرتنا النظرات السوداء، الأمهاتُ يصمتن لأنهن خبيثاتٌ من جَرَّاء الخوف ومن هَوْلِ سنين المجاعة… أَتَسحَّبُ فأجد الروائح تشدُّ يدي والأصوات تخلع لساني وألتصق بالحائط حتى نغيبَ معًا…
كانت ليلةً صاخبةً وقلتُ لأمي كثيرًا لا تتركيني أنام لكنها لم تُصَدِّق وغَلَّقت الأبواب فقالت الذكرى هَيْتَ لكْ …