إعداد/ صافيناز محمد أحمد
دخل الصراع السوري في مستوياته الإقليمية والدولية مرحلة جديدة من تقاطعات المصالح منذ بدء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الأراضي السورية، تمهيدًا لطرده من معقله في محافظة الرقة، وهي الحرب التي من أجلها تغيرت مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية من مسار الصراع السوري بين النظام والمعارضة المسلحة. وتُرجم ذلك التغير في مستويات عدة؛ بعضها تمثل في قرارات أممية ركزت على محاربة الإرهاب في سوريا باعتباره أولوية تسبق مطالب المعارضة في تغيير نظام بشار الأسد الذي اعتبرته القوى الدولية في مرحلة ما من الصراع شريكًا في معركة الإرهاب نفسها، والبعض الآخر تُرجم في تحولات اعترت مواقف بعض القوى الإقليمية من الصراع، وهي التحولات التي أدت إلى تغيير استراتيجي في مسار المواجهات الميدانية بين النظام والمعارضة وتمثلها مرحلة ما بعد سقوط مدينة حلب في ديسمبر 2016 الماضي. والبعض الثالث تُرجم في تدخل عسكري جديد من نوعه، وهو التدخل العسكري الأمريكي منذ مطلع مارس 2017 الجاري في منطقة المواجهات مع تنظيم الدولة بمدينة منبج الاستراتيجية. هذا التواجد العسكري، بالرغم من محدودية حجمه ونطاق عملياته، إلا أنه يحمل العديد من الدلالات بالنسبة لعلاقة الولايات المتحدة مع القوى الدولية والإقليمية التي تتواجد في الأراضي السورية ومصالحها الاستراتيجية وهي؛ روسيا وتركيا وإيران، الأمر الذي يؤشر على وجود خرائط نفوذ جديدة تحدد مسار المواجهات في سوريا في مرحلة محاربة تنظيم الدولة وما بعدها.
أولًا: الواقع الميداني في منبج واحتمالات ترجمته في الرقة
تشهد مدينة منبج الواقعة غرب نهر الفرات – ذات الغالبية السنية والتي تمثل البوابة الرئيسية لدخول الرقة الواقعة شرق النهر نفسه – تداخلات عسكرية متعددة، بدءًا من الوجود التركي الداعم للجيش السوري الحر الذي تقدم على المحاور الشمالية والغربية للمدينة عبر عملية “درع الفرات” التي استهدفت محاربة “داعش” ومنع الأكراد السوريين من إقامة كيان كردي بالقرب من الحدود التركية- السورية، ونجحت كذلك في تحرير مدن جرابلس والباب من داعش. هناك كذلك الوجود الكردي المسلح عبر تنظيم “قوات سوريا الديمقراطية” “قسد” التي شنت عملية “غضب الفرات” على التنظيم ذاته، وتتمتع بدعم أمريكي، تدريبًا وتسليحًا. كما شمل الوجود العسكري أيضًا جيش النظام السوري الذي تقدم منذ مطلع مارس الجاري تجاه منبج من محاورها الجنوبية والشرقية لمحاربة تنظيم داعش أيضًا، بعد أن انسحبت القوات الكردية لمصلحته من منطلق قطع الطريق على تركيا التي تسعى لحسم معارك منبج بعد نجاحها في حسم معركة الباب، الأمر الذي قد يزيد من أوراق الضغط التركية في سوريا، ويخصم في الوقت نفسه من مكتسبات النظام وحليفه الإقليمي الإيراني.
هذه التداخلات العسكرية تنذر بتصعيد محتمل جديد في مستوى المواجهات التركية- الكردية- السورية، ما دفع كل من روسيا والولايات المتحدة إلى إرسال قوات للفصل بين تلك القوى العسكرية الثلاث؛ وهو ما قد يجعل من منبج مركزًا محتملًا للتنافس الاستراتيجي بين قوى الصراع الداخلية وبين القوى الإقليمية والدولية بصورة تؤشر على تشكيل خريطة نفوذ جديدة داخل سوريا تستبق معركة تحرير الرقة، وتعكس أيضًا تحالفات جديدة، سواء على الصعيد الداخلي (احتمالات التقارب بين الأكراد والنظام)، أو على صعيد التحالفات الخارجية (تركيا ومصالحها المتأرجحة بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا)، (روسيا والولايات المتحدة وتعاطيات إدارة الرئيس الأمريكي الجديد مع الأزمة السورية في ظل دور المتغير الإيراني).[1]
هذا الواقع الميداني في منبج غرب الفرات واحتمالات ترجمته في معركة الرقة شرق الفرات أصبح محلًا لجدل إقليمي دولي حاد بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا والنظام السوري نتيجة لاختلاف مصالح كافة تلك القوى؛ واختلاف رؤيتها حول ملامح وطبيعة القوى المشاركة في تحرير الرقة استنادًا إلى الوضع الميداني في منبج؛ فهناك الرؤية الأمريكية التي ترى أن قوات سوريا الديمقراطية الكردية قادرة على تحرير الرقة عبر دعمها لها تدريبًا وتسليحًا. وهناك، من ناحية أخرى، الرؤية التركية المنفردة التي تقدم درع الفرات كقوة بإمكانها حسم معركة الرقة، وتسوق في ذلك نجاحاتها في الباب ومن قبلها جرابلس ووقوفها على حدود منبج، وهي رؤية مرفوضة من قبل الولايات المتحدة الداعمة للأكراد وتحركاتهم شمال سوريا، ويمثلون الورقة الوحيدة لها في ميدان الصراع السوري، لأن موافقتها على عبور قوات “درع الفرات” المدعومة من قبل تركيا إلى شرق الفرات للمشاركة في معارك الرقة المقبلة سيضع قوات سوريا الديمقراطية ومجمل الشريط الكردي في الإدارات الكردية السورية الثلاثة وهي: الجزيرة (محافطة الحسكة)، وعين العرب (كوباني) الواقعتان شرق نهر الفرات، وعفرين الواقعة غرب النهر في مرمى النيران التركية.
من ناحية ثالثة، هناك الرؤية الروسية- التركية المشتركة، ويتم فيها التعاون بين القوات المدعومة من تركيا وقوات جيش النظام على أن توفر روسيا لهما دعمًا جويًّا عسكريًّا، وهي رؤية قد تكون مقبولة من قبل تركيا في سياق البارجماتية التركية والتي تدفعها لتغيير تحالفاتها بشأن الصراع السوري وفقًا لبوصلة المصالح التركية. وبالتالي قد لا تجد أنقرة غضاضة في التعامل مع النظام السوري في الرقة مستقبلًا لمواجهة داعش إذا كان ذلك سيقطع الطريق على مشاركة الأكراد في تلك المعارك، على نحو يقلص من حجم مكتسباتهم التي بمقتضاها سيطالبون بقيام كيان كردي منفصل أو إدارة ذاتية في إطار الدولة التي سيتحدد شكلها مستقبلًا وفقًا لمسارات الحل السياسي الجارية. ومن المؤشرات المهمة في هذا المجال تصريح رئيس الوزراء التركي يلدريم تعقيبًا على دخول قوات النظام السوري لمنبج بالقول إنه “خيار غير سيئ” بالنسبة للحكومة التركية، مقابل تصريحات بعدم استعداد تركيا المشاركة في القتال جنبًا إلى جنب مع من تعتبرهم “إرهابيين”، في إشارة إلى الميليشيات الكردية، وهي تصريحات جاءت في أعقاب اجتماع أنطاليا العسكري في 7 مارس الجاري، والذي جمع رؤساء أركان حرب كل من روسيا وتركيا والولايات المتحدة لمناقشة خطط تركيا في دخول مدينة منبج وخططها في الرقة. لكن هذا الاجتماع لم يسفر عن موافقة الولايات المتحدة على تلك الخطط بشأن المدينتين، بل هناك من يرى أن اجتماع أنطاليا جعل من “عدم مشاركة” تركيا في تحرير الرقة أمرًا محسومًا، وأن على تركيا أن تكتفي بما حققته في جرابلس والباب ومشارف منبج؛ أي عليها التوقف حيث وصلت.
هذه المعطيات السابقة تشكل خريطة نفوذ جديدة بين القوى المتواجدة على مشارف منبج وبين تلك المتواجدة داخلها، سيتم بالتأكيد ترجمة نتائجها العسكرية سياسيًّا في مسارات التفاوض القادمة.
ثانيًا: التدخل الأمريكي وخرائط نفوذ جديدة
قررت الإدارة الأمريكية الجديدة أن تكون أكثر انخراطًا في الأزمة السورية على العكس من الإدارة السابقة. بدأ هذا التحول مع إعلان إدارة ترامب استعدادها إقامة مناطق آمنة في سوريا لحماية المدنيين، ثم باستكمالها سياسة الإدارة السابقة بدعم الميليشيات الكردية السورية في الصراع السوري وإعادة توظيف دورها وتبديله من مواجهة النظام السوري إلى مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وذلك عبر دعمها بالتدريب والتسليح وتوفير الغطاء الجوي لعملياتها، وصولًا إلى نشر قوات خاصة من المارينز – حوالي 400 جندي والبحث في إرسال 1000 آخرين– ووحدة مدفعية داخل محيط مدينة منبج. هذا التعاطي الأمريكي الجديد مع الصراع السوري من الباب الكردي له أهدافه المتعددة، كما أن له نتائجه في ظل التحديات الضخمة التي يفرضها واقع الصراع متعدد المستويات من تعقيدات ميدانية وسياسية.[2]
هناك أربعة أهداف أساسية للوجود العسكري الأمريكي في منبج – رغم محدوديته- يمكن تحديدها فيما يلي. أولها، هوضمان توجيه دفة حلفائها المتصارعين الأتراك والأكراد إلى محاربة داعش. ثانيها، هو الفصل، بالتعاون مع روسيا، بين كافة القوات التي وصلت إلى مدينة منبج عبر محاورها الأربعة المختلفة، وهي قوات النظام، والقوات الكردية، وقوات درع الفرات التركية السورية المشتركة، لاسيما بعد أن سلمت قوات سوريا الديمقراطية مواقعها في غرب منبج إلى الجيش النظامي المدعوم من روسيا نكاية في تركيا. ثالثها، توسيع خيارات الولايات المتحدة في سوريا حال التعارض مع روسيا خلال المرحلة المقبلة، كأن تفشل مساعي رفع مستوى التنسيق بينهما أمام بعض العقبات والمصالح، وبالتالي فإن وجودًا عسكريًّا أمريكيًّا فعليًّا بإمكانه ممارسة ضغوط على روسيا وحلفائها في سوريا لاسيما إذا اتجهت واشنطن إلى زيادة عدد وحجم قواتها المشاركة حديثًا في سوريا. رابعها، توسيع نطاق إنشاء قواعد عسكرية أمريكية في باقي الأراضي الكردية تكون إضافة إلى قاعدتها في مدينة الحسكة بشمال شرق سوريا التي دشنتها بوجود 800 جندي بداية من مطلع يناير 2017.[3]
وقد شكل اتجاه واشنطن لدعم الأكراد السوريين في مواجهة داعش بمدينة منبج استعدادًا للرقة نقطة الخلاف الرئيسية مع أنقرة؛ حيث ترى الأخيرة أن ميليشيات الأكراد السورية على صلة وثيقة بميليشيات حزب العمال الكردستاني التركي المعارض الذي تصنفه تركيا باعتباره منظمة إرهابية، بينما تراها واشنطن القوى القادرة على مواجهة داعش لعدة اعتبارات أهمها يتعلق بكون المكون الكردي يتسم من وجهة النظر الأمريكية بغياب الانتماءات الأيديولوجية الدينية على العكس من معظم فصائل المعارضة السورية، بالإضافة إلى أنه يتسم بكونه عابرًا للانتماءات المذهبية باعتباره يضم أكرادًا عربًا سنة وشيعة. وتسعى الولايات المتحدة إلى تقريب وجهات النظر التركية الكردية من باب كون الخلاف أو المواجهة المحتملة بينهما من شأنها تشتيت جهود حليفيها بدلًا من توجيهها لمحاربة داعش وفقًا للخطط الأمريكية، بالإضافة إلى تأخير الإعداد لمعركة الرقة الفاصلة في الوقت الذي تتقدم فيه مواجهة التنظيم في الموصل العراقية. وبالتالي فإن التأخير سيكون في صالح داعش الذي بإمكانه إعادة تنظيم صفوفه في الرقة ما يجعل من المواجهة معه أصعب ميدانيًّا وأكثر خسائر.[4]
ووفقًا لهذه الأهداف والمعطيات، فإن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا أصبح حقيقة ميدانية خاصة أنه مرشح للتزايد سواء على مستوى زيادة عدد القوات، أو على مستوى زيادة حجم المعدات ومستوى التسليح، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة في طريقها لتموضع جديد في سوريا قد يكون طويل الأمد ولا ينتهي بالقضاء على داعش. ويؤكد هذا الاستنتاج عدد من التعاطيات الأمريكية منها تصريحات مسئولين عسكريين بأن الوجود الأمريكي الجديد في سوريا يهدف إلى “ضمان الأمن والاستقرار ومساعدة السوريين على الانتقال السلمي”، هذا بالإضافة إلى رصد لعمليات تطوير القاعدة العسكرية الأمريكية الموجودة في محافظة الحسكة الكردية بصورة تجاوزت مهمتها كمركز للخبراء والمستشارين العسكريين الأمريكيين لتدريب قوات سوريا الديمقراطية وقوات وحدات الشعوب الكردية.[5]
ثالثًا: مواقف القوى الإقليمية والدولية من التدخل الأمريكي
التدخل الأمريكي في سوريا لدعم الأكراد ومساندتهم عسكريًّا لمواجهة داعش لم يلق استحسانًا تركيا، كما رفضته إيران في سياق تاريخ الخلافات بين الطرفين والذي ازداد مع تقدم الإدارة الأمريكية الجديدة التي طالبت علنًا بضرورة خروج الميليشيات الإيرانية من سوريا. أما روسيا فلازالت تضعه موضع تقييم بالنسبة لمصالحها في سوريا من ناحية، وبالنسبة لمدى مساعدتها عبر التنسيق السياسي والأمني في خلق حل سياسي للصراع من ناحية ثانية. في هذا السياق، يمكن تحليل مواقف الدول الثلاث على النحو التالي:
١- تركيا
أعلنت تركيا سيطرتها عبر قوات درع الفرات الداعمة للجيش السوري الحر على مدينة الباب في أواخر فبراير الماضي، والاتجاه بعد ذلك إلى منبج ثم الرقة، الأمر الذي يعني توسيع دائرة نفوذها الميداني، خاصة إذا ما نجحت في محاربة داعش وتقويض التقدم الكردي في الوقت ذاته، ما يعني أيضًا زيادة عدد أوراق التفاوض التي تمتلكها كترجمة للواقع الميداني، لاسيما تلك المتعلقة بتقليص الاستحقاقات والمطالب الكردية في الحكم الذاتي أو الانفصال، وهو ما قرأته القوى الكردية المدعومة أمريكيًّا والنظام السوري المدعوم إيرانيًّا. وترتب على ذلك تحركات ميدانية سريعة في مواجهة هذا التقدم التركي؛ فاتجهت قوات النظام السوري مدعومة بالميليشيات الإيرانية إلى منبج وإلى الباب لمنع التقدم التركي نحو الرقة، بينما اتجهت قوات سوريا الديمقراطية لمنبج ودخلتها وأعلن “مجلس منبج العسكري” سيطرته على المدينة، وقام تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بتسليم مواقعه في القرى الجنوبية والشرقية لمدينة الباب لقوات النظام السوري، بينما ظلت القوات التركية على المحاور الغربية والشمالية للمدينة في انتظار الموافقة الروسية على دخولها، والتي انتظرت بدورها التعاطي الأمريكي مع تلك التطورات الميدانية الجديدة.[6]
وبدخول قوات سوريا الديمقراطية لمنبج بدعم أمريكي ورفضها العودة لشرق الفرات وفقًا للمطالب التركية، التي ترى في وجود قوى كردية مسلحة غرب الفرات تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، أصبحت أنقرة وواشنطن في مواجهة ضمنية ترجمتها اتساع دائرة التحذيرات الأمريكية لقوات درع الفرات من دخول منبج أو التأهب للمشاركة في تحرير الرقة. وقد بررت واشنطن ذلك بتخوفها من أن يركز الأتراك، حال دخولهم منبج، على مواجهة الأكراد دون داعش، ما يؤثر على عمليات التحالف العسكرية ضد التنظيم. لكن ووفقًا لسياسات أنقرة الحالية، من غير المتوقع أن تقتنع بالتوقف عن دخول منبج حتى وإن خضعت لتحذيرات عدم مشاركتها في تحرير الرقة قياسًا على عدم مشاركتها في تحرير الموصل العراقية، لأنه ووفقًا للرؤية التركية فإن قطعها لتواصل الكانتونات الكردية جغرافيًّا بدخولها مدينة الباب لمنع قيام “كردستان سوريا” لن يكتمل إلا بدخولها منبج؛ لأن كل من مدن الباب ومنبج وصولًا لمحافظة الرقة تعتبر مناطق ذات غالبية سنية، وبالتالي هذا النطاق الجغرافي الممتد من المدن المذكورة سيقطع على الأكراد تواصلهم من مناطق شرق الفرات إلى غربه. كما أن السيطرة التركية على منبج من شأنه استكمال النطاق الجغرافي لأية منطقة آمنة يمكن إنشاؤها غرب الفرات. وسيحقق لها في الوقت ذاته هدفين: الأول، إخراج القوات الكردية وتحديدًا قوات وحدات حماية الشعوب التي تمثل غالبية قوات سوريا الديمقراطية من منبج، لارتباطاتها مع حزب العمال الكردستاني التركي المعارض كما سبق الإشارة. والثاني، الضغط على واشنطن عبر التهديد باستهداف القوات الكردية داخل منبج إذا لم تخرج منها كمحاولة لاستنباط ردة فعل الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه مجمل الدور التركي في سوريا خلال المرحلة المقبلة، ما يمثل اختبارًا جديدًا للعلاقات بين الطرفين، خاصة أن أنقرة تتخوف من أن تكون اقتراحات الإدارة الأمريكية بشأن المناطق الآمنة تتعلق بتوفير ملاذ آمن للأكراد في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، ما يعتبر نواة لبداية تأسيس كيان كردي مستقل يضغط عليها أمنيًّا بالنظر إلى مشاكلها السياسية والأمنية مع الأكراد بالداخل. [7]
وفي هذا الإطار، تحاول أنقرة الضغط على واشنطن لوقف دعمها للأكراد السوريين عبر تلويحها بإمكانية التحكم في قاعدة إنجيرليك الأمريكية الموجودة في “أضنة” التركية والتي يستخدمها التحالف في ضرب داعش. كما أنها لازالت تمتلك مفاتيح التحكم في سلوك عدد لا بأس به من فصائل المعارضة السورية المسلحة على أرض الصراع الميداني. هذا ناهيك عن احتمال اتجاه أنقرة إلى ترقية مستوى التعاون والتقارب تجاه موسكو لاسيما بعد مساعدتها في حسم معركة الباب – رغم اختلافهما حول استراتيجية أنقرة بشأنها – في وقت تباطأ فيه التحالف الدولي في توفير الغطاء الجوي اللازم لقوات درع الفرات في المدينة، مع ملاحظة أن هذا الخيار يمكن أن يكون ضاغطًا على إدارة ترامب التي أعلنت مؤخرًا – بعد جولة جنيف الرابعة – أن واشنطن غير راضية عن سياسية موسكو في سوريا، ولكنه لن يكون بديلًا عن العلاقات مع الولايات المتحدة نظرًا لانخراط الأخيرة فعليًّا في الإعداد لمعارك طرد داعش من منبج والرقة، بموافقة روسية. هذا بخلاف أن روسيا نفسها تريد كبح جماح الاندفاع التركي تجاه منبج والرقة لأسباب سيتم ذكرها لاحقًا، ولذلك قامت بتسهيل وتأمين تحركات الجيش السوري تجاه المدينة، الأمر الذي منع الجيش السوري الحر المدعوم من قبل تركيا من استكمال تقدمه نحوها. وتستهدف روسيا من هذا أيضًا تقليص مساحة المناطق الآمنة حال إنشائها في شمال سوريا في منطقة غرب الفرات، وهي أحد أهداف استراتيجية عملية درع الفرات التركية بعد نجاحها في السيطرة على مدينة الباب. هذه التطورات فرضت على تركيا ضرورة الحفاظ على التعاون مع الطرفين؛ الروسي والأمريكي، إذا كانت تريد حجز موقع لها في تسويات ما بعد معارك الرقة على غرار موقعها الذي حجزته في تسويات ما بعد معارك حلب بناءً على استدارتها الإيجابية تجاه روسيا.[8]
ونظرًا لأهمية المشاركة في معركة الرقة باعتبار أن أطرافها هم من سيرسمون مستقبل سوريا، تحاول أنقرة تقديم العديد من التصورات والخطط للولايات المتحدة في هذا الشأن، من بينها توجه قوات درع الفرات إلى الرقة لطرد داعش عبر مسارين، أحدهما من الباب ومنبج، والآخر من مدينة تل الأبيض على الحدود السورية التركية. كما قدمت عدة خيارات بديلة عن قوات سوريا الديمقراطية لواشنطن؛ كالترويج لقوات الجيش السوري الحر باعتباره قوة نظامية حققت نجاحات عبر مشاركتها في درع الفرات في مدينتي جرابلس والباب، والترويج أيضًا بخيار كردي بديل يتمتع بعلاقات جيدة مع أنقرة وهي قوات “بشمركة روج آفا” الكردية (أي قوات إقليم غرب كردستان) التي يدعمها المجلس الوطني الكردي السوري، وهو على خلاف حاد مع حزب الاتحاد الديمقراطي بشأن تفاصيل مشروع إقامة كيان كردي موحد شمال سوريا.
أنقرة تدرك إذن صعوبة استبعاد المكون الكردي من تسويات الحل، خاصة أنه يتمتع برعاية أمريكية مباشرة، هذا ناهيك عن عدم رفض روسيا التعاون مع المكون نفسه؛ فلم تصنف ميليشيات وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري ضمن تصنيفاتها للإرهاب التي شملت عدة فصائل من المعارضة السورية المسلحة. وفي الوقت ذاته لا تريد أنقرة التفريط في العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي بدأت تشهد تحسنًا ملموسًا، وترغب أيضًا في الاستفادة من موقف ترامب الرافض لسياسات إيران في المنطقة، بما فيها الملف السوري، بما يخدم الدور الإقليمي التركي في الملف ذاته. كذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة؛ فهي لا تريد خسارة الدور التركي حال التوصل لصيغة فعلية لإنشاء مناطق آمنة شمال سوريا لأنها ستخول أنقرة مهمة حماية تلك المنطقة، لذلك اتجهت إلى البحث عن حل وسط يضمن تحالفاتها مع تركيا والأكراد لمعالجة معضلة منبج والرقة.
في هذا الإطار، يرى المحللون أن ثمة عدة احتمالات بشأن الموقف الأمريكي:[9]
الاحتمال الأول،أن لا تعطي الولايات المتحدة أيًّا من الطرفين التركي والكردي دورًا رئيسيًّا في منبج والرقة؛ ويكون ذلك بقصر مهمة قوات سوريا الديمقراطية الكردية على تأمين محاور المدينتين؛ أي دون أن تدخل أيًّا منهما؛ نظرًا لطبيعتهما الديموغرافية التي سبق الإشارة إليها – غالبية سكانية من العرب السنة – على أن تقدم واشنطن كافة أنواع الدعم العسكري واللوجيستي لمهمة التأمين تلك، ويتم تكوين قوة عسكرية من فصائل المعارضة السورية التي تلقت تدريبًا أمريكيًّا من العناصر غير الكردية، والتي ينتمي بعضها للمدينتين بحيث تتولى مهمة استكمال إحكام السيطرة على منبج وتحرير الرقة. حظوظ هذا الاحتمال ضعيفة نظرًا لسببين أولها،عامل الوقت فتكوين قوة عسكرية جديدة حتى وإن كانت مدربة جيدًا سيستغرق وقتًا، كما ستفتقد للكفاءة الميدانية التي عليها قوات سوريا الديمقراطية الكردية وقوات درع الفرات التركية، الأمر الذي سيؤخر من مواجهة داعش في الرقة في الوقت الذي تتقدم عملية مواجهته في الموصل، وما ينتج عن ذلك من فرص تمكن التنظيم من إعادة التموضع داخل الرقة. ثانيها، عدم موافقة تركيا على استثنائها تمامًا من المدينتين وفقًا لهذا التصور، وحتى لو وافقت من باب حرصها على البقاء ضمن معادلة الحل وعدم الاستبعاد كلية، فإنها ستطالب واشنطن بضمانات غاية في الصعوبة تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري أهمها تخليه عن مشروع الحزب بشأن إنشاء كيان كردي مستقل لأكراد سوريا، والاكتفاء بما ستسفر عنه مفاوضات الحل السياسي في هذا الشأن.
الاحتمال الثاني، أن تعطي الولايات المتحدة مهمة مواجهة داعش في الرقة لبعض فصائل الجيش السوري الحر من غير الفصائل المنضوية في قوات درع الفرات التركية – حيث لا تشارك كافة فصائل الجيش السوري الحر في قوات درع الفرات – مقابل أن تخرج قوات سوريا الديمقراطية من منبج غرب الفرات وعودتها لشرقه وفقًا لرغبة تركيا، مع تعهد أنقرة بعدم دخول الفصائل العاملة ضمن درع الفرات للمدينة. وتزداد حظوظ هذا التصور خاصة بعد الأنباء التي تواردت حول عزم وزارة الدفاع الأمريكية تقديم اقتراحات للرئاسة بقائمة تضم عددًا من الفصائل المنضوية تحت قيادة الجيش السوري الحر من غير تلك التي تشارك تركيا في درع الفرات، وهي تحديدًا “اللواء 51″، و”لواء المعتصم” التي تلقت تدريبًا وتسليحًا أمريكيًّا. كما أنه من المحتمل أن توافق أنقرة على هذا التصور لعدة أسباب: أولها، يتعلق بطبيعة التطورات الميدانية في منبج، حيث نجحت قوات النظام السوري في دخولها من المحور الجنوبي بعد استكمال سيطرتها على مجمل الجزء الشرقي من مدينة حلب (السيطرة على مجمل النطاق الجغرافي الممتد من الضفة الغربية لنهر الفرات وحتى شرق حلب)، وبذلك تكون قوات النظام السوري قد شكلت عائقًا بريًّا أمام قوات درع الفرات بما يمنعها من التوجه للرقة، وإن أرادت استكمال مسارها فعليها خوض حرب مع قوات النظام السوري بصورة مباشرة وهو ما لا ترغبه أنقرة في الوقت الحالي. ثانيها، يتعلق ببعض المكاسب التي ستتحقق لأنقرة وفقًا لهذا السيناريو؛ حيث سيتم تحقيق هدف إقامة المنطقة الآمنة التي ترغب أنقرة فيها لأن دخول “اللواء 51″، و”لواء المعتصم” لمنبج وخروج الأكراد منها سيعني خلو المنطقة الممتدة من أعزاز إلى جرابلس – غرب الفرات – من القوات الكردية باستثناء بعض المناطق، وبالتالي إجهاض مخططالأكراد في التواصل البري بين عفرين التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية وبين منبج، ومن ثم تهدئة الهواجس التركية بشأن اقتراب الأكراد من حدودها.[10]
الاحتمال الثالث، أن تدفع الولايات المتحدة أنقرة للضغط على مقاتلي المكونات العربية السنية من أبناء مدينة منبج ومحافظة الرقة للمشاركة في المرحلة القادمة من المواجهات مع داعش، ما يعنى أن تركيا تشارك في المعركة عبر وكلاء لها وبموافقة واشنطن، هذا الاحتمال يعد من أبعد الاحتمالات توقعًا أو أقلها حظوظًا لسبب رئيسي وهو أن تركيا سبق لها أن حاولت استمالة المقاتلين العرب السنة من أبناء المدينتين في سياق حربها ضد تنظيم الدولة ولكنها فشلت. ويرى بعض المحللين أن هذا الفشل هو السبب في دفع الولايات المتحدة إلى الاستعانة بقوات سورية الديمقراطية الكردية التي نجحت فيما فشلت فيه تركيا، حيث استطاعت اجتذاب عدد من الأكراد السنة والعرب السنة أيضًا وضمهم لمقاتليها.
٢- روسيا
تتحدد معالم موقف روسيا من التواجد الأمريكي في الرقة ومنبج معالمه تدريجيًّا. ويساهم متغير العلاقات البينية مع تركيا ومع الولايات المتحدة في تشكيل هذه المعالم، فثمة تعاطيات روسية مع الولايات المتحدة وتركيا منذ مطلع مارس الجاري (2017) يمكن من خلالها استقراء مؤشرات ذلك الموقف. ففي سياق العلاقات مع الولايات المتحدة في الملف السوري يمكن القول إن موسكو منذ رغبتها في استثمار انتصاراتها العسكرية في حلب سياسيًّا، بالاتجاه إلى تفعيل مسارات التفاوض، كانت تستهدف في المقام الأول انتظار الإدارة الأمريكية الجديدة وتعاطياتها مع الأزمة السورية لتبدأ مرحلة مختلفة في سوريا، إما بإزكاء الصراع وتثمين موقف النظام السوري، أو بالجنوح إلى تفعيل المفاوضات واجتذاب واشنطن وتركيز مشاركتها العسكرية في المرحلة القادمة على مواجهة داعش. هذا الانتظار رآه البعض سببًا مباشرًا في إفساح المجال أمام النظام وحليفه الإقليمي الإيراني لممارسة مزيد من “قضم” الأراضي التي كانت تسيطر عليها المعارضة، وممارسة مزيد من سياسات التهجير القسري لسكانها، دون أن يكون لروسيا تأثير على الطرفين لوقف تحركاتهما الميدانية، أو حلحلة موقفيهما بالنسبة لمسارات التفاوض سواء في جولات الأستانة أو جنيف، بل إن الجانب الروسي بات يدرك أن مزيدا من التقارب مع تركيا وواشنطن في سوريا من شأنه تراجع مستويات علاقاته مع النظام السوري ومع إيران، وهو ما يفسر حدة التباينات التي ظهرت للعلن بين موسكو وطهران بشأن الملف السوري.[11]
في الوقت الذي لم تعد فيه روسيا تحتكر وحدها حق محاربة الإرهاب في سوريا كما كان الوضع في مرحلة ما قبل سقوط حلب، بل إن محاربة داعش أصبحت هدفًا لكل من تركيا والولايات المتحدة على حد سواء، وهو ما انعكس في التنسيق بشأن خطط مواجهة هذا التنظيم؛ حيث اتجهت الدول الثلاث إلى عقد اجتماع ذي سمة عسكرية بحتة في أنطاليا بجنوب تركيا في 8 مارس الجاري (2017) تم فيه وضع الأطر العامة للتنسيق العسكري بين قوات تلك القوى المتداخلة بصورة أو بأخرى في مناطق منبج ومعظم مناطق غرب الفرات. بل هناك من يرى أن الدور الروسي في هذا الاجتماع كان مقصورًا على دور الوسيط بين الجانبين الأمريكي والتركي، وتقريب وجهات نظر الطرفين على إثر تواجد قواتهما في منبج، لأن روسيا لا ترغب في حدوث خلافات حادة بين الولايات المتحدة والأكراد وبين تركيا على أرض منبح قبل أن تتمكن من حسم بدائل سياساتها بالنسبة لمعارك الرقة في ضوء التعاطيات الأمريكية الجديدة.[12]
أما على مستوى التفاهمات الروسية- التركية في ضوء المتغير الأمريكي الجديد (أي الوجود العسكري) يمكن القول إن الموقف الروسي من التدخل التركي وصولًا للباب كان مواتيًّا لهذا التدخل، على الرغم من بعض الانتقادات الضمنية التي ترجع معظمها لعدم استشارة روسيا في بعض التطورات الميدانية التي حققتها درع الفرات، ولكنه اختلف كلية عندما أعربت أنقرة عن نيتها دخول منبج والرقة؛ حيث طالبتها موسكو بالتريث والاكتفاء بحصيلة تقدمها الميداني في الباب، خاصة أن وجودها فيها مكنها من كسر التواصل الجغرافي بين الكانتونات التي تسيطر عليها الفصائل الكردية. هذا التغير في الموقف الروسي يعود لعاملين: الأول، إدراك روسيا أن زيادة النجاحات الميدانية التركية داخل سوريا سيتيح لأنقرة الفرصة للتخلص من الغطاء الروسي سياسيًّا الذي وفرته لها طوال الشهور الست الماضية التي استغرقتها عملية درع الفرات، وبالتالي تراجع معدلات التقارب بينهما. والثاني، إدراك روسيا أن أنقرة قد تتقارب مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي لوحت بإمكانية إقامة مناطق آمنة في سوريا، وهو المطلب التركي الذي طالما طالبت أنقرة الإدارة الأمريكية السابقة به ولم تحققه لها، وهو المطلب نفسه الذي تعارضه روسيا إذا تم دون تنسيق روسي أمريكي مشترك. [13]
في هذا السياق، تدعم روسيا فكرة أن يتولى جيش النظام السوري مواجهة داعش في الرقة، كما تحاول الضغط على تركيا لقبول تواجد قوات النظام في منبج، على اعتبار أنه أفضل لأنقرة من قوات سوريا الديمقراطية، لاسيما بعد أن رعت اتفاقًا بمقتضاه قام مجلس منبج العسكري المتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية بتسليم جيش النظام عددًا من القرى التي كان يسيطر عليها في المدينة المذكورة، ما يعني توقيف التقدم التركي عند مدينة الباب ومداخل منبج، حتى لا تحاول تركيا مد نفوذها عبر درع الفرات إلى منطقة شرق النهر حيث محافظة الرقة. هذه الخطوة من قبل روسيا تقلص من مساحة المنطقة الآمنة التي تريد أنقرة إقامتها في شمال سوريا بالتعاون مع الولايات المتحدة. وتستهدف روسيا حفز الولايات المتحدة على التعاون العسكري معها في الرقة عبر الترويج للفكرة نفسها – أن تتولى قوات النظام السوري مواجهة داعش – على أن يكون ذلك تحت تنسيق روسي- أمريكي مشترك، على اعتبار أن هذا الطرح يضمن عدم فك التحالفات القائمة التي تمخضت في مرحلة ما بعد سقوط حلب، خاصة التحالف الروسي التركي. وتفصيل ذلك أن التحركات العسكرية لقوات النظام السوري لا يرفضها الأتراك كلية لكونها قطعت تواصل المناطق الكردية الثلاثة السابق ذكرها “الجزيرة (الحسكة) وعين العرب (كوباني) الواقعتان شرق نهر الفرات وعفرين الواقعة غرب النهر”، وهو ما تريده أنقرة، وبالتالي سيسهم التحالف التركي الروسي في تقريب المسافات بين تركيا والنظام السوري وفقًا لهذا الطرح. كما أن الفكرة نفسها – تحرير الرقة بواسطة الجيش السوري – تضمن عدم إهدار فرص تحسن العلاقات الأمريكية التركية عبر المتغير الكردي الذي سيتم تحييده وفقا لهذا الطرح.[14]
٣- إيران
تواجه إيران تحديات استراتيجية قد تؤثر على مستقبل دورها وطموحاتها الإقليمية في المنطقة، خاصة بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السلطة، حيث اعتبرها الراعي الرئيسي للإرهاب في المنطقة. فثمة صعوبات ستواجهها في ملفات المنطقة التي يتماس فيها دورها مع سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة؛ وهي تحديدًا الملف العراقي (تقارب حكومة بغداد مع واشنطن على خلفية معركة الموصل، وازدياد معدلات الوجود العسكري الأمريكي هناك) والملف السوري (إرسال قوات مارينز أمريكية لشمال سوريا)؛ فقد طالبت واشنطن عبر الأمم المتحدة “بضرورة إخراج إيران وحلفائها من سوريا، وكذلك إخراج التنظيمات الإرهابية؛ ما يعني أن واشنطن وضعت كل من إيران وميليشياتها في كفة واحدة مع باقي التنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا. وبالمثل رفضت إيران الوجود الأمريكي الجديد في سوريا، نافية الأنباء القائلة بأن دخول الولايات المتحدة لشمال سوريا تم بناءً على تفاهمات ثنائية بينهما. في هذا السياق، تتخوف طهران من مستجدات العلاقات بين القوى الدولية والإقليمية بشأن الملف السوري؛ فهي تنظر بعين الريبة لحالة التقارب الواضح بين روسيا وتركيا والذي أسفر عن تواجد عسكري تركى في شمال سوريا بما يوازن تواجدها عبر ميليشيات الحرس الثوري وحزب الله اللبناني والميليشيات العراقية الشيعية ويخصم من دورها في الصراع ميدانيًّا وسياسيًّا. ناهيك عن تخوفاتها بشأن احتمالية ترقية التعاون الأمريكي الروسي مما يخرج روسيا من دائرة حلفاء إيران أو على أقل تقدير يؤدي إلى تراجع مستوى التعاون بينهما عما كانت عليه.[15]
وبدخول المتغير الإسرائيلي في علاقة الولايات المتحدة وروسيا بإيران يمكن القول إن طهران تعتبر أن التفاهمات الروسية- الإسرائيلية بشأن سوريا، التي عكستها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو لروسيا في 9 مارس الجاري (2017)، تنال من حصتها في التموضع العسكري بصورة دائمة في سوريا مستقبلًا، لاسيما بعد أن أعلنت إسرائيل رفضها التام أن يكون لإيران أو وكلائها، وتحديدًا حزب الله، أي تواجد عسكري في سوريا قد تفرضه التسويات السياسية مستقبلًا، وذلك في إشارة إلى القاعدة البحرية التي تحاول طهران إقامتها على البحر المتوسط. وترجمت إسرائيل ذلك الرفض عبر الضربات العسكرية التي وجهتها للعاصمة دمشق في 18 مارس، وقبلها إلى مواقع للجيش السوري في اللاذقية ودير الزور، دون أن تعترض روسيا على ذلك باستثناء مطالبتها لإسرائيل بمراعاة التنسيق العسكري الموجود في سوريا بين القوى الدولية والإقليمية.[16]
في السياق ذاته، طالبت إسرائيل الولايات المتحدة بأن يتم التنسيق العسكري معها في سوريا عبر عملية ردع أمريكية إسرائيلية مشتركة ضد محاولة طهران فرض نفوذ عسكري دائم في سوريا. وكانت هذه المطالب حاضرة وبقوة على جدول أعمال الزيارة التي قام بها نتنياهو لواشنطن في 13 فبراير 2017 قبل أن ترسل الولايات المتحدة جنودها إلى شمال سوريا. ويروج نتنياهو لدى واشنطن برصد استخباراته معلومات تفيد بتوجهات عسكرية لدى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني المتواجدين في سوريا باتجاه هضبة الجولان السورية المحتلة، في إشارة إلى تشكيل الميليشيات التابعة لإيران في سوريا لواء تحرير الجولان، والذي أعلنت إيران أنه سيستهدف إسرائيل بعد انتهاء المواجهات مع الفصائل السورية المسلحة. في ظل هذه المعطيات، فإن التواجد العسكري الأمريكي بشأن الإعداد لمعركة الرقة سواء كان تحريرها من داعش عبر الأكراد أو عبر الجيش السوري الحر فإنه يخدم المصلحة الإسرائيلية؛ لأنه سيؤثر سلبًا على مصير التواجد الإيراني في سوريا بمنع إيران من استكمال مسار مشروعها الشيعي الممتد من العراق إلى شرق سوريا ثم إلى لبنان حيث حزب الله؛ فقطع تواصل الهلال الشيعي الإيراني سيكون عبر منطقة عازلة بين العراق وسوريا، حيث التواجد العسكري الأمريكي وغيره في الرقة على الحدود السورية العراقية، وذلك في ترتيبات ما بعد القضاء على داعش، وهي مصلحة إسرائيلية وتركية وعربية في آن واحد. ووفقًا لذلك فمن المتوقع أن تسرع إسرائيل من وتيرة مطالبها للولايات المتحدة بضرورة تضمينها ضمن التسويات السورية القادمة، من باب مواجهة أخطار احتمالات التواجد العسكري الإيراني في سوريا عبر قواعد عسكرية دائمة بحرية أو برية كما تخطط طهران.[17]
الشواهد الحالية تفيد بأن الولايات المتحدة لا ترغب في تلبية المطالب الإيرانية في سوريا في أية خطط تسوية مستقبلية، وهو ما ترفضه روسيا التي وإن كانت تختلف مع طهران في جملة من المستجدات في مرحلة ما بعد سقوط حلب، إلا أنها لاتزال تحافظ على تعاونها الاستراتيجي معها؛ فهي لا تريد التضحية بالحليف الإيراني والسوري كلية تحسبًا لفشل التنسيق أمنيًّا وعسكريًّا بينها وبين الولايات المتحدة على الأراضي السورية، ولكنها (أي روسيا) في الوقت ذاته لا ترغب في تواجد الميليشيات الإيرانية في المدن التي يتم طرد داعش منها، لذلك فإنها تحبذ وصول قوات النظام السوري لمنبج ومداخل الرقة دون أن يكون ذلك مدعومًا بالميليشيات الإيرانية الشيعية. أما بالنسبة للولايات المتحدة فهي ترفض كلية فكرة أن تشارك قوات النظام منفردة أو بدعم إيراني في تحرير الرقة. وفقًا لذلك، فإن طموحات طهران في ترتيبات ما بعد الرقة ستظل حبيسة ما ستسفر عنه درجات التفاهم أو الاختلاف بين الولايات المتحدة وروسيا في الشأن السوري، أي وفقًا للصفقات المحتمل عقدها بين الطرفين، والتي لم تتضح معالمها حتى الآن، وإلى أن يتم التوصل لهذه التفاهمات أو الصفقات سيظل المتغير الإيراني هو “عقدة الخلاف” الرئيسية بين الولايات المتحدة وروسيا. [18]
خاتمة: التأثير على مسارات التسوية
في إطار كافة المعطيات السابق رصدها والتي توضح مدى التعقيد الذي تشهده التحالفات الدولية والإقليمية في سوريا يبدو الحديث عن تسوية قريبة احتمالًا ضعيفًا على الأقل في الوقت الراهن، فبالرغم من أن دخول المتغير الأمريكي على معادلة الصراع في سوريا من باب مواجهة تنظيم الدولة يعد متغيرًا نوعيًّا، إلا أن هذا المتغير نفسه أسهم في مزيد من تشابكات خرائط النفوذ على الأراضي السورية، فالولايات المتحدة لا تبدو في طريقها لعقد صفقات آنية أو محتملة مع كافة القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري إلا بعد الانتهاء من طرد تنظيم الدولة من الأراضي التي يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وبالتالي فإن مسارات التفاوض الحالية المتمثلة في مؤتمرات الأستانة وجنيف بجولاتهما المتعددة من غير المتوقع أن تقدم جديدًا بإمكانه إحداث نقلة نوعية نحو تسوية جادة، باستثناء بعض الخروقات بشأن الموضوعات التي يمكن طرحها للتفاوض كالانتقال السياسي والدستور واجراءات إعادة بناء الثقة بين المعارضة والنظام وهي خروقات لا تنقل التفاوض نقلة نوعية جادة، بل إنه من المتوقع أن تزيد الولايات المتحدة من تواجدها العسكري على الأرض كضرورة قبل التفكير في أية صياغة جديدة للتنسيق والتعاون الأمني والسياسي مع روسيا التي تحاول جاهدة الوصول لهذه المرحلة من التعاون بما سيفرضه ذلك من مطالبات أمريكية لموسكو بممارسة ضغوط على كل من إيران والنظام السوري.
وبالتواكب مع ذلك فمن المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة من التدخل الأمريكي في سوريا مزيدًا من ضبط القوى الدولية – الولايات المتحدة وروسيا- لتحركات قوات القوى الإقليمية – إيران وتركيا – اللتان تسعيان لحفظ مناطق نفوذهما المتداخلة في منبج والرقة وفقًا للمعطيات الجديدة على الأرض. بهذا المنطق تكون قواعد التجاذبات الإقليمية والدولية في الصراع السوري قد اختلفت إلى حد كبير عما كانت عليه قبل معركة حلب نهاية عام 2016 الماضي وقبل التدخل العسكري الأمريكي في مارس الجاري. وبهذا الدور الأمريكي الجديد الذي يتولى دفة قيادة التداخلات العسكرية في منبج والرقة السوريتين نكون أمام مرحلة جديدة من سياقات الأزمة السورية غاية في التعقيد والتشابك.
اضغط هنا لمشاهدة الملف بالحجم الكامل
[1]هشام جابر، ملامح الخريطة الميدانية لمعركة الرقة، الجزيرة نت، 14/3/2017. انظر أيضًا: خورشيد دلي، “ماذا بعد معركة الباب”، الجزيرة نت، 3/3/2017.
[2]”المارينز في سورية لتسريع معركة الرقة… وطمأنة تركيا”، جريدة الحياة، 10/3/2017.
[3]جورج سمعان، “سورية: دور أميركي جديد وخيارات وتحالفات معقدة”، جريدة الحياة، 13/3/2017.
[4]”تحالف عربي – كردي لديه القوة الكافية لطرد داعش من الرقة”، جريدة الحياة، 11/3/2017.
[5]يحيى دبوق، “التدخل الأميركي في سوريا… فعل مضارع معتلّ الآخر”، جريدة الأخبار اللبنانية، 17/3/2017.
[6]سعيد الحاج، “خيارات تركيا في سوريا بعد الباب”، الجزيرة نت، 9/3/2017.
[7]محمد زاهد جول، “منبج في معادلة درع الفرات والتدخلات الخارجية”، الخليج أون لاين، 14/3/2017. انظر أيضًا : راغدة درغام، “إيران وداعش والأكراد في الصفقة الأميركية – الروسية”، جريدة الحياة ،10/3/2017. انظر أيضًا:
Yezid Sayigh, “Donald Trump’s plan for refugee zones in and around Syria will not materialize”, Carnegie Middle East Center, 30 January 2017. Available at: http://carnegie-mec.org/diwan/67829
[8]محمد زاهد جول، المصدر السابق.
[9]جورج سمعان،مصدر سابق. انظر أيضًا: سعيد الحاج، مصدر سابق.
[10]منهل باريش، “البنتاغون يخطط لتسليم منبج إلى الفصائل التي يدعمها من الجيش الحر”، القدس العربي، 18/3/2017.
[11]وليد شقير، “عجز روسي وتوسع أميركي؟”، جريدة الحياة، 10/3/2017. انظر أيضًا:
“Moscow is reshaping the Syria conflict to ultimately impose a solution to its liking”, Carnegie Middle East Center, 25 January 2017. Available at: http://carnegie-mec.org/diwan/67770
[12]هشام جابر، مصدر سابق.
[13]”إنشاء قناة اتصال عسكرية ثلاثية: أنقرة تطرق باب منبج من موسكو”، الأخبار اللبنانية، 11/3/2017.
[14]إبراهيم حميدي، “مفاجأة موسكو بين منبج والباب: إغراء واشنطن وتقليص منطقة أنقرة”، جريدة الحياة، 12/3/2017.
[15]عمر هواش، “لأريجاني: تدخل أمريكا في سوريا ليس لصالحها.. وحضور قوات المارينز لم يكن بالتنسيق مع طهران.. ولا نهدف إلى تحقيق مصالح خاصة في سوريا”، الرأى اليوم، 13/3/2017. انظر أيضًا: راغدة درغام، “إيران وداعش والأكراد في الصفقة الأميركية – الروسية”، جريدة الحياة ،10/3/2017.
[16]”موسكو تطلب من تل أبيب مراعاة التنسيق العسكري”، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 20/3/2017. انظر أيضًا:
-Dmitri Trenin, “How does Russia position itself between Iran and Israel in the Middle East?”, Carnegie Middle East Center, 14 March 2017. Available at: http://carnegie-mec.org/diwan/68257
[17]أمال شحادة ، “الرقة تحسم مصير الهلال الإيراني”، جريدة الحياة، 15/3/2017.
[18]راغدة درغام، “إيران وداعش والأكراد في الصفقة الأميركية- الروسية”، جريدة الحياة ،10/3/2017.انظر أيضًا: د. رضوان السيد، “سوريا: الصراع الإيراني الأميركي”، الاتحاد الإماراتية، 13/3/2017.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر/ مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية