13 أبريل، 2024 9:43 ص
Search
Close this search box.

ممدوح عدوان.. تنوع في إبداعه سعيا إلى لمس أعماق الإنسان

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: إعداد- سماح عادل

“ممدوح عدوان” شاعر وكاتب روائي ومسرحي سوري، اسمه “ممدوح صبري عدوان”، ولد عام 1941 في قرية قيرون بالقرب من مصياف في محافظة حماة، وتخرج في جامعة دمشق- قسم اللغة الإنجليزية 1966، وعمل صحفيّاً في صحيفة (الثورة السورية) منذ 1964، لكنه كتب المقال في العديد من الصحف السورية والمجلات العربية حتى وفاته.

حياته..

بدأ “ممدوح عدوان” نشر الشعر منذ عام 1964 في مجلة الآداب اللبنانية والمجلات العربية الأخرى. وترك ورائه 26 مسرحية مطبوعة قدمت على المسارح في سورية وفي دول عربية متعددة. كما نشر 22 مجموعة شعرية في دور نشر سورية وعربية، ومجموعتي “مختارات” نشرتا في القاهرة. كما نشر 30 كتاباً مترجماً عن الانكليزية في الأدب والفكر والمسرح. وأصدر ستة كتب نثرية حول هواجسه في الأدب والفن والحياة عامة. كما درّس مادة الكتابة المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق منذ عام 1992.

أوهام بناء العالم..

في حوار أجرته معه “كازيوه صالح” يقول “ممدوح عدوان” عن بداياته مع الكتابة: “ابتدأت، بالشعر، وكانت بداية الشاب الصغير الذي يتوقع أنه يستطيع أن يغير العالم بالشعر، فكان شعري الأول ليس شعرا غزليا كما اعتاد الشباب، بل كان الشعر كله نقدا اجتماعيا، كنت متوهما بأن الشعر قادر على إعادة بناء العالم وبعد ذلك كبرنا وتوسعت الدائرة والإنسان حين يكبر يعرف حجم العالم ويعرف حجمه، تتطور أدواته، تزيد معرفته، بقيت عندي أوهام إعادة بناء العالم ولكن ليس بالشعر فقط، وظل إيماني بأن الشعر يساهم مساهمة كبيرة في بناء الإنسان وليس فقط في بناء العالم، وهذا الإنسان الذي أعيد بناؤه هو الذي يعيد بناء العالم، طبعا حكمي على هذه البدايات بحجم العمر والزمن مقبول، ولكن الآن أكتب بشكل مختلف، لاشك أنني تجاوزت إلى وسائل تعبير أفضل وأنضج واهتماماتي صارت أوسع والمعرفة أفضل بالنفس والآخر والعالم”.

وعن القلق المرتبط بالكاتب يقول: “أصل قلق الكاتب أو المبدع هو أنه عنده إحساس أن العالم ليس موجودا بصيغة صحيحة، يجب صياغة العالم من جديد، فيحاول الكاتب إعادة صياغة العالم بوسائله التعبيرية أنا عندي إحساس بأن لدى قدرة على إقامة أكثر من حوار وخوض أكثر من معركة مع هذا العالم، يعنى أنني أقيم حوارات مع العالم وأخوض معارك معه، وهذا التوجه المتنوع هو شعور بالعالم من جوانب متعددة، ومشاكل مطروحة من جوانب متعددة، وبالتالي يمكن تناوله بطرق متعددة، يمكن تناوله بالشعر، بالرواية، بالقصة، بالصحافة بالتلفزيون بالترجمة بكل الأشياء التي مارستها”.

أعدائي..

وعن روايته (أعدائي) ووجود شخصيتان، شخصية “سارة” وشخصية “نهال حامد”، اللتان تمارسان عمل السياسة من خلال المساومة بالجسد يوضح: “شخصيتان في رواية تمارسان العمل السياسي من خلال الإغراء الجنسي، والمغامرات الجنسية، لأن الإطار الذي تخوضه المعركة هو إطار الجاسوسية، والجاسوسية تعتمد على نقاط الضعف من الآخر وليس بالحوار المنطقي، الحب قد يقوم على حوار منطقي، كل المشاريع الصحية بالحياة تكون على حوارات وقناعة، لكن الجاسوسية تقوم على الخداع وعلى التورط، والمرأتان توجهان هذا الأسلوب من جميع النواحي.. أنا مؤمن بمستوى المرأة في جميع الميادين في السياسة، في النضال، القتال والعلم وجميع النواحي الأخرى، ولكن أنا أريد من خلال هاتين الشخصيتين أن أشير أولا إلى طريقة عمل الجاسوسية، لكن أريد أن أصل إلى شيء أعمق من ذلك، وهو أن مايبدو من رفض للمرأة سواء هذه المرأة أو تلك هو الحقيقة رفض للرجل لأن هو ذو عقل قليل، ومدارك صغيرة، والإيقاع به سهل، ثم هناك نقطة أخرى من خلال الجنس نعبر إليها وهى أن هناك روابط بين الرجل والمرأة، إذ كانت هذه الروابط هي الجنس فقط، فلنمارس الجنس، وننتهي ونتحول إلى وحوش، لكن إذا كان هناك شيء آخر نستطيع أن نصل إليه بعد أن نتجاوز عتبة الجنس، لأن في المجتمعات المكبوتة يبقى الجنس كمينا واقفا بين الطرفين، ودائما المرأة تفسر كل تصرفات الرجل بأنها أحابيل للإيقاع بها، والرجل دائما مشغول كيف يوقع هذه المرأة أو كيف تستطيع هي الإيقاع به أو إلى آخره. جيد إذا مارسا الجنس وانتهى الأمر يبقى الإنسان والإنسان ونرى ماذا يفعلان إذن، ساعدني موضوع الشخصيتين بطرح أطبق مقولات متوالية، منها: الخداع جاسوسية، الرجل هو الطرف الضعيف على ما يبدو عليه من القوة، هو الذي يمكن الإيقاع به بسهولة، والنقطة الثالثة هي فلنترك هذا الحاجز الجنسي ولنر ماذا لديه من الإمكانيات الأخرى أنت أيتها المرأة ماذا لديك من الإمكانيات الأخرى غير جسدك، أنت أيها الرجل ماذا لديك من الإمكانيات غير أنك تنام مع المرأة، إذن ملخص السؤال أنا أؤمن بأن المرأة لديها قدرة على عمل أي شيء، لكن هذه المرأة ضمن الرواية، هي امرأة ضمن ظرف خاص، وأنا حاولت أن أعمق التجربة أكثر لكي أجعلها تقوم بوظائف أخرى، حتى مع الجنس لديها وظائف أخرى”.

وعن كون  رواية (أعدائي) رواية تاريخية أكثر مما هي رواية خيالية يواصل: ” كل الأدب الذي استخدم التأريخ إذا كان أدبا جيدا يبحث عن الإنسان في الحدث التأريخي، وبالتالي يعتمد على مقولة (أن التأريخ صنعه البشر) ولا تصنعه لا صدفة ولا إله أقدار صنعه البشر بإرادتهم بضعفهم بعلاقاتهم بعقلياتهم، فالمبالغة عيب في الرواية، لكن إذا استطاع أن يكون الإطار التأريخي مجرد إطار للوصول إلى أعماق الإنسان يكون هذا هو الأدب العظيم.. الهدف ليس الإطار التأريخي الإطار التأريخي قد يكون فيه تطلع إلى تسجيل مرحلة من التأريخ، إعادة اكتشاف حدث معين من تأريخ الشعب، لكن حتى هذه الوظيفة هي الوظيفة الثانوية والوظيفة الأساسية هي كيف لدخول أعماق الإنسان غير الحدث التأريخي”.

دفاعا عن الجنون..

وعن كتابه (دفاعا عن الجنون) يقول “ممدوح عدوان”: “الجنون هو تفكير على غير الطريقة السائدة، وبالتالي الطريقة السائدة تقبل الأمر الواقع ولا تخضع له، حين يأتي الإنسان الذي لا يقبل الأمر الواقع ولا يخضع له يتمرد عليه بالجنون، نحن بحاجة إلى استمرار وجود ناس لا يقبلون الأمر الواقع، حين نقبل جميعنا نتحول إلى قطيع، وجود من لا يقبلون الأمر الواقع، من يغضبون أكثر من اللازم، يفرحون أكثر من اللازم أو المعهود، يصبحون مجانين، هؤلاء هم ضمان التقدم الاجتماعي والحياة، الذين يقبلون بما هو السائد هم الذين يحولون الحياة إلى مستنقع والآخرون الذين يندفعون أكثرهم الذين يجعلون هذا الماء نهرا.

وعن المسرح ومقولة “أعطيني مسرحا أعطيك شعبا” يقول: “هى مقولة صحيحة، لم يعد بريقها موجودا، لكنها صحيحة، بدأ التراضي من قبل السلطات والمؤسسات لدعم الوضع التشجيعى للتلفزيون، وصار التلفزيون يحل محل كل الثقافات محل القراءة محل الرواية، والمسرح والشعر، لكن هذا لا يلغي أن أعطني مسرحا أعطيك شعبا صحيحا، في البلدان المتحضرة التي تنتج لنا هذه التكنولوجيا، جمهور المسرح أكبر من جمهور المباراة الرياضية، الازدحام الذي ترينه على قطع بطاقات المسرح في لندن في موسكو، مثل ازدحام مباريات كرة القدم، لكن في بلدانا المختلفة نعتقد أن التخلي عن الثقافة والتعلق بمعطيات التكنولوجيا السطحية الخارجية هو التقدم.. يعانى المسرح لدينا من كل الأزمات مع بعضها، يعنى هناك النصوص المسرحية، لكن المسرح ليس العمل الفردي، المسرح عمل جماعي، حيث يحتاج إلى المؤسسة والتمويل، والعاملون في المسرح محتاجون إلى لقمة العيش، يعنى الممثل الذي يشتغل أربعة أشهر بروفات يومية وبعد ذلك يقدم يوميا على المسرح بعد أربعة أشهر، لا يوجد من ينفق عليه، والعمل المسرحي عمل مكلف يحتاج إلى ديكور والقاعة، الخ، هذا كله يحتاج إلى التكاليف المادية فالتراجع صار، لأن ليس هناك ميزانيات تصرف لخدمة الثقافة، أي ناد رياضي ميزانيته أكثر من ميزانية وزارة الثقافة، أي مطرب من الدرجة الرابعة في سهرة واحدة يأخذ ميزانية أكثر من ميزانية اتحاد الكتاب”.

وعن المرأة في حياته يحكي “ممدوح عدوان”: “بالبساطة أنا الرجل السوي، وبالتالي لأنني الرجل السوي أحب النساء، لكن مجتمعاتنا وفى تأريخ البشرية الظلم الذي اضطهد المرأة منعكس أيضا على الرجل إذن الرجل ناقص برجولته، والمرأة ناقصة بأنوثتها، صارت علاقات فقيرة، ليس فيها الغنى الإنساني أنماط العلاقات متعددة، هناك أكثر من صيغة للتعبير عنها، يمكن أن نكون أصدقاء أو زملاء أو نطاق العمل، يمكن أن نتعاون في المشروع ويمكن الحب والجنس أيضا..إلخ، أولا المرأة إنسانة كما هو الرجل إنسان، وهذا الإنسان قابل للتعامل، لكن في الفارق في التعامل مع الرجل هناك مسألة هرمونية تدفعني أي أن اشتهى المرأة ولا اشتهى الرجل أو انتبه إلى جمالها ولا انتبه إلى جمال الرجل والمرأة السوية أيضا تنتبه إلى هذه المسائل، لكن يجب أن أراها في أوجه متعددة وليس في إطار معين، لذلك أنا في حياتي في علاقات حب جميلة وصداقات مع النساء وعلاقات الزمالة، واحترام الكاتبات وتقدير لكتابتهم والعاملات في الحياة العامة، يعنى أنا اعتبر المرأة جزء مكملا لنفسي، عاطفيا ونفسيا وجنسيا وروحيا، وقد تحولت هذه الأشياء التي هي الطبيعية إلى قضية فكرية نتيجة اضطهاد المرأة وتشويه العلاقات القائمة بين الطرفين”.

أعماق الكاتب الثرية..

وفي حوار آخر أجراه معه “علي ديوب” يقول “ممدوح عدوان” عن التنوع في الكتابة: “عن تنوع وغزارة المشاريع والتجارب، فباختصار: أحس أنني ابن هذا العالم، وأريد أن أتدخل في كل ما فيه، لذلك أنا أشتبك مع العالم يوميا. ويأخذ هذا صيغا متعددة.. أحيانا أعانقه، أحيانا اشتمه، أحيانا أضربه بالحجارة.. وبالتالي أحيانا أكتب المسرح وأحيانا الشعر وأحيانا الصحافة؟ فهي رغبة في التفاعل مع العالم.. أنا أعتقد أن كل كاتب يكتب بنسبة 70% عن نفسه، و30% بأفكاره. وبالتالي كل كاتب – اعترف بذلك أم لم يعترف – يحتوي في داخله على كل الأنماط التي يكتب عنها، إذا كان كاتبا جيدا. وأنا أعتقد أن في داخل شكسبير يوجد شايلوك كما يوجد هاملت، ويوجد روميو، وتوجد جولييت، وإلا ما كان بمقدوره الكتابة عنهم.. الكاتب يكتب عوالم متعددة، هي عالمه هو، طبعا هي قدرة استثنائية على الكشف الداخلي. ليس غنى استثنائيا، لأن كل إنسان لديه القدرة على تأمل داخله بطريقة خاصة في الفن. بينما المفكر أو الفيلسوف يتأمل داخله بطريقة مختلفة. والفنان يتأمل داخله فيكشف هذا العالم المليء بالرغبات والنزوات. وأنا عندما أكتب عن اللص، فإن في أعماقي يوجد لص. وعندما أكتب عن الخيانة يوجد في أعماقي خائن. وعندما أكتب عن الفدائي، أيضا يوجد في أعماقي فدائي، وأنا أكتب أحاسيس المرأة جنسيا مع أنني سوي من هذه الناحية.. إلخ.. كلامي يعني إمكانيتي أن أكتب عن أحاسيس المرأة الجنسية – مثلا- وأنا رجل سوي في حياتي الجنسية، أي أنه لا يوجد عندي شذوذ.. كيف؟ بالتماهي مع الأحاسيس الجنسية للمرأة؟ بالمطالعة؟ أم بالسؤال والقيام بعمل استفتاء مع النساء؟ قد يفيد كل ذلك؟ ولكن يجب أن أبحث عن المرأة في داخلي- المرأة التي أحتاجها في الكتابة”.

وعن السخرية الحادة، والسوداء في نتاجاته الفنية يبين: “ربما، لو لم أكن عصبيا- أكثر مما يتطلب الأمر- كنت كتبت بسخرية أفضل من التي كتبت، وكل الذين يعرفونني يتساءلون عن الفارق بين المرح والسخرية والذكاء في الأجوبة وردود الأفعال الحاضرة في حياتي، وبين ما هو أدنى من ذلك في كتاباتي؟ وهذا صحيح. ربما لأنني أتناول الكتابة بعصبية، والعصبية لا تعطيني الفرصة لأن استرخي مع خبثي، وبالتالي يظهر الخبث في الموضوع وليس في التفاصيل، أتمنى لو أنني أقل عصبية، لأكون أكثر خبثا!”.

 

وفاته..

توفي “ممدوح عدوان” في 2004 بعد معاناة من مرض السرطان بدأت في 2003.

 قصيدة أتلفّت نحوك..أبكي

تقبلين من الفرح المرتجى

تقبلين من الفرح المستحيل

وتأتين كالضوء من عصبي

تطلعين من القلب

ينكشف العمر في عريه

هيكلاً من عظام الأماني

وزوبعة من شقاءْ

تكشفين قصوري عن الحب

بعدي عن الله

عجزي عن الحلم والذكريات

تجيئين ملء القلوب العريقة

ملء العيون العتيقة

لم تتركي فسحة للرغائب واللهو

لم تتركي خفقة للّقاءْ

غربتي كشفت وجهها

فرأيتك كل الذي مرمر القلب

لم أتحمل دفاعاً عن العشق

أو عن طفولتنا

ورأيتك:

لم يضطهدني الطغاة لرأي

ولم يأت خلفي الغزاة لأرض

ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ

كنتِ خلف التوجع والدمع

في الخوف كنتِ.. وكنتِ الشقاءْ

ولكي أتقرب منك

لكي أتلمس نبضك

أو أتقرى ابتسامة عينيك

كابدت هذا العناءْ

فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي

ودمعيَ غالٍ

تعلمت كيف استوى الدمع بالدم

أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها

فضح الدم حقدي

فلا عفو عمن أباحوا دمائي

ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ

قلت: قلبيَ يقفز

ينذر بالشر

قلبي تعلق مرتعداً

عند أول هذا السواد

الذي يملأ الأفق

قلت: جبيني على وشك الانكفاء

والعواصف إذ تعتريني تبددني

وأنا أتماسك في ذكرياتك

هَدَّأتني

لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب

كي ترتمي مطراً

فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفة

والرياح استكانت

فلم تأتنا نذر العاصفة

قلتِ لي:

إنها الطير

في رهبة الأفق سوداء

والناس ترقبها

أقبلت كالشحوب الذي يعتريني

إذا ما ارتعدتِ على ذكرهم نازفه

ما الذي سوف يأتي؟

ترنحتُ.. أمسكتِني

وتوجعتُ.. أسكنتِني

واندحرتُ.. فأرجعتِني

كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ

جاءت كعتم يفاجئ عند الظهيرةِ

غطت سماءَ المدينة

واصطدم الخلق بالخلق

فالضوء يسودُّ

والقلب يسودُّ

والمدن المستعيذة مشلولة واقفة

وصلت زعقة

وتلاها عويل

تغير نبض السماءْ

ذهل الخلق

وابتدأتْ هجماتُ الطيور

وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام

فرائسها الراجفة

خفت ملء عظامي وأوردتي

أقبلت هجرة راودتني

هممت بها

غير أني رأيتك،

قلت: معاذَ هوانا

رجعت أسلّم عمري

وأخلع خوفي

أواجه نبض نهايتنا

خفت أن تفقديني

وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان

إذا لفني الذعر بين المنافي

بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ

حينما شبَّ بين القلوب هروبٌ

تشبثت باسمكِ

أطبقت قلبي على نظرتيك

لأجلك أبقى

وتطبق حولي مصيدة الطير

أبقى لديكِ

ولستِ معي

أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي

أتعلق بالماء، يندفع السيل

أنشدّ للضوء، يندلع الليل

أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج

بلاد تفور

وأخرى تغور

وشمس تغيب وراء الطيور

أطارد خيط شعاع

تسرب ما بين طير وطير

وأغمض عينيّ

ألقي بنفسيَ ما بين عينيك

علّي ألامس نبضاً من العاطفة

تترامى حواليّ نظرات ذعر

تشتّت جمع تراخى على دفء ذاك الصباح

وتاه الذين استراحوا على خوفنا

اتسعت للسيول البراري

فجاءت تعربد فيهم مبدّدةً جارفه

فزع البعض للحلم:

فالطير تأكل خبز الرؤوس

استعاذ التقي بأربابه:

تلك من غامض العلم

قال الجياع:

ذنوبٌ تطارِدُ

قال الجناة:

انفروا،

تلك طير أبابيل

ثم انطوى الأثرياء على نهبهم

وانطوى الفقراء على جوعهم

يلهثون عياءْ

أستميحك دمعة حزن

أنا كنت حذرتهم

قلت: لا توقظوا طير هذا الزمان

البراءة ليست بجوع قديم

وليست بخوف قديم

ولكنهم سرقوا كلماتي

رموني بها

كلما شئت أن أتذمر

واجهت شكواي فوق شفاه اللصوص

وإن شئت أن أتوجع

تسبقني صرخاتي من الطغمة السالفة

قلت: أرقبهم شامتاً

فالطيور التي أيقظوها تمزقهم

والذنوب التي أدمنوها تطاردهم

رحت أرقب من جندلته الطيور

ولكنني كنت أرقب مقتله شامتاً

والبقيةُ مندهشون

يراؤون أن ذهلوا

حينما انفرز الخلق طائفة طائفة

وأنا أتساءل في حرقتي:

ما الذي كان يمنع أن يتحول جوعي إلى طائفة؟!

ما الذي منع الفقر أن يتجول للبحث عن وجهه

في القرى والحواري

وبين ضجيج المصانع

مَن شاغل الجائعين عن التخمة الهمجية؟

مَن صدهم عن صراخ تقال به التهمة الأبدية:

” ما أشبع المتخمين سوى جوعنا.”

مِن أولي الأمر جاءت قوائمنا:

نحن للحرب

تبقى الدكاكين للباعة

السجن للمتوجع

كيف تكون القصور لهم

وتعشّش فيها الطيور

تهيج الطيور التي أطلقوها

وتنقضُّ تخطئهم

وتصيب مقاتلنا؟

ويباغتني الله في نعمة

تنتقي صفوة القوم

كيف أصدق أن لدى الله نبع حنان

ولا يتطلع يوماً إلى قهرنا؟

لا يرى البشر الساكنين زرائب؟

والآكلاتِ بأثدائهن بلا شبع

حيث صنعة عهر

أمانٌ من الفقر

والموتُ جوعاً

وكيف تغافل كي لا يرى الآكلين النفايات

في مدن من مناسف

لا يسند القلب في ضعفه

تحت عبء الهموم

إلهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله

كنت أرغب لو صغته شبهي

كنت أسكنته وطناً

يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم

يشكّك في خلقه

ويطالبه أن يصفق للظلم

يجبره أن يحب العدو

وأن يتقلص خوفاً أمام الجنود

وأن يتجاهل كيف تضيق عليه الحدود

وكنت أطالبه أن يحب بلاداً تجاهره كرهها

ثم تمنعه لقمة بكرامته

وأطالبه أن يحب بلاداً تفاخره عريها

فتبارك هذا الإله

الذي كان يرفض أن يتمرغ في عيشنا

لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل

لم يعرف السير في قسوة الوعر

لم يعرف النوع جوعاً

ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاءْ

ها هو الله يأتي أخيراً

على هيئة الطير

ينقر أرواحنا

كيف لم نره أمس

حين قضينا طوى ليلة نتضور

كيف توارى عن الحلم

لم يأت في لقمة أو رغيف

وكيف مضى دون أن نتعلم

كيف نصفّي الحساب

وأمسكتِني

قلتِ لي: الله يرزق

يجزي الثواب لعبد صبور

ولكنه الله أنسى بنيه العقاب

فلا تحسبيه علينا

ولا تحسبينا عليه

ابحثي عن سماء بها الله

فالله لم يتحدر إلى الأرض

أو فابحثي عنه في وصفه:

لم يكن غير رب غني

فروحي إلى الأغنياء تريه

لقد أيقظوا فتنة تفلق القلب

صاغوه فيها رصاصاً

ودارت حواليهمُ غابة

لم تكن غير أعناق أموالهم

فإلى أي رب سيلجأ أبناؤه الفقراءْ؟

أتظل الحياة الشحيحة فيهم

تقطر محسوبة بالدقائق حتى تجف

إذا انقضت الطير في زعقة خاطفه؟

أتلفت نحو بلادي.. وأجهش

ما همني سمع الله هذا النشيج إذن؟

أم تصامم؟

إن كان لا يتنازل أن يمسح الدمع

أو أن يهدئ في ليلة وجعي

أتلفت نحو بلادي.. وأجهش:

كانت بلاديَ ملأى بزغردة وزهور وماء

وكانت بلاديَ ملأى بنا

كان قلبيَ ملآن بالأمل الطفل:

أن يتحول جوعي إلى طائفة.

منعوه

وقد أيقظوا قبل وعيي الطيور

وكانت تحصنهم دون علمي القصور

وطولب أطفالنا أن يسيحوا الدماء

راحت الطير تزعق

راحت تحلق حتى تذوب مع العتم

تنقض صاعقة

والعراة الحفاة ينخّهخم ذنب أسيادهم

يتلمّس كلٌّ على رأسه

يتجمع والذعر يدفعه نحو مقبرة

ويضيع الأمان

فيبرق شكٌّ على كل وجه

يهيم المطاردَ

يطلب ملجأه في السجون

ويسطع خوف من الأعين الحمر

يركض في كل قلب وجيب

فلا قفص الصدر يحمي

ولا الحرس الهمجي

ولا صلوات الدعاءْ

سألوا الله عن علة الأمر

لم يستمع

ثم في ليلة،

كان أفقرهم خائفاً من عيون الطيور

رأى الله في طلعة للهلال

فقال: إذن.. ذاك ربي يطاردني

سوف يفضحني

كيف يبقى إلهي مضيئاً

وكل الذي في حياتيَ عتم

وضوء الطغاة وراء حصون مدججة

سورتها الديانات بالصلوات

وكانت قرابينها بشراً أبرياءْ

والقرى تتوجع مذعورة

تتهيأ أن تتلقف

من غامض القتل أبناءها في التوابيت

ترقب آفاقها بعيون مجرحة

تتوقع صرخات أبنائها

مثلما يتوقع أبناؤها هجمات الطيور

فيغلق كلٌّ نوافذه

يفتح القلب للذعر

ينكر قرع الصديق على الباب

ينكر زغردة الشمس فوق النوافذ

يلطأ تحت اللحاف

يشكُّ بهمس الرياح

ويرهب شدو البلابل

يخلي المسامع

يخلي الحدائق حتى من الزقزقات

ولا ستر في عربدات الخواطر

إلا وشاح من الذعر

توق إلى هرب

وتفجع أم بذاكرة الخوف

إذ تتشظى دعاءً

وتنهار من عجزها بالبكاءْ

الطيور تحوّم مثل صدى يطلب الثأر

هل كان رائدها جائعاً يتمرد

أم متخماً يتبرد بالدم

هل هذه الرفرفات عيون

يعشعش في حمر أجفانها رمد

أم ترى أمة تترمد

فالسوق ضارية

والدكاكين تعرض ما يستجد

قميصاً لعثمان

سيف علي

دماً للحسين

وتختلط الصرخات:

نداء التجارة

في شهقات الدعارة

في صلوات العبادة

في صرخات المطاردة الراعفة

أنتِ أبقيتني

فاشرحي ليَ ما الفائدة؟

أتراني بقيت على زمني شاهداً

أم تراني بقيت على وطني شاهده؟

ولماذا أطارد في حضنك البكر

تذبحني بغتة في ظلال ابتسامتك البارده

بين حشد من الأشقياء

وفي لهب الذعر أبحث عنك

أقول: سلمنا معاً

أو أقول: سلمت بنا

غير أني أتوه وراءك

تحت ظلال الطيور

وتحت ظلال السيوف

وفي زعقات الطيور

ولسع السياط

وبين حفيف الجناح

وبين فحيح الجناةِ

أتى الموت يجتاح

يشهر في أرضنا منجله

فبدأت غنائي

أردد اسمك تحت المقاصل

لكنهم حولوك إلى مقصلة

وأظل ألوب عليك

كلما أتلمس بقيا من العمر

بقيا من الحلم

أخطو عنيداً

أكابر خوفي وجوعي ويأسي

وأعلن عن حبنا المتنمّر رغم الوباءْ

وأناديك

لا تسمع الأرض

لا تستجيب السماءْ

وأناديك بين هدير الدماء

فلا تسمعين النداءْ

غير أني أنادي.. أنادي.. أنادي

لتبقى بلادي بلادي

وأعرف لون ترابك

إذ يرفض الدم حتى يسيل

ويجتمع الدم والدم

ثم تعربد هذي الدماء سيولاً

فتملأ وجه الفضاءْ

ولأني أضعتك مائدة للّئام

ولم ألق وجهك طائفة للجياع

سألقاك في كل جوع جديد

وألقاك في ما نزفنا دماءْ

حينما أتلفت أبكي

فأعرف أين اختفيت

ويعرف قلبك أبناءه

نتلفت للفجر

ينفجر الفرح المتوهج فينا بكاءْ

يفضح الدمع أحقادنا

ثم لا عفو عمن أباحوا البكاء

يفضح الدم أشلاءنا

ثم لا عفو عمن أباحوا الدماء.

من ديوان: للخوف كل الزمان

 

https://www.youtube.com/watch?v=bmBf2c7cs5E

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب